-
2022-07-26
1 ) فى ليلة الخامس عشر من مايو عام ١٩٤٨ انطلق الرصاص من كل حدب وصوب فى قرية البروة التى تقع شرق عكا على مسيرة ٩ كليومترات منها، ويعيش بها ١٤٦٠ نسمة.
لم تميزّ طلقات الرصاص بين صغير أو كبير، ووجد الطفل ذو السنوات السبع نفسه يعدو فى اتجاه أحراش الزيتون السوداء مشيًا على الأقدام حينًا، وزحفًا على البطون حينًا، وبعد ليلة مليئة بالذعر والعطش وجد نفسه مع أسرته فى بلد اسمه لبنان !!
الطفل الذى سمع صوت الرصاص، وجرى فى الظلام فى الأحراش، لم يعد يهاب الموت الذى كان يطارده فى هذه الليلة، وظل هذا المشهد محفورًا فى ذاكرته، لكنه لم يجعل روح اليأس تتسربَّ إلى نفسه، مثلما تسربَّت لمن قبله، بل صار حاملاً لشعلة الأمل، وحب الحياة، وقد بدا ذلك جليًّا فى كل أعماله ليكون بمثابة موجة ثورية على اليأس الذى أصاب الشعراء فى الوطن العربى وتحديدًا فى فلسطين المحتلة عقب نكبة ١٩٤٨ .
كان ذلك الطفل الذى رأى الموت بعينيه هو محمود درويش الشاعر الذى بعث الأمل، وبثّ التفاؤل، ولم يقنط، ولم يفزع، ولم يجزع حين تعرضَّ للنفى خارج وطنه، وحين أُلقى فى غياهب سجون الاحتلال للمرة الأولى فى عام ١٩٦١ ظل كما هو باحثًا عن الأمل وباعثًا له، وخرج ليكتب ديوانه الأول أوراق الزيتون ، وقال مخاطبًا العدو:
سجِّل.. برأسِ الصفحةِ الأولى أنا لا أكرهُ الناسَ ولا أسطو على أحدٍ ولكنّى
.. إذا ما جعتُ .. آكلُ لحمَ مغتصبى
حذارِ.. حذارِ.. من جوعى ومن غضبى
المدهش أن هذه القصيدة على روعتها وبلاغة إحساسها إلا أن محمود درويش كان يغضب بشدة حين يختزله البعض فى هذه القصيدة أو غيرها، خصوصًا أنه كان يعتبرها مجرد بداية لشاب لم يكن قد تجاوز الثالثة والعشرين من عمره، رغم أن هذا الديوان لم يكن ديوانه الأول، فأول ديوان مطبوع له كان يحمل اسم عصافير بلا أجنحة ، لكن درويش كان يرى أنه كان لا يستحق الوقوف أمامه !!
جرأة غير مسبوقة أن يتجاهل شاعر عمله الأول ويعترف بضعفه، ويعتبره مجرد محاولات لم تنجح، بل إنه لا يذكر متى بدأت بالضبط محاولة كتابة الشعر، ولا يذكر الحافز المباشر لكتابة القصيدة الأولى فى حياته الشعرية، لا يذكر سوى أنه حاول فى سن مبكّرة كتابة قصيدة طويلة عن عودته إلى الوطن، لكنه يقول عنها أثارت سخرية الكبار ودهشة الصغار !!
2 ) ولكنىّ تعرفَّت على شعر محمود درويش بالصدفة حين دخل أستاذ اللغة العربية إلى فصل أولى أول، يبحث عن طالب يمثلِّ المدرسة فى مسابقة إلقاء الشعر على مستوى الإدارة التعليمية، فوقفت ووقف زميل لى، لكنى لم أدرك معنى كلمة إلقاء التى قالها الأستاذ، لذلك انتظرت حتى انتهى زميلى من إلقاء قصيدة النيل التى كنا ندرسها فى الشهادة الابتدائية، وفعلت نفس ما فعله زميلى وألقيت نفس القصيدة التى لم أكن أحفظ سواها!
فاختارنى الأستاذ لأمثل المدرسة فى المسابقة التى لم تفز بها المدرسة منذ ١١ عامًا، لكن اختار لى الأستاذ قصيدة أخرى لألقيها فى المسابقة، وكانت هذه القصيدة هى قصيدة عن إنسان لمحمود درويش، كانت المرة الأولى التى أسمع فيها اسمه، وكانت كلمات القصيدة بالنسبة إلى تلميذ فى أولى إعدادى تحتاج إلى شرح وتفسير، وقد أفاض الأستاذ فى شرحها حتى صرت أحفظها عن ظهر قلب، بل إننى ما زلت أحفظ طريقة إلقائى لها حتى الآن.
وفزت بالجائزة، وحصلت على شهادة تقدير، وشهادة استثمار قيمتها عشرة جنيهات، وتعلقَّت بمحمود درويش، وصرت أبحث عن كل أعماله، وقرأت أغلب أعماله قبل أن أحصل على الشهادة الإعدادية، وصارت ذائقتى الشعرية لا تحتمل أنصاف الشعراء!!
ولم يعد محمود درويش بالنسبة إلىّ مجرد شاعر، بل صار هو الشعر ذاته لسنوات، رغم أنى كنت أقرأ جاهين والأبنودى ونزار قبانى وأمل دنقل، بل إن القراءة الوحيدة التى لا أبذل فيها أى جهد ولا يصيبنى فيها أى كلل أو ملل هى قراءة الشعر، فأى ديوان مهما كبر حجمه لا يمكن أن يستغرق منى أكثر من ليلة واحدة فى قراءته، بل إن عددًا كبيرًا من دواوين الشعر التى أشتريها كنت أنتهى من قراءتها قبل أن أصل إلى البيت، والفضل الأول فى كل هذا هو لمحمود درويش، لذلك كنت ألقى أشعاره فى كل مناسبة، وأحيانًا كثيرة دون مناسبة !!
وكبرت، وكبر معى حبىّ له، فكان يكفينى أن أراه ولو من بعيد، كان يسعدنى سماع صوته مباشرًا دون حواجز، وحين جاءت اللحظة التى انتظرتها طويلاً حين تمالإعلان عن حضوره لأمسية شعرية فى معرض الكتاب، ذهبت مبكرًا، ولم أكن أنتظر سوى سماع صوته وهو يلقى شعره، وسمعته حتى انتهت الأمسية ولم أحاول الاقتراب منه، واكتفيت برؤيتى له، وعدت إلى البيت حاملاً بقية أعماله التى لم أكن قرأتها، ولم أتوقّف حتى الآن عن قراءتها.
3 ) لا أظن أن الشعر عرف شاعرًا أشعر منه! حين تقرأ كلمات قصائده تشعر أنه لم يكن أبدًا واحدًا من الذين يجلسون على مكاتبهم ويرتبون دفاترهم لكتابة القصائد، فأنت تشعر دون أن تعرفه أن قصائده وُلدت بساحات المعارك، وفى الزنازين، وعلى المقاهى فى المنفى.
فقد عاش طيلة حياته يؤمن أن قدره أن يكتب قصائده فوق الدبابات، ولم يرضَ لنفسه يومًا أن يجلس -فى أثناء المعارك- مع الخائفين فى الخنادق، لذلك ظل محمودًا بين الناس، وله دراويش من المحيط إلى الخليج يرون أن بإمكان أشعاره أن تغيرّ مجرى التاريخ.
فقصائده سكنت القلوب، وتركت آثارها فى العقول، وصارت كلماته عناوين رئيسية لمن أراد أن يدرك معانى الوطنية، فقد اختار أن يكون الحبر وقودًا للحرب، وأن يكون صوتًا للمقاومة، وسوطًا مُصلَتًا على أعدائها، وأن تكون قصائده ثورة ضد كل قيد، فمنذ ميلاده الشعرى قرر كتابة القصيدة المقاومة التى تقف شامخة فى ساحات المعارك، وقد بدا ذلك واضحًا فى كل قصائده، وتحديدًا فى قصيدته أيها المارون التى زلزلت الأرض من تحت أقدام سفاحى تل أبيب، وجعلتهم يشعرون أن القصيدة يمكن أن تكون كلماتها أكثر خطرًا من الرصاص، وسنظل نردّد أشعاره مع كل هجمة همجية من العدو الصهيونى على أرضنا ونقول: أيها المارون بين الكلمات العابرة/ آن أن تنصرفوا/ وتقيموا أينما شئتم ولكن لا تقيموا بيننا/ آن أن تنصرفوا/ ولتموتوا أينما شئتم ولكن لا تموتوا بيننا/ فلنا فى أرضنا ما نعمل/ ولنا الماضى هنا/ ولنا صوت الحياة الأولُ/ ولنا الحاضر، والحاضر، والمستقبل/ ولنا الدنيا هنا.. والآخرة / فاخرجوا من أرضنا.