اللبناني آلان فاسويان يحملنا نحو غابة من المعاني الملتبسة
ميموزا العراوي
الجمعة 2022/10/21
غابات تعيد إحياء نفسها
يسافر الفنان اللبناني آلان فاسويان بمتأملي لوحات معرضه الجديد نحو غابته المتكسرة، التي تحترق بكل ما فيها لكنها تحافظ على كل مقومات الحياة في داخلها، فتبدو صورة بصرية أعاد الفنان تشكيلها عن بيروت ولبنان والحرائق التي اجتاحته في العام 2019، فأكلت الشجر ومهدت لحرائق أخرى طالت معالم الحياة بالكامل.
لا تصغي إلى نداء الفنان اللبناني متعدد الوسائط آلان فاسويان لزيارة غابته في صالة جانين ربيز إلا إن كنت مُستعدا لتحمًل التباس المعاني، فالغابة فخ. لا تصغي إلى نداء الغابة، ففي الغابة أنت وأحلامك المحترقة واستحالة العودة إلى ما قبل تجربة التعرف على الغابة، غابته المتكسرة.
هذا ما ستشعر به عند زيارة معرض الفنان اللبناني آلان فاسويان، الذي يقدمه في صالة جانين ربيز من الثاني عشر من أكتوبر حتى الخامس من نوفمبر تحت عنوان “في داخل غابتي المتكسرة”.
في هذا المعرض، كما في أهم معارضه التي سبقت، يدمج الفنان كخيمائي بالفطرة، العسل بمرارة العلقم فيصطاد زائري معرضه في شباك عالم تنمو فيه أغصان وأشباح وظلال أغصان لأشجار احترقت، ولكنها لا زالت تنبض بحياة غرائبية ببساطة ظاهرية مناقضة لمعانيها.
كائنات ولدت من غابة فاسويانعالم حالم وكابوسيّ في الآن ذاته يذكّر بشكل كبير بعوالم القصة الخرافية “توم الإبهام”، لاسيما بأجواء الغابة المخيفة والجميلة التي ضاع فيها صبيّ الحكاية وإخوته وصولا إلى قصر الوحش العملاق. وحش شره لديه سبع فتيات يملكن شعرا أصهب شديد الاحتدام تماما مثل غابة الفنان التي احتفظت بلون الحريق حتى بعد الانخماد ليصير هو لون الغابة ولون العالم الذي نعيش فيه والمُتعايش مع وحشيته.
كما يأخذنا معرضه التجهيزي إلى مشهد محدد ظهرت فيه فتيات الوحش نائمات في تناقض غرائبي مع شعرهن الأحمر الناري وغير المشذب. وهي صور تجمع بين متناقضات: برد، ونار. شاعرية، ووحشية.
هذا الجوّ المُقلق، لأكثر من سبب، صاغه الفنان في نص بصري واحد ببراعة فائقة تميّز بها منذ سنوات وحضرت كشرارة أولى في معرض تجهيزي سابق له، قدمه أيضا في صالة جانين ربيز وحمل عنوان “مدينة الدجودو”.
وكما القصص الخرافية الشهيرة احتفظ معرض آلان فاسويان هذا كمعظم معارضه السابقة بخاصية الالتباس ما بين الواقع والخيال وما بين المرعب واللطيف. ولكن معرضه هذا ومن دون شك هو الأكثر شاعرية حتى الآن وليس لأن الموقع الجغرافي الذي يتناوله هو غابة، أي مكان يفرض شاعريته لحظة ذكره، ولكن بسبب كيفية إخراج الفنان لهذه الغابة إلى الوجود: مُشتعلة بحمرة لا تمت إلى تدرجات لون الدماء ولا إلى تداعياته الداكنة المولّدة لأفكار الموت والتفحّم ولا إلى فعل الاحتراق بقدر ما تمت إلى زخم حياة حقيقية ومُنتصرة على حارقها.
وغابة الفنان هنا هي خارج قبضة البشري. هي من صلب معنى الاحتراق على أنه قوة تشكيلية يمكن السير فيها والتدرج في أسرارها التي تتخطى فكرة الفناء كما يفهمها الإنسان من خلال حواسه الخمس وخارج أثيرية الزمكان.
كما القصص الخرافية الشهيرة احتفظ معرض آلان فاسويان بخاصية الالتباس ما بين الواقع والخيال وما بين المرعب واللطيف“في غابتي المتكسرة” تجهيز فني أقرب إلى شريط مُتحرك شديد الغرابة لم يكن ينقصه إلا هندسة إضاءة مناسبة تعتمد على الظلال إضافة إلى ما حقق بعضه الفنان معتمدا على الألوان الغامقة للمجسمات المنمنمة، إضافة أيضا إلى كيفية وحيثية وضعه للمنحوتات مقابل لوحاته التي رسم فيها مشاهد مماثلة من الغابة نفسها دامجا فيها ألوان الأكريليك مع مواد طبيعية كأغصان أشجار محترقة.
أغلب الظن أن زائر المعرض قد تحوّل إلى “توم الإبهام” وهو يسير دون هدف محدد ما بين المنحوتات الغرائبية لكائناته البشرية المصنوعة من مادة الريزين الملون والبرونز وبودرة الزجاج، ومنحوتات أخرى لحيوانات تتسلق أغصان الأشجار الدقيقة ومعظمها بدا متحدا مع أجساد الأشجار. كلها حيوانات من الصعب رؤيتها في حالة هروب من النار لأن فيها من الحدة في الخطوط المُشكلة لها ما يشي بقوة وقدرة على الثبات وصولا إلى أعلى الأغصان. وفي ذلك تختلف عن الكائنات البشرية المتكسرة حيث ظهرت بعض الأجساد من دون يد أو ذراع وبدت أخرى تحمل رأسا مقلوبا أو تحمل رأس كلب أو ثعلب أو ابن آوى، وأخرى لا تملك رأسا. وقد أكثر الفنان من التنويعات ليكوّن مجموعة من كائنات تنتمي إلى عالم مفكك ولانهائي في تحولاته.
وأوضح الفنان اللبناني أن فكرة المعرض كانت “قبل انطلاق شرارة الثورة اللبنانية بأيام قليلة في عام 2019، قصدت تلك الغابات المحروقة ورحت ألملم أغصان شجر مكسورة وحفنات من التراب الأسود. وضعتها في سيارتي والغضب يجتاحني وأنا أجهل تماماً لماذا أقوم بذلك. وبعدها بدأت تتبلور فكرة رسوماتي ومنحوتاتي مستخدماً فيها كل هذه الأدوات الحية والميتة معاً”.
"في غابتي المتكسرة" تجهيز فني أقرب إلى شريط مُتحرك شديد الغرابة لم يكن ينقصه إلا هندسة إضاءة مناسبة
لذلك عليك أيها المتلقي أن تكون شبيها بالفنان آلان فاسويان، أي أن تمتلك نصاعة داخلية وطفولة لم تقو حرائق العالم على تقويض معالمها وظلت ترى في النار حياة وفي الأحمر عطر الأشجار النضر وأصوات الحيوانات الناجية بشكل من الأشكال. حيوانات متفوقة ومنتصرة بطبيعتها البريئة على القتل الذي يحدثه الإنسان، القتل على أنواعه الذي ربما يُحاسب عليه على الأرض وربما لا، ولكن سيحاسب عليه حتما في السماء.
ولعل أغرب ما في المشهد الذي يقدمه لنا الفنان هو حضور الهدوء لا بل السكون في غابته المتكسرة والمُحتدمة التي تجتاحها حُمرة تميل إلى برتقالية ألسنة اللهب المتصاعدة وصولا إلى زرقة سماء وبحر حضرت في أكثر من لوحة لتشكل خلفية لمنحوتات أشجار متفحمة.
بناء على ذلك يظهر سؤال بالغ الأهمية: ما هو المشهد المُحدد الذي أراد الفنان القبض عليه؟ هل هو أوج الاحتراق؟ وكيف يكون ذلك والتفحم قد انتشر وطال حتى الحيوانات التي بدت متحجرة، ولكن لا زالت تنبض بالرغم من ذلك بالحياة؟ وهل يمكن منطقيا أن يظل الاشتعال متوقدا ومرحلة التفحّم قد حلّت بكل مظاهرها؟ وما سر زرقة السماء وقدرة علوّ أغصان رقيقة ومُحترقة في استقبال كائنات الغابة؟
لعلّ الإجابة تكمن في أن تناقض الصور وانسجامها فيما بينها في نفس الوقت يُمكن أن يؤسسا لفكرة مولّدة لمشاهد إضافية تحتمل بدورها التأويل. وهذا ما يُشبه تماما تناقض الخبر والصورة فيما ذكرته إحدى نشرات الأخبار المتلفزة أثناء حرائق 2019 التي اجتاحت أحراج لبنان. قال الخبر “لقد تمت السيطرة على الحرائق” أما الصورة فكانت لشجرة صنوبر انطفأت “لوحدها” لأنها انتهت من عملية احتراقها.