هل يصبح الكتاب العربي علامة ترف
ليس بوتين وحده سبب أزمة الكتاب العربي
يعاني قطاع نشر الكتب في العالم العربي تحديات كبيرة ساهمت فيها أزمة فايروس كورونا ومن بعدها حالات الصراع والحرب الروسية - الأوكرانية وارتفاع الدولار، علاوة على ظروف كثيرة أخرى، وهو ما نطرحه على عدد من الناشرين العرب للاطلاع على تصوراتهم حول الحلول الممكنة لتجاوز تلك التحديات.
تواجه سوق النشر عربيا ومصريا تحديات كبرى ربما لم تواجهها من قبل، فما إن بدأت تستفيق من آثار جائحة كورونا وما تسببت به من تأجيل معارض دولية عربية وعالمية وإغلاق لمنتديات، حتى بدأت الحرب الروسية – الأوكرانية التي أثرت سلبيا على العديد من الاقتصاديات، وقد كان وقعها حادا على الكثير من الدول العربية، فمصر تشهد تقلبات في سعر الدولار وارتفاع أسعار الورق وتكاليف الشحن وتراجع القوى الشرائية.
كيف أثر ذلك على قطاع الناشرين وعلى قطاع النشر بشكل عام؟ وهل تشهد مكتبات بيع الكتب ارتفاعا في الأسعار؟ وكيف للناشر أن يحقق التوازن المطلوب مع تراجع القدرة الشرائية؟ وهل من مخرج يؤدي إلى تخفيف التحديات التي يواجهها قطاع النشر بصفة عامة والناشرون بصفة خاصة؟ هذه التساؤلات محور هذا التحقيق مع ناشرين عرب ومصريين.
يؤكد الناشر شريف بكر مدير دار العربي أن “الوضع العام لصناعة النشر جراء التطورات الأخيرة (ارتفاع سعر الدولار ومشكلات الاستيراد…) بشع، فسعر طن الورق قفز من 14 إلى 20 ثم إلى 38 ألف جنيه، وعلى الرغم من ذلك ليس متوفرا، ونحن كدار نشر لا نعرف ماذا سنفعل، خاصة أن المطابع التي نتعامل معها أوقفت الطبع انتظارا لما ستؤول إليه الأمور، لذا فإن السوق بالتعبير الدارج ‘نشفت’ أي جفت، وبالتأكيد الورق القادم سيكون بأسعار جديدة ربما تتجاوز 38 ألف جنيه للطن، الأمر الذي سيضع صناعة النشر بالمجمل أمام ما هو أسوأ".
جنون الأسعار
سوق الكتاب راكدة بسبب جنون الأسعار ويضيف “بالنسبة إلي في دار العربي حاولت في الفترة الأخيرة عمل ديجيتال فيرست، أو الكتب الإلكترونية، أولا في محاولة لاكتشاف السوق الإلكترونية وهل تستطيع أن تغني عن السوق الورقية أم لا؟ أعرف أنها لن تغني، ولكن أردت أن أعرف حجمها، وهو الأمر الذي ننتظر نتيجته، ولكن بشكل عام هذا حل نظري جيد في الوقت الحالي، بمعنى أن الناس يدفعون مبلغا معينا يوازي تقريبا سعر كتاب تحصل بمقتضاه على اشتراك تستطيع به قراءة كتب كثيرة، لكن بالنسبة إلى النشر يمثل هذا انخفاضا يصل إلى 75 في المئة من الإيرادات، لأن أعلى إيراد في الإلكتروني لن يغطي 25 في المئة من مبيعات الورقي، وهو بالتأكيد سيوفر تكلفة طباعة وورق وغير ذلك، لكنه في الوقت نفسه هناك تكاليف التحرير وحقوق النشر والمؤلف أو المترجم والصف، وغير ذلك".
ويرى بكر أن "هناك حلا للحيلولة دون احتداد الأمر يتمثل في الطباعة عند الطلب، وهنا التكلفة ستكون غالية. وبشكل عام عند الحديث عن سعر الكتاب مع الناشرين تجد أنهم يتوقعون أنه سيصل إلى رقم كبير يتجاوز القدرة الشرائية للقارئ، وكانوا يتحدثون في حدود 120 جنيها والآن يتحدثون في حدود 200 جنيه، وشخصيا لا أعرف من سيشتري كتابا بـ200 جنيه وكم من الكتب سيشتري، فحتى لو كنت قادرا على الشراء وأعجبتك عشرة عناوين ستشتري عنوانا أو اثنين، وهذا لو لديك القدرة".
ويشير إلى أن "العديد من معارض الكتب الدولية على الأبواب، يعني تم الشحن لمعرض الرياض، ويتم إعداد الشحن لمعرض الشارقة. وللأمانة هذه المرة من المرات القليلة التي أقف فيها عاجزا عن إيجاد حل؛ عملت ما هو مطلوب مني، الكتب كلها ديجيتال ونعمل على حل الطباعة عند الطلب، ولكن الجودة بالطبع لن تكون على مستوى ما اعتاده القارئ، بل إنني -لا أخفي عليك- كناشر أتساءل هل أواصل الاستثمار أم أتوقف؟ ذلك أن السوق غامضة وغير مطمئنة، هل أعتمد على الأسواق الخارجية باعتبار القدرة الشرائية أكبر؟ لا أعرف، لذا أنا الآن أراقب الأوضاع كمراقب بالبورصة".
ويرى الأكاديمي أحمد السعيد، الرئيس التنفيذي لمجموعة بيت الحكمة للثقافة، أن ما تشهده سوق النشر ليس فقط ضعف إقبال الناس على شراء الكتب، بل أيضا جنونا في زيادة أسعار الورق؛ إذ تضاعف سعر طن الورق ضعفين على الأقل خلال هذا العام، وأصبحت كلفة صناعة الكتاب عالية جدا، وفي النهاية مبيعاته ليست مضمونة. وهو الأمر الذي سيضطر -في رأيه- ما لا يقل عن ثلث الناشرين إلى الإغلاق، والثلث الآخر سيظل يتماسك ويجرب مع تقليص النفقات والاستغناء عن بعض موظفيه وتقليل عدد الطبعات أو اعتماد الطباعة بالطلب، والثلث الثالث سيتجه إلى النشر إلكترونيا وصوتيا فقط ومحاولة التكسب من تطورات العصر والنشر الرقمي. وهو ما سيهدد في النهاية المعرفة وانتشارها وتوارثها وسيقلل من منصات ونوافذ الإبداع وسيعطي مساحات أكبر لتأثير السوشيال ميديا، هذه المساحات التي أصبحت بلا رقابة ولا ضوابط.
ويؤكد أن العالم أجمع -وخاصة المنطقة العربية- سيشهد ارتفاعا جنونيا في أسعار الكتب، وسيكون الكتاب بالنسبة إلى الأسر والقراء من الرفاهيات وليس الأساسيات، “لذا أرى أن وحدة الناشرين ضرورية للبحث عن آليات تسويقية جديدة وبحث كيفية دعم ناشري القطاع الخاص للحفاظ على جزء أصيل من الهوية وثقافة المجتمع ومعارفه".
ويعتبر الكاتب والناشر جعفر العقيلي، المدير العام لـ”الآن ناشرون وموزعون”، أن “قطاع النشر وصناعة الكتاب لم يكونا بحاجة إلى تحد جديد يضاف إلى قائمة التحديات المزمنة التي يواجهانها منذ سنوات وبدأت تحتد منذ اندلاع النزاع الروسي – الأوكراني بصورته الحالية؛ ففي الوقت الذي شهدت فيه أسعار الورق وكلف الشحن ازديادا ملحوظا تصل نسبته إلى أكثر من ثلاثين في المئة، يستمر تآكل القوة الشرائية للناس، ويزداد التضخم، ويفقد المزيد من العاملين وظائفهم وأعمالهم، لاسيما بعد الجائحة التي يتعمق أثرها حاليا، بالطبع مع تفاوت نسبي بين بلد وآخر".
ويضيف "ليس أمام الناشر عموما من حيلة؛ فلا يمكن أن يتكبد وحده فارق الكلفة، في ظل غياب الدعم الحكومي ودعم المؤسسات وتفهم القارئ أيضا. ومن حق القراء الحصول على الكتب بأسعار ميسرة، لكن الناشر طرف من أطراف صناعة الكتاب؛ وأتحدث هنا عن النشر بوصفه صناعة لا تجارة".
ويتابع "لو أخذت المؤسسات المعنية هذا الأمر في الاعتبار، لربما تم كبح ارتفاع الأسعار، لأن الصناعات عامة تحظى باستثناءات وحوافز على مدخَلاتها تصل إلى حد إعفائها من الضرائب. بينما يتم التعامل مع قطاع النشر على أنه يندرج ضمن القطاعات التجارية، وهذه معضلة لا بد من حلها. وفيما يتصل بدار النشر التي أديرها، فقد حافظنا على مستويات الأسعار السابقة ولم نعكس الزيادة في الكلف على أسعار إصداراتنا، ورغم ذلك فإن وضع سوق الكتاب والورق لا يسر قريبا أو بعيدا".
قائمة تحديات
صناعة نشر معقدة تدور بين نصفي رحىيشير الناشر والقاص عاطف عبيد، مدير دار نشر بتانة، إلى أن “صناعة النشر صناعة معقدة تدور بين نصفي رحى غير منتظمة الدوران. النصف الأول هو عملية الإنتاج المعرفي والتأليف، والذي شهد تطورا كبيرا وهو دخول العامة في التأليف بعد بزوغ نجومهم على صفحات التواصل الاجتماعي مما فرض توجهات معينة تتحكم في لغة التأليف وموضوعاته وعمق المعالجة".
ويضيف “كما أن البحث عن محتوى جيد حقيقي وسط هذه الكومة المتسعة جغرافيا وموضوعيا، شكل عبئا على كل ناشر يبحث عن محتوى معرفي جيد وله رواج حتى ولو كان محتملا. أما القارئ الذي يمثل النصف الآخر من الرحى فقد أصابه هوس تجاه محتوى ظهر فجأة بكميات كبيرة أمامه، مما مزق الذائقة الجمعية للقراء".
ويستشهد بقول ماركيز هنا “أصبح من السهل أن تمسك بألف أرنب ولا تمسك بقارئ واحد”. وبين تأليف غير منتظم الحدود والملامح، وبين قارئ تتطور احتياجاته المعرفية بشكل ديناميكي وسريع صعب التتبع، باتت صناعة النشر تواجه مأزقا حقيقيا في تقديم منتجها ضمن مصاف الاحتياجات الأساسية للقارئ وليس عنصرا هامشيا مركونا في دولاب كمالياته المزدحم".
ويضيف عبيد أن “الحرب بين أوكرانيا وروسيا وقبلها جائحة كورونا شماعتان يعلق عليهما الناشرون فشلهم في إنماء صناعة النشر. الغلاء موجة أصابت الجميع، لكن كل الصناعات المنتجة بشكل حقيقي تعاملت مع الأزمة بصورة أو بأخرى".
ويتابع "انظر إلى المقاهي المزدحمة رغم الكساد، تذاكر حفلة عمر خيرت نفدت بعد ساعات من طرحها، وهذا يدل على أنه لو كان الناشرون في مجملهم والدولة من قبلهم وضعوا الكتاب في مكانه ضمن أساسيات الحياة لكان الوضع أقل إضرارا بصناعة النشر. بشكل عملي أطالب بإعادة هندسة منظومة النشر إجرائيا وتشريعيا وتقنيا في مجابهة التطورات المجتمعية والسوسيو جغرافية، ساعتها يمكن الخروج من نفق أزمة الحرب وكورونا باعتبارهما عامليْن مساعدين في هذه المشكلة وليسا المتهمين الرئيسيين".
ويعتقد الكاتب مروان عدوان، مدير دار نشر ممدوح عدوان، أن “أوضاع قطاع النشر (الطباعة والتوزيع، وغير ذلك) في البلدان العربية ستكون خلال الفترة القادمة صعبة، لقد بدأ الأمر مع وباء كورونا، وهو مستمر في تكبيد القطاع خسائر جسيمة".
ويضيف عدوان "العوامل السلبية كثيرة: الحرب في أوروبا وما رافقها من تضخم اقتصادي هائل في مختلف دول العالم، وأزمة الورق (بين انقطاعه لفترة وغلائه بشكل كبير في الفترة الأخيرة)، وأزمة الشحن العالمية. هذه العوامل جميعها لها تأثير كارثي على صناعة النشر، فقد اضطرتنا إلى تأجيل الكثير من المشاريع الحالية. وللأسف سنضطر في الفترة القادمة إلى رفع أسعار الكتب لكي تتوافق ولو بدرجة قليلة مع الارتفاع الهائل في المصاريف على الرغم من أننا حاولنا تأجيل هذه الزيادة قدر المستطاع".
ويرى الشاعر أحمد عباس، مدير النشر بدار عناوين بوكس، أنه “بعد انتهاء أزمة كورونا والصعوبات التي واجهت قطاع النشر بدأ هذا القطاع يلتقط أنفاسه شيئا فشيئا، لكن سرعان ما تعرض لانتكاسة أخرى وهي ارتفاع سعر الدولار وتقلبه، وهذا أدى إلى عدم استقرار أسعار الورق وخضوعها لسعر صرف الدولار، خاصة وأن معظم الورق يتم استيراده من الخارج، بل ارتفعت كلفة الطباعة برمتها، وهذا بدوره أثر على دور النشر، وعلى الكتاب أيضا؛ فدور النشر لا تستطيع تحمل كلفة إصدار كتاب بمفردها، والكاتب ارتفعت نسبة مساهمته في الطباعة".
ويؤكد عباس أن قطاع النشر قطاع هش وبحاجة إلى دعم حكومي، لأنه لن يستطيع وحده أن يتحمل الخسائر الكبيرة التي يمنى بها، وهو قطاع حيوي يقوم بدور مهم، هو نشر الثقافة والوعي، ولو تم تهميشه وإقصاؤه بهذه الكيفية فسيكون البديل هو الدور التابعة للمؤسسات المشبوهة والممولة من أطراف ذات توجه أيديولوجي، وهي الوحيدة القادرة على تحمل الخسائر على المدى المتوسط والطويل.
هل يصبح الكتاب العربي علامة ترف
انشر