ليبيا مائة عام من المسرح " 1908_ 2008 " أو هكذا تكلم المسرحيون / نوري عبدالدائم أبوعيسى
مجلة الفنون المسرحية
ليبيا مائة عام من المسرح " 1908_ 2008 " أوهكذا تكلم المسرحيون
أعداد: نوري عبدالدائم أبوعيسى
الجزء الأول
الإهداء
إلى ..
أبي و أمي
غفر الله لهما وشملهما برعايته ولطفه، وأسكنهما فسيح جناته ..
إلى ...
أسرتي الصغيرة جداً ..
إلى ولدي " محمد "
دام قرة العين ..
ودامت له الأوقات الطيبة .
المعد
مقدمة
ترجع فكرة تجميع وتصنيف ما كتب من قراءات نقدية مسرحية للكاتب الصحفي الصديق " أحمد الفيتوري " عندما أشار باختيار بعض المقالات النقدية وإعادة قراءتها وتجميعها في كتاب منذ أكثر من عشر سنوات ..
استيقظت هذه الفكرة وكبرت أثناء اشرافي على المشهد الفني بصحيفة " أويا " التي رأس تحريرها الكاتب الصحفي " محمود البوسيفي " وفتح ملف " مئوية المسرح الليبي .. 1908-2008 م " اعتماداً على مجهودات الكاتب والباحث المسرحي " البوصيري عبدالله " والراحل " المهدي بوقرين " فيما بعد.. ً حيث تمت دعوة كل المهتمين بالشان المسرحي " كتّاب ، مخرجين ، ممثلين، ... " للمساهمة في إثراء هذا الملف إضافة إلى تبني الزملاء بالصحيفة عديد الحوارات والتحقيقات والمتابعات ، وإعادة نشر ما تيسر من مساهمات مسرحية في عديد الصحف والمجلات ..أثناء تبويب " الكتاب "تعاملت مع ما أتيح لي من مواد مسرحية في ذات الوقت حاولت تغطية مالم يتاح نشره في ذلك الوقت من بعض الإصدارت وترحيل بعض المواد إلى " الجزء الثاني " من الكتاب الذي سأحاول فيه تغطية عديد الجوانب المهمة والملحة التي لم أتمكن من إيفائها حقها في هذا الإصدار ..
ولأن المكتبة الليبية تفتقر الى دراسات تعنى بالشأن المسرحي الليبي ورصده ، فما توفر منها لم تف حق مسيرة مائة عام من المسرح ، رغم مساهمات العديد من الكتّاب والنقاد والمسرحيين أمثال " المرحوم بشير عريبي ، المرحوم سليمان كشلاف ، البوصيري عبدالله ، أحمد بللو ، أحمد عزيز ، عبدالحميد المجراب ،الراحل محمد الزوي ، الراحل المهدي بوقرين ، سعيد المزوغي ، منصور بوشناف ، عبدالله هويدي ،ناصر الدعيسي ، علي يوسف رشدان ، د. عبدالله مليطان ..... وأخرون " إلا أن العديد من هذه المساهمات ما تزال الى الأن متناثرة في العديد من الصحف والمجلات الليبية ولم تجمع الى الأن لتأخذ طريقها نحو النشر .
ربما خروج هذا الإصدار" ليبيا ... مائة عام من المسرح أو هكذا تكلم المسرحيون " يساهم في تغطية جزئية صغيرة من مساحة كبيرة ..
نوري عبدالدائم أبوعيسى
جنزور / قامارا
16/ 11 / 2009 م
الباب الأول ...
تأريخ ... بدايات .... ريادة
" هذا الباب يعني بالشان التأريخي يشمل هذا الحوارات والدراسات وتراجم بعض الشخصيات "
المعد
ماذا لو ..
بقلم / كامل عراب
ماذا لو تنادى ممثلو المسرح الأقدمون من الجنسين الذين هجروه لسبب أو لآخر فاختاروا نصاً ملائماً يجسدونه على خشبة المسرح فيما يشبه المهرجان الوطني ألا يكون ذلك لافتاً وممثلاً لظاهرة لعدة أيام تحرك هذا الركود المسرحي وتبعث حرارة لدى جمهور المسرح وتجدد ذكريات هؤلاء الممثلين وتبعث فيهم روح الشغف بالمسرح من جديد أعتقد أن ذلك ممكن ولا بأس من أن يحتفل هذه الأيام سرد لذكريات ومواقف ومفارقات مرت بالممثلين القدماء عندما كانوا يملأون الخشبة بحضورهم ألا يبعث ذلك روحاً من التواصل بين الأجيال وينشط ذاكرة هذا الجمهور الذي اعتاد أن يراهم وهم في طفرة الشباب وعنفوان العطاء والحماس هذه فكرة أضعها بين يدي المهتمين لعلها تجد صدى ولعلها أيضاً تكون إشارة تفتح نافذة على جزء من تاريخ المسرح هذا التاريخ الذي يحفل به الآن الملف الفني في صحيفة أويا الغراء في الاحتفال بمئوية المسرح أتصور أن ذلك ممكن.
أول الغيث ..وطن
بقلم / البوصيري عبد الله
كان لإعلان الدستور ( المشروطية ) أعظم وقع في نفوس الشعوب العربية والإسلامية الواقعة تحت السيطرة العثمانية ، واستقبلته استقبالا بهيجا يليق بعشقها إلى الحريات ، وميلها الغريزي إلى التعبير عن حاجاتها الإنسانية العظيمة كحرية الاعتقاد والتفكير والاضطلاع والتصريح بما يحس به تجاه الدولة والحاكم ، فكانت سانحة مقدسة تفجرت فيها الانفعالات العاطفية بقوة مدهشة ، فجلجل الخطباء بأكثر الخطب حماسة ، وشدا الشعراء بأعظم القصائد، كان بحق مهرجانا جمع بين أجمل الكلم واسمى الصور، وأنبل العواطف حتى قالت إحدى الصحف : إن الخطب والقصائد التي قيلت في هذه المناسبة ( لو جمعت لملأت مجلدات كثيرة) . ولا عجب في ذلك ، فإنه يعد أعظم حدث على مستوى الحياة الديمقراطية في تاريخ الدولة العثمانية ومستعمراتها.
وفي سنة إعلان دستور الحريات هذه تعرف مجتمعنا على المسرح بمفهومه العلمي الدقيق ، وفي إحدى تلك الصحف نعثر على أول إشارة لهذا المسرح.
* أول الغيث... وطن :
كانت الحرية في الواقع ، هي الغيمة المباركة التي جاءتنا بهذا الغيث ، وكان أول الغيث مسرحية بعنوان ( وطن ) .
فلا غرابة إذن في أن يكون العرض المسرحي الأول في مستوى الأحداث السياسية ؛ لذا كان في مظهره الخارجي أقرب إلى الاحتفال الرسمي منه إلى العرض المسرحي المعتاد ، فاكتظت القاعة بالشخصيات السياسية ، والدبلوماسية ، وقناصل الدولة ، وضباط الجيش .. كان كل شيء يوحي بأن مهرجانا على مستوى عال في صفته الرسمية يوشك أن يبدأ.
وتنقل لنا صحيفة ( الترقي) في عددها الصادر بتاريخ 15 من شهر رمضان لسنة 1326 هـ الموافق 11 أكتوبر سنة 1908م. مظاهر هذا الاحتفال ، وبنفس اللغة التقريرية الصحفية التي تنقل بها الاحتفالات الرسمية مما يدل على سيطرة الروح الرسمية على مشاعر الجمهور ، فتقول الصحيفة :
( ... فما وافت الساعة الثالثة حتى غصت قاعة التمثيل بالحضار من بينهم قناصل الدول وكبار المأمورين وكثير من العائلات من أعيان النزلاء. )
ثم تستطرد الصحيفة قائلة :
( وعندما رفع الستار تقدم "اليوزباشي خيري أفندي " وتلا خطبة تاريخية حماسية ) تنقل لنا الصحيفة أهم فقراتها التي ( أثبت فيها الخطيب ما للعثمانيين من الفخر .. وما تقلبت فيه من الأدوار وأبان بالخصوص الدور الاستبدادي الأخير وكيف تضافر شبان العثمانيين على قطع تلك السلسلة الاستبدادية واستعادة دم الحياة في جسم الدولة العلية بإعادة الدستور وإعلان الحرية .إلخ(1)
ولم يكن هذا المظهر الرسمي ( برولوج) للحفل المسرحي وإنما كان حدثا مسيطرا وطاغيا على مشروع العرض المسرحي في حد ذاته حتى تميز العرض المسرحي ببرود إذا ما قورن بالأحداث الجانبية ، لما لها من صفة رسمية واضحة ، وخاصة في الفقرة الأخيرة التي أعقبت نهاية عرض المسرحية ، إذ ارتفع الستار عن مؤسسي الحرية ( مدحت باشا ) وشريكه مؤلف الرواية ( كمال بك ) محمولين على الأعناق وقد قرأ منأوبة تأبين المذكورين من طرف الأديب الكاتب ( حلمى بك ) كما ساهم الممثلون في قراءة التأبين منأوبة أيضا.(2).
ويبدو أن المشهد كان بالغ التأثير إلى حد تخيل فيه محرر المقال ( ان أرواح المرحومين ترفرف على ) الحاضرين . وبعد ذلك جاء دور القصائد والأشعار حيث ( قرأت قصيدة مصورة للحالة الاستبدادية وبينت ) كيف أزيلت من نظم " حلمى بك" المومي وهكذا تواصل الحفل إلى ما بعد السادسة ليلا وانفض الجميع والكل يلهج بالثناء على حضرات الممثلين).
والواقع أن هذا المشهد الاحتفإلي المواكب للعرض المسرحي ليس جديدا على المسرح العربي ، سواء في مظهره أو في مضمونه ؛ فمن ناحية المظهر كانت النظرة دائما تتجه صوب فكرة ان عرض المسرحية مناسبة لا مندوحة من استهلالها بمهرجان خطابي يعبر فيه المتكلمون عما يجيش في صدورهم تجاه مؤسس العرض ، وأحيانا يعبر فيه مؤسس العرض خطابيا عما يجيش في صدره تجاه جمهوره ، أو تجاه بعض الشرائح المنتقاة ، هكذا شاهدنا ( النقاش ) و( القباني) وصنوع ، كلهم استهلوا حفلاتهم الجنينية الأولى بالخطاب قبل التشخيص .
أما من ناحية المعني، والشكل أيضا ، فقد تشابه هذا الحدث مع ما فعله (سلامة حجازي) عند وفاة ( مصطفي كامل ) في 8 من شهر فبراير سنة 1908م. فعندما ( اكتظ المسرح بالجمهور ورفعت الستارة عن منظر مجلل بالسواد ، وفي صدره صورة الزعيم الراحل وقف سلامة وأنشد القصيدة بصوته الرخيم )(3) فهل هذا التشابه كان محض المصادفة وحدها ، أم أنه دليل اطلاع ومتابعة لما يحدث في الأراضي العربية المجأورة ؟
* العرض الثاني :
إن هذا العرض الذي تم في مساء يوم الاثنين الموافق 10 من شهر رمضان سنة 1326هـ ، إنما هو العرض الثاني لمسرحية ( وطن) فمتى .. وكيف تم عرض هذه المسرحية لأول مرة ..؟
إن المصادر التي بين أيدينا لا تقدم لنا الإجابة ، ولم نعثر في صفحاتها عما يمكن أن يجعلنا نثبت به تاريخ العرض الأول لهذه المسرحية ، ولكن يبدو أن العرض الأول كان عرضا خاصا ، وعلى سبيل التجريب أو ما يسمى في لغة المسرح ( بالتجارب النهائية) (LA REPETATION JENRALE) أو أنها عرضت في حدود ضيقة في مثل هذه الحالات ، وإلا ما هي الدوافع التي أعطت للعرض الثاني هذه الصفة الرسمية التي أشرنا إليها في سياق الحديث ؟.
وعلى أية حال توجد أخبار على الصحف المحلية تشير إلى تقديم عدة عروض لنفس المسرحية ، ففي صحيفة ( طرابلس الغرب) الصادرة بتاريخ 13 ذى القعدة لسنة 1326 هـ نقرأ خبرا يفيد تقديم هذه المسرحية على شرف قائد الطراد الدانمركي القائم مقام شولتز . الذي زار طرابلس . خلال شهر تشرين الثاني 1908م. حيث أدبت لشرفه مأدبة حافلة ليلة الثلاثاء في دائرة القوماندان مثلت لجنابه رواية وطن (4).
إن هذا العرض جاء بعد شهرين كاملين (5) من تقديم العرض الثاني الذي اشرنا إليه . مما يدل على أن مسرحية ( وطن) كانت ماثلة دوما في أذهان ممثليها . وأن الفرقة كانت أبدا على أهبة الاستعداد لتقديم مسرحيتها هذه في أي مكان ، وفي كل المناسبات .
* ملخص المسرحية :
تلخص لنا صحيفة ( الترقي) التي نقلت لنا وقائع الحفل المسرحي هذه المسرحية بقولها : إن هذه الرواية تمثل حب الوطن تمثيلا صحيحا . وتشخص ما للعثمانيين من الحماسة والمزايا والأخلاق الحسنة ، كما أنها تدل أن لا حياة ، ولا لذة إلا بسلامة الوطن والدفاع عنه (6).
إن هذه السطور القليلة لا تشبع نهمنا إلى المعرفة ، خاصة أنها تركز اهتمامها على المضمون وحده دون التلميح إلى البناء الدرامي ، أو الإشارة إلى الأحداث التي بنى عليها الفعل المسرحي ، كأن كاتب المقال يرغب في إحالتنا عنوة إلى النص الأصلى للمسرحية المعنية ، وليس أمامنا إلا أن نستجيب لما أراد لنعوض ما ضنّ به علينا ، ونعطي للقارئ فكرة شاملة عن أول مسرحية يقدمها مسرحنا الليبي.
( إسلام بك ) ضابط تركي شاب ، ينتمي إلى أسرة برجوازية صغيرة ، ولكنه يحمل أفكارا مستنيرة تقدس الوطن ، وتعشق الحرية ، يتعرف (إسلام بك ) على فتاة تركية جميلة المحيا ، نبيلة المشاعر ، وتنتمي إلى نفس الطبقة الاجتماعية ، تلتقى أفكار إسلام بك مع أفكار فتاته ( زكية خانم) فتعمق وحدة الانتماء والأفكار قصة حبهما ، ويهيم أحدهما بالآخر . فجأة تعلن ( روسيا ) الحرب على بلادهما ، وتجتاح جيوش (القيصر) الأراضي التركية ، وتحتل إمارات ( الدانوب ) وتحاصر مدينة ( سلسترا)(7) وهنا يقع إسلام بك في حيرة ، ويرتبك عقله ، ويصير عاجزا عن العمل والتفكير ، هل يستجيب إلى قلبه الذي يهيم عشقا وحبا بفتاته الجميلة ( زكية)؟.
إن للوطن عشاقا كثيرين أما ( زكية) الجميلة فلها عشيق واحد .. إنه هو ..( إسلام بك)
وتتصاعد الأحداث على الجبهة ، وتتحصل ( تركيا) على حلفاء يساعدونها على اجتياز محنتها و( إسلام بك) الذي يدعي الوطنية ، ويتشدق بالحرية مازال سجين تردده ، وأفكاره ، الغامضة . وفي لحظة صدق يقف( إسلام بك ) أمام ذاته وجها لوجه فتتبين له الحقيقة السامية على ان الوطن هو العشيق الحقيقي الذي يختزل كل أنواع العشق ، وهنا يقرر أن يذهب إلى موقع المعركة ، ويقف مخاطبا في جنوده الذين يكنون له حبا عميقا ، وينظرون إليه نظرة تقدير وإجلال على ما عرف عنه من وطنية ، فيقول.
إن الذي يحبني لا يفارقني.
وهكذا يتبعه العديد من الضباط والجنود الأتراك. وتصل صرخته إلى أذن عشيقته ( زكية ) فيزداد حبها له ، وتعلو معنوياتها بعلو مواقفه .
وفي موقع المعركة يلاحظ ( إسلام بك ) جنوده الأتراك وزملاءه الضباط وهم يدافعون في بسالة وشجاعة عن قلعة ( سلسترا) ويواجهون الجيوش القيصرية بتصميم أسطورى على النصر غير ان أكثر هؤلاء الجنود حماسة كان شابا جميل الصورة ، حلو السمات ، كان يتبع ( إسلام بك ) في كل مواقعه ، ويخوض بحماسة كل المعارك التي قادها . وفي إحدى المعارك يصاب ( إسلام بك ) بجراح خطيرة يظل على إثرها فاقد الوعي، طريح الفراش .
وتنتصر (تركيا) وحلفاؤها ، وتعود الجيوش القيصرية تجر أذيال الخيبة والهزيمة ، غير أن ( إسلام بك ) لم يشهد هذا المشهد المثير للعواطف الوطنية ، فلقد طال مرضه ، مما استدعى بقاءه خارج الجبهة ، وشيئا فشيئا يتماثل للشفاء ، وعندما التفت حوله وجد ذلك الشاب الجميل بجانب فراشه ، يقوم على خدمته ، ويخفف من آلامه .. وبعد حوار قصير ومركز يدور بين الطرفين تتبين الحقيقة الجميلة لـ ( إسلام بك) ألا وهي أن الجندي الوسيم الباسل ما هو في حقيقة الأمر سوى عشيقته ( زكية خانم) التي كانت متنكرة في ثياب الجند .. لقد تبعته لأنها تحبه ، وتنتهي المسرحية بزواج الطرفين.
* مؤلف المسرحية :
هذه هي مسرحية ( وطن .. أو سلسترا التي ألفها ، كما تقول الصحيفة (كمال بك) الشهير ولكن من هو ( كمال بك الشهير ) هذا الذي حمل الممثلون صورته على الأعناق ؟
إنه الأديب والمسرحي التركي والشاعر الغنائي الكبير ( محمد نامق كمال ) الشهير ب ( نامق كمال ) ولد سنة 1840 م. وهي الفترة القلقة في حياة الإمبراطورية العثمانية ، وشاء القدر ان تلعب هذه الشخصية دورا بارزا في الحياة الأدبية والسياسية أيضا. إذ ساعدت قصائده الغنائية على انتشار الفكرة الوطنية ، ولم يكتف بذلك بل تزعم الانقلاب واعتبر تعينه ( باشكاتبا) من أهم الشروط التي طرحها مدحت باشا على ( السلطان عبد الحميد ) الذي نكث بعهده فيما بعد.
ويعتبر نامق كمال من أبرز رجالات الأدب التركي خلال القرن التاسع عشر، وعلى يديه توطدت دعائم المدرسة الأدبية الحديثة التي أسسها أستاذه الأديب ( شناسي) الذي يعد زعيم المدرسة الأدبية الحديثة في ( تركيا) .. وترى دائرة المعارف الإسلامية أن نامق كمال .. ( كان فنانا عظيما ، ومجاهدا جلدا وكاتبا مكثرا ووطنيا كبيرا ). وتقول دائرة المعارف الإسلامية إن الفن عنده (كان وسيلة لإحداث نهضة أدبية في البلاد ، فأمد الثورة الثقافية والسياسية في تركيا بذخر من مقالاته السياسية ومسرحياته ، وقصصه وأشعاره الوطنية ومصنفاته التاريخية ومباحثه النقدية ، بل ورسائله الخاصة ، ومن ثم كان له أعمق الأثر في هذا السبيل.(8)
ثم أسس نامق كمال جريدة ( وطن) وهذا في حد ذاته يعد حدثا سياسيا خطيرا ، إذ نادت هذه الصحيفة بالدستور وبحق المواطن في الحكم وبالمحافظة على سنن الدين الإسلامي مما أغضب السلطات ، فأصدرت (فرمانها ) بنفيه إلى فرنسا وفي سنة 1888 م. مات الشاعر التركي العظيم في سجن ( ماغوسة) .
وتنظر القوى الوطنية التركية إلى نامق كمال على أنه المؤسس الحقيقي لحركة الحريات ، وأنه الأب الشرعي للدستور الذي صدر سنة 1908 م. ومن ناحية ثانية فلقد عنى ( نامق كمال ) بالمسرح عناية فائقة ، شأنه في ذلك شأن أستاذه ( شناسي ) فألف العديد من المسرحيات الوطنية منها : ( كلنهام ) وعاكف بك و( زواللي جوجوق) بالإضافة إلى مسرحيته الشهيرة ( وطن ) أو سلسترا.(9)
* ولكن .. من هو المخرج؟
فإذا كان ( نامق كمال ) هو مؤلف أول مسرحية تقدم على خشبة المسرح الليبي ، فمن هو المخرج الذي استطاع ان يجسد هذه المسرحية ، ويحوّل أحداثها إلى فعل وحركة فوق خشبة المسرح ؟.
إن صعوبة الإجابة لا تأتي من كوننا لم نعثر بعد على إشارة صريحة تحدد اسم المخرج ، ولكنها تأتي أصلا من عدم وضوح مفهوم الإخراج ، ومهمة المخرج في مسرحنا العربي عموما خلال بدايات هذا القرن ، وإن كلمة (الإخراج) لم تكن قد دخلت القاموس المسرحي العربي بعد . وكان يشار إليه بمدرب الممثلين ، وهي مهمة كان يقوم بها المؤلف، أو مدير الفرقة ، وأحيانا يقوم بها الممثل الأول كما كان يفعل ( القباني ) و ( النقاش ) و(القرداحي) بل وسلامة حجازي الذي اعتاد على اختيار النصوص وتوزيع الأدوار والاحتفاظ لنفسه بالدور الرئيس فيها . وكان مدرب التمثيل مضطرا في كثير من الأحيان للقيام بمهمة التلقين لتساعده في إعطاء الإشارات التي توجه الممثل وتملي عليه بعض الأفعال كأن ينتقل من موقع إلى آخر ، أو تطلب منه رفع الصوت ، وغير ذلك من الإشارات التي يأتي بها الملقن من داخل وكر أو كوشة التلقين ، أو من خلف الستارة أحيانا. ولم يظهر الإخراج المسرحي في مسرحنا العربي بمعناه العلمي الدقيق إلا مع ظهور الفنان المبدع ( عزيز عيد ) الذي وسع من اختصاصات مدرب التمثيل إلى ان أصبح مؤلفا للعرض المسرحي .
لذا فإننا نعتقد أن مؤسس الفرقة والقائم بأعمالها هو نفسه مخرج مسرحية ( وطن ..) .. وفي هذا المجال تشير الصحف إلى شخص محمد قدري المحامي.
في صحيفة ( الترقي ) الصادرة بتاريخ 30 من شهر شعبان سنة 1326هـ. نعثر على خبر يفيد أن ( حضرة الفاضل الغيور ) محمد قدري أفندي المحامي ) قد أوقف تجارب على مسرحية من تأليفه لأنها ( تستدعي زمنا لاستكمال معداتها ) وعليه فقد رأت الهيئة القائمة بهذا العمل المفيد أن لا تضيع الزمن في الانتظار فاختارت أن تمثل رواية ( وطن) تأليف ( كمال بك) الشهير وقررت الشروع في ذلك وأجرت الترتيبات الأولية لتنفيذ عزمها في العشر الأوائل من شهر رمضان المعظم (10)
وفي عدد آخر من صحيفة ( الترقي) تشكر الجريدة شباب الفرقة المسرحية على توزيع واردات الرواية على الفقراء والمحتاجين ، بل إنها تخص بالشكر ( أهم العوامل فيها ) محمد قدري المحامي (11) .
أما صحيفة طرابلس الغرب فإنها تستعير اسم جريدته الناطقة باللغة التركية عند الإشارة إلى الفرقة التي قدمت مسرحية ( وطن ..) وهذا كله يضع أمامنا أدلة كافية على بروز دور ( محمد قدري المحامي) وعلى مكانته داخل هذه الفرقة وهي مكانة تؤهله لأن يتولى مهمة الإخراج ، أو تدريب الممثلين حسب مصطلح ذلك الزمان.
* * *
و ( محمد قدري ) المحامي من عائلة جزائرية الأصل ، هاجرت إلى ( ليبيا) فرارا من الاستعمار الفرنسي ، واستوطنت مدينة طرابلس ، وفيها ولد محمد قدرى المحامي ، وتلقى تعلميه الأول في المدارس الراشيدية ثم سافر إلى ( اسطانبول ) لدراسة الحقوق هناك ، وفي تركيا التقى محمد قدري بالثقافة التركية عن قرب ، وقد كانت هذه الثقافة تجنى آنذاك ثمار الفكر التي غرستها التيارات الأدبية الحديثة والداعية إلى التقدم والتحرر يتزعمها الكاتب والأديب ( شناسي). وزميلاه ( ضياء باشا ) و ( نامق كمال ) ولابد ان محمد قدرى قد شاهد الحركة المسرحية التي بدأت تفرض وجودها على الحياة التركية من جراء اتصال المثقفين الأتراك بالأدب الأوروبي ، وبداية حركة الترجمة عن اللغات الأوروبية ، بل إننا نميل إلى الظن ان محمد قدرى قد شاهد مسرحية ( وطن ) تعرض على احد المسارح التركية حيث كان لهذه المسرحية شهرة واسعة لما تحتويه من بعض الصفات الرومانسية مقرونة ببعض الأفكار الطليعية والتحررية التي كانت تستهوي الشباب التركى .
ومن ناحية ثانية نلاحظ تقاربا كبيرا في حياة ( نامق كمال) وحياة محمد قدرى ، وربما كان دخول محمد قدرى إلى مجال المسارح والصحافة واهتمامه بالسياسة دليلا واضحا ، لا يقبل النقض ، على مدى تأثر محمد قدرى بشخصية نامق كمال ، ومدى سيطرة هذه الشخصية الفذة على نفسيته وثقافته ، بل وعلى مواقف محمد قدرى عموما. اننى أراه تأثيرا حادا يوصله بشخصية أستاذه الروحي، فتتوحد المواقف والأفعال بتوحيد الأفكار والآراء وإذا كان الأديب ( نامق كمال ) قد أسس جريدته ( وطن) ليدافع من خلالها عن الحريات العامة ، فان محمد قدرى قد حذا حذو أستاذه فأسس هو الآخر بعد عودته من استانبول جريدة ناطقة باللغة التركية ، اسماها( تعميم حريت)(12) دافع فيها عن القضايا الدينية والوطنية ، ونوه من خلالها مرارا على النوايا الخطيرة والخبيثة التي تكنها الحكومة الايطالية تجاه البلاد الليبية وكما كان لـ ( نامق كمال ) دور سياسي وتحريضى ، فان لـ (محمد قدرى ) مواقفه السياسية التي أكدها بانتسابه إلى حزب (الاتحاد والترقي ) الذي كانت له فروع وإدارات نشطة في كل من ( طرابلس) و (بنغازي ) بل ان محمد قدرى ارتقى بمواقفه السياسية خطوة أكثر ايجابية نوهت إليها الصحف المعاصرة له ، وباركت خطواته النبيلة في قيامه بحملات التبرع للفقراء والمحرومين .
ويأبى التلميذ إلا ان يكون كأستاذه فيلجأ للمسرح فيؤسس فرقة مسرحية ويخرج لها ، بل ويكتب مسرحية عن ( محاكمة المستبدين ) وعندما كثرت مشاغله واهتماماته هجر الصحافة ، وترك الكتابة الصحفية ليعطى كل اهتمامه للجيل الجديد حيث عين مديرا لمكتب الفنون والصنائع ، وربما اختار هذا المنصب لأنه لا يحتاج منه ان يبذل نشاطا ذهنيا مركزا ، كما هو الحال في العمل الصحفي ،ولكنه لم يستطع أن يتخلى عن حبه للمسرح ، فاستمر في كتابة الأعمال المسرحية ، مواصلا تجاربه مع طلاب مكتب الفنون والصنايع وذِلك - استنادا إلى ما قراناه في الصحف من إعلانات عن تقديم وعروض مسرحية داخل مكتب الفنون والصنائع في عهد إدارة محمد قدرى المحامى.
وتبلغ درجة التماثل بين الرجلين أدق صورها في النهاية التي أل إليها كل منهما ، فكما نفي ( نامق كمال ) إلى فرنسا ، لمواقفه السياسية والثقافية ، فان محمد قدرى قد فضل المنفي الاختياري بهروبه خارج البلاد عندما داهمته القوات الايطالية ، فاختار الغربة ولكن في وطن أستاذه الروحى العظيم ( نامق كمال).
المصادر والمراجع
1- حب الوطن : الترقي – العدد الصادر بتاريخ 15/رمضان /1326هـ
2- نفس المصدر السابق.
3- الدكتور فؤاد رشيد. تاريخ المسرح العربي سلسلة كتب للجميع العدد 49 فبراير 1960 م. الصفحة 31.
4- طرابلس الغرب العدد 1265 – السينة 38 الصادر بتاريخ 13 – ذي القعدة 1326 هـ الموافق 24 تشرين الثاني سنة 1324 مالية .
5- كانت صحيفة طرابلس الغرب – تصدر مرتين في الأسبوع ، يوم الاثنين والخميس . ولم تكن الصحيفة تشير إلى يوم الصدور بل تكتفي بالإشارة إلى التاريخ فقط . ونتوقع أن صدور العدد المشار إليه يوافق يوم الخميس لأنه ضم أخبار يوم الثلاثاء . وهذا يعني أن تاريخ العرض الثالث لمسرحية وطن – يصادف يوم الثلاثاء الموافق 11 ذي القعدة لسنة 1326 هجرية .
6- مقالة حب الوطن صحيفة الترقي .. مصدر سابق.
7- انظر في هذا الخصوص كتاب تاريخ الدولة العلية العثمانية تأليف الأستاذ محمد فريد بك المحامي – مصدر سابق - .
8- دائرة المعارف الإسلامية – سلسلة كتاب الشعب – المجلد – مادة الأتراك – صفحة 163: 167 دار الشعب – القاهرة .
وانظر أيضا – جوجي زيدان في كتابه ، تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر – الجزء الثاني مادة محمد نامق كمال بك – صفحة 115- منشورات دار مكتبة الحياة – بيروت ، بلا – ت
9- نجم ، محمد يوسف: المسرحية في الأدب العربي الحديث – دار الثقافة بيروت – لبنان . الطبعة الثالثة 1980 ص . 64.
10- مقالة ( التشخيص ) جريدة ( الترقي) الصادرة بتاريخ 30 / شعبان / 1326 هـ الموافق 13 – أيلول – 1908 صفحة 3.
11- مقالة ( استفدنا ) جريدة ( الترقي ) العدد 37 الصادر بتاريخ 7-صفر – 1327 هـ صفحة 3 العمود الأيسر.
12- صحيفة ( تعميم حريت ) تأسست سنة 1908 وكانت ناطقة باللغة التركية . لمزيد من التفاصيل حول هذه الصحيفة انظر كتاب الاستاذ . على مصطفي المصراتي . صحافة ليبيا في نصف قرن.