ثلاث مرّات يكشف أسراه
غابرييل غارسيّا ماركيز
غابرييل غارسيّا ماركيز – ترجمة وضّاح محمودالفصل الثاني
من أجل عشرين سنتافًامرّت شهور عدّة قبل أن تأتيني فكرة ركوب إحدى الدرّاجات التي يؤجّرها خوان دي لا كروث. أتذكّر فيما مضى أنّني لمحتُ عدّة مرّات، وباستغراب، بعض الناس وهم يمرّون في شوارع مارينيّا راكبين درّاجاتهم، لكنّ انشغالي بهم كان قد تلاشى في ذلك الوقت، إذ بدا لي، على ما أظن الآن، أنه من المُحال أن يحافظ المرء على توازنه، وهو على دولابين، بمجرّد تحريك الدوّاستين بالقدمين وإمساك المقود باليدين. وهكذا لم ينشغل فكري بأيّ مشروع مستقبليّ متعلّق بالدرّاجات؛ وواظبتً على الذهاب إلى المدرسة، فما برحتُ أتقدّم في الحساب، وأتراجعُ في الإملاء أكثر قليلًا، ساعيًا دومًا إلى إيجاد وسيلة تمكّنني من الذهاب إلى ميديّين كي أعمل في محلّ بيع المثلّجات. وكانت غايتي الفعليّة أن أكون هناك برفقة أخويّ كي أكسب المال وأنال استقلاليّتي مثلهما، وذلك أكثر بكثير من رغبتي في المثلّجات التي لم أستسغها يومًا.المرّة الأولى
لم يكن ركوبي الدرّاجة للمرّة الأولى حدثًا مميّزًا في نظري، وليس لديّ بالتالي ذكرى واضحة المعالم عنه. وكلّ ما في الأمر أنّني ذات مرّة عثرتُ في جيبي على عشرة سنتافات زائدة، فرحتُ بدافع الفضول المحض -وكان جلّ رفقائي قد تعلموا قيادة الدرّاجة بثبات- واستأجرتُ درّاجة لربع ساعة كي أجرّب. قلتُ في نفسي أنّني لن أخسر بذلك شيئًا. وبالفعل ما خسرت أيّ شيء، ولا ربحتُ أيضًا. أعطاني خوان دي لا كروث درّاجةً مخصّصةً للبنات ليس لها عارضة أفقيّة من الأمام، وكانت مدهونة باللون الأسود، صغيرة الحجم جدًّا. أمسك أحد رفقائي بالمقعد ثمّ دفعني، فَرُحْتُ أتقدّمُ بالدرّاجة نحو الأمام وأنا أتمايلُ بها يمينًا وشمالًا إلى أن وجدتُ مُتّكأً أتّكئُ عليه. أعدتُ المحاولة عدّة مرّات، إنّما من دون تحسّن يُذكر. اليوم صرتُ أدركُ أنّني لا أحسنُ أداء أيّ شيء إلّا إذا كنتُ راغبًا فيه حقًّا، وهذا كان حالي مع الدرّاجة تمامًا، إذ لم أكن مهتمَّا بها كثيرًا، ولم يكن يعنيني أن أفلح في تعلّم قيادتها فعلًا. وما كنتُ أرغبُ به حقًّا لم يكن غير الذهاب إلى ميديّين بقصد العمل في محلّ سان إغناسيو لبيع المثلّجات. ولقد نجحت في تحقيق ذلك وأنا ابن إحدى عشرة سنة، إذ ذهبتُ راكبًا الحافلة وأنا لا أزال أترنّحُ على الدرّاجة إن ركبتُها. لم أذهبْ إلى ميديّين هربًا، بل ذهبتُ بموافقة والديّ، مرتديًا ملابس نظيفة ومعي مصروف الطريق. وكان ذلك أثناء العطلة الصيفيّة في العام 1943.“الموزّع المسكين”
منذ أن بدأتُ بالمشاركة في مسابقات الدرّاجات -منذ أربع سنوات-، قطعتُ زهاء تسعة آلاف كيلومتر في مدّة بلغت أربعمائة وخمسين ساعة أمضيتها في السبق. أي ما يعادل المسافة حتّى بوينُس آيرِس جيئةً وذهابًا. لقد توقّفتُ منذ زمن عن عدّ المرّات التي أصل فيها إلى خطّ النهاية في السباقات، وبذا فإنّي لا أعرفه. لكنّي أعرف أنّه ما من مرّة منها هاجت فيها مشاعري مثل المرّة التي وصلتُ فيها يوم الثاني من كانون الأول من العام 1943 إلى ميديّين حيث يعمل أخواي، وكنتُ أحمل كيسًا ورقيًّا فيه أمتعتي وأنتعل حذاء رياضيًّا جديدًا. شغّلني صاحب المحلّ، دون بيدرو نيل ريستريبو، في تغليف المثلّجات، مقابل بيسو واحد في اليوم. لم أكن أستطيع شراء الكثير بهذا المبلغ، لكنّي كنت راضيًا، إذ لم يُعوزني أيّ شيء. وكنت في غاية السعادة بعملي في تغليف المثلّجات طول النهار، وأحسّ بالغبطة لأنّني لست في مكان عامل التوزيع الذي يعمل في بقّاليّة “ماس بور مينوس” المتخصّصة بتجارة نصف الجملة والواقعة على الرصيف المقابل. فمنذ الثامنة صباحًا وحتى السادسة مساءً، كان هذا الولد يقود درّاجته طائرًا، وهو يحمل في سلّتها سلعًا عليه أن يوصلها إلى المنازل. كنت أراه من خلال الواجهة الزجاجيّة لمحلّ المثلّجات، وهو يدخل ثمّ يخرج، فأحسّ بالشفقة عليه.اثنا عشر كيلو غرامًا ونصف من المجد
منذ ثلاث سنوات وأنا أعيش في المنزل الذي يحمل رقم 8-58 ويقع في حيّ أليخاندرو-إيتشابارّيّا في ميديّين. وهو منزل صغير مكوّن من ثلاث غرف وصالة طعام ومطبخ، أشغل فيه وحدي غرفة خاصّة بي، فيها جهاز لتشغيل الأسطوانات، كبير بحجم خزانة، أستمع بواسطته إلى الموسيقا، لا سيّما ألحان التانغو. وعلى جدران الغرفة لم يعد ممكنًا تعليق أيّ شيء إضافيّ، لأنّها تغطّت كلّها بامتيازات التقدير والرايات والصور والتذكارات التي أحضرتها من البلدان التي زرتها. من بينها ثمّة قبّعة مكسيكيّة كبيرة ونفيسة، مطرّزة يدويًّا، أحضرتُها ذكرى من السباق الذي نُظّم حول المدينة الجامعيّة في مكسيكو؛ وكذلك تمثال لعذراء الكرمل، طوله سبعون سنتيمترًا، قُدِّم لي هديّة لمناسبة فوزي في الدورة الأخيرة من سباقات كولومبيا.
وفي غرفة مجاورة -غصّت من الأرض حتّى السقف بالمقتنيات أيضًا – لديّ خمس عشرة درّاجة، ليس فيها واحدة تشبه الأخرى، وجميعها مفكّكة إلى قطع غيار. ولديّ أيضًا خزانة زجاجيّة طولها متران، أرتّب فيها الكؤوس والميداليّات والأكاليل التي حصدتها جوائز تكريميّة في ثلاث سنوات من الانتصارات، وعددها مائة وعشرون جائزة. إحدى هذه الجوائز، سلّمني إيّاها رئيس الجمهوريّة شخصيًّا منذ أسبوعين، وهي وحدها من دون غيرها، تزن اثني عشر كيلو غرامًا ونصف.هكذا كنت!
مع أنّني أشغل غرفتين من غرف المنزل الثلاث، فإنّهما لا تتّسعان لأغراضي جميعها. وأنا لا أستوعب كيف يمكن لثلاثة عشر شخصًا آخرين أن يشاركوني العيش تحت هذا السقف نفسه. إنّ هذا يدلّ على مدى تعقّد ظروف حياتي. فمنذ اثنتي عشرة سنة كنتُ أعيشُ بشكل مريح في ركن صغير من محلّ المثلّجات، فأنام فيه وآكل فيه وأحفظ فيه كل ما أملك. وفيه مكثتُ إلى أن اضطررتُ، بعد عام ونصف، للعودة إلى منزلنا في مارينيّا والرجوع الى المدرسة، وذلك لإصابتي في جلدي بطفح من الدمامل. كنتُ في غاية الإنهاك، حتّى إنّ المعلّم ميغيل ريبيرا وبّخني قائلًا: “أرأيتَ ما فعلتْ بك العيشة التي كنتَ تعيشها في ميديّين!” أمّا رفيقي خوسيه بيتريثيو غومِث فلقد صفعني لسبب تافه صفعتين طرحتاني أرضًا. هذا يبيّن مدى الضعف الذي كنتُ عليه منذ ما يقارب الإحدى عشرة سنة.على طريق مسدود
خلال مدّة طويلة لم أستطع التقدّم في حياتي بالسرعة التي كنت أشتهيها، بل كان طريقي مسدودًا. كنتُ قد عدتُ إلى ميديّين في العام 1945 حيث استأنفتُ عملي في تغليف المثلّجات، إنّما بالأجر السابق عينه، في حين أصبح عمري ثلاث عشرة سنة، وصرتُ أرغبُ في الذهاب إلى السينما، وبدأتُ بالتدخين. منذ مدّة قصيرة صرّحتُ لأحد الصحافيّين: “إنّ الدرّاجين جميعهم حمير.” لا شكّ أنّ في قولي هذا مبالغة، لكنّه ينطوي على شيء من الحقيقة أيضًا: أقولُ في نفسي اليوم لو أنّني أكملت دراستي، بدلًا من الانصراف للعمل في محلّ بيع المثلّجات، لكانت حياتي قد اختلفت تمامًا. كان الأمر في متناول اليد، ذلك أنّ عائلتنا انتقلت في تلك السنة إلى ميديّين واستقرّت في منزل يقع في حيّ “ناسيونال” المتواضع والمتعرّج الدروب، وفيه عشتُ إلى أن فزتُ بالدورة الثالثة لسباقات كولومبيا. غير أنّي لو أكملتُ دراستي فعلًا، لما كنتُ ما أنا اليوم، ولما رغبَ أحد في الإصغاء إليّ وأنا أروي قصّة حياتي.سباقي الأوّل
في الواقع، لقد أحرزتُ فوزي الأوّل في سباق مع أحد الدرّاجين من دون أن أُضْطَرَّ لركوب أيّ درّاجة. أما الدرّاج المقصود فلم يكن غير موزّع بقّاليّة “ماس بور مينوس”، الذي أشفقتُ لحاله مدّة طويلة وأنا أشاهده من محلّ المثلّجات، ثمّ بدأتُ لاحقَا بالإعجاب به، لا لخفّته على الدرّاجة، إنّما لاكتشافي أنّه كان يكسبُ بيسوًا وعشرين سنتافًا في اليوم الواحد. في الرابعة عشرة من عمري صمّمتُ على أن أنتزعَ وظيفة موزّع في البقّاليّة، تمامًا مثلما أصمّم اليوم على أن أكسبَ أحد السباقات، فأكرّس له طاقتي كلّها.
كان الأمر سباقًا وكنت بحاجة إلى التمرين: خفّضتُ نفقاتي فصرتُ أروح كلَّ مساء، بعد العمل في محلّ المثلّجات، وأتمرّن على درّاجة أجرة، أسْتأجِرُها بأربعين سنتافًا للساعة الواحدة، من محلّ كان يقع آنذاك في شارع خوان ديل كورّال. تطوّرتُ سريعًا حتّى إنّني دُهِشْتُ من نفسي لمقدرتي على إفلات المقود وممارسة أنواع البهلوانيّات كلّها أثناء القيادة، وذلك بعد فترة لم تتجاوز الأشهر القليلة من التمرين. كانت غايتي أن أكسب ستّة وثلاثين بيسَوًا شهريّا، وكنتُ مصمّما على التمكّن من كسبها حتّى لو اضْطُرِرْتُ إلى ركوب الدرّاجة.فوزي الأوّل
أعرف أسماء شوارع ميديّين شارعًا شارعًا، وأنا أعني حرفيًّا ما أقول، مع أنّ العناوين في المدينة اعتباطيّة ومعقّدة. وذلك ليس لأنّني عملتُ موزّعًا، إنّما لأنّني كنت قد تمرّنتّ على حفظها قبل أن أحسَّ بجهوزيّتي لهذا العمل. ولقد كان ذلك أيضًا جزءًا من التمرين الذي كنتُ أقوم به.
وحينما أحسستُ بأنّني قادر خلال عدّة دقائق على توصيل سلّة مليئة بالمؤن إلى أيّ مكان في المدينة، غادرتُ محلّ بيع المثلّجات وعرضتُ خدماتي على صاحب بقّاليّة “ماس بور مينوس”. طُلِبَ إليّ أن أعود في فترة بعد الظهر. ولمّا عدتُ أُخْبِرْتُ بقبولي في العمل، وأُبْلِغْتُ أنّه عليّ أن أباشره في الساعة الثامنة من صباح اليوم التالي وبراتب شهريّ قدره ستّة وثلاثون بيسوًا. لم أنَمْ جيّدًا تلك الليلة لفرط فرحتي من أن أتمكّن عمّا قريب من الذهاب إلى السينما أكثر، وأن أستطيع تدخين علبة سجائر كاملة كلّ ثلاثة أيام.جائزتي الأولى
في الساعة الثامنة تمامًا، وصلتُ إلى البقّاليّة، فسُلّمتْ إليّ درّاجة، وكانت مركبة قديمة، ثقيلة، لها سلّة لحمل المؤن. ثمّ أُعطيتُ بعض التعليمات المحدّدة بدقّة وكذلك عنوان أحد الزبائن، ما لبثتُ أن حدّدتُ مكانه فورًا. وأخيرًا، تُرِكْتُ وأنا على الدرّاجة، محمّلا بالموز والشعيريّة، إضافة إلى كومة من الموادّ الأخرى. لم تسبّب لي حمولة المؤن أيّ مشكلة في الحفاظ على توازني، إذ كان سهلًا بها، مثلما هو سهل من دونها. كان الزقاق الذي تقع فيه البقّاليّة -لا تزال قائمة حتّى اليوم- مسدودًا، وبذا لم يكن له غير زاويتين: على الزاوية الأولى البقّاليّة، وعلى الثانية محلّ المثلّجات. ولكي أوصل طلبيّتي الأولى، كان عليّ أن أتوجّه نحو الجنوب مرورًا في الشوارع الرئيسيّة الأكثر ازدحامًا. أدرتُ المقود في هذا الاتّجاه وأنا في الزقاق الضيّق المغطّى بالبلاط، ثمّ انطلقتُ مسرورًا وواثقًا من نفسي، ساعيًا وراء البيسوات الستّة والثلاثين التي تنتظرني في آخر الشهر.وحادثي الأوّل
مع ذلك، فلقد غابَ عن ذهني أمر مهمّ أثناء تمريني: قانون السير. في تلك الأيّام، كانت شارات المرور قد وصلت إلى ميديّين. وهكذا، بعد خروجي من البقّاليّة، وعند أول تقاطع بلغتُه وأنا أسيرُ عكسَ السير، كانت الشارة حمراء. لكنّي لم أعرْها انتباهًا، فتقدّمت باستقامة، وأنا لا أزالُ أسيرُ عكسَ السير، ثم بدأتُ أزيدُ من سرعتي.
بعدها، فقدتُ الوعي ولم أشعر بأيّ شيء سوى بصدمة هائلة على جبيني وركبتي. ولمّا استفقتُ وأنا لا أزال أحسّ بالدوار، رأيتُ الدرّاجةَ وقد أصيبتْ بالخدوش، ولمحتُ المؤنَ وقد تناثرتْ على الأرض. ولم أدرك ما جرى إلّا بعد حين: كانت إحدى الشاحنات قد صدمتْني وقذفتْ بي بعيدًا، أنا ودرّاجتي وحمولتي من المؤن. وحينما عدت إلى البقّاليّة وأنا أعرج وأجرّ المؤن خلفي، قال لي معلّمي الجديد، بلهجة أبويّة مترفّقة: “يا بنيّ، إن أردتَ أن تصبح موزّعًا جيّدًا، تعلّم كيف تقود الدرّاجة.”ملاحظات المحرّر
عطور لتنظيف الكؤوسلم يَعرف رامون أويّوس المدرسة مدّة أطول ممّا ذُكر في الفصلين السابقين: سنتين – كانتا سنة واحدة – في قريته تشورّو أوندو، إضافة إلى سنتين أُخْرَيَيْنِ في مارينيّا. “اليوم، ليس لي من همّ سوى الإملاء”، قال في اللقاء الأوّل. وفي اللقاء الثاني – أحدهم كان قد أخبره أن المحرّر كاتب ولديه رواية من تأليفه – سأل بفضول:
“وكيف تعلّمتَ الإملاء؟”
وبنزاهة خالصة أجابه المحرّر:
“الإملاء لا يمكن تعلّمه. وأخطائي يصحّحها لي منضّد الحروف في المطبعة.”
مع ذلك، فإنّ هذا الجواب لم يشفِ غليل البطل. إنّه يحرص على أن يكتب كتابة صحيحة – مع أنّ كتابته ليست بالسوء الذي يتصوّره – لكنّه لا يتّخذ القرار في تعلّمها لأنّه لا يمتلك الوقت الكافي، ويحار حيال الأمر بعض الشيء ولا يعرف من أين يبدأ به. يحسّ المرء أنّه يقول في سرّه: “على بطل الدرّاجات أن يكتب من دون ارتكاب أخطاء إملائيّة”؛ ويشعرُ أنّ ذلك يقلقه. لكنّه مع ذلك لا يباشر في التعلّم. إنّ الرسالة التي خطّها بيده ووجّهها إلى الإيطاليّ فاوستو كوبي ونشرتها صحيفة الاسبكتادور منذ مدّة قصيرة، لا غبار عليها في سلامة لغتها: لقد راجعها مدرّبه الأرجنتينيّ، خوليو أرّاستيّا وتحقّق منها.حكاية ببّغاء
رغم اهتمام رامون أويّوس المتأخّر بالدرس، فما من شكّ في أنّه لم يكمل تعليمه المدرسيّ إلّا لأنّ الدرس لم يكن يعنيه في شيء وهو صغير. ومنذ طفولته برزت فيه السمتان الرئيسيّتان المميّزتان لشخصيّته: الاستقلاليّة والميل الشديد إلى التملّك. ولقد انطبعت حياته كلّها بهما. إنّ المنزل الذي يعيش فيه البطل مع ثلاثة عشر شخصًا آخرين تكفّل برعايتهم، ليس فيه الكثير ممّا لا يملكه هو شخصيًّا. وما في المنزل كلّه يعود إليه، بما في ذلك سلطة الأمر والنهي، مع أنّ أحد أخويه الأكبر منه يسكن معه، ووالده أيضًا عاش معه إلى أن تزوّج مرّة ثانية. إنّه حاضر في كلّ شيء وفي أدقّ زوايا المنزل الخفيّة. فحتّى الببّغاء الذي جلبه معه من البرازيل ويصيحُ بالبرتغالية، لا يعرفُ غير كلمة واحدة بالإسبانيّة، يطلقُها من عليائه وهو في الفناء: “رامون!”الوحيد، الفريد
في منزل رامون أويّوس تُعْتَبَرُ رغباتُه أوامر. وهو يعبّر عنها بحزم، إنّما من دون عنف. وفي هذا الصدد، يوضح أحد أفراد عائلته لماذا ينصاع لرغائبه قائلًا: “ليس لدينا في هذا المنزل سوى بطل واحد.” والجميع يتقيّدون بمنعه عنهم الاقتراب من أغراضه الشخصيّة. أمّا فيما يخصّ مشغّل الأسطوانات الكبير الموجود في غرفته، فلديه أسباب لمنع أيّ كان من استعماله: ذات مرّة ترك لأهل المنزل الحرّيّة في استخدامه، ولمّا عاد في يوم الراحة أثناء الدورة الخامسة من سباقات كولومبيا، وجد الجهاز الثمين معطّلًا.
وفوق ذلك، فإنّ رامون بنفسه حريص على كلّ ما يملك حرصًا فائقًا، يكاد أن يكون مَرَضيًّا. ففي إحدى زوايا غرفته، عُرِضَ تمثال لعذراء الكرمل، طوله سبعون سنتيمترًا، تلقّاه لمناسبة فوزه الأخير، هديّة من جملة هدايا أخرى عديدة، لكنّه لا يزال ملفوفًا بورق السيلوفان.
يصل رامون إلى قمّة الضبط والإحكام عندما يتعلّق الأمر بجوائزه المائة والعشرين، المعروضة باتّساق على رفوف الغرفة وطاولاتها، أو في الخزانة الزجاجيّة الضخمة المزوّدة بقفل مُحْكَم. وفي هذا المكان، تُرى جوائزه المفضّلة، ومنها بلا غرابة تلك التي حاز عليها في بويرتو ريكو، إذ إنّه يعتبرها “الأفضل بين الجميع”. يوم الخميس الماضي دخل المحرّر غرفة رامون أويّوس، فاشتمّ رائحة عطر فوّاحة جدًّا. كان البطل ينظّف جوائزه وهو عاري الصدر، وهذا عمل يقوم به مرة كلّ أسبوع.
“بماذا تنظّفها؟” سأله المحرّر، وقد أثارت فضوله هذه الرائحة.
أومأ رامون أويّوس إلى قطعة القطن المبلّلة التي يمسك بها بين يديه وأجاب: “بالكولونيا.” وبالفعل كانت كذلك: كلّ خمسة عشر يوما يستهلك في تنظيف جوائزه ما يقارب الزجاجة.كم تساوي من المال؟
لا يُعرف عن رامون أويّوس باب للتبذير غير تبذير الكولونيا. فهو رجل يدير نفقاته في غاية التنظيم، ولديه قدرة فائقة على الادّخار، من دون أن يجنح إلى مهازل البخلاء. إنّه حلو المعشر ويتحلّى بكرم الضيافة ويحسن استقبال أصدقائه استقبالًا لائقًا. إلّا أنّه يتمتّع ببصيرة ثاقبة لمعنى الأرقام، ويدرك تمامًا وظيفة المال الذي جناه: “في أيّ لحظة قد أخسر كلّ شيء وأفلس، فأموت جوعًا”، قال.
في ميديّين اليوم، توشك ثروة رامون أويّوس – التي لا يُظهرها في أيّ مكان – أن تصبح أسطورة. أمّا هو فإنّه يصرّ على أنّه لا يمتلك سنتافًا واحدًا، مع أنّه أصبح مؤخّرًا شريكًا مساهمًا في الشركة التي يعمل فيها، وذلك إثر تلقّيه هِبَةً أتَتْهُ بعد الدورة الثالثة لسباقات كولومبيا، وكانت قيمتها في حينها عشرين ألف بيسو. تنهال عليه الهدايا من كلّ حدب وصوب، حتّى إنّه في إحدى المرّات تلقّى هديّة، ثورًا صغيرًا. يؤكّد الناس في ميديّين أنّ ثروته التي لا تُرى تتجاوز الخمسين ألف بيسو.الدفاع عن الفقر
يظلّ حجم الثروة التي جناها البطل إحدى النقاط النادرة التي يلفّها الغموض في سيرته الذاتيّة. ويبدو في حياته اليوميّة كأنّه يعيش وينهض بأعباء أسرته بفضل الأربعمائة بيسو التي يتقاضاها شهريّا من عمله في الطباعة في معمل النسيج. لكنّ الرأي العامّ الذي يبحث بفضوله عن معرفة أتفه التفاصيل في حياة البطل، يتساءل عمّا فعله بحقوقه القانونيّة في استخدام صورته الشخصيّة. أويّوس يؤكّد، من جانبه، وهو صادق فيما يقول، أنّه لم يتلقَّ مقابل استعمال صورته الشخصيّة مبالغ طائلة. ويصرّح: “مقابل نصف دزّينة من القمصان، أصدرتْ إحدى الشركات المعروفة إعلانًا من ربع صفحة مستخدمةً فيه صورتي.”
لا يشكّك البطل في موهبته الكبيرة في ادّخار المال. “حينما أغدو عاجزًا عن القيام بأيّ عمل، يقول، لن يتبقّى لي غير هذه الكؤوس والميداليّات، وهي لا تساوي سنتافًا واحدًا.” غير أنّا إن تمعنّا في سيرته الذاتيّة عن كثب، لأدركنا أنّ حاجته للأمان الاقتصاديّ راسخة فيه منذ طفولته. فهو يعترف أنّه لم يتعلّم قيادة الدرّاجة حبًّا بهذه الرياضة، إنّما رغبة في كسب عشرين سنتافًا إضافيًّا في اليوم. وأصدقاؤه يستهزئون به لذلك، لكنّه لا ينفعل، ويظلّ لطيفًا معهم، فكلامهم لا يزعجه. ويبدو أنّ ثمّة جانبًا آخر في شخصيّته -يميّز أهل أنتيوكيا عمومًا- يتمثّل في ثقته الزائدة بنفسه دومًا، من دون أن يأبه لما يُمكن أن يُقالَ عنه؛ وما يُقال عنه عادة، هو أكثر بكثير مما يُقال عن غيره