فيلم يوثق ــ درامياً ــ عذابات الصينيين في بناء سكة حديد الباسفيك
تحت أي تصنيف ، سينمائي أو ادبي ، شاء النقاد أن يضعوا الفيلمَ الكندي – الصيني ( السكة الحديد ) فإنه ، في النهاية ، يمثل مرثية سينمائية . مرثية لأولئك العمال الفقراء الصينيين الذين قدموا الى كندا ، أملاً في حياةٍ أفضلَ ، عندما كانت الصين ـ نهايات القرن التاسع عشر ـ في أقصى حالات فقرها الإقتصادي ، و أيضاً السياسي ، ( رغم غناها الطبيعي و الروحي ) . فهذا الفيلم لا يمكن أن يراه المشاهد المثقف و الفنان و المعني بتاريخ الشعوب و معاناة البشر ( أكان متفقاً معه فنياً أم لا ) إلا باعتباره وثيقة رثاء . هذا الفيلم تحية لأناس دفنتهم احجار الجبال .. لبشر توهموا الطريق الى الجنة فاصطدموا بنار الجحيم : جحيم العوز ، و المهانة ، و الإستغلال ، و الذُل ، و الإستهتار ، و الجشع .. و هي كلها تمثل مفردات الغربة الحقيقية : الروحية و المكانية .
بماذا يستطيع أحدٌ أن يعارض فكرة هذا الفيلم ، كندي ـ صيني الإنتاج ، اذا كانت حكومة كندا ذاتها قد اعتذرت للصينيين أنفسهم ، و عوضتهم بـسبعة عشر مليون دولار عما لحق بهم من ذل و اساءة ، بعدما أُثيرت القضية في البرلمان الكندي عام 2006 ؟ و اذا كان العرض الأول نفسه للفيلم في حزيران 2009 قد خُصص ــ أصلاً ــ لجمع التبرعات ، من أجل إحياء ذكرى أولئك الضحايا الصينيين ؟ .. هل يستطيع أحد في كندا ( بلد المهاجرين .. أصلاً ) أن يتحدث عن هذا البلد العظيم الجميل دون التطرق الى الصينيين الذين اسهموا في بناء كندا و هم ( مُذلون .. مهانون ) ؟ .. لقد كانت تلك المرحلة نقطة سوداء في تاريخ كندا حقاً ، و باعتراف الكنديين انفسهم .
تبدأ أحداث الفيلم في العام 1881 ، تحديداً ، عندما ضمن " الفريد نيكول " ( سام نيل ) ، صاحب مشروع ( خط سكة حديد الباسفيك ) ، تمويلَ مشروعه من صاحب بنك الإستثمار " جورج غرانت " ( سيرج هودي ) . لكن هذا الأخير يحذره من خطورة خارطة السكة التي تمر عبر وديان و جبال يحتاج المرور بها شق َ انفاقٍ عاليةِ الكلفة مالياً و بشرياُ ، فيرد عليه أنه مصصم على المضي الى آخر الشوط حتى لو كلفه ذلك آخر رجل من عماله ، و يعكس هذا الرد مدى الإستغلال و الإستهانة و الإستهتار بالآخرين ، و الذي سيظهر واضحاً فيما بعد .
و لغرض توفير عَمالةٍ رخيصة و مطيعة تتجه انظاره الى الصين الفقيرة ، فينبهه صاحبه أيضاً الى بُعد المسافة الى الصين و عدم خبرة الصينيين ، فيرد عليه أن العمال الذين بنوا سور الصين العظيم لن يصعب عليهم بناء السكة الحديد . فيعقد العزم فعلاً على استقدام آلاف العمال الصينيين المُعدمين للعمل في المشروع مقابل دولار واحد للعامل في اليوم الواحد . فيبعث ابنه " جيمس نيكول " ( لوك ماكفارلين ) الى الصين لجلب العمالة ، و كان صاحب المشروع قد أرسل ، من قبل ، شخصاً آخر من أجل هذه المهمة هو " ليونيل راليك " ( پيتر أوتول ) ، لكن هذا كان قد غرق في ملذاته و نسي مهمته .
في الصين ، تتعثر مهمة الإبن أولَ الأمر ، بسبب اصطدامه بإحدى العصابات التي تجوب الشوارع و المحلات العامة و الملاهي لغرض الإبتزاز بالقوة و القسوة ، و لم يكن تعاون السيد " راليك " ، المستغرق في ارتياد الملاهي و السُكر و النوم و التدخين ، تعاوناً جاداً مُجدياً ، بل إنه هو نفسه يتعرض للذبح على يد تلك العصابة بسبب تعاونه مع القادم الكندي " جيمس نيكول " . و كان السيد " راليك " قد استجلب ( صبياً ) مشرداً لغسل ملابسه مقابل تعليمه اللغة الإنجليزية ، لأنه يحلم بالسفر الى كندا التي ذهب اليها أبوه للعمل يوماً و لم يعد ، فكان الصبي يتوقف كثيراً أمام اعلانٍ كندي في أحد الشوارع يدعو إلى الذهاب و العمل في أرض الأحلام .
هذا ( الصبي ) الذي يُلقب بـ ( النمر الصغير ) كان يقتات من عمله بائعاً للألعاب النارية ، التي يكون بيعها رائجاً ـ عادة ـ في فترة الإحتفالات بأعياد السنة الميلادية الصينية ، و التي طلب السيد " ألفريد نيكول " من ابنه العودة بالعمال قبل حلولها . و كان ( النمر الصغير ) قد اكتسب خبرة في التفجيرات على يده معلمه صانع الألعاب النارية العجوز الذي كان يعامله بعناية و عطف . هذه الخبرة ستعينه لاحقاً . و من أجل أن يحقق حلمه يعرض ( النمر الصغير ) على " جيمس " أن يجلب له العمال شرط أن يسمح له بالسفر معهم الى كندا ، أملاً بمعرفة مصير والده الذي يحمل صورته العائلية و يتمعن فيها دائماً ، حالـِماً بلقائه ، بل أنه يسعى الى التخلص من حياة التشرد و الحصول على حياة أفضل بعد أن كان يبحث حتى في القمامة ، كما يبوح لـ " جيمس " فيما بعد .
ذات يوم ، تصل الى الشواطئ الكندية ثلاثُ سفنٍ شراعية تحمل على متونها آلاف الصينيين المسحوقين ، لتبدأ على اليابسة الكندية رحلتهم البرية في العذاب و الإستغلال و المهانة و الأعمال الشاقة و الخطيرة التي ستذهب اعداد كبيرة منهم ضحايا لها . فهم ما أن نزلوا الى الشاطئ حتى استقبلتهم الهتافات العنصرية الصريحة القاسية ، من مثل : ( عودوا من حيث أتيتم ) و ( نحن لا نريدكم أيها الصينيون ) . أما الصدمة الثانية فتمثلت في رؤيتهم ، في أول يوم عمل ، شواهد قبور مواطنيهم الذين سبقوهم الى كندا ، و هي مكتوبة باللغة الصينية ، ما مثــّـل رسالة شؤم اليهم ، مفادها : أن هذا هو مصيركم على ( أرض الأحلام ) . و منذ ساعات العمل الأولى تنقشع لديهم الصورة التي تبين أنها سوداء تبخرت معها كل احلامهم . و النقطة الأساسية التي كثفت محنتهم و القت بهم في قاع اليأس هي أنْ لا سبيل مطلقاً للعودة الى بلادهم التي تبعد آلاف الأميال من المياه . فافترشوا اللوعة و توسدوا الخيبة و تدثروا باليأس .. و استسلموا .
يقول مخرج الفيلم الكندي الصيني " دافيد وو " : ( عند السير على السكة الحديد أو السفر في القطار .. يمكنك حقاً أن تشعر بأن هناك عَرَقاً و دماءً و دموعاً كثيرة قد سُكبت في كل ميل من هذا الطريق ) . و هذا العرَق سببّه العمل اليومي الشاق ، و الدموع درّتها الغربة و فقدانُ المواطنين العمال واحداً بعد الآخر ، أما الدماء فقد كانت ارخص شئ لدى صاحب المشروع الجشع الذي لا يتردد ـ مثلاً ـ ببردوة أعصاب من أن يأمر معاونه بقطع الطعام عن العمال لإضرابهم عن العمل بسبب عدم السماح لهم بانتشال جثة زميل لهم من الهاوية على اعتبار أن عملية الإنتشال تستغرق ساعات من ساعات العمل ، ما يمثل منتهى الجشع و الإستغلال و الإستهانة بالإنسان . و لا ينقذ الموقف إلا ( االنمر الصغير ) حين يتبرع بانتشال الجثة دون مقابل . مثلما انقذ الموقف ، لاحقاً ، عدة مرات بتنفيذه لتفجيرات تعسر على الآخرين تنفيذها ، مستفيداً من خبرته و تذكره تعاليم معلمه الصيني العجوز .
في منتصف الفيلم ، يحدث تحول دراماتيكي عندما يبوح ( النمر الصغير ) لـ " جيمس " بأنه أنثى . و أنه اضطر الى التستر و التنكر بمظهر ( الصبي ) كي يستطيع مواجهة تحديات الشارع و يكسب قوته ، بل أن ( الصبية ـ هذه المرة ) تفصح عن تعلقها بالشاب الذي يدفعه هول المفاجأة الى تهديدها باعادتها الى بلادها ، لأن تبعاتٍ قانونيةً ستترتب عليه اذا ما تستر على وجودها كأنثى بين العمال ، ذلك أنها دخلت الأراضي الكندية بصفتها ذكراً ، و على مسؤوليته هو ، و هذا ما يدفعه الى صدها أكثر من مرة مقابل توسلاتها أكثر من مرة بأن يبقيها في كندا و لا يعيدها الى حياة التشرد و التقاط القمامة و على أمل أن تعرف مصير والدها في كندا يوماً . ولكنه ، و بمرور الأيام راح يعطف عليها ، بل بات يميل اليها ، بسبب مواقفها . غير أن سيناريو الفيلم لم يقدم سبباً أو تسلسلاً مقنعاً يجعل الشاب يعلق مسقبله بالصبية الصينية رافضاً عشيقته ، ابنة " جورج غرانت " ( صاحب البنك ) الذي كان أبوه ( صاحب المشروع ) يأمل بمصاهرته .
و هذه العلاقة العاطفية الجديدة كادت أن تعصف بأحداث الفيلم ، سارقة ً الضوء من موضوعه الأساس المتمثل بواقع حال العمال الصينيين و معاناتهم و عذاباتهم . و قصة الحب هذه ، التي أراد المخرج أن يضفي بها على الفيلم طابعاً تشويقياً ، تذكرنا بقصة الحب العاصفة بين " جاك " و " روز " في فيلم ( تايتانك ) التي سرقت الضوء من موضوع الفيلم الأساس المتمثل بغرق السفينة الشهيرة . غير أن هذا التذكير لا يسمح ـ في كل الأحوال ـ بمقارنة فيلم ( السكة الحديد ) بفيلم ( تايتانيك ) . ولكن قصة الحب في فيلم ( السكة الحديد ) تنتهي الى القطع ، بسبب الضربة المفاجئة التي قضت ، و الى الأبد ، على آمال البنت الصينية التي أتضح أن اسمها الحقيقي هو " لي جون " .. ذلك أنها في لحظة مأساوية تعرف أن مراقب العمل الذي ألقى بنفسه من أجل انقاذها فسقط و مات ، هو نفسه والدها الذي عرف سرها قبل لحظات فقط و عن طريق الصدفة ، حين وقعت في يده صورته العائلية التي كانت تحتفظ بها . و بموت الأب لم يعد لديها ما يبرر وجودها في المكان الذي انتهي فيه أملها في لقاء أبيها . فتقررُ الرحيل بحثاً عن حياة أفضل في مكان آخر دون أن تغريها عروض " جيمس " ، الذي تولى فيما بعد ادارة شؤون المشروع بعد أن أكتشف خسة و تآمر معاوني أبيه على العمال بشكل عام و على " لي جون " بصورة خاصة .
و لا يمكن تفادي شخصية ( النمر الصغير ) ، فقد كانت الشخصية المحورية في الفيلم ، منذ المشاهد الأولى و حتى اللقطة الأخيرة . و يتطلب الواجب الوقوف ملياً أمام الممثلة فائقة الموهبة " صن لي )" التي أدت دور هذه الشخصية بمهارة عالية سرقت بها الضوء من ممثلين ذوي سجل حافل في التمثيل ، من مثل شيخ الممثلين ، الإيرلندي " بيتر أوتول " الذي يحمل على أكتافه تجربة نصف قرن من التمثيل ، و الأمريكي ـ إيرلندي الأصل " سام نيل " ذي السجل السينمائي الحافل ، و " توني لونغ كا فاي " الممثل صيني الأصل ذي الإسم السينمائي الراسخ ، و الذي مثل دور مراقب العمل ـ الأب . لقد كانت الموهوبة " صن لي " سارقة للإنتباه فعلاً ، سيحتفظ المُشاهد بصورتها و بإسمها و تمثيلها في ذاكرته حتماً بعد مشاهدته فيلم ( السكة الحديد ) الذي ساعد في نجاحه ، أيضاً ، المونتاج السلس ذو الإنتقالات المدروسة ، و الذي تجنب هفوات القطع ذي التأثير السلبي.
نعم ، كان هذا الفيلمُ مرثيةً سينمائيةً ، حقاً ، لأولئك العمال الصينيين المساكين ، الذين تفيد المعلومات أن ثلاثة منهم كانوا يلقون حتفهم في كل ميل من بناء ( خط سكة حديد الباسفيك ) .
https://youtu.be/2rO7PE2JMiQ
تحت أي تصنيف ، سينمائي أو ادبي ، شاء النقاد أن يضعوا الفيلمَ الكندي – الصيني ( السكة الحديد ) فإنه ، في النهاية ، يمثل مرثية سينمائية . مرثية لأولئك العمال الفقراء الصينيين الذين قدموا الى كندا ، أملاً في حياةٍ أفضلَ ، عندما كانت الصين ـ نهايات القرن التاسع عشر ـ في أقصى حالات فقرها الإقتصادي ، و أيضاً السياسي ، ( رغم غناها الطبيعي و الروحي ) . فهذا الفيلم لا يمكن أن يراه المشاهد المثقف و الفنان و المعني بتاريخ الشعوب و معاناة البشر ( أكان متفقاً معه فنياً أم لا ) إلا باعتباره وثيقة رثاء . هذا الفيلم تحية لأناس دفنتهم احجار الجبال .. لبشر توهموا الطريق الى الجنة فاصطدموا بنار الجحيم : جحيم العوز ، و المهانة ، و الإستغلال ، و الذُل ، و الإستهتار ، و الجشع .. و هي كلها تمثل مفردات الغربة الحقيقية : الروحية و المكانية .
بماذا يستطيع أحدٌ أن يعارض فكرة هذا الفيلم ، كندي ـ صيني الإنتاج ، اذا كانت حكومة كندا ذاتها قد اعتذرت للصينيين أنفسهم ، و عوضتهم بـسبعة عشر مليون دولار عما لحق بهم من ذل و اساءة ، بعدما أُثيرت القضية في البرلمان الكندي عام 2006 ؟ و اذا كان العرض الأول نفسه للفيلم في حزيران 2009 قد خُصص ــ أصلاً ــ لجمع التبرعات ، من أجل إحياء ذكرى أولئك الضحايا الصينيين ؟ .. هل يستطيع أحد في كندا ( بلد المهاجرين .. أصلاً ) أن يتحدث عن هذا البلد العظيم الجميل دون التطرق الى الصينيين الذين اسهموا في بناء كندا و هم ( مُذلون .. مهانون ) ؟ .. لقد كانت تلك المرحلة نقطة سوداء في تاريخ كندا حقاً ، و باعتراف الكنديين انفسهم .
تبدأ أحداث الفيلم في العام 1881 ، تحديداً ، عندما ضمن " الفريد نيكول " ( سام نيل ) ، صاحب مشروع ( خط سكة حديد الباسفيك ) ، تمويلَ مشروعه من صاحب بنك الإستثمار " جورج غرانت " ( سيرج هودي ) . لكن هذا الأخير يحذره من خطورة خارطة السكة التي تمر عبر وديان و جبال يحتاج المرور بها شق َ انفاقٍ عاليةِ الكلفة مالياً و بشرياُ ، فيرد عليه أنه مصصم على المضي الى آخر الشوط حتى لو كلفه ذلك آخر رجل من عماله ، و يعكس هذا الرد مدى الإستغلال و الإستهانة و الإستهتار بالآخرين ، و الذي سيظهر واضحاً فيما بعد .
و لغرض توفير عَمالةٍ رخيصة و مطيعة تتجه انظاره الى الصين الفقيرة ، فينبهه صاحبه أيضاً الى بُعد المسافة الى الصين و عدم خبرة الصينيين ، فيرد عليه أن العمال الذين بنوا سور الصين العظيم لن يصعب عليهم بناء السكة الحديد . فيعقد العزم فعلاً على استقدام آلاف العمال الصينيين المُعدمين للعمل في المشروع مقابل دولار واحد للعامل في اليوم الواحد . فيبعث ابنه " جيمس نيكول " ( لوك ماكفارلين ) الى الصين لجلب العمالة ، و كان صاحب المشروع قد أرسل ، من قبل ، شخصاً آخر من أجل هذه المهمة هو " ليونيل راليك " ( پيتر أوتول ) ، لكن هذا كان قد غرق في ملذاته و نسي مهمته .
في الصين ، تتعثر مهمة الإبن أولَ الأمر ، بسبب اصطدامه بإحدى العصابات التي تجوب الشوارع و المحلات العامة و الملاهي لغرض الإبتزاز بالقوة و القسوة ، و لم يكن تعاون السيد " راليك " ، المستغرق في ارتياد الملاهي و السُكر و النوم و التدخين ، تعاوناً جاداً مُجدياً ، بل إنه هو نفسه يتعرض للذبح على يد تلك العصابة بسبب تعاونه مع القادم الكندي " جيمس نيكول " . و كان السيد " راليك " قد استجلب ( صبياً ) مشرداً لغسل ملابسه مقابل تعليمه اللغة الإنجليزية ، لأنه يحلم بالسفر الى كندا التي ذهب اليها أبوه للعمل يوماً و لم يعد ، فكان الصبي يتوقف كثيراً أمام اعلانٍ كندي في أحد الشوارع يدعو إلى الذهاب و العمل في أرض الأحلام .
هذا ( الصبي ) الذي يُلقب بـ ( النمر الصغير ) كان يقتات من عمله بائعاً للألعاب النارية ، التي يكون بيعها رائجاً ـ عادة ـ في فترة الإحتفالات بأعياد السنة الميلادية الصينية ، و التي طلب السيد " ألفريد نيكول " من ابنه العودة بالعمال قبل حلولها . و كان ( النمر الصغير ) قد اكتسب خبرة في التفجيرات على يده معلمه صانع الألعاب النارية العجوز الذي كان يعامله بعناية و عطف . هذه الخبرة ستعينه لاحقاً . و من أجل أن يحقق حلمه يعرض ( النمر الصغير ) على " جيمس " أن يجلب له العمال شرط أن يسمح له بالسفر معهم الى كندا ، أملاً بمعرفة مصير والده الذي يحمل صورته العائلية و يتمعن فيها دائماً ، حالـِماً بلقائه ، بل أنه يسعى الى التخلص من حياة التشرد و الحصول على حياة أفضل بعد أن كان يبحث حتى في القمامة ، كما يبوح لـ " جيمس " فيما بعد .
ذات يوم ، تصل الى الشواطئ الكندية ثلاثُ سفنٍ شراعية تحمل على متونها آلاف الصينيين المسحوقين ، لتبدأ على اليابسة الكندية رحلتهم البرية في العذاب و الإستغلال و المهانة و الأعمال الشاقة و الخطيرة التي ستذهب اعداد كبيرة منهم ضحايا لها . فهم ما أن نزلوا الى الشاطئ حتى استقبلتهم الهتافات العنصرية الصريحة القاسية ، من مثل : ( عودوا من حيث أتيتم ) و ( نحن لا نريدكم أيها الصينيون ) . أما الصدمة الثانية فتمثلت في رؤيتهم ، في أول يوم عمل ، شواهد قبور مواطنيهم الذين سبقوهم الى كندا ، و هي مكتوبة باللغة الصينية ، ما مثــّـل رسالة شؤم اليهم ، مفادها : أن هذا هو مصيركم على ( أرض الأحلام ) . و منذ ساعات العمل الأولى تنقشع لديهم الصورة التي تبين أنها سوداء تبخرت معها كل احلامهم . و النقطة الأساسية التي كثفت محنتهم و القت بهم في قاع اليأس هي أنْ لا سبيل مطلقاً للعودة الى بلادهم التي تبعد آلاف الأميال من المياه . فافترشوا اللوعة و توسدوا الخيبة و تدثروا باليأس .. و استسلموا .
يقول مخرج الفيلم الكندي الصيني " دافيد وو " : ( عند السير على السكة الحديد أو السفر في القطار .. يمكنك حقاً أن تشعر بأن هناك عَرَقاً و دماءً و دموعاً كثيرة قد سُكبت في كل ميل من هذا الطريق ) . و هذا العرَق سببّه العمل اليومي الشاق ، و الدموع درّتها الغربة و فقدانُ المواطنين العمال واحداً بعد الآخر ، أما الدماء فقد كانت ارخص شئ لدى صاحب المشروع الجشع الذي لا يتردد ـ مثلاً ـ ببردوة أعصاب من أن يأمر معاونه بقطع الطعام عن العمال لإضرابهم عن العمل بسبب عدم السماح لهم بانتشال جثة زميل لهم من الهاوية على اعتبار أن عملية الإنتشال تستغرق ساعات من ساعات العمل ، ما يمثل منتهى الجشع و الإستغلال و الإستهانة بالإنسان . و لا ينقذ الموقف إلا ( االنمر الصغير ) حين يتبرع بانتشال الجثة دون مقابل . مثلما انقذ الموقف ، لاحقاً ، عدة مرات بتنفيذه لتفجيرات تعسر على الآخرين تنفيذها ، مستفيداً من خبرته و تذكره تعاليم معلمه الصيني العجوز .
في منتصف الفيلم ، يحدث تحول دراماتيكي عندما يبوح ( النمر الصغير ) لـ " جيمس " بأنه أنثى . و أنه اضطر الى التستر و التنكر بمظهر ( الصبي ) كي يستطيع مواجهة تحديات الشارع و يكسب قوته ، بل أن ( الصبية ـ هذه المرة ) تفصح عن تعلقها بالشاب الذي يدفعه هول المفاجأة الى تهديدها باعادتها الى بلادها ، لأن تبعاتٍ قانونيةً ستترتب عليه اذا ما تستر على وجودها كأنثى بين العمال ، ذلك أنها دخلت الأراضي الكندية بصفتها ذكراً ، و على مسؤوليته هو ، و هذا ما يدفعه الى صدها أكثر من مرة مقابل توسلاتها أكثر من مرة بأن يبقيها في كندا و لا يعيدها الى حياة التشرد و التقاط القمامة و على أمل أن تعرف مصير والدها في كندا يوماً . ولكنه ، و بمرور الأيام راح يعطف عليها ، بل بات يميل اليها ، بسبب مواقفها . غير أن سيناريو الفيلم لم يقدم سبباً أو تسلسلاً مقنعاً يجعل الشاب يعلق مسقبله بالصبية الصينية رافضاً عشيقته ، ابنة " جورج غرانت " ( صاحب البنك ) الذي كان أبوه ( صاحب المشروع ) يأمل بمصاهرته .
و هذه العلاقة العاطفية الجديدة كادت أن تعصف بأحداث الفيلم ، سارقة ً الضوء من موضوعه الأساس المتمثل بواقع حال العمال الصينيين و معاناتهم و عذاباتهم . و قصة الحب هذه ، التي أراد المخرج أن يضفي بها على الفيلم طابعاً تشويقياً ، تذكرنا بقصة الحب العاصفة بين " جاك " و " روز " في فيلم ( تايتانك ) التي سرقت الضوء من موضوع الفيلم الأساس المتمثل بغرق السفينة الشهيرة . غير أن هذا التذكير لا يسمح ـ في كل الأحوال ـ بمقارنة فيلم ( السكة الحديد ) بفيلم ( تايتانيك ) . ولكن قصة الحب في فيلم ( السكة الحديد ) تنتهي الى القطع ، بسبب الضربة المفاجئة التي قضت ، و الى الأبد ، على آمال البنت الصينية التي أتضح أن اسمها الحقيقي هو " لي جون " .. ذلك أنها في لحظة مأساوية تعرف أن مراقب العمل الذي ألقى بنفسه من أجل انقاذها فسقط و مات ، هو نفسه والدها الذي عرف سرها قبل لحظات فقط و عن طريق الصدفة ، حين وقعت في يده صورته العائلية التي كانت تحتفظ بها . و بموت الأب لم يعد لديها ما يبرر وجودها في المكان الذي انتهي فيه أملها في لقاء أبيها . فتقررُ الرحيل بحثاً عن حياة أفضل في مكان آخر دون أن تغريها عروض " جيمس " ، الذي تولى فيما بعد ادارة شؤون المشروع بعد أن أكتشف خسة و تآمر معاوني أبيه على العمال بشكل عام و على " لي جون " بصورة خاصة .
و لا يمكن تفادي شخصية ( النمر الصغير ) ، فقد كانت الشخصية المحورية في الفيلم ، منذ المشاهد الأولى و حتى اللقطة الأخيرة . و يتطلب الواجب الوقوف ملياً أمام الممثلة فائقة الموهبة " صن لي )" التي أدت دور هذه الشخصية بمهارة عالية سرقت بها الضوء من ممثلين ذوي سجل حافل في التمثيل ، من مثل شيخ الممثلين ، الإيرلندي " بيتر أوتول " الذي يحمل على أكتافه تجربة نصف قرن من التمثيل ، و الأمريكي ـ إيرلندي الأصل " سام نيل " ذي السجل السينمائي الحافل ، و " توني لونغ كا فاي " الممثل صيني الأصل ذي الإسم السينمائي الراسخ ، و الذي مثل دور مراقب العمل ـ الأب . لقد كانت الموهوبة " صن لي " سارقة للإنتباه فعلاً ، سيحتفظ المُشاهد بصورتها و بإسمها و تمثيلها في ذاكرته حتماً بعد مشاهدته فيلم ( السكة الحديد ) الذي ساعد في نجاحه ، أيضاً ، المونتاج السلس ذو الإنتقالات المدروسة ، و الذي تجنب هفوات القطع ذي التأثير السلبي.
نعم ، كان هذا الفيلمُ مرثيةً سينمائيةً ، حقاً ، لأولئك العمال الصينيين المساكين ، الذين تفيد المعلومات أن ثلاثة منهم كانوا يلقون حتفهم في كل ميل من بناء ( خط سكة حديد الباسفيك ) .
https://youtu.be/2rO7PE2JMiQ