جورج ميلييس... ساحر السّينما
وائل سعيد
صاحب
معروف أنّ غاغارين (رائد الفضاء الروسي) كان أول من وضع قدميه على سطح القمر، ولكن هناك من سبقه بنحو نصف قرن تقريبًا.رجل فرنسيّ في الأربعين من عمره يمتلك مسرحًا صغيرًا يقدّم عروضًا ترفيهية وفقرات من السحر وخفة اليد، يُدعى جورج ميلييس، وجاء صعوده الخيالي من خلال فيلمه القصير "رحلة إلى القمر" الذي عُرض للمرّة الأولى سنة 1902، أي منذ 120 عامًا تحديدًا.لم يكن هذا الفيلم أوّل أفلام ميلييس؛ فالرجل الذي فتنه الاختراع الجديد آنذاك - السينما - صنع عشرات الأفلام القصيرة تتراوح مدتها بين دقيقة وبضع دقائق. ولكن في رحلة إلى القمر، يمتد زمن الفيلم إلى ربع ساعة كاملة تحتشد بمجموعة من الابتكارات والاختراعات - سردية وبصرية - نصّبته ساحرًا كأوّل الروّاد في مجال الخدع والمؤثرات السينمائية، كما سمحت له بممارسة بعض الظواهر الأولى لفن المونتاج.
سحر جديد لساحر قديمربما لم يحظَ مشهد في تاريخ السينما بالشهرة والشيوع مثلما حظى مشهد الأخوين لوميير في فيلم "وصول القطار إلى المحطة" (1895)، لكثرة ما يتم تداوله في التنظير السينمائي نقدًا وتأريخًا.كان هذا المشهد العابر، والذي لم يستغرق بضع ثوان، بمثابة نبوءة عن التأثير الهائل الحي لهذا الفن الوليد، سرعان ما تحققت وتأكدت مرارًا وتكرارًا عبر تاريخه القصير: الكاميرا ثابتة كالعادة، غير أنها منحرفة قليلًا يمين الكادر، تنتظر على رصيف المحطة وسط الجميع وصول القطار، الذي يدخل ببطء من عمق المشهد كنقطة سوداء كبيرة، تتضح معالمها بسرعة مع اقتراب القطار وخروج قاطرته من الكادر تاركة بقية العربات تمر في تسلسلها الثعباني، من هذا التجسد الحي بالحجم الكبير، هرولت الجماهير فزعة من مقاعدهم المريحة في قاعة العرض تجنبًا للاصطدام بالقطار.
0 seconds of 0 seconds
[/COLOR]
[/COLOR]
ميلييس من أولئك المبهورين بسحر الصورة، استشرف في هذا الاختراع آفاقًا جديدة يستطيع توظيفها وتطويعها ضمن برنامج عروضه السحرية على خشبة المسرح، وهناك واقعة متداولة عن لقاء درامي مع أوغست لوميير، أحد مالكي الاختراع الحديث، يسأله شراء جهاز العرض، إلا أن لوميير رفض ونصحه بأن هذا الاختراع ليس له مستقبل تجاري، ومصيره الاندثار مثل أي تقليعة أو بدعة. وبعيدًا من صحة القصة من عدمها؛ لم يستمع ميلييس إلى النصيحة، وبعد قليل من البحث استطاع الحصول على جهاز مماثل من لندن عن طريق روبرت بول؛ المُنافس الإنكليزي للوميير.السحرية عند ميلييس غاية وليست وسيلة، لذلك ظل يفتش عنها بشتى الطرق في أفلامه، بداية من توظيفه للسرد المتسلسل تيمنًا بالمسرح، وتقسيم الفيلم إلى مشاهد وفصول، وتسخير الديكور والملابس والأكسسوار ضمن السياق الدرامي والجمالي للحوادث لخلق شعور بالحركة من المنظور الثابت للتصوير، واستعان على مستوى التمثيل بشخوص عادية من العمال بجانب ممثلي المسرح وانحصر أداء الفريق بكامله - بمن فيهم ميلييس نفسه الذي كان دائم الظهور في أفلامه - في لغة الجسد؛ حيث تكون الغلبة لحركات الجسم والإيماءات وتعابير الوجه، كما كان جريئًا في استخدام المجاميع والاستعانة بأعداد كبيرة حسبها البعض لا تتناسب مع الأفق المحدود لحيز التصوير آنذاك.
العالم في قبضة اليد"كان ميلييس أول من كيَّف النماذج المُصغرة في خدمة السينما - كانت تستخدم في المسارح - وقام بتصوير المناظر من خلال الأحواض المائية"، مقتنعًا بأحلامه ورغباته السحرية المفارقة لما هو مُعتاد في زمنه، ولكي يستطيع مواصلة المضي عكس التيار، استقل بالإنتاج، وذلك بتأسيس شركة لإنتاج وعرض الأفلام يتحكم في سقفها كما يشاء، أطلق عليها "ستار فيلم Star Film"، شعارها "العالم في قبضة اليد"؛ وهو ما راق لميلييس كثيرًا حيث يوفّر له إعادة خلق القمر والشمس والنجوم، الشجر والحيوانات وحتى الوحوش من خلال مجموعة من الورق المقوى والكارتون بعد تشكيله وتلوينه على حسب سيناريو الفيلم، ومن خلاله أيضًا استطاع تشييد القصور والمباني والصالونات التاريخية، يرسم المناظر والحوادث ويُطعمها بشخصيات فانتازية داخل استديو خاص به لا يقل غرابة عن عوالمه؛ فقد بناه على هيئة صوبة مصنوعة من الزجاج تمكنه من التحكم في الضوء عن طريق الستائر الثقيلة أو ألواح الخشب الرقيقة.أجرى أيضًا تعديلات على ماكينة التصوير وبرع في إعادة تدوير الآلات والأجزاء المُستخدمة من قبل. وضمن ما يُذكر له في الخدع السينمائية طريقة التقطيع التي اهتدى إليها بالصدفة أثناء التصوير حين تعطلت الكاميرا لبعض الوقت، وعند الاستئناف ظهرت الصور مقلوبة، الأحصنة فوق البشر، المباني تحملها الأشجار، نسختان من الشخص الواحد!هنا وجد ميلييس نفسه في مواجهة سحرية كالواقف أمام مرآة، فعمل على تطبيقها في أفلامه اللاحقة. في فيلم "أربع رؤوس مُزعجة 1898" يظهر ميلييس الساحر على خلفية سوداء تمامًا وعلى جانبيه منضتان فارغتان، يخلع رأسه ويضعها جانبًا وبطرقعة من إصبعيه تنبت رأس جديدة حتى تمتلئ المناضد ويجلس بينها عازفًا، وحين يزعجه نشازهم ككورس يدمرهم بآلة العزف ويعود لرأسه القديمة وهو يشير لنا بيديه بانتهاء العرض.مظاهر الذاتية عند ميلييس تظهر في جميع أفلامه تقريبًا؛ فهو إما موجود بشخصه كساحر أو يقوم بأحد الأدوار، وفي مسألة استنساخ رأسه السابقة نجد أنها تكررت في أكثر من فيلم، وفي معظمها تكون النهاية بالانفجار الهزلي والتلاشي.
تعاويذ السينمااختار ميلييس عوالم الكاتب الفرنسي الشهير جول فيرن لتكون ضيفًا شبه دائم في أفلامه، مرة بالاستلهام وأخرى بالاقتباس، وبين هذا وذاك ثمة عوالم متجددة وعشوائية تخرج من حين لآخر، وفي لمح البصر كشُغل الحواة حين يجلبون الأشياء من الهواء. لم يكن الاثنان - فيرن وميلييس - فقط أبناء بلدة واحدة، ولكنهما اشتركا في الإيمان بقوة الخيال.في فيلم "الرحلة المستحيلةThe Impossible Voyage1904" عن رائعة فيرن "رحلة إلى باطن الأرض 1864" يُدخلنا ميلييس مستوى جديدًا من خدعه السينمائية، يرسخ لرؤيته الخاصة وعبقريته الحقيقية في رسم المنظر السينمائي ومحاولاته المستمرة في الحفر عن عمق يُضاف للكادر، وتوظيف كراته الورقية المقواة بعفوية في تجسيد الشمس والقمر والفضاء وما إلى ذلك، ورغم سذاجتها البادية، استطاعت الصمود والانتقال إلى الآن، جاذبةً قطاعًا عريضًا من الجمهور لديه من السحرية الرقمية ما يفوق الخيال؛ ولكن عند ميلييس الأمر مختلف، فالخيال هنا في صورته البكر يحمل عجز الواقع والقوة الوهمية للأحلام على سواء، ربما هي براءة قديمة افتقدناها في العصر الحديث.كان ميلييس يلجأ في بعض الأحيان إلى تلوين الفيلم أو عدد من مشاهده يدويًا، عن طريق فرشاة رقيقة جدًا في المادة الخام، نجحت في تحقيق نتائج رائعة، وأعطت للصورة "ألق المنمنمات في العصور الوسطى" مثل فيلمه "مملكة الجنيات 1903".رغم أن جل اهتمامات ميلييس كانت العوالم السحرية، إلا أنه قدم عددًا من الأفلام المجتمعية لعل أشهرها "دريفوس 1899"، وهي سلسلة من الأفلام ذات الدقيقة الواحدة عن حادثة النقيب الفرنسي من أصل يهودي "الفريد دريفوس" الذي اتُّهم بالخيانة نهاية القرن التاسع عشر، يُعتبر الفيلم من أوائل الظواهر السينمائية التي تُبرهن على قوة السينما كأداة دعاية سياسية.
عصا ميلييسلا يخلو مشهد من مشاهد فيلم "رحلة إلى القمر" من جمالية بصرية وأسلوبية تستحق النظر، بداية من المشهد الافتتاحي وفيه يُعطي ميلييس درسًا في المشهد البانورامي الهزلي، مجموعة من الفلكيين أثناء اجتماع يقررون إرسال عدد منهم عبر كبسولة فضائية في رحلة للقمر، ربما هي للاستكشاف أو لصد خطر ما، فهناك تتصارع المجموعة مع سكان القمر الهمجيين وينتصرون عليهم. وضع ميلييس في الخلفية منظرًا لبهو أسطوري وسكن الممثلين بشكل هرمي، فيما تجلس ثلاث فتيات في اليسار خلفهن مكتب الرئيس، مجموعة من الفتيات يدخلن المشهد في شكل استعراضي يحملن تلسكوبات يوزعنها على المجموعة المختارة، وعندما يبدأ الاجتماع تتحول التلسكوبات في أياديهن إلى كراسيّ خشبية صغيرة للجلوس عليها، يتقصى ميلييس فكرة الإبهار واستعراض مهارات السحر إلى أقصى درجه، وكأنه لا يريد تفويت فرصة لذلك. عدد ضخم ربما لا تحتمله محدودية الكادر الثابت وظفه على غير العادة.في مشهد استكشاف مكان الانطلاق، يطوّع ميلييس الصورة الثابتة في الخلفية ويجعل الحركة تدب فيها بأقل الإمكانيات. الصورة لمكان صناعي. بذكاء يقوم بثقب مكان خروج الدخان أعلى الفوهة وتشغيل دخان من خلفه. ويعاود الخدعة نفسها في مشهد الملائكة فوق القمر من خلال ثقوب أيضًا تُظهر رؤوس الممثلات، فيما تُخفي الخلفية السوداء أجسادهن.صنع ميلييس مئات الأفلام تتراوح من 400 لـ500 فيلم، لم يتبق منها سوى بضع عشرات، ولا تزال الحيل التي ابتكرها تعمل بالمنهج نفسه حتى الآن ولكن في طورها الرقمي، لذلك نراه ضيفًأ دائمًا على كل المهرجانات والفعاليات السينمائية على مستوى العالم، رغم أنه رحل منزويًا يبيع ألعابًا في كشك بمحطة قطار. يعمل السينيماتك الفرنسي حاليًا على مشروع لإحياء ميلييس من جديد، بعد القيام بترميم عدد كبير من أفلامه، تم تكليف مجموعة من عازفي البيانو المشهورين ومؤلفي موسيقى الجاز لتصور الموسيقى الأصلية لهذه الأفلام، فحينها كان الصوت يُصاحب الأفلام أثناء عرضها عن طريق عزف حي، وسيكون عاشقو ميلييس على موعد مع عوالمه السحرية نهاية هذا الشهر في متحفه.وفي أكاديمية ميلييس الواقعة في غراند باريس بالقرب من المكان الذي عاش فيه سنواته الأخيرة، تُتيح مدرسة ميلييس علوم الصور المتحركة والفنون التطبيقية والمؤثرات، ولا تشترط سوى أن يكون الطالب عاشقًا لسحر السينما. قد ينتابك الهاجس نفسه الذي انتابني قبل الدخول لموقع الأكاديمية، بأي مؤثرات سحرية سيكون شكل موقع صاحب السحر السينمائي الأول، في الحقيقة لم يكن هناك أي سحر - وهذا ما ظننته في البداية - تصميم بسيط ومباشر يحمل شعار قمر مفقوء العين وفي الخلفية يقف ميلييس في بدلته السحرية والقبعة على رأسه وتحيطه بؤرة شبحية من ضوء قديم، ولكن أثناء التصفح شعرت بلمسة سحرية تختلج على شاشة الكمبيوتر، فالسهم المتحرك بين الأيقونات يجر من خلفه كرات صغيرة كثعبان تتبعك أينما انتقلت، تُذكرك برؤوس ميلييس المقطوعة، خصوصًا وهو أصلع تمامًا كالكرة، جرّب ذلك بنفسك!
وائل سعيد
صاحب
معروف أنّ غاغارين (رائد الفضاء الروسي) كان أول من وضع قدميه على سطح القمر، ولكن هناك من سبقه بنحو نصف قرن تقريبًا.رجل فرنسيّ في الأربعين من عمره يمتلك مسرحًا صغيرًا يقدّم عروضًا ترفيهية وفقرات من السحر وخفة اليد، يُدعى جورج ميلييس، وجاء صعوده الخيالي من خلال فيلمه القصير "رحلة إلى القمر" الذي عُرض للمرّة الأولى سنة 1902، أي منذ 120 عامًا تحديدًا.لم يكن هذا الفيلم أوّل أفلام ميلييس؛ فالرجل الذي فتنه الاختراع الجديد آنذاك - السينما - صنع عشرات الأفلام القصيرة تتراوح مدتها بين دقيقة وبضع دقائق. ولكن في رحلة إلى القمر، يمتد زمن الفيلم إلى ربع ساعة كاملة تحتشد بمجموعة من الابتكارات والاختراعات - سردية وبصرية - نصّبته ساحرًا كأوّل الروّاد في مجال الخدع والمؤثرات السينمائية، كما سمحت له بممارسة بعض الظواهر الأولى لفن المونتاج.
سحر جديد لساحر قديمربما لم يحظَ مشهد في تاريخ السينما بالشهرة والشيوع مثلما حظى مشهد الأخوين لوميير في فيلم "وصول القطار إلى المحطة" (1895)، لكثرة ما يتم تداوله في التنظير السينمائي نقدًا وتأريخًا.كان هذا المشهد العابر، والذي لم يستغرق بضع ثوان، بمثابة نبوءة عن التأثير الهائل الحي لهذا الفن الوليد، سرعان ما تحققت وتأكدت مرارًا وتكرارًا عبر تاريخه القصير: الكاميرا ثابتة كالعادة، غير أنها منحرفة قليلًا يمين الكادر، تنتظر على رصيف المحطة وسط الجميع وصول القطار، الذي يدخل ببطء من عمق المشهد كنقطة سوداء كبيرة، تتضح معالمها بسرعة مع اقتراب القطار وخروج قاطرته من الكادر تاركة بقية العربات تمر في تسلسلها الثعباني، من هذا التجسد الحي بالحجم الكبير، هرولت الجماهير فزعة من مقاعدهم المريحة في قاعة العرض تجنبًا للاصطدام بالقطار.
0 seconds of 0 seconds
[COLOR=rgba(255, 255, 255, 0.8)]
[COLOR=rgba(255, 255, 255, 0.8)]
[/COLOR]
[/COLOR]
ميلييس من أولئك المبهورين بسحر الصورة، استشرف في هذا الاختراع آفاقًا جديدة يستطيع توظيفها وتطويعها ضمن برنامج عروضه السحرية على خشبة المسرح، وهناك واقعة متداولة عن لقاء درامي مع أوغست لوميير، أحد مالكي الاختراع الحديث، يسأله شراء جهاز العرض، إلا أن لوميير رفض ونصحه بأن هذا الاختراع ليس له مستقبل تجاري، ومصيره الاندثار مثل أي تقليعة أو بدعة. وبعيدًا من صحة القصة من عدمها؛ لم يستمع ميلييس إلى النصيحة، وبعد قليل من البحث استطاع الحصول على جهاز مماثل من لندن عن طريق روبرت بول؛ المُنافس الإنكليزي للوميير.السحرية عند ميلييس غاية وليست وسيلة، لذلك ظل يفتش عنها بشتى الطرق في أفلامه، بداية من توظيفه للسرد المتسلسل تيمنًا بالمسرح، وتقسيم الفيلم إلى مشاهد وفصول، وتسخير الديكور والملابس والأكسسوار ضمن السياق الدرامي والجمالي للحوادث لخلق شعور بالحركة من المنظور الثابت للتصوير، واستعان على مستوى التمثيل بشخوص عادية من العمال بجانب ممثلي المسرح وانحصر أداء الفريق بكامله - بمن فيهم ميلييس نفسه الذي كان دائم الظهور في أفلامه - في لغة الجسد؛ حيث تكون الغلبة لحركات الجسم والإيماءات وتعابير الوجه، كما كان جريئًا في استخدام المجاميع والاستعانة بأعداد كبيرة حسبها البعض لا تتناسب مع الأفق المحدود لحيز التصوير آنذاك.
العالم في قبضة اليد"كان ميلييس أول من كيَّف النماذج المُصغرة في خدمة السينما - كانت تستخدم في المسارح - وقام بتصوير المناظر من خلال الأحواض المائية"، مقتنعًا بأحلامه ورغباته السحرية المفارقة لما هو مُعتاد في زمنه، ولكي يستطيع مواصلة المضي عكس التيار، استقل بالإنتاج، وذلك بتأسيس شركة لإنتاج وعرض الأفلام يتحكم في سقفها كما يشاء، أطلق عليها "ستار فيلم Star Film"، شعارها "العالم في قبضة اليد"؛ وهو ما راق لميلييس كثيرًا حيث يوفّر له إعادة خلق القمر والشمس والنجوم، الشجر والحيوانات وحتى الوحوش من خلال مجموعة من الورق المقوى والكارتون بعد تشكيله وتلوينه على حسب سيناريو الفيلم، ومن خلاله أيضًا استطاع تشييد القصور والمباني والصالونات التاريخية، يرسم المناظر والحوادث ويُطعمها بشخصيات فانتازية داخل استديو خاص به لا يقل غرابة عن عوالمه؛ فقد بناه على هيئة صوبة مصنوعة من الزجاج تمكنه من التحكم في الضوء عن طريق الستائر الثقيلة أو ألواح الخشب الرقيقة.أجرى أيضًا تعديلات على ماكينة التصوير وبرع في إعادة تدوير الآلات والأجزاء المُستخدمة من قبل. وضمن ما يُذكر له في الخدع السينمائية طريقة التقطيع التي اهتدى إليها بالصدفة أثناء التصوير حين تعطلت الكاميرا لبعض الوقت، وعند الاستئناف ظهرت الصور مقلوبة، الأحصنة فوق البشر، المباني تحملها الأشجار، نسختان من الشخص الواحد!هنا وجد ميلييس نفسه في مواجهة سحرية كالواقف أمام مرآة، فعمل على تطبيقها في أفلامه اللاحقة. في فيلم "أربع رؤوس مُزعجة 1898" يظهر ميلييس الساحر على خلفية سوداء تمامًا وعلى جانبيه منضتان فارغتان، يخلع رأسه ويضعها جانبًا وبطرقعة من إصبعيه تنبت رأس جديدة حتى تمتلئ المناضد ويجلس بينها عازفًا، وحين يزعجه نشازهم ككورس يدمرهم بآلة العزف ويعود لرأسه القديمة وهو يشير لنا بيديه بانتهاء العرض.مظاهر الذاتية عند ميلييس تظهر في جميع أفلامه تقريبًا؛ فهو إما موجود بشخصه كساحر أو يقوم بأحد الأدوار، وفي مسألة استنساخ رأسه السابقة نجد أنها تكررت في أكثر من فيلم، وفي معظمها تكون النهاية بالانفجار الهزلي والتلاشي.
تعاويذ السينمااختار ميلييس عوالم الكاتب الفرنسي الشهير جول فيرن لتكون ضيفًا شبه دائم في أفلامه، مرة بالاستلهام وأخرى بالاقتباس، وبين هذا وذاك ثمة عوالم متجددة وعشوائية تخرج من حين لآخر، وفي لمح البصر كشُغل الحواة حين يجلبون الأشياء من الهواء. لم يكن الاثنان - فيرن وميلييس - فقط أبناء بلدة واحدة، ولكنهما اشتركا في الإيمان بقوة الخيال.في فيلم "الرحلة المستحيلةThe Impossible Voyage1904" عن رائعة فيرن "رحلة إلى باطن الأرض 1864" يُدخلنا ميلييس مستوى جديدًا من خدعه السينمائية، يرسخ لرؤيته الخاصة وعبقريته الحقيقية في رسم المنظر السينمائي ومحاولاته المستمرة في الحفر عن عمق يُضاف للكادر، وتوظيف كراته الورقية المقواة بعفوية في تجسيد الشمس والقمر والفضاء وما إلى ذلك، ورغم سذاجتها البادية، استطاعت الصمود والانتقال إلى الآن، جاذبةً قطاعًا عريضًا من الجمهور لديه من السحرية الرقمية ما يفوق الخيال؛ ولكن عند ميلييس الأمر مختلف، فالخيال هنا في صورته البكر يحمل عجز الواقع والقوة الوهمية للأحلام على سواء، ربما هي براءة قديمة افتقدناها في العصر الحديث.كان ميلييس يلجأ في بعض الأحيان إلى تلوين الفيلم أو عدد من مشاهده يدويًا، عن طريق فرشاة رقيقة جدًا في المادة الخام، نجحت في تحقيق نتائج رائعة، وأعطت للصورة "ألق المنمنمات في العصور الوسطى" مثل فيلمه "مملكة الجنيات 1903".رغم أن جل اهتمامات ميلييس كانت العوالم السحرية، إلا أنه قدم عددًا من الأفلام المجتمعية لعل أشهرها "دريفوس 1899"، وهي سلسلة من الأفلام ذات الدقيقة الواحدة عن حادثة النقيب الفرنسي من أصل يهودي "الفريد دريفوس" الذي اتُّهم بالخيانة نهاية القرن التاسع عشر، يُعتبر الفيلم من أوائل الظواهر السينمائية التي تُبرهن على قوة السينما كأداة دعاية سياسية.
عصا ميلييسلا يخلو مشهد من مشاهد فيلم "رحلة إلى القمر" من جمالية بصرية وأسلوبية تستحق النظر، بداية من المشهد الافتتاحي وفيه يُعطي ميلييس درسًا في المشهد البانورامي الهزلي، مجموعة من الفلكيين أثناء اجتماع يقررون إرسال عدد منهم عبر كبسولة فضائية في رحلة للقمر، ربما هي للاستكشاف أو لصد خطر ما، فهناك تتصارع المجموعة مع سكان القمر الهمجيين وينتصرون عليهم. وضع ميلييس في الخلفية منظرًا لبهو أسطوري وسكن الممثلين بشكل هرمي، فيما تجلس ثلاث فتيات في اليسار خلفهن مكتب الرئيس، مجموعة من الفتيات يدخلن المشهد في شكل استعراضي يحملن تلسكوبات يوزعنها على المجموعة المختارة، وعندما يبدأ الاجتماع تتحول التلسكوبات في أياديهن إلى كراسيّ خشبية صغيرة للجلوس عليها، يتقصى ميلييس فكرة الإبهار واستعراض مهارات السحر إلى أقصى درجه، وكأنه لا يريد تفويت فرصة لذلك. عدد ضخم ربما لا تحتمله محدودية الكادر الثابت وظفه على غير العادة.في مشهد استكشاف مكان الانطلاق، يطوّع ميلييس الصورة الثابتة في الخلفية ويجعل الحركة تدب فيها بأقل الإمكانيات. الصورة لمكان صناعي. بذكاء يقوم بثقب مكان خروج الدخان أعلى الفوهة وتشغيل دخان من خلفه. ويعاود الخدعة نفسها في مشهد الملائكة فوق القمر من خلال ثقوب أيضًا تُظهر رؤوس الممثلات، فيما تُخفي الخلفية السوداء أجسادهن.صنع ميلييس مئات الأفلام تتراوح من 400 لـ500 فيلم، لم يتبق منها سوى بضع عشرات، ولا تزال الحيل التي ابتكرها تعمل بالمنهج نفسه حتى الآن ولكن في طورها الرقمي، لذلك نراه ضيفًأ دائمًا على كل المهرجانات والفعاليات السينمائية على مستوى العالم، رغم أنه رحل منزويًا يبيع ألعابًا في كشك بمحطة قطار. يعمل السينيماتك الفرنسي حاليًا على مشروع لإحياء ميلييس من جديد، بعد القيام بترميم عدد كبير من أفلامه، تم تكليف مجموعة من عازفي البيانو المشهورين ومؤلفي موسيقى الجاز لتصور الموسيقى الأصلية لهذه الأفلام، فحينها كان الصوت يُصاحب الأفلام أثناء عرضها عن طريق عزف حي، وسيكون عاشقو ميلييس على موعد مع عوالمه السحرية نهاية هذا الشهر في متحفه.وفي أكاديمية ميلييس الواقعة في غراند باريس بالقرب من المكان الذي عاش فيه سنواته الأخيرة، تُتيح مدرسة ميلييس علوم الصور المتحركة والفنون التطبيقية والمؤثرات، ولا تشترط سوى أن يكون الطالب عاشقًا لسحر السينما. قد ينتابك الهاجس نفسه الذي انتابني قبل الدخول لموقع الأكاديمية، بأي مؤثرات سحرية سيكون شكل موقع صاحب السحر السينمائي الأول، في الحقيقة لم يكن هناك أي سحر - وهذا ما ظننته في البداية - تصميم بسيط ومباشر يحمل شعار قمر مفقوء العين وفي الخلفية يقف ميلييس في بدلته السحرية والقبعة على رأسه وتحيطه بؤرة شبحية من ضوء قديم، ولكن أثناء التصفح شعرت بلمسة سحرية تختلج على شاشة الكمبيوتر، فالسهم المتحرك بين الأيقونات يجر من خلفه كرات صغيرة كثعبان تتبعك أينما انتقلت، تُذكرك برؤوس ميلييس المقطوعة، خصوصًا وهو أصلع تمامًا كالكرة، جرّب ذلك بنفسك!