فيصل لعيبي: العراق لم يفارقني لحظة واحدة
تنصيص 1: الكتاب كان ولا يزال يمثل بالنسبة الي هو المعرفة، ففي العمل الفني تكتسب معرفة من نوع اخر. لكن الكتاب بمعناه الاعمق هو المعرفة، التي بدونها تبقى ضائعاً...
تنصيص2: انا مثل غائب طعمة فرمان الذي ظل طوال عمره غائبا عن العراق، لكنه يكتب كل شيء عراقي في قصصه ورواياته واشخاصه
حاوره: حسن جوان
جمّاً وثريّاً، يندر ان تجتمع لدى انسان شمائل فنية وحساً مرهفاً يتعقب الجمال مثله. ربما لانه انبنى بطريقة استثنائية واكبت غليان الروح وتوقها نحو العدالة والثورة والحقيقة، باعتبارها معطى لوجود يشبه انعكاس الضوء على ماسة روحة الخلاقة. يعتقد ان الانسان جميل، لذا تتشاكل شخصياته من حيث الوسامة ونظرة المشاعر المفعمة على مساحة لوحاته، تلك اللوحات ذات الطابع العراقي المحض. فيصل لعيبي، الفنان العراقي الكبير، المقيم في لندن منذ عقود، الذي تعدّ اعماله ذاكرة عراقية بامتياز، مازال يحمل الوطن وشخوصه بين جنبيه، وينثرها الوانا على قطعة الكانفاس اينما انتقل بعروضه واحاديثه الغنية. التقينا به في بيروت في وقت سابق، فكان هذا الحوار الخاص ب "الصباح":
-حول الاثر الرافديني في اعمالك، وكأنّ لوحاتك كعناوين تشتمل على محطات بارزة، ومناطق مهمة في اشتغالاتك، حيث تحولت بعضها، كلوحة المقهى البغدادي، الى لوحات شهيرة. رغم انك درست وتنقلت من بغداد الى روما ومن ثم الى باريس، لكن بقي الاثر الرافديني بارزا في اعمالك. الى اي مدى ما زال هذا الاثر فاعلا في نتاجك كفنان معاصر؟
* لدي ثلاث ركائز اشتغل عليها كرسام، اولا عراقيتي، بمعنى الستايل او الموضوع الذي هو ايضا عراقي، لانك كما تعلم ان الفن العراقي وعموم الانتاج الفني العربي، كما في العالم الثالث، كل هؤلاء يعتمدون على النموذج الغربي، حتى على مستويي التناول والموضوع. شخصيا اخترت ان استلهم من الموضوع العراقي الذي يمكنك اعتباره جزءا من الحنين الى الماضي، او سمّه ما شئت. لكنني اعتبره موضوعا لم تتم معالجته بشكل جمالي او فني عراقيا. وهذه الظاهرة موجودة لدى اغلب الفنانين في العالم العربي، فمثلا المصريون.. الى حد ما كانوا قد تناولوا من مواضيعهم المحلية مثل رسومات تتعلق بالمهن والافراد مثل السقاء وبقية الحرفيين الشعبيين، نحن مع الاسف لم نقف عند هذا الهمّ، بسبب من توجهاتنا الدفعية نحو الحداثة الاوربية. وتطرفنا في معنى واشتغالات الحداثة اكثر ربما من الاوربي نفسه. الركيزة الثالثة التي تخص اشتغالي تتعلق بافكار جماعة بغداد كمدرسة فنية تعتمد على الافادة من التراث مع عدم نسيان العصر الحديث كوعي وتقنية. في فن البورتريه على سبيل المثال، باستثناء نماذج الراحل جواد سليم، لا تجد خيطا يشدك الى التمثال السومري او البابلي او حتى الى تراثيات الفن الاسلامي كرسومات الواسطي ومرحلته، لا تجد ذلك الا عند قلة محدودة جدا من منتجي الفن. انا شخصيا اتمسك بهذه المنطقة من الاشتغال الذي يعتمد على الشخصية والهوية العميقة.
- هل تظن ان للقطائع المعرفية التي تعرضت لها منطقتنا العربية انعكاس مباشر على وعي الفنان العربي ودرجة تمثله لسيرورة النمو الطبيعي للفنون؟
*بلا شك، فنحن تلقينا الحداثة كقفزات لا كنمو طبيعي. فالمدراس الفنية التي ظهرت وضمرت في اوروبا لها اسبابها وتاريخها الخاص والضروري، كانت هنالك ثورات وتحولات كبرى مرتهنة بسياقات مهمة، لذا فشلت كل المحاولات التي تناولت التجربة الفنية او الفكرية الاوربية كنتيجة فحسب، دون استعداد حقيقي ومجتمعي لتلقي مثل هذا التحول الكبير والطبيعي. لا يمكن استيراد تجربة لا تخص المكان دون ان يكون هنالك انتماء كامل للتجربة، والنموذج الاشتراكي مثل واضح على فشل التلقي في استلهام كثير من الامثلة، على اعتبار ان الفن هو بنية مجتمعية شاملة، وليس نموذجاً منتقى بعزلة عن تطور متواز في مفاصل الحياة كلها.
-الى اين دفعتك هذه القراءة التشخيصية كمشتغل في الفنون والكتابة ؟
*دفعتني الى ان الى اشذب ادواتي اولا، ثم انتمي الى تراثي، لا الى تتبع تجارب اخرى لا انتمي اليها، ولا احاول ان الهث خلف سياقات حضارية سبقتني وماتزال تعاني من مشاكل وسيرورات تؤدي الى نهايات مغايرة جماليا وثقافيا.
-مادمنا تطرقنا الى المحتوى في بنية وموضوع العمل الفني، هل تعتقد بتاثرات ما في انشاء اعمالك بمدرسة اجتماعية واقعية او اشتراكية معينة؟
*لا. لان اسلوبي لا ينتمي الى تلك الملامح بمعناها النظري. ربما ميلي الشديد الى مركزية الانسان قد توحي بشيء ما، لكنني اوظف الفن باعتباره انسانا مدركا لقيمته. وهو اثمن راسمال كما قال كارل ماركس. انا افيد من قيم المجتمع السومري مثلا – الذي هو مجتمع عبودي تقريبا- قيما جمالية مهمة، وكذلك من رسوم ومراحل انسانية تنتمي الى مرحلة الكهوف والسحر، هنا اجد انني استطيع خلق حوارية واستلهم لاهداف رسالية في التلقي بنقاء اكثر.
-في اغلب اعمالك، نجد مثل هذه الحوارية، فالشخصيات تنظر كلها الى عين المشاهد مباشرة، بطريقة يعتقد انه هو المقصود تحديدا بهذه النظرة العميقة. هل كان هذا التوظيف البصري لتلك النظرة مقصودا لتعزيز حوارية التلقي؟
*بالضبط.. هذا ما اقصده بتلك الفكرة. فانا تعمدت ان لا افصل بين الكائن داخل اللوحة والكائن خارجها. لقد نجحت اذن في انشاء حوار بين الكائنين وهو ما ارمي اليه دائما. فمثلا، في لوحة " الاوتجي " كم منا لديه تجربة مع هذا الشخص " الكاريكتر " في مجتمعنا؟ او بائع الخضار، او بائع السمك، وهكذا .. انها شخصيات لديها قدرة في ذاكرتنا على استدعاء تجارب متنوعة ذات دلالات اجتماعية وثقافية ولكن كل منا بحسب خزينه من الذكرى، يستدعيها بطريقة ومعاني مختلفة.
- سوف اسالك سؤالا في شيء من الجراة لو سمحت، فانا الاحظ كثيرا بان كل الشخصيات التي تتضمنها اعمالك تمتاز بمسحة ايروتيكية، سواء كانت تحتوي على بورتريه فردي او لوحة ذات انشاء جماعي، عدا تلك النظرة التي تحدثنا عنها، الملاحظ ان هناك طابع عام لمناخ الموضوع له علاقة بالايروتيك بغض النظر عن محتوى العمل اليس كذلك؟
*الحقيقة لا. فالانسان جميل بطبيعته، وانا اوظف عادة فئة عمرية في رسوماتي، تقع عموما في منطقة النضوج التي تعقب مرحلة ما بعد الطفولة. وهذا يذكرني دائما بايام حلوة في حياتنا، حيث كنا صبية خالين تماما من الافكار الاجتماعية الثقيلة، كنا " حلوين " وخارجين من براءة الطفولة الى نقاء الحياة بلا عقد ولا افكار قد تحيل الى اي شيء عدا الجمال والوعي باننا اصبحنا ذوات ناضجة.
-هل تحاول اذن ان تمسك بهذه اللحظة من النقاء في التلقي من خلال هذا التوظيف؟
*هذا ما اعتبره رؤية بلا غايات فردية جدا، وايضا بدون سذاجة، انما هي نوع من الاستعداد الايجابي نحو الاشياء القادمة، وبروح خضراء وربيعية، مزدهرة، قادرة على تلقي الحياة من دون افكار مسبقة او مضمرة خلف الظاهرة ولا تؤول بشكل سيء. هذا ما اقصده.
-ذكرت مرة ان الكتاب هو خير جليس بالنسبة لك. انا اعتقد ان اللوحة تغار احيانا ولا تقبل الشركاء، واستحواذية. هل ما زلت رغم ذلك تعتبر الكتاب افضل جلسائك؟
*طبعا.. الكتاب كان ولا يزال يمثل بالنسبة الي هو المعرفة، ففي العمل الفني تكتسب معرفة من نوع اخر. لكن الكتاب بمعناه الاعمق هو المعرفة، التي بدونها تبقى ضائعا
-ماذا تبقى اخيرا من حبلك السري الذي يربطك بعد هذه السنوات ببلدك العراق؟
* بالعكس..لقد ازداد متانة في البعد، فعمري كله لم انسه ولم انقطع عن بلدي بدليل رسوماتي كما تعرف. انا مثل غائب طعمة فرمان الذي ظل طوال عمره غائبا عن العراق، لكنه يكتب كل شيء عراقي في قصصه ورواياته واشخاصه.مع انه شخص عملاق في الثقافة ومندمج في الثقافة والترجمة الادب الروسي، لكنه اختار ان يتحدث عن شخصيات عراقية بحتة.
عراق.. موضوعاتي في الرسم من هذا النوع، فالحلزون يكبر في بيته دائما
والسياب يقول : عراق ليس سوى عراق