سيمياء الدهشة
والمفارقة في ديوان “حينما أنا في الغياب”
للشاعرة فواغي القاسمي
مصطفى عطية جمعة
أ.د. مصطفى عطية جمعةتنهض التجربة الشعرية للشاعرة فواغي القاسمي في ديوان “حينما أنا في الغياب”() لتكون دالة على شاعرية سامقة، تقرأ الوجود الإنساني في أحواله المتعددة؛ قراءةَ استشفاف وحنكة، وتعبِّر عنه بصفاء وحكمة، وتصوغ همومه ببلاغة ورقّة، تنظر إلى المستقبل بتفاؤل، بقدر نظرها إلى الماضي بتعلُم، وتطلعها إلى الحاضر بتأمل، غير منخدعة بمظاهر قد تكون برَّاقة خادعة، ولذا تغوص فيما وراء السطح، حيث تتأمل الجوهر، وما أعظم جوهر الإنسانية، والتي تبدو في أوقات المحنة والأزمة، حينما يجلوها الألم، فتسفر عن قيم سامية، استطاعت الشاعرة فواغي القاسمي التعبير عنها، بتمكُن شعري عالٍ، وعقلٍ سامٍ، وفكرٍ وهّاج.
وتكفينا دعوتها التي صاغتها بخطاب أنثوي، ولكنها في الحقيقة تقصد كل الإنسانية، عندما تشدو قائلة:
تَعَالِيْ لِنُصْغِي إِلَى نَبْضِنَا
تَعَالِيْ.. نُغَازِلُ بَحْرَ القَصِيدَةِ
نَعْصِرُ صَمْتَ الرَّحِيلِ
وَمِلْحَ الفِرَاق.
تَعَالِيْ هُنَا..
تَعَالِيْ بِبَعْضِ اِرْتِعَاشٍ
وَفَيْضِ اِشْتِعَال ()
إنها دعوة إلى أن ننظر إلى الوجود بمنظور الشعر، ذلك المنظور المثالي، الذي يرنو إلى سائر المكونات والكائنات بحبٍ، ليصوغها إبداعًا في بحر القصيدة، وتصبح ذواتنا معايشة للكائنات، ونقهر بها صمت الرحيل، ونجعله اشتعالاً واشتياقًا، ونذيب ملح الفراق. وتلك هي رسالة الشاعرة الحقة، تتأسس على الجمال والحب، تسمو بهما فوق الرحيل والفقد، ويجعل نبض قلوبنا ليس بالكلمات وحدها، وإنما بالكون والكائنات.
هذا، وتأتي قراءتنا لهذه الديوان في منظور المنهج السيميائي (علم العلامات)، في تقاطعاته الجمالية والدلالية والثقافية، فالعلامة أو السيمياء في مفهومها العام هي: عبارة عن شيء، يمثل شيئًا، بالنسبة لشخص ما، أو إمكانية ما()، فهي تشمل مختلف الإشارات الحركية واللسانية والبصرية، التي تشيع في حياتنا، وتكون براعة الشاعر في استخدامه بعض هذه الإشارات وتوظيفها في قصائده، غير مقتصر على الكلمات فقط، فيمكنه توظيف اللون، أو الحركة، جنبا إلى جنب مع الكلمة.
وهنا نؤكد على أن العلامة/ السيمياء في الشعر تتخذ دلالات جديدة، وكما يشير الناقد الفرنسي الكبير رولان بارت، فإن العلامة اللسانية (اللغوية) هي بنية يتحد فيها الدال والمدلول، فكل كلمة تستحضر صورتها في الذهن، فمعنى الكلمة وصورتها اللفظية والصوتية تكون حاضرة في وعي المتلقي، من خلال روابط متحدة في ماهيتها وجوهرها()، بمعنى أن الشاعر عندما يختار ألفاظًا بعينها، فهو يروم بها معنى مسبقًا يعرفه القارئ، وقد يضيف على هذا المعنى الجديد دلالات أخرى، من خلال السياقات النصية، وهي دلالات لا تنفي المعاني السابقة، بل تضيف عليها، وتكسوها معاني جديدة.
ويمكن الجزم بأن الشاعرة فواغي القاسمي اعتمدت قاموسًا متنوعًا من العلامات/ السيمياء، جمع البُعد الجمالي، والجديد الدلالي، وإدهاش الرؤية، وهو ما يتطلب نهجًا، يقرأ امتدادات السيمياء في بنية الديوان كله، فالألفاظ التي هي عنوان علامات تتواشج، ومعانٍ تتلاقى، وتأويلات تتوالد، وما علينا إلا الربط بين أبيات القصائد وتعبيراتها.سيمياء الدهشة:
وتبدو جلية في العتبات النصية، وما يفسِّر دلالتها في الأبيات الشعرية، فالمقصود بالعتبات Para Text هو كل ما يحيط بالديوان، بدءًا من عنوان الديوان ذاته، ثم عناوين القصائد، فكلها أشبه بمفاتيح الولوج للدلالة العامة للديوان، التي يقف عندها القارئ، قبل استقباله للنص، وكما يقال في المثل: فإن البيت يُعرف من عتبته، والرسالة (البريدية) من عنوانها، فإن الديوان أو القصيدة يعرفان من العنوان، فـ”العنوان بنية نصية مشحونة الدلالة، ممثلة لفكرة النص بقصدية من قبل المرسل (الشاعر)، فهو سمة تواصلية تربط المبدع بالمتلقي”()، وتدفعه لقراءة الديوان.
فعنوان الديوان “حينما أنا في الغياب”، نجد فيه أن مفردة الغياب تمثل علامة سيميائية ودلالية، نفهم بها الدلالة الكلية للديوان، فهل الغياب هنا يعني: غياب الذات الشاعرة عن الوجود؟ الإجابة تكون بالنفي، لأن الذات الشاعرة هنا حاضرة، بكيانها العضوي، وتصوراتها رؤاها، ومشاعرها الفياضة، ولكن غيابها يتخذ بُعدًا عكسيًا، وهو ما يصدم القارئ، فالغياب يأتي بمعنى الحضور، الحضور الفاعل، الحضور التنويري، الحضور المعادي للضياع، وكما تقول في قصيدة حملت عنوان “ضياع”:
يُؤَرِّقُنِي الضَّيَاعُ بِتِيهِ مَوْجِي وَأَشْرِعَتِي يُحَطِّمُهَا الصِّرَاعُ
أُحِبُّكَ عَاشِقًا لِشَّغَافِ رُوْحِي وَيَقْتُلُنِي جُنُونٌ وَاِنْدِفَـاعُ
وَتَسْكُنُنِي رِيَاحُ الشَّكِ حَتَّى يُلوِّحُ لـِي بِذَارِيهَـا الوَدَاعُ ()
فمضمون القصيدة السابقة يشير إلى روح رومانسية تعبق ذاتها، والرومانسية في جوهرها تعني الحضور والتلاقي للأحبة، فلا حب إذا افتقد الحبيب حبيبه، وهنا يكون معنى الضياع هو الخشية من الغياب، فرياح الشك تملأ الذات الشاعرة، خوفًا أن تفتقد أو يغيب حبيبها. إذن، تكون الدلالة السيميائية للضياع تعني إثبات الوجود وترسيخه، والسعي إلى استمرارية الحب. وما أروع الصورة التي غلّفت البيت الأول السابق! فكأن الشاعرة وسط اليم، والأمواج تتلاحق عليها، وهي في قاربها، بأشرعته المحطمة، تكافح من أجل البقاء، ويأتي تعبير “رياح الشك” بوصفه تشبيهًا بليغًا، ليؤكد دلالة الحيرة.
وتبدو الدهشة أكثر، عندما تبرع الشاعرة بأن تجعل عنوان قصيدتها ختامًا لها، كما في قصيدتها “عتاب الرجوع”، التي تستهلها بقولها:
شَاخَتْ عَلَى كُلِّ الدُّرُوبِ رَبَابُهَا وَاسْتَعْصَرَتْ أَلَمًا كَسَاهُ ضَبَابُهَـا
فدلالة مفتتح القصيدة تحمل ألمًا يعتصر الذات، لأن كل ما في الطرقات والدروب قد أصبح شائخًا هرِمًا، وما أجمل الصورة التي رسمتها بريشتها الشعرية، عندما جعلت (ربابها) علامة سيميائية على الشيخوخة، مثلما جعلت الضباب مكسوًا بالألم.
وتظل دلالة عنوان القصيدة معلقة في نفسية المتلقي، حتى تأتي الإنارة في البيت الأخير:
رَحَلَتْ تَجُرُّ الصَّوْتَ مِنْ شَفَةِ المَدَى مَا عَادَ يُجْدِي فِي الرُّجُوعِ عِتِابُهَا ()فما كان الرجوع إلا رحيلاً، فلا فائدة من العتاب، فمادام الرحيل قد تمّ، وغابت الوجوه عن العيون، فإن العتاب يفقد جدواه، لتكون دلالة عنوان القصيدة، بوصفه علامة هي أن العتاب سيظل لفظًا، خاويًا من معناه، محملاً بأساه، لأن الرجوع موجوع، والوصال مقطوع.سيمياء المفارقة:
ومقصود بها براعة الشاعرة في البنية النصية الشعرية، بما يجعلها تولّد دلالات جديدة، تفاجأ القارئ، وتضيف للمعنى تأويلات، تحرّض القارئ على النظر فيها. فالعلامة تنقسم إلى ثلاثة أنماط: المثال، والموضوع، والمؤول. فالمثال هو الأداة التي تقوم بالتمثيل بشيء آخر، فهو يخلق علامة موازية له، لتصبح قابلة للتعرف، أما الموضوع فهو الرؤية أو الطرح الخاص بالنص، في حين يأتي المؤول، ليربط ما بين الأداة/ المثال، وما بين الموضوع ()، فإذا أردنا التعبير عن موضوع ما، مثل الحب الرومانسي، فإن الشاعر يوظف عناصر من الوجود، مثل القمر أو النجوم، في مناجاة حبيبته، بل يجعل من حبيبته عالمًا، فيه الجمال والموسيقى والعطر والزهر.
وهو ما برعت فيه شاعرتنا في مواضع عديدة بديوانها، ولعل أبرزها عندما استحضرت عناصر الطبيعة ومكونات الوجود، مخاطبةً أمها:رَأَيْتُكِ.. أُمِّي
تَطُوفِينَ بَيْنَ فُصُولِ اِغْتِرَابِي
وَتَطْوِينَ بُعْدَ المَسَافَةِ عَنِّي،
بِذِكْرَى النَّوَارِس،
هَمْسِ الشَّوَاطِئ،
عُشْبِ المَطَرْ ()
لقد أشركت الشاعرة: النوارس، والشواطئ، والعشب، والمطر، في التعبير عن حنينها إلى أمها، التي جعلت منادتها رؤية بصرية، تملأ الوجود، وكأن ملامح الأم غير مقتصرة على أم الشاعرة فقط، وإنما تتجلى في الطبيعة حولها. العلامة هي الأم، وتحورت دلاتها لتشمل الأم بمعناها المعلوم لدينا، ثم الأم عندما تملأ الكون بحنانها. والمدهش أيضا أن الوجود يتأنسن؛ في الشواطئ التي تهمس تحيةً وحُبًا وتقديرًا للأمومة.
وإذا انتقلنا إلى فكرة العودة/ الرجوع، بوصفها سيمياء دالة تشيع في جنبات الديوان، وأضحت علامة محورية في نصوصه، فإننا سنندهش أكثر عندما نجد تطوّرَ دلالتها، لتتخذ بُعدًا شديد البرودة، بعدما اكتست في النص السابق بحرارة الفقد، ففي قصيدة “مياسم الصقيع”، لن ندرك دلالة الصقيع إلا مع الأبيات الثلاثة الأولى:
قَدْ عَادَ يَحْزِمُ فِي أَسَى مَاضِيهِ نَدَمًا يُكَلِّلُ كُلَّ نَبْضٍ فِيهِ
يَجْتَرُّ مَا زَرَعَ الصَّقِيعُ بِرُوحِهِ حَتَّى غَدَا جُرْحُ الهَوَى يُبْرِيهِ
ظَمْآنُ يَسْتَجْدِي السُّفُوحَ دِيُومَهَا وَالأُنْسُ شُرِّدَ مِنْ رُبَى التَّدْلِيهِ ()
و
بعد قراءة هذه الأبيات، ندرك المفارقة البديعة، فلم يعد الصقيع يعني البرد والثلوج والتجمد، وإنما هو البكاء على ماض ولّى، بمشاعر ندم تملأ الوجدان. فهنا يكون الصقيع علامة سيميائية فارقة، لأنه يعني صقيع النفس وتجمدها، على حد قول الشاعرة “يجترّ ما زرع الصقيع بروحه”، فالمقولة تحوي استعارة مكنية، جعلت الصقيع زرعًا، ينبت في الروح، ويحوّلها إلى ثلوج، وليت هذه الثلوج تسيل بالماء، بل هي تتجمد وتمنع ماءها أن يروي عطش الذات، وهو ما تؤكده الشاعرة بقولها “ظمآن يستجدي السفوح ديومها”، فالديوم هي الغيوم المطيرة، ولكنها حبست ماءها في السماء، وبخلت به على الذات الشاعرة، التي تحمل في أعماقها صقيعا وثلوجا، وفي حلوقها حرارة وعطشا، وترجو من الديوم ماء ومطرا، فيا لها من مفارقة بديعة، تغرقنا في حبائلها.
إننا أمام ذات شاعرة، تتغني بشعريتها، وتحيا من خلالها، فها هي تقول:
تَعَالِيْ.. فَقَلْبِيَ أُرْجُوحَةٌ
لِتُلِقِي عَلَيهَا سُهَادَ اللَّيَالِي
فَيَغْفُو عَلَى وَتَرٍ بِالضُّلُوعِ،
فَنَنْسَى جَمِيعًا
مَتَاهَاتِنَا،
وَنُرَتِّقُ شِقَّ الغِيَابِ بِآَهَاتِنَا
نُجَدِّلُ بِالشِّعْرِ
وَجْدَ الغَرَامِ
وَزَهْوَ الرُّجُوعْ ()ففي المقطع السابق، تتعانق الدهشة مع المفارقة، وكلتاهما يتأسسان على علامات تتكرر في الديوان، وهي: القلب، والغياب، والرجوع، فالقلب يصبح أرجوحة، تغفو الذات الشاعرة عليها وتنسى أرق الليالي، وتنسى أيضًا متاهات الاغتراب/ الغياب، ويصبح الرجوع -الذي كان يوما صقيعًا، وملحًا- زهوًا وفخرًا، ويجدّل الشعر كل هذا بضفائر قصائده.
*****تظل شاعرية فواغي القاسمي مفعمة بدلالات، تحتاج إلى المزيد من الغواصين في بحرها، وما المنهج السيميائي إلا سبيل كاشف عما حوته جماليات النصوص، وتأويلات الألفاظ، ودلالات التعبيرات، والتي لابد أن تُقرَأ ضمن الدلالة الكلية للديوان، وساعتها سندرك أن العلامات المتكررة، والمبثوثة في المتن الشعري، يمكن فض مغاليقها بكل يسر، لأنها مؤسسة على مرجعية نفسية وفكرية وجمالية واحدة.
وختاما نردد مع الشاعرة، مناجاتها لذاتها، بروح صادقة:تَعَالِيْ..
كَمَا أَنْتِ.. أَنْتِ
بِكُلِّ اِحْتِمَالٍ، وَكُلِّ اِشْتِياقٍ
وَكُلِّ اِحْتِرَاقٍ، وَكُلِّ اِشْتِهَاءٍ
وَكُلِّ اِشْتِبَاه.
إنها دعوة لأن تظل الذات مشتعلة، على كل يُحتَمل وجوده في الكون، والحياة، وفي علاقاتها مع البشر، التي فيها عراك، واحتراق، واشتهاء.أستاذ الأدب العربي والنقد