قصة قصيرة بعنوان (يافطة)
وأنت تترك مسقط رأسك متجهاً شمالا تتمنى أن لاتقع عيناكَ عليها أو أن تسمع أذنك أسمها، وكلما أردت أن تتحاشى هذا المشهد التراجيدي يَسٌوقك القدر وانت خاضع له عبر عشرين كيلومتر ، هذه المسافة تحتفظ بجماليتها رغم الشيخوخة التي داهمتها .
مسافة بألف دينار ، فيها قصص ساخرة ،عناوين باذخة ، صور ثابتة، هناك من تلهيه شاشة النقال كأنه صُمٌّ بُكْم ، وهناك من يَشرُدَ بهَمّه كمن يحرك ماء ساكن لا منفذ له ، هذا وأنتَ في مقعدٍ خلف السائق، السائق الذي
أمالَ المرآة العاكسة بدهاء حتى يشغل وجه الفتاة الطري حيزاً أكثر من الوجوه غير المرغوب فيها
قلما تمر السيارة دون أن تتوقف هنا ، أحياناً يوقفها السائق بحثاً عمّن يملأ مقاعدها واحيانا ليترجَّل البَعْض .
حين يتهيأ ركاب السيارة( الكيا )للنزول فأنهم يستخدمون مصطلحات تختلف من شخصٍ إلى آخر ، التعليمي نازل، كلية الطب نازل، منهم من يقول نازل فقط، هذا يريحك لدقائق، وهناك من لا تخيفه الأسماء في مجتمعٍ يهابها ، و يقيم لها وزنا،
فيقول نازل قرب..............، فيذكرك بالألم إن كنت قد نسيت بعضه أو قسماً منه ويعيد فتح جروحك بمشرطٍ حاد خلال مشهد لا يحس بألمه الا من اكتوى به.
في مثل هذا اليوم كان لاسبيل لي ألا بالمرور من هنا ، حيث المكان الذي لا أود النزول عنده ، فثمة فوبيا بدرجة شبح ،شبح يطاردك، ليس بالركض بل يطاردك أشبه بقطب مغناطيس، يجذبك إليه بداعي إدامة نبض الحياة ،بينما أنت تذهب إليه مقتنعا بحتفك وكلاكما لاتعرفان ساعة غلق الملف الذي فتح ليغلق بأسرع وقت.
شُيدت بجانب جسمٍ معافى لحد ما، فأصبحت أشبه بورمٍ حميد ، تحجب قسم من الجهة الغربية للبناية الأم كأنها تحاول أن تكسف الشمس متوهمه أنها قمر .
أمامها الماء ،والخضراء والوجه الحسن، من الداخل ، الماء غير صالح للشرب والخضراء مقاطع بلاستيكية جُمعت وزينت لإيهامنا بانها خضراء، بينما الوجوه ،مقفرة ، مُصْفَرُّة ، أجساد هزيلة كأنها أوتاد خيمة نالت النيران وبَرَها، رؤوس منحنية للأرض تتَحَاشى النظر لبعضها أشبه بمن يرْتَعَب من مرآة .
أنا من الداخلين تحت يافطتها، إليها ألتجأ كارها ، ممتعضاً غير مُطْمَئِن ، أبحث عن ضالتي داخلها، أبحث عمن يُجَرِّفُ ماهو طارىء على أحد اعضاء جسدي، أو يخمد ثورته التي تشبه بركان لايهدأ، ألهث وراء من ينقلني لحياة ثانية !.
الطريق المؤدي للمدينة ينفرج إلى شارعين قبل نهايته بقليل ، ثم يلتقيان ، الشارع الذي يتجه لليمين يمر من أمام يافطتها ويصبح موازياً لها ، وهذا مايبحث عنه المرضى ، فالشارع الموازي يجنبك شباكها، يجنبك أن تكون فريسة سهلة ،لكن ثمة خط مستقيم ينسلخ من الشارع الموازي ، يؤدي بك لبابها ،أنه أشبه بورمٍ يريد أن يتمدد لينقض على كل ما أمامه فيلغي قاعدة التوازي .
يذكرني صِيَاح الراكب الأخير ، الذي كان جريئا وصاح بأعلى صوته :
( مركز الأورام نازل).
يذكرني بالوجع، وكلما أريد أن أتغافل هذا المشهد السمعي و البصري فثمة صور تلاحقني، وأصوات ألم تطوقني، فتقلعني من المقعد الذي خلف السائق في الجهة التي يصعب رؤية ما له علاقة بحالتي إلى عالم كهل ، عالم شديد اليأس، شديد الألم ،قليل الأمل ،الداخل والخارج منه قلما يبتسم ، عالم يتناسى كل شيء إلا مرضه.
كل مايحدث هنا يضرب على رأسي أشبه بمطرقة هايدروليكية لا ترحم الأعمدة الخرسانة حين تدقها ، هذه الأوجاع تواصل النخر بعظامي .
سنوات وأنا أدخل هذا المبنى مرافقا لمريض فارق الحياة فيما بعد، ها أنا أدخله من جديد بحلته الجديدة ، الوان زاهية، صور تبعث الأمل، تعليمات تشغل أكثر من نصف مساحة الجدران لتنعش الحاضرين ، خرائط توزع المرضى على ورقها كأنهم أشجار نخل خاوية، وجوه تشعر بفقدان المتعة والتركيز ، يغلبها اليأس ,تفكيرها الوحيد هو الموت.
وانا أتمعن بكل هذا الذي لا يبهرني ، بدأ يقترب مني كائن أشبه بكرة تتدحرج لولا تلك العكازة الخشبية المتهرئة والتي تجعل رأسه موازياً للبلاط الأحمر القاني المطعم بألوان أخرى ، حين أقترب قليلاً بانت كوفيتة المهلهلة وقسمٍ من شعر رأسه الخفيف ، بينما نظارته لن تفلح بحجب شكل عينيه ذات الجفون المتدلية ، معطفه الرمادي المطعم بالسواد أخذ شكل هيكله العظمي ، حين أقترب أكثر داهمني بسؤال تلعثمت به الكلمات ودون مقدمات ماعدا تلك الأبتسامة الصادقة.
ـ أقرأت ما على الجدران؟.
(هواية قديمةكنت أمارسها رغم استخفاف الكثيرين لي).
بنبرةٍ لاتخلو من التأفف والأنزعاج ، ودون أن أنهض من الكرسي الذي رسم شكله على جسدي ، أخرجت من فمي جواب أقصد به قطع دابر ماتبقى من أسئلة لديه ، أن كان ينوي الاسترسال،قائلاً:
_يهمني العلاج وفعاليته .
زم شفتيه وصمت فترة كأني نجحت في لجم ثرثرته، لكنه فاجأني قبل أن يستدير بدرجة كاملة قائلاً:
ـ قبل عقدين ، كنا زملاء في كلية العلوم ملامحك الجميلة أندثرت، عرفتك من أسمك المدون على الملف حين نودي عليك .
نادوا على أسمه ، عرفته ، ذهب ببطء اتجاه المنادي ، يستند على كتف شاب صغير أضافة الى عكازته ، رن أسمه مرة ثانية في أذني ، أنه الاسم الأكثر رواجاً و شهرة في الجامعة،( شباط عاشور صفر ) ، وعدت بذاكرتي، حين نادى الأستاذ عليه في أول محاضرة لنا ،فنهض بتكاسل يصاحبه الخجل وقال : نعم بصوت ناعم كأنه صوت فتاة غلبها الحياء.
رد الأستاذ عليه بشيء من السخرية قائلاً:_
هذا أسمك كأنه زواج بين التقويمين .
ضحك من في القاعة ،وضحك معنا هذه المرة ولكن بصوت عال صاحبته القهقهة.
بدأت أقلب سيرته التي أبخص منها أربعة أعوام بحذافيرها، حين أنتهيت ، لن أجده ، و لن ألتقيه مرة ثانية.
عند الشارع الذي يتجه يساراّ من الطريق الرئيسية ، الفضاء نفسه لايختلف ،لكن الأسماء أجمل هنا و ألمي يتبخر واحيانا يتسامى ، واحس في أمان ودَعَة أكثر، غالبا مايكون هذا الشارع مخرجا من الزحام الذي عشق المدينة عشقاً مكرهاً ، ينقلك الشارع لأماكن أكثر حداثة,أكثر رقي، الزحام هنا ، زحام يافطات تتكاثر أشبه بالذباب ، أغلبها تدعو لعلاج المرضى ، أصبح هذا الشارع الطريق الى غايتي ، الشارع الأول أسلكه مرة واحدة في الشهر ،عند موعد الجرعة التي تقربك للموت أو أنهم كما يقولون تبعدك عن الموت أو يدعون لمعالجة الأورام.
الورم الذي أستوطن منذ سنوات في جسدي ومازال ينخر فيه ، فشل مركز الأورام وفشلت اليافطات وما خلفها من علاج في كبح جموحه،
يافطة واحدة تنزوي بعيدا عن رصيف الشارع ،عليها اثار الشيخوخة لا أمَرَّ من هنا دون أن اتمعن بها وانحني اجلالا لها ، ورمي الخبيث ينحني لها ، خوفا من أن يخرج من قَرَاطِيسُها علاج يؤدي بوأده ،يافطة المكتبة المركزية .
عصام خلف
وأنت تترك مسقط رأسك متجهاً شمالا تتمنى أن لاتقع عيناكَ عليها أو أن تسمع أذنك أسمها، وكلما أردت أن تتحاشى هذا المشهد التراجيدي يَسٌوقك القدر وانت خاضع له عبر عشرين كيلومتر ، هذه المسافة تحتفظ بجماليتها رغم الشيخوخة التي داهمتها .
مسافة بألف دينار ، فيها قصص ساخرة ،عناوين باذخة ، صور ثابتة، هناك من تلهيه شاشة النقال كأنه صُمٌّ بُكْم ، وهناك من يَشرُدَ بهَمّه كمن يحرك ماء ساكن لا منفذ له ، هذا وأنتَ في مقعدٍ خلف السائق، السائق الذي
أمالَ المرآة العاكسة بدهاء حتى يشغل وجه الفتاة الطري حيزاً أكثر من الوجوه غير المرغوب فيها
قلما تمر السيارة دون أن تتوقف هنا ، أحياناً يوقفها السائق بحثاً عمّن يملأ مقاعدها واحيانا ليترجَّل البَعْض .
حين يتهيأ ركاب السيارة( الكيا )للنزول فأنهم يستخدمون مصطلحات تختلف من شخصٍ إلى آخر ، التعليمي نازل، كلية الطب نازل، منهم من يقول نازل فقط، هذا يريحك لدقائق، وهناك من لا تخيفه الأسماء في مجتمعٍ يهابها ، و يقيم لها وزنا،
فيقول نازل قرب..............، فيذكرك بالألم إن كنت قد نسيت بعضه أو قسماً منه ويعيد فتح جروحك بمشرطٍ حاد خلال مشهد لا يحس بألمه الا من اكتوى به.
في مثل هذا اليوم كان لاسبيل لي ألا بالمرور من هنا ، حيث المكان الذي لا أود النزول عنده ، فثمة فوبيا بدرجة شبح ،شبح يطاردك، ليس بالركض بل يطاردك أشبه بقطب مغناطيس، يجذبك إليه بداعي إدامة نبض الحياة ،بينما أنت تذهب إليه مقتنعا بحتفك وكلاكما لاتعرفان ساعة غلق الملف الذي فتح ليغلق بأسرع وقت.
شُيدت بجانب جسمٍ معافى لحد ما، فأصبحت أشبه بورمٍ حميد ، تحجب قسم من الجهة الغربية للبناية الأم كأنها تحاول أن تكسف الشمس متوهمه أنها قمر .
أمامها الماء ،والخضراء والوجه الحسن، من الداخل ، الماء غير صالح للشرب والخضراء مقاطع بلاستيكية جُمعت وزينت لإيهامنا بانها خضراء، بينما الوجوه ،مقفرة ، مُصْفَرُّة ، أجساد هزيلة كأنها أوتاد خيمة نالت النيران وبَرَها، رؤوس منحنية للأرض تتَحَاشى النظر لبعضها أشبه بمن يرْتَعَب من مرآة .
أنا من الداخلين تحت يافطتها، إليها ألتجأ كارها ، ممتعضاً غير مُطْمَئِن ، أبحث عن ضالتي داخلها، أبحث عمن يُجَرِّفُ ماهو طارىء على أحد اعضاء جسدي، أو يخمد ثورته التي تشبه بركان لايهدأ، ألهث وراء من ينقلني لحياة ثانية !.
الطريق المؤدي للمدينة ينفرج إلى شارعين قبل نهايته بقليل ، ثم يلتقيان ، الشارع الذي يتجه لليمين يمر من أمام يافطتها ويصبح موازياً لها ، وهذا مايبحث عنه المرضى ، فالشارع الموازي يجنبك شباكها، يجنبك أن تكون فريسة سهلة ،لكن ثمة خط مستقيم ينسلخ من الشارع الموازي ، يؤدي بك لبابها ،أنه أشبه بورمٍ يريد أن يتمدد لينقض على كل ما أمامه فيلغي قاعدة التوازي .
يذكرني صِيَاح الراكب الأخير ، الذي كان جريئا وصاح بأعلى صوته :
( مركز الأورام نازل).
يذكرني بالوجع، وكلما أريد أن أتغافل هذا المشهد السمعي و البصري فثمة صور تلاحقني، وأصوات ألم تطوقني، فتقلعني من المقعد الذي خلف السائق في الجهة التي يصعب رؤية ما له علاقة بحالتي إلى عالم كهل ، عالم شديد اليأس، شديد الألم ،قليل الأمل ،الداخل والخارج منه قلما يبتسم ، عالم يتناسى كل شيء إلا مرضه.
كل مايحدث هنا يضرب على رأسي أشبه بمطرقة هايدروليكية لا ترحم الأعمدة الخرسانة حين تدقها ، هذه الأوجاع تواصل النخر بعظامي .
سنوات وأنا أدخل هذا المبنى مرافقا لمريض فارق الحياة فيما بعد، ها أنا أدخله من جديد بحلته الجديدة ، الوان زاهية، صور تبعث الأمل، تعليمات تشغل أكثر من نصف مساحة الجدران لتنعش الحاضرين ، خرائط توزع المرضى على ورقها كأنهم أشجار نخل خاوية، وجوه تشعر بفقدان المتعة والتركيز ، يغلبها اليأس ,تفكيرها الوحيد هو الموت.
وانا أتمعن بكل هذا الذي لا يبهرني ، بدأ يقترب مني كائن أشبه بكرة تتدحرج لولا تلك العكازة الخشبية المتهرئة والتي تجعل رأسه موازياً للبلاط الأحمر القاني المطعم بألوان أخرى ، حين أقترب قليلاً بانت كوفيتة المهلهلة وقسمٍ من شعر رأسه الخفيف ، بينما نظارته لن تفلح بحجب شكل عينيه ذات الجفون المتدلية ، معطفه الرمادي المطعم بالسواد أخذ شكل هيكله العظمي ، حين أقترب أكثر داهمني بسؤال تلعثمت به الكلمات ودون مقدمات ماعدا تلك الأبتسامة الصادقة.
ـ أقرأت ما على الجدران؟.
(هواية قديمةكنت أمارسها رغم استخفاف الكثيرين لي).
بنبرةٍ لاتخلو من التأفف والأنزعاج ، ودون أن أنهض من الكرسي الذي رسم شكله على جسدي ، أخرجت من فمي جواب أقصد به قطع دابر ماتبقى من أسئلة لديه ، أن كان ينوي الاسترسال،قائلاً:
_يهمني العلاج وفعاليته .
زم شفتيه وصمت فترة كأني نجحت في لجم ثرثرته، لكنه فاجأني قبل أن يستدير بدرجة كاملة قائلاً:
ـ قبل عقدين ، كنا زملاء في كلية العلوم ملامحك الجميلة أندثرت، عرفتك من أسمك المدون على الملف حين نودي عليك .
نادوا على أسمه ، عرفته ، ذهب ببطء اتجاه المنادي ، يستند على كتف شاب صغير أضافة الى عكازته ، رن أسمه مرة ثانية في أذني ، أنه الاسم الأكثر رواجاً و شهرة في الجامعة،( شباط عاشور صفر ) ، وعدت بذاكرتي، حين نادى الأستاذ عليه في أول محاضرة لنا ،فنهض بتكاسل يصاحبه الخجل وقال : نعم بصوت ناعم كأنه صوت فتاة غلبها الحياء.
رد الأستاذ عليه بشيء من السخرية قائلاً:_
هذا أسمك كأنه زواج بين التقويمين .
ضحك من في القاعة ،وضحك معنا هذه المرة ولكن بصوت عال صاحبته القهقهة.
بدأت أقلب سيرته التي أبخص منها أربعة أعوام بحذافيرها، حين أنتهيت ، لن أجده ، و لن ألتقيه مرة ثانية.
عند الشارع الذي يتجه يساراّ من الطريق الرئيسية ، الفضاء نفسه لايختلف ،لكن الأسماء أجمل هنا و ألمي يتبخر واحيانا يتسامى ، واحس في أمان ودَعَة أكثر، غالبا مايكون هذا الشارع مخرجا من الزحام الذي عشق المدينة عشقاً مكرهاً ، ينقلك الشارع لأماكن أكثر حداثة,أكثر رقي، الزحام هنا ، زحام يافطات تتكاثر أشبه بالذباب ، أغلبها تدعو لعلاج المرضى ، أصبح هذا الشارع الطريق الى غايتي ، الشارع الأول أسلكه مرة واحدة في الشهر ،عند موعد الجرعة التي تقربك للموت أو أنهم كما يقولون تبعدك عن الموت أو يدعون لمعالجة الأورام.
الورم الذي أستوطن منذ سنوات في جسدي ومازال ينخر فيه ، فشل مركز الأورام وفشلت اليافطات وما خلفها من علاج في كبح جموحه،
يافطة واحدة تنزوي بعيدا عن رصيف الشارع ،عليها اثار الشيخوخة لا أمَرَّ من هنا دون أن اتمعن بها وانحني اجلالا لها ، ورمي الخبيث ينحني لها ، خوفا من أن يخرج من قَرَاطِيسُها علاج يؤدي بوأده ،يافطة المكتبة المركزية .
عصام خلف