فنان تونسي يشحن لوحاته بصوت الآلات وضجيج شخوصه الميكانيكية المضغوطة
ميموزا العراوي
الأربعاء 2022/10/1
ماكينات بشرية مُصغرة ومضغوطة أشبه بألعاب الأطفال
تجاوز الفن التشكيلي المعاصر محاولة محاصرة الأشياء والألوان وتأطير عناصر اللوحة لخلق عالم ما منها، فصار يسعى أكثر للديناميكية من خلال تحرير الأشكال وبعث الحركة التي تؤدي إلى توسيع مجالات الفهم والأفكار. وهكذا نجد الفنان التونسي طاهر جاوي.
ما من أعمال فنية إلا واكتنزت عوالم مختلفة راكمها الفنان عبر السنين، حتى لو كان من الصعب تبيانها مباشرة. وليس نص الفنان التونسي طاهر جاوي إلا مثالا عن تلاقي خبراته المعرفية، ومن ثم اعتصارها تحت سلطة تأثيرات فنية عالمية أطلقت نصه الخاص الذي يحمل إمضاءه.
قدمت صالة “إل.تي” اللبنانية منذ أواخر شهر سبتمبر الفائت حتى السادس من أكتوبر الحالي معرضا فرديا ولأول مرة في لبنان للفنان التونسي – الفرنسي العالمي طاهر جاوي بعنوان “تحت جناح الزرقة”. وكما يشير العنوان يقع نصه الفني بعدة لوحات مشغولة بمواد مختلفة كالباستيل والأكريليك والألوان الزيتية وأقلام الفحم معظمها تطغى فيها الخطوط السوداء السميكة المُحددة للأشكال.
اللوحة والجسد
قدم المعرض لوحات بالأحجام كبيرة تحت سلطة اللون الأزرق، وإن كان هذا الأزرق لا يأخذ المُشاهد إلى متنفس العوالم البحرية أو السماء المفتوحة، غير أنه يشكل الفضاء الذي تنبض به شخوصه الميكانيكية وباقي العناصر التشكيلية/ الهندسية من دوائر ومثلثات وخطوط بهلوانية تلتف وتنفرد وتستقيم وترتج وفق رغبة الفنان وحسب الدفع العشوائي والمُرتجل الذي يحرك مخيلته ويده.
يذكر البيان الصحافي المرافق للمعرض أن الفنان “مُتجذر في التعبيرية التجريدية التي سيطرت على التشكيل الغربي بين سنتي 1940 و1950 وهو في عزّ غوصه في عالم الفن التشكيلي”.
عالم يضج بدوائر مؤثرة وخطوط حادة ومعادلات رياضية وأرقام بيانية. وطاهر جاوي فنان عصامي تلقى تعليمه في الهندسة وعلوم الكومبيوتر. أما منجزه الفني فمتأثر بعدة روافد فنية منها الفن الأفريقي البدائي وحركة “كوبرا” وفن “الغرافيتي” وحركة “الغليتش” وذلك إضافة إلى “التعبيرية التجريدية”.
تكلم الفنان في أكثر من مناسبة عن علاقته مع الأرقام وعلوم الرياضيات، قائلا “أكتفي بالرموز والأرقام لتشكيل التوازن بين جميع عناصر اللوحة ولا أفكر باستخدام الحروف، وأنا أعرض مشاعر الفرح أو التمرد والفوضى. أركز في عملي على الرؤى والأحاسيس التي أشعر بها، والمهم بالنسبة إلي هو الحركة من خلال الحوار بين اللوحة والجسد والروح والأفكار، وكأني في مسرح”.
الفنان يقدم لوحات مشغولة بمواد مختلفة كالباستيل والأكريليك والألوان الزيتية وغيرها، تطغى فيها خطوط سوداء تحدد الأشكال
على الرغم من تأثر الفنان بعدة روافد فنية غير أن أثر حركة “كوبرا” الفنية، التي لم تستمر لأكثر من بضعة سنوات، كان لها الوجود الأهم في عمله.
ونورد هنا ذكر أهم فكرة انطلقت من هذه الجماعة الفنية وبرزت في أعمال الفنان طاهر جاوي بشكل فاقع “على العناصر أن تظهر في العمل الفني كالبرق أو كالتغير السريع في أجواء الأجواء المناخية”، ويظهر هذا الزخم بكل ديناميكيته في جميع أعمال الفنان التونسي ليكون هو المُحرك/ المُنتج الأساسي لكل المشاهد الذي شكلها على القماش.
ولكن إن كان رسامو هذه الفترة أنتجوا أعمالا برزت في معظمها عناصر شبه مستقلة عن بعضها البعض، فعناصر لوحات الفنان طاهر جاوي، إن كانت أشكالا هندسية أو شخوصا، تشبه ماكينات بشرية مُصغرة ومضغوطة أشبه بألعاب الأطفال، ظهرت كأشكال متصلة ببعضها البعض، لا بل هي من ضمن سياق سردي واحد تعقد ما بينه أسلاك كهربائية غير مرئية حينا ومرئية حينا آخر. وهذا الاتصال والتكتلات في ما بين الأشكال ظاهره التناغم وداخله تفكك وتوتر يرشح عنه ما يمكن أن نشبّهه برائحة تسربات غازية خطرة لم يصر إلى التحكم بمغلاق خزاناتها جيدا.
الآلات والضجيج
تعم في فضاء اللوحات فوضى عارمة تفرض تشنجا واضحا أفرز تدفقات لونية ارتجالية استطاع الفنان ببراعته أن يضبط إيقاعها بالخطوط دون أن يفسد تلقائية فيضها الذي تتميز به جميع لوحاته.
جو من الامتعاض يسود في لوحة الفنان. لكن الغريب في الأمر أن ما يرافق هذا الامتعاض البادي بين العناصر المتكاتفة هو تعايش وقبول بالأمر الواقع. وما الأمر الواقع إذا نظرنا إلى لوحاته عن بعد إلا “زرقة مناخية”، إذا صح التعبير، تبدو وكأنها ساحة معركة أو خطة قيد الإنجاز لأجل تشكّل متسارع للعلاقات بين الأشكال المرسومة.
وتلعب الدوائر والمآقي البشرية وهياكل العيون كاملة الاستدارة والزوابع والإطارات والحلقات المُفرّغة دورا رئيسيا في جعل الأعمال تبدو وكأنها مُجسم ميكانيكي طاحن لا يرحم، يتجهز للانطلاق في أفق اللوحة كقطار حديث وشفاف يكشف عن باطن مكوناته.
إضافة إلى الأجساد الميكانيكية المتكاملة في لوحاته حضرت “أطراف” تخص تلك الأجساد متقطعة ومُعلقة في المساحة الزرقاء كالرؤوس ذات الأسنان الحادة والأطراف وهي حتما تناثرت من تلك الأجساد المركبة أو قيد الاتصال العشوائي بعدد منها حتى يُقام التوازن وكأن بواسطة عملية مغناطيسية وعلمية لا علاقة للعواطف بها وتلعب فيها الصدفة دورا رئيسيا.
وقد ساهم تفلّت الحدود في جهات اللوحات الأربع من اللوحة في خروج “شخوص” الفنان الآلية وتحولها على يد الفنان إلى مجسمات نحتية ثلاثية الأبعاد من البرونز ومادة الرزين مجبولة بألوانها المتفجرة التي عهدناها في لوحاته.
أما مساحات الفراغ بين العناصر وإن حضرت فهي واهية لأنها مشحونة بصوت الآلات الناشطة وبصدى الضجيج الذي تفرزه شخوصه الميكانيكية المضغوطة.
يُذكر أن الفنان ولد في تونس وتلقى تعليمه في جامعة السوربون الباريسية غير أنه لم يتعمق في دراسته العلمية وفضل الغوص في عالم الفن ومراكمة خبراته ليبدأ العرض الفني سنة 2013. له معارض فردية عديدة في باريس وبيروت وبرلين وسنغافورة وفيلاديلفيا وأطلنطا وجنوب أفريقيا وكوريا وإندونيسيا ودبي. كما شارك في معارض جماعية في تلك البلدان.