الأصالة والقداسة حين تمتزجان في باب كيسان..- مشاركة: لورا محمود

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الأصالة والقداسة حين تمتزجان في باب كيسان..- مشاركة: لورا محمود

    باب كيسان… الأصالة والقداسة حين تمتزجان!

    لورا محمود

    يعدّ من الأبواب السبعة الأصلية لمدينة دمشق، والشاهد على روائع الفنون العمرانية القديمة وعمق الحضارات التي مرت على هذه المدينة. كما يعتبر أيقونة أثرية تُشعر كل من زاره بدفء الماضي وأصالته، إضافة الى قدسية المكان المستوحاة من أيقوناته السبع، ومن رحلة القديس بولس الذي هرب من مضطهديه وانطلق بعدئذ إلى العالم مبشّراً بالدين المسيحي… إنه باب كيسان.

    التسمية والموقع

    يقع في نهاية شارع «ابن عساكر» من الشرق وفي الجهة الجنوبية الشرقية من مدينة دمشق القديمة. سمّي بهذا الاسم لأنه أصغر الأبواب. ويقول ابن عساكر في كتاب تاريخ دمشق: سمّي بهذا الاسم نسبة إلى كيسان مولى معاوية بن أبي سفيان. وفي العهد البيزنطي سمي بـ«باب القديس بولس»، ومنه دخل يزيد بن أبي سفيان عند الفتح العربي الإسلامي لدمشق. وفي عهد نور الدين تم سد الباب لأسباب دفاعية. وفي العهد المملوكي عام 1363 ميلادياً أعيد فتح الباب من قبل نائب الشام الأمير سيف الدين منكلي الذي أعاد ترميمه وبنى داخله مسجداً. وفي زمن الاحتلال الفرنسي لسورية عام 1925، أعيد ترميم الباب.

    أما حول تسمية الباب بـ«ساتورن» في العهد القديم، فهذا لأن الباب نُسب إلى كوكب «ساتورنوس» الروماني. وهو كوكب «زُحل» عند العرب الذي يمثل الإله اليوناني خرونوس إله الزمن والزراعة والفلاحة. فأبواب دمشق كانت أيام الرومان تسمّى بأسماء الكواكب.

    يعدّ باب كيسان من أهم أبواب دمشق السبعة التي اشتهرت بها منذ حقب زمنية طويلة، وتأتي أهمية الباب من موقعه الهندسي والعمراني على السور الروماني الأثري الذي يلفّ منطقة «باب شرقي»، ويحيط بالشام القديمة في اتجاهاتها الأربعة، وهو أبعد الأبواب السبعة عن قلب المدينة. ومن جانب آخر هو نقطة انطلاق المسيحية إلى العالم على يد القديس بولس الرسول.

    عام 1925، ضُمّت الكتلة الخلفية من باب كيسان إلى السور، وحُوّلت إلى كنيسة وسمّيت تخليداً لذكرى القديس بولس الرسول «مقام القديس بولس». ولفظ كيسان يعود بأصله إلى اللغة الآرامية، وهي لغة السيد المسيح، وتعني الباب البعيد عن المركز.

    عام 1939 تحوّل الباب إلى مدخل لكنيسة معبد القديس بولس الذي أقيم تخليداً لذكراه ولحادثة تهريبه من السور. إذ تروي المصادر التاريخية أن هذا المعبد بُني في المكان نفسه الذي تم فيه إنزال القديس بولس بسلّة من فوق السور. وقد نفّذ تصميم هذا المعبد المهندس الدمشقي خليل شنياره.

    وعندما كان العمال يحفرون شرق الباب عام 1939 على بعد خمسة أمتار من السور الحالي، ظهر أمامهم على عمق 15 متراً أساس السور المؤلف من حجارة ضخمة هائلة الكبر. فبنوا عليها حائط السور وجعلوا لها من الداخل فراغاً على طولها يمكّن الزائر من الوقوف والمرور والمشاهدة، وسقّفوه وعملوا منه منزلاً بحيث استُعملت في واجهة البناء بقايا من حجارة جدران الكنيسة والجامع القديمين.

    الجانب العمراني

    لباب كيسان أجزاء نحتية ومعمارية تشكّل واجهته الرئيسة من الخارج، والأيقونات الست المعروضة في المعبد تروي قصة القديس بولس الرسول في طفولته، وتعرّض أسرته لمشاق عصيبة وكيف أنزل من السور. أما الجدار الوسطي فيلاصقه برجان عريضان، لفّ أعلاهما بأقواس حجرية.

    اللافت في التكوين العمراني، بناء قنطرتين بديعتي التركيب فوق بوابة الدخول مباشرة. الأولى وهي الأكبر مزخرفة بدوائر نحتية متداخلة ونافرة، والثانية وهي الأصغر مشرفة بعروق خطية محفورة بدقّة وإتقان، هذا إلى جانب الحجر المنحوت والمتلاصق مع بعضه في بناء الباب بوضعه الكلي.

    بعد دخول البوابة، والوقوف على العتبة الأولى من المنصة الداخلية لباب كيسان، تُصادفنا حجرة يسارية، مُلئت رفوفها بالصور الدينية والكثير من أنواع الهدايا الصغيرة، والتحف الخشبية المجسدة لقصة السيد المسيح، والديانة المسيحية. وهناك أيضاً نجد باب الحجرة الأثري، البالغ من الارتفاع ما يقارب المتر ونصف المتر، وعمره 25 سنة، صمّمه فنان أرميني، حيث عمل على تزيينه برسوم نافرة ونقوش بالغة الاتقان، مرصعة بالنحاس، تمثل دلالاتها التشكيلية عملية العمادة للسيد المسيح على يد القديس يوحنا المعمدان، وهناك الكثير من النحاتين الذين قدموا إلى زيارة المعبد وحاولوا تقليد الباب بالنحت على الحجر الرخامي، لكنهم فشلوا وتركوا منحوتاتهم غير المكتملة بصمة منهم تدل على انسجامهم ووفائهم للرؤية الحسّية، التي أضافها هذا المعلم الأثري إلى ذاكرتهم الجمالية، ومخزونهم المعرفي.

    المميّز في البناء الخارجي لباب كيسان، وجود نصب تذكاري في الجهة اليسرى للنحات الإيطالي بيير يند جيلميني من البرونز الصرف، ويشكّل تمثالاً واقعياً للقديس بولس، وهو يسقط عن فرسه عند ظهور السيد المسيح أمامه في «تل كوكب» قرب منطقة داريا. ويذكر أن هذا العمل النحتي قَدِمَ إلى دمشق بأمر من بطريرك روما ليكون هيئة جمالية أخّاذة، تبيّن لناظرها عبر تفاصيلها النحتية مشهداً بصرياً واقعياً لقصة القديس بولس الرسول.

    الأيقونات الست

    أما هيكل المعبد، فهو مؤلف من فسحة واسعة، تتوسطها طاولة رخامية ضخمة، تجرى عليها طقوس العمادة للمولود الصغير، وعلى الجدران علّقت ستّ أيقونات متساوية الأحجام تروي عبر شخوصها وملحمتها الإنسانية أحداثاً حياتية، تسلسل تفاصيلها الدقيقة قصة القديس بولس التبشيرية، وتقرأ الأيقونات من الجهة اليسرى إلى الجهة اليمنى، وفي قراءتها الزمنية وشرحها البصري، التزام بالآداب الإنجيلية والتي تضفي إلى أجواء المعبد السكينة والخشوع.

    دار المسنّين والأيتام

    في باب كيسان الأثري، دار للأيتام والمسنّين يتألف من قسمين: الأول دار للأيتام يسمّى «دار المحبة»، وترعى أيتاماً من مصر والسودان ودمشق. والثاني مأوى للعجزة والمسنّين، ويسمى «دار مار بولس»، ويرعى عدداً من العجزة من لبنان والأردن وسورية. ونظراً إلى الحرص الشديد المبذول من قبل الراهبات في الدار على راحة المسنّين وتفقد أمورهم وخدمتهم، فإن كثيرين ممّن قدموا إليه رغبوا البقاء فيه مدّة أطول، وبعضهم فارق الحياة ولم يغادره أبداً.

    لباب كيسان أهميتان: الأولى على صعيد السياحة الدينية إذ يعتبر موقعاً لحجّ المسيحيين على خطى الرسول بولس. والأهمية الثانية تكمن في أن موقع باب كيسان جزء من سور دمشق القديم، وهذا ما زاد من قيمة الموقع تاريخياً وحضارياً.
يعمل...
X