وسائل التواصل الاجتماعي وانتشار العنف أثرا في فن النكتة
محمد الحمامصي
الأحد 2022/10

إضحاك الناس نوع من الفن (لوحة للفنانة سندس عبدالملك)
عرف عن المصريين “خفة الدم” وانتهاجهم لأسلوب النكتة سواء للنقد السياسي والاجتماعي وغيره، أو للترويح عن النفس، لكن تراجع هذا الفن كثيرا وخاصة مع انتشار وسائل التواصل الحديثة، التي حولت النكات من حكاية شفهية إلى صور و”ميمز” ولقطات مختصرة يتناقلها رواد هذه المواقع فيما بينهم.
عرف عن المصري قديما وحديثا خفة الدم وإطلاق النكات اللاذعة والسخرية المرة حتى في أحلك فترات بؤسه ومحنه على اختلافها دينية أو سياسية أو اقتصادية أو اجتماعيه وغيرها، وهذا جزء لا يتجزأ من حيويته الثقافية الشعبية والرسمية في مختلف العصور.
لكن ذلك تراجع في السنوات الأخيرة تراجعا واضحا بعد مرحلة ازدهار في فترة ما قبل ثورة 2011 وما بعدها بقليل، فلم نعد نسمع جديدا ولا حتى تكرارا للقديم.. أين ذهب ذلك؟ وكيف نفسر هذا الاختفاء؟ هل للأوضاع السياسية علاقة بذلك؟ وما حجم مساهمتها في ذلك؟ وما دور مواقع التواصل الاجتماعي في الأمر؟ في هذا التحقيق نستطلع آراء مبدعين ومثقفين.
النكات وانتشار العنف

ويتابع “اليوم وبعد صدمات العنف الحاضر في الشارع المصري بقوة منذ 2011، من معارك بين متظاهرين وبلطجية ثم مواجهات بين الأهالي والأمن، ثم حادثة مسجد رابعة العدوية، نجد مظاهر عنف قاسية وصارخة تتمثل في حوادث ذبح شابات بسبب خلافات عاطفية وغيرها. كل هذا الحضور للعنف يخرس الأفواه ويلجم اللسان عن اجتراح النكات، ليس فقط توخيا للسلامة، ولكن لأن الحزن يفوق مرحلة الأمل الذي يتعلق به من يطلق نكتة أو يؤلف طرفة. ينسحب هذا على النكات المتعلقة بالشأن العام وعلى الموضوعات البسيطة المعتادة في الفكاهة مثل خلافات الأزواج أو استملاح النساء، لأن الناس بالتعبير العامي البليغ ‘مفيش نفْس’ أي ليس لها نفْس“.
ويلفت الشاعر والمسرحي أحمد سراج إلى حضور السخرية والميل إلى الفكاهة في المصري مهما اختلف العصر، فكتابات الفلاح الفصيح ورسومات الأوستراكا والفاشوش ومقطوعة وداع لويس والمئات من الحكايات والأمثال الشعبية دليل بارز على أن السخرية أسلوب تعايش أصيل. وقد يبدو للكثيرين أن بعد 2011 قلت السخرية المصرية وتوارت، لكن الحقيقة غير ذلك.

ويؤكد سراج أن “التراجع الحاد في مستوى الكاريكاتير ومطاردة بعض رسامي الكاريكاتير لم يوقفا السخرية، بل جعلاها تبحث عن مكان آخر، ويمكنك أن تركب حافلة أو تجلس داخل أي مقهى مصري وتشاهد التعليقات الضاحكة والنكت الساخرة والدعوات الحانقة، ويصل الأمر إلى حد استدعاء جمل قالها السياسيون الكبار بطريقة ساخرة، أو وضعها إجابة على سؤال حانق في حوار بين شخصين، مثل أن يسأل راكب عن سبب غلاء أسعار المواصلات وسوء خدمتها، فتكون إجابة من يجلس إلى جواره: انتم نور عنينا”.

يشير الروائي شريف صالح إلى عدم وجود إحصاء دقيق يخبرنا أن خفة الظل تراجعت أو معدل إطلاق النكات أصبح أقل. لكن يجب أولا أن نموضع خفة الظل في مكانها الصحيح إذا أردنا فهم وتحليل الظاهرة وتقييمها. إنها موقف فني وإبداعي من الحياة عموما، وليست مجرد رد فعل يحتال على الأزمات. إن المصري القديم عموما قدم تصورات عظيمة للفن تظهر في الرسومات والنحت والجداريات والاحتفاء بالرقص والموسيقى، وصولا إلى “النكتة” التي هي عمل إبداعي، لا ينسب إلى شخص بعينه. لذلك في ظنه أن تراجع النكتة ليس مرده تردي الأوضاع الاقتصادية، لأنها في معظم الفترات كانت متردية وكانت النكتة منتعشة. لكن المتغير الذي أثقل الظل يتمثل في أربعة عوامل: أولها صعود التيار الديني المتشدد الذي يكره الفنون عامة ويصفها بالابتذال والإباحية والكذب، فالنكتة في تصوره “كذب” غير لائق. لأنه لا يفهم المجاز ويخاف التخييل.
النكتة دائما ابنة حراك مجتمعي وسياسي واجتماعي وثقافي، والمجال العام الآن خال تماما من أي حراك
وثاني العوامل أن مع توحش ثقافة الزحام والعشوائيات تضاعفت معدلات العنف، والعنف ابن التراجيديا وليس الكوميديا. لذلك ملأت المآسي الفضاء العام وأرهقت الأرواح. ذهب روقان البال والرغبة في التشارك مع الآخرين وهيمنت العزلة والخوف والحذر من الآخر. والنكتة فن لا يكتمل إلا بمستمع يتفاعل ويتأثر ويضحك من قلبه. ثالث عوامل التراجع السوشيال ميديا التي وسعت من دائرة السطو على “الأفيهات” وإعادة تدويرها واستهلاكها حد السأم منها. فبدا الأمر كأنه لم يعد هناك جديد يُضحك. أما العامل الرابع فهو الافتقار إلى المواهب المضحكة والساخرة.
ويصيف صالح “ففي التمثيل آخر نجم كوميدي يحظى بالإجماع هو عادل إمام.. وآخر كاتب ساخر حقق نجاحا لافتا كان جلال عامر المتوفي قبل أكثر من عشر سنوات.. هناك نضوب في صناع الضحك.. ومعظم ما يقدم ‘أفيهات’ مسروقة من السوشيال ميديا وأداء سمج يفتقر إلى المصداقية والعفوية”.
خواء المشهد

ويضيف “النكتة دائما ابنة حراك مجتمعي وسياسي واجتماعي وثقافي، والمجال العام الآن خال تماما من أي حراك على أي مستوى، غياب الأمل والحلم تسبب في غياب النكتة واختفاء السخرية الفنية، كان المصري ينكّت ويسخر من نفسه ومن ظروفه عندما كان مقهورا، لكنه الآن لم يعد مقهورا، لقد وجد نفسه مذبوحا بسبب انهيار كل شيء حوله، بدءا من التعليم والإعلام، مرورا بالاقتصاد، وليس انتهاء بتسليع الفكر والثقافة. إنّ نظرة بسيطة على وجوه المصريين في الشوارع وفي وسائل المواصلات العامة كافية تماما لندرك حجم المأساة التي لا يمكن أن تعبّر عنها النكتة ولا السخرية”.
يرى الناقد والشاعر أسامة جاد أن المصري لا يمكنه التنازل عن المرح وخفة الظل، حتى في أحلك الظروف. وصحيح أن مفهوم “الإفيه” أو “القافية” وحكمها انحسر نوعا ما خلال السنوات الماضية، ولكن انحساره تزامن مع انحسار “قعدة القهوة” لصالح وسائل التواصل الاجتماعي، التي لم تخل هي الأخرى من أساليب متنوعة ومعادلة للقافية والإفيه، ربما تجسدها الميمز المتنوعة التي تشير إلى مواقف سينمائية مختلفة يعاد تدويرها لمناسبة الحال.

يقول الناقد المسرحي عبدالكريم الحجراوي “منذ القدم اشتهر المصريون بميلهم إلى الفكاهة والضحك، وهو ما رصده العديد من المؤرخين والرحالة، فقد ورد عن ابن خلدون قوله في المقدمة ‘إن أهل مصر يميلون إلى الفرح والمرح والخفة والغفلة عن العواقب’، ونقل عنه أيضا أنه حين رأى المصريين قال ‘أهل مصر كأنهم فرغوا من الحساب’، وقال عنهم المقريزي ‘من أخلاق أهل مصر الإعراض عن النظر في العواقب’. حتى المسرح أصبح مرادفا للمصريين للكوميديا وأبدعوا فيه أشكالا متنوعة مثل الفودفيلات والفصول المضحكة، والاسكتشات والفرنكو آربن والفارس، وعرف المصريون عبر تاريخهم أشكالا متنوعة لتوليد الضحك مثل فن القافية، والردح، والنكات، والقفشات”.

ويتابع “لكن مع انتشار وسائل التواصل الرقمية اختلفت وسائل التنكيت والفكاهة عند المصريين وواكبت التطورات الحديثة، فأخذت أشكالا وصورا أخرى مثل ما يطلق على الميم والكوميكس والفيديوهات الساخرة، التي سرعان ما تنتشر. والمحتويات الكوميدية هي الأكثر رواجا على تلك المنصات، خاصة في ما يتعلق بالمواقف السياسية والجنسية، فهي الأكثر إثارة للضحك بالنسبة للمصريين”.
وفي رأيه فإن “هذا التطور ليس جديدا، فالشعب المصري خلاق ومبدع وقادر على الانتقام من مغتصبي حقوقه بأساليبه الخاصة، فعادة ما يتغير الوعاء المحتوي على الكوميديا، لكن يظل الهدف واحدا، فقد اختفت من قبل أشكال من فنون الضحك مثل فني القافية والردح اللذين كانا منتشرين في النصف الأول من القرن الماضي، وحلت محلهما النكات، ثم جاء هذا العصر بتقنياته الجديدة ليزيح النكتة ويحل محلها القفشات التي تعتمد على الصورة والأداء الحركي”.
سمات راسخة

وترى أن سخرية المصري تحولت من نكات شفهية إلى بوستات مدعمة بالصور والكوميكس ومشاهد من أشهر الأفلام.. إذن الوسيلة هي التي تغيرت وليست السمة المصرية التليدة، وبمراجعة حسابات المصريين على وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة فيسبوك وتويتر، يمكن ببساطة أن نتأكد أن السخرية المصرية مازالت بعافية لاذعة، بل وصارخة ضد كل ما لا يعجب المصريين من رئيسهم، ومن حكومتهم، ومؤخرا من غلاء الأسعار ومن التفاوت الصارخ بين الطبقات، ولعل آخرها تزاحم البعض على شراء فيلات بالمئات من الملايين، وعلى المستوى الاجتماعي والديني تصريحات تفيد بأن الزوجة غير ملزمة بخدمة زوجها وإرضاع أطفالها دون مقابل.

وتقول الأكاديمية أسماء بسام إن الضحك والفكاهة من السمات الموروثة المترسخة، ويعتبر الإله “بس” له دوره البارز في ترسيخ روح الفكاهة والمرح لدى المصريين الفراعنة، واستخدام النكات والسخرية من أهم سمات المصري القديم التي طالما استخدمها بعد ممارسة عمل شاق، حتى إن المصريين القدماء اختاروا شكلا مميزا لإله الفكاهة يثير الضحك والسخرية على هيئة قزم صغير ممتلئ الوجه والعضلات، واسع العينين مبتسما مخرجا لسانه من فمه، يجمع بين شكل الإنسان والقرد لإثارة الضحك والمرح والتسلية.
وقد انشغل المسرح بهذا الموروث الثقافي، واعتبر الضحك جزءا لا يتجزأ من حواره الاجتماعي، فنجد الظروف السياسية مسؤولة مسؤولية كاملة عن هذا التوجه، مثلا بعد ثورة 1919 حيث كان الجو خانقا، وكان لابد من الترفيه والاتجاه إلى الكوميديا والمسرح الكوميدي ومسرح كشكش بيه تنفيسا للكرب الخانق آنذاك، وعندما زاد الأمر تعقيدا اتجه المصري إلى لون الميلودراما ومسرح الدم والدموع الذي كان يقدمه يوسف وهبي على مسرحه، في الوقت الذي كان يبحث المصري عن همّ يبكيه تنفيسا عن الكرب الخانق أيضا، وأعاد التاريخ نفسه قبل ثورة 2011، حيث كان الأمر بمثابة بحث عن الفكاهة بكل معانيها والاتجاه إلى أمور التسلية والمرح، الأمر الذي استدعى هوية المصري القديم، ولكن بعد حدوث الثورة أصبح المصري يبحث عن أمور أخرى انشغل بها اجتماعيا، وهي الأمن والأمان والاستقرار الأسري، والاستقرار النفسي والاقتصادي فقط.