سعود غنايمي
(( شمعة حلب المتقدة دائما ، وابدا ، والعماد في معاني أعناق التكوين ))
قراءة: عبود سلمان العلي العبيد/ سوريا
إن الطريق التشكيلي إلى حلب الشهباء ببعدها الإنساني والحضاري . يحتاج إلى المرور بعوالم ذكرياتنا عن حياة وإبداع الفنان التشكيلي الرائد الراحل سعود غنايمي صاحب صالة ايبلا للفنون الجميلة . وهي من أقدم صالات العرض التشكيلية الحلبية السورية الرائدة في مجالها الحيوي . بما قدمته للحركة الفنية التشكيلية والثقافية الفكرية . حيث كانت لدور هذه الصالة . الدور الريادي الذي يتماهى بها ويتمازج معها . الفن. والفكر. والأدب . والمجتمع التشكيلي والجماليات الإنسانية الأخرى.
فمن رحلة الإبداع هذه كان ولازال الفن في المدن البعيدة هو الفاصل الإبداعي بمساحة تفاعلية كامنة . وبها كل ماهو عصب حيوي لعصر جميل لازال جميلا بانسانياته . لحبور عوالم الدهشة . بإيقاعات قيمة الفنان الأصيل . الذي هو ناتج فعل الصدق ألزماني والمكاني . حيث أريج المناخات الإبداعية الصعبة وتحويلها إلى حركة حقيقية في شكل حركة انتماء وعطاء . قد تستحق الكثير من المطالعة والتقدير .
«من جو حالك الظلام تبرز وجوه حزينة رقيقة ملؤها العاطفة تمثل نساء وأطفالاً ظمأى للحنان، وجوه مضاءة من جانب واحد كأنما تنورها شموع وكأنها تعيش في غرف رطبة مظلمة بائسة .. كأن هذا انعكاس لمعاناته الحياتية وإحساساته المرهفة نحو الأطفال والمرأة .. تظهر بين الحين والحين فإذا هي هذه اللوحات الكئيبة التي لاتخلو من أمل يلوح على الوجوه حنواً بنياً فاتحاً من عفوية وإخلاص ..»
إنها كلمات خطتها هواجس فنان تشكيلي راحل هو إسماعيل حسني الذي أبى إلا أن يترك بصمات على نتاج تلميذه النجيب فخط له كلمات في كراس معرضه الخاص عام 1987 . نعم تلميذ نجيب وماهر جاء إلى المدينة حاملاً معه حقيبة سفره وبعضاً من صور سرعان ماترجمت عبر الألوان والوجوه التي قدمها .. إنه سعود غنايمي صاحب الألف شمعة محترقة أضاءها في ليالي حلب الطويلة فكان الفنان والصديق. الولادة الأولى لم تكن تعلم تلك الأم التي حضنت وليدها لأول مرة في عام 1936 الذي شهد مولد سعود غنايمي أنها أنجبت جمراً كامناً تحت الرماد وأن هذا المولود لن يبقى حبيس ذكرياته القروية بل سينتفض على كل عادات وتقاليد بلدته إعزاز .. لم تكن تعلم أنه لن ينشأ كغيره من أطفالها الذين كانوا يجوبون ساحات البلدة طولاً وعرضاً .. سعود الحالم تارة والحزين والمتأمل تارة أخرى لم يجد بداً إلا من حقيبة سفر أودع فيها ملامح من طفولته ووجه أمه وحنانها وبؤس الحياة الريفية ليتجه إلى حلب حيث الأضواء الباهرة والأحلام التي لاتنتهي . الولادة الثانية وهناك بدأت ملامح شخصيته تأخذ منحى جدياً فكان أول اتصال له بالفن عام 1960 في هذا العام التحق بمركز فتحي محمد في أول افتتاح له، وكان من الأوائل الذين تخرجوا فيه عام 1962 عندما تنظر إلى تمثال خشبي مركون إلى الآن في صالته تجد أن سعود غنايمي يقول بكل فخر هذا هو أستاذي الذي علمني اللون والفن إنه (إسماعيل حسني) فكان الإنسان الريفي الوفي لكل من علمه حرفاً فصنع لمعلمه تمثالاً خشبياً صبّ فيه عصارة فنه فجاءت المنحوتة واقعية تنبض فيها روح الخشب تأثيراً وروحانية. لم يكن الفنان إسماعيل حسني الوحيد الذي تأثر به سعود غنايمي بل يقف إلى جانبه النحات الراحل وحيد استانبلي الذي استطاع أن يميز مدى الموهبة التي يكمنها سعود غنايمي فعلمه كيف يستطيع تهذيب الخامة ويحفها ببراعة لتكون في النهاية منحوتة فنية. طبق القش بدأت ذاكرة سعود غنايمي تخرج رويداً رويداً إلى النور وتجسدت أعمالاً فنية تحمل طابع ريفه ووجوه نساء وأطفال شماله مع كل ما تحمله من بؤس وشقاء . فجاء معرضه الفردي الأول في 18 / 11 / 1978 في المتحف الوطني بحلب، حضرت الوجوه المعجونة بلون الطين والتراب على طبق القش إلى جانب أعمال أخرى عنونها بالأرض وأمام الفرن وغيرها. في كراس المعرض يقول إسماعيل حسني «خمسة عشرة عاماً أمضاها في التصميم والرسم للأثاث مهنته الأصلية، ولكن موهبته كامنة كالجمرة تحت رماد السنين، وفجأة عاد إلى ريشته وألوانه يلقي بواسطتها على لوحته همومه ورؤيته الشخصية. إن الإنسان لدى سعود غنايمي في أعماله الأخيرة يأخذ شكلاً هلامياً عفوياً فيه طيبة وحزن عميق ومحاولة للتعبير عن التسامي فسعود لايعنى بالتفاصيل وتقنيته تشبه تقنية الألوان المائية شفافية ومساحات لايحدها خط حيث اللون الدسم والموضوعات الريفية وللإنسان حضوره الدائم حتى في المناظر الطبيعية». وجاء المعرض الفردي الثاني عام 1982 مكملاً لما قدمه في الأول ليضع الساحة التشكيلية أمام تجربة فنية جديدة بأبعادها وعناصرها، تجربة وصفها البعض بأنها التعبيرية العفوية التي لاتخلو من عناصرها التأثيرية والواقعية المطورتين بأسلوب بسيط. وجه ريفي وقباب التجربة التشكيلية الزيتية لغنايمي رفدت الحركة التشكيلية السورية عامة والحلبية خاصة بطابعها الخاص، فقد حسنت من الذائقة البصرية وجملتها لما تميزت به من عفوية وبساطة الريف وألوانه ومواضيعه التلقائية وها هو سعيد طه يعبر خير تعبير عن تلقائية ومواضيع غنايمي فيقول «رسم سعود غنايمي ليس أبعد من هاتيك المسافة الروح ومسام الجلد، ليس أبعد من المرأة والأرض ورائحة الوشم فوق القباب الطينية الحنون التي ولد فيها». من جانب آخر يأتي محمود مكي في مجلة (هنا دمشق) تاريخ 16 / 4 / 1984 ليطرح أسئلة مشروعة حول تجربة غنايمي فيقول: مامدى أهمية الطفولة والمرأة في أعمال هذا الفنان وهل يتعامل معهما كفئة مسحوقة من حقوقها أم وسيلة من الوسائل للتعبير الجمالي الخاص ؟. وسرعان ما يأتي الجواب على لسانه ليفضي بالسر الجميل الذي يعبر عن أن «مايميز أعمال غنايمي هو أنها مشحونة من جوانبها كافة بالحزن المحبب؛ لأن عنصر الفرح كامن في الخلف ينتظر منفذاً لينشر منه أضواءه الملونة كل ذلك يتأتى بعفوية لاتنقل المعاناة التي يعيشها خلال تعامله مع الحياة مباشرة . وتأتي العناصر الثلاثة (البيئة- الطفولة- المرأة) التي يطرحها غنايمي في أعماله والتكامل الفكري والتشكيلي في علاقاتها الجدلية أهم الخصائص التي يتميز بها الفنان والتي تعبر عن تجربة غنية بعناصرها الفكرية والتشكيلية». الخشب والرحلة الصعبة تبدو التجربة النحتية جلية فيما تقدمه من مفاهيم واقعية عودنا عليها غنايمي في تشكيله. إنه يقدم كل شيء لخامة الخشب البارع جداً في التعامل معها؛ لأنه واحد من أهم وكبار مصممي الأثاث الخشبي في سورية في بداية الستينيات من القرن الماضي، فنان بارع اعتادت أنامله الخشب وملمسه فطرح منحوتات واقعية بعفوية دون أن يهمل مضامينها الفكرية، ويبدو ذلك جلياً من منحوتة أستاذه (حسني) وتمثال (لؤي كيالي) الذي يشعرك بأنك أمام هذا الفنان ذي النظرات الثاقبة، بينما تأتي منحوتة الأم لتفيض حناناً وحباً وحزناً واغتراباً. وما تزال كلماته إلى الآن يرجع صداها في صالته إيبلا حيث يقول عن نفسه « لا أدري على وجه التحديد أنني عندما أعمل لا أفكر في الضوء أو في الظلام، إنني أعمل بشكل عفوي لعلي حزين من أعماقي ولعلي مما تشاهده من فرحي ». صالة وشمعة وأصدقاء ولا تأتي أهمية سعود غنايمي من خلال تجربته التشكيلية والنحتية فقط بل إنه يعتبر أحد أهم روافد الحركة الفنية في سورية. فقد أسس أول صالة عرض خاصة في مدينة حلب عام 1981 إنها صالة (إيبلا) التي ما تزال تحتفي بالفنانين ونتاجهم وتجدها في أيامها الخوالي تحمل بين جدرانها أعمال مؤسسها غنايمي لتأنس بما قدمه. صالة إيبلا التي كانت جزءاً من منزل غنايمي لعبت دوراً هاماً آنذاك ولم يكن دورها مقتصراً على العرض فقط، بل كانت في الليل منتدى ثقافياً لكل أدباء ومفكري وفناني حلب، حيث كان غنايمي يشعل شمعته ليجمع حولها كل الأصدقاء يتبادلون أطراف الحديث والثقافة والفن .. شمعته كانت صديقة دربه كما يقول ابنه الفنان حسام غنايمي (كانت تلاصقه فيمنحها الدفء وتمنحه طاقة تولد الإبداع من خلال التزاوج الفريد بين الخيط والشمع بحيث لا يمكن الفصل بينهما، فبقاء كل واحد مرهون ببقاء الآخر). أبواب مشرعة للشمس ذهب سعود غنايمي إلا أن أبواب صالته ما تزال مفتوحة لكل الأصدقاء وإن كان ذلك الكرسي الذي كان يجلس عليه فارغاً إلا أن شمعته ما تزال مضاءة ومحتفظة بابتسامته العريضة فالأبواب مشرعة للشمس عندما تدخل هذه الصالة وتلمح تلك الوجوه الريفية وتشم رائحة الخشب والطين الممزوجين برائحة الشمال والعرق. هكذا قالت لنا (( أمينة رشيد)) في فضاءات حلب. وكتبتها بتاريخ يوم الاثنين17/10/2011م . عن ضرورة قيمة حياة هذا الفنان الرائد . الذي كان من مزاياه الإبداعية انه ذاتي جدا وخاص جدا . و به تجسدت سلسلة معاني أصبحت الآن . مواطن حسن وجمال لا ينسى . وقد عرفته شخصيا في الكثير من المواقف الحياتية . التي صارت في معالم الحركة الفنية التشكيلية السورية . وإلى يومنا هذا . طقوس حياة وإبداع . ومن منا لا يذكر دوره البارز كمنتدى اجتماعي يضج بعوالم الفن والفكر وعلم الجمال والإنسان ومسائل شؤون فن الحياة.
وكيف وقد زرع القيم الجمالية في جل اهتماماته . ومفاهيم تطور أثاره الجمالية . فمن اللوحة إلى المنحوتة / المحفورة الخشبية . التي أوجدت بمناخاتها. الإبداعية .
بطاقة فنية :
سعود غنايمي ( سيرة أبداعية )
- ولد سعود غنايمي في إعزاز قرب حلب، عام 1936.
- وفي عام 1961 تابع دراسته في مركز فتحي محمد للفنون التشكيلية بحلب.
- وأقام العديد من المعارض الفردية في كل من حلب و دمشق و اللاذقية و إدلب و حماة.
- و شارك في عدد من المعارض العربية و الغربية.
- وعمل في تصميم الأثاث و الزخرفة و الديكور.
- وهو صاحب صالة إيبلا للفنون الجميلة بحلب. من اولى صالات العرض التشكيلية بحلب
__________________
عبود سلمان العلي العبيد/ كندا
جميع الحقوق محفوظة
تعليق