حمام سخن.. سيدات يقفن على الأبواب
منار خالد
المكان: حمام، والحالة: سخن، هكذا أرادت المخرجة منال خالد أن تسمي فيلمها "حمام سخن" الذي
يشتبك مع ثورة يناير كزمن لأحداثه، وتحديدًا في فجر يوم 26 يناير 2011، والمكان هو مصر، والحبكة عبارة عن مجموعة حكايات متفرقة بين مجموعة سيدات، بداية اسم الفيلم اللافت للنظر، "حمام" وبعيدًا عما تحمله الكلمة من معاني واضحة، إلا إنها تؤكد كونها مكان داخلي، غير محدد موقعه، لكنه يبقى مكان بالداخل شديد الخصوصية، وما يليه من وصف يمهد لوضع الأحداث في حدوده الزمنية المشتعلة والمرتبكة بسبب قيام الثورة، أي تشتبك الكلمة الأولى من العنوان مع كل ما هو داخلي، في حين تشتبك الثانية مع الأحداث الخارجية، ومنها تتأسس علاقة تقابل أولية بين (الداخل/ الخارج) بداية من اسم الفيلم، حيث يفتتح المشهد الأول على مكان داخلي وهو "سنترال" يمتلكه رجل، يتجه نحو غلقه بعد منتصف الليل، وأثناء ترتيبه للمكان يجد فيلم باب الحديد في التليفزيون، وتخترق "هنومة" حدود ذلك المكان من خلال شاشة تليفزيون صغيرة ومشهد هند رستم الشهير أثناء تغير ملابسها بينما يتلصص عليها قناوي، فيقوم الرجل بالالتفات للتليفزيون والتلصص هو الآخر بدوره كمشاهد، ومن ثم تنقلنا كاميرا الفيلم للخارج وما به من أحداث ثورة يناير، لتؤسس تضادًا آخر بين حدود تلك الثنائية، وتمهد بقدوم أنثى من خارج حدود المكان تشتبك مع ما هو قائمًا بالخارج لتأتي تختبئ بذلك الداخل، ويحتل صوتها شريط الصوت عوضًا عن وجود هنومة، وما من ربط بأنوثة كل منهما بالأخرى، مثلما تم الربط مسبقًا بين الرجل وقناوي، بينما تأتي هنا الأنثى لأختراق حدود ذلك الرجل المكانية، حيث يلتصق الرجل بمكانه دون اشتباك على مستوى الصورة بالأحداث الخارجية، للتأكيد على اهتمام الفيلم برصد تجربة المرأة في ذلك الحدث على وجه التحديد بداية من المشهد الأول، لكن الرجل في الوقت ذاته يظهر كمعاونًا أمينًا لها يحميها بما يمتلكه من "داخل" مؤمن، يضع الفيلم منذ الحكاية الأولى مجموعة تأسيسات لكافة الحكايات القادمة، لتبقى هذه الطريقة هي خيوط الربط بين باقي الحكايات وبعضها البعض، أي ربط بين جميع النسوة داخل الفيلم، فحكاية الأولى تبدأ بسؤال من الرجل للمرأة "أنت مسلمة ولا مسيحية؟"، وتمرر أسئلة أخرى كإعجابه بها كأنثى، وابتسامة امتنان منها له كرجل، وسؤاله لها عن اسم طفلها دون إجابة، كونها علاقات غير مكتملة، لا معالم واضحة لها ولا حدود تحكمها، سوى ذلك الزمان وذاك الحدث، واحتماء كل فرد بالآخر، دون اكتمال العلاقات، وعلى ذلك المنوال سارت الحكايات التالية، حيث أم ممرضة بمستشفى تترك طفلتها "فرح" وتذهب للعمل ولم تظهر مرة أخرى بعد ذلك، ومازالت ثنائية (الداخل/ الخارج) مستمرة بين طفلة داخل البيت وأم خارجه، وسيدة أخرى تختبئ من أفراد الأمن بعد الاشتباك معهم، فتحتمي بالبناية نفسها التي يوجد بها بيت الطفلة، يغلق عليها أفراد الأمن الباب من الخارج بالقفل، فتصعد للطفلة طالبة المفتاح، وتقام بينهما علاقة غير مكتملة ترصدها الكاميرا بحاجز الباب المغلق، وتترك الحكاية اسئلتها غير المجاب عنها أيضًا، فأين ذهبت أم فرح وهل ستعود أم لا؟، والسيدة هل ستخرج خارج حدود البناية أم ستستمر بداخلها، وما حدود تطور علاقتها بتلك الطفلة؟، وما من اختلاف بالحكاية الأخيرة، وحال السيدات داخل حدود الحمام الشعبي، ودخوله كنوع من أنواع العقاب من أفراد أمن للحبس بداخله، ومحاولات للاشتباك وتفكير في الهرب، ليجدن أنفسهن في النهاية داخل حمام واحد يتجردن فيه من ملابسهن ويشتركن في فعل الاستحمام والنظافة، ومعًا في الغناء لشادية "إن راح منك يا عين هيروح من قلبي فين"، دون الاجابة على سؤال مصير كل منهن، في الخروج من ذلك الحمام.
-مستويات متعددة داخل الثنائية الواحدة
الثورة بذاتها هي حركة اجتماعية تقوم بهدف هدم أشياء وإعادة بناء وهيكلة أشياء جديدة، حيث لكل ثورة متطلباتها، التي تهدف للتغيير، لذا فربط زمان الأحداث "ثورة يناير" بهيكل الفيلم السينمائي على مستوى صورته التي تقدم مشاهد توثيقية لأحداث الثورة، وتقدم بشكل موازٍ لها دراميا عن طريق صورة قائمة على تطور ثنائية الداخل والخارج، فالخارج وما به من أحداث مصيرية، وعدم اتزان لشكل حال البلاد في ذلك الوقت، يبدو وكأنه في حالة تضاد مع ما يحدث بالداخل، حيث الداخل يمثل الأمن والأستقرار، بينما الخارج أكثر خطرًا، ولكن الفيلم سعى أن يُحدث إتساقًا متدرجًا بين أطراف الثنائية، بداية للتأكيد على اشتراك المجتمع بأكمله بشكل أو بآخر في ذلك الحراك التاريخي الهام، ومنها عمل على موازة الصورة الدرامية للحدث الموثق، فالخارج مذبذب غير متزن، والداخل أيضًا لا مصائر معلومة به، يُطرح بداخله أسئلة غير مُجاب عنها، للتأكيد على عدم اكتمال المصائر مادام الخارج لم يتضح ملامحه بعد، والداخل بذاته عملت الصورة على تقسيمه لمستويات، حيث "داخل أولي" كالسنترال، البيت، الحمام، و"داخل مختبئ" بداخله، كمخزن داخل السنترال، وبيت داخل البناية، وحمام داخلي به مغطس داخل حيز المكان العام للحمام الشعبي، لخلق مستويات للحماية، حيث أن كل ما هو داخل أولي ذهبت إليه هؤلاء النسوة، كان السبب فيه ذوات فاعلة خارجية كأفراد الأمن، ومنها للانتقال للمستوى الثاني/ الداخل المختبىء الذي يذهب إليه النسوة بمحض إرادتهن وهن سعداء، أي تحقيق حرية لهن داخل حدود ذلك السجن أو مكان الحصار.
-حصار وتبادل أدوار
لعبت الصورة السينمائية دورًا هامًا في التأكيد على حالة الحصار الناتجة عما يحدث في الخارج، فالسجن الذي دخلت به كل سيدة منهن لم يكن بشكل السجن المتعارف عليه، بل دائمًا ما يكون مكان به شخصيات لإحداث تفاعل من ذلك القيد يولد حرية وطمأنينة، لذا فكان للكاميرا دورًا على التأسيس لشكل الحصار بين زوايا تصوير قريبة وإضاءة خافتة للحكاية الأولى، ومرآة تحاصر الأم في الحكاية الثانية، وزاوية كاميرا أخرى لها ترصدها محاولة احتساء الشاي واشعال السيجارة في شرفتها المطلة على أحداث الخارج، لتظهرها داخل كادر ضيق مختنق، والطفلة المطلة من شراعة باب بيتها على السيدة الغريبة المختبئة بالبناية، وما للشراعة من أسياخ حديد تنم عن الحصار ذاته، كما أن الكاميرا لعبت دور المتلصص على أحداث مكان الحمام في الحكاية الثالثة، بزاوية مرتفعة تنظر عليهن من الداخل فلا سبيل للخروج، والحصار مازال قائمًا، وهؤلاء النسوة يسلمن الرايات لبعضهن البعض أحيانًا بطريقة غير مباشرة مثلما قدمت الحكاية الأولى علاقة السيدة بأمها عن طريق مكالمة التليفون ومدى قلقها على ابنتها المشتركة في أحداث الثورة، لكن لم تظهر الأم في الحكاية الأولى، لنجدها الأم بطلة الحكاية الثانية وموجودة داخل الفضاء الدرامي ومن ثم تختفي وينتهي الحدث دون معرفة مصيرها، فالأم الأولى بالبيت بينما الابنة بخارجه، والأم الثانية خارجه بينما الابنة بداخله، وأحيانًا أخرى يسلمن الراية لبعضهن بطرق واضحة عن طريق الصورة، مثال الأم في الحكاية الثانية التي بدأت يومها بتنضيف بيتها، فوضعت سجادة صغيرة على السلم للتنضيف والتهوية، لتأتي السيدة المختبأة داخل البناية وتقام علاقة بينها وبين الابنة الوحيدة حبيسة البيت بينهما حاجز الباب لكنهما يلتقيان على نحو أمومي بين اهتمام كل منهما بالأخرى وتبديل الأدوار بين السيدة المذكورة والأم عن طريق استخدام تلك السجادة التي تركتها الأم صباحٍا لتحتمي بها السيدة مساءًا من برد الشتاء في الجلوس على السلم في إنتظار المصير المجهول.
-ما بين الصورة والصوت
وعلى غرار خلق الثنائيات أحيانًا لخلق تضاد وأحيانًا أخرى لخلق حالة موازة بين الأحداث، تكونت ثنائية تقابل أولية بين الصورة وشريط الصوت، فما بها من مشاهد توثيقية وحالات حصار وتلصص، يقابله في شريط الصوت أغنيات لمحمد فوزي، ومونولوج "صاحب السعادة" لاسماعيل يس، ومشاهد من فيلم "باب الحديد"، وآخرى من فيلم "بحب السيما" أي حضور قوي وفعال لحالة بهجة سمعية عن طريق حضور الفن بأشكال متعددة مقارنة بحالات الحصار المرئية بين التوثيق والحالة الدرامية، وذلك على مستوى التقابل، ولكن مع قراءة كل حكاية على حدة نجد أن هناك تطور ملحوظ لهذه الثنائية يجعل طرفيها بعد مدة قصيرة من الوقت في حالة ترادف، حيث يتحول الحصار إلى حميمية شديدة الألفة، بين الحكاية الأولى التي تمرر مشاعر إعجاب وامتنان متبادل بين الرجل والمرأة، والحكاية الثانية ومشاعر الأمومة والبنوة وتعويض كل منهما دور يلعبه آخر في حياتهما، وترابط مجموعة النساء في الحكاية الأخيرة ووصولهن معًا لمكان شديد الخصوصية وهو "الحمام" وهو في الأصل عنوان الفيلم والكلمة الأولى منه التي سبق وتم الذكر إنها تضع تحت مظلتها كل ما هو داخلي، أي خلق حالة تجانس داخل ذلك الحصار، ليكون في هذه الحالة شريط الصوت مُكمل لحالة الود القائمة بل ويتطور هو الآخر من غناء مُسجل لأغاني مشاهير، لغناء على لسان النسوة وبأصواتهن داخل حدود ذلك المكان الخاص، أي تطور لكل طرف من أطراف الثنائية أيضًا بين الداخل والخارج، فمثلما قدمت الصورة الفارق بين ما هو داخلي وما هو خارجي، وما من داخل مختبئ وما من حصار بزوايا الكاميرا، قدم شريط الصوت أيضًا تطورًا بين ما هو خارج ومؤثر وهادم لحالة السجن بين أغنيات وأصوات مشاهد سينمائية، وما هو داخلي نابع من شعور بالسعادة الحقيقة بعد تحول القلق لطمأنينة، ومنها يكون الحمام الذي بدأ منه الفيلم وانتهى فيه هو المكان الأكثر خصوصية وكأنه تطور لكل الحكايات السابقة، التي تركت وراءها أسئلة عديدة ليأتي المشهد الأخير ذات اللقطة العامة للمكان وشكل النساء وهن أحرار يمارسن فعل العناية بأجسادهن ويصدرن الأغنيات المُحملة بكلمات الحب بألسنتهن، ومنها تترادف أطراف الثنائية المحورية للفيلم فلا فارق هنا بين الداخل والخارج إذن، مادامت شخصيات الفيلم جميعها أتحدت بالمشاركة مع بعضهم البعض، ففعل المشاركة هو القائم بالأساس بالخارج بهدف ثورة على النظام، ومنها يلتصق مكان الحمام القائم على فعل المشاركة بالداخل مع صفة السخونة والاشتباك القائم بالخارج، وتترادف أطراف الثنائية أكثر فأكثر فلا تضاد مادام تحققت حالة الطمأنينة حتى وأن لم تضح المصائر النهائية بعد، هن مازالوا يقفن على الأبواب أي مصائر غير مكتملة سواء لمن ظهروا وحضروا للنهاية داخل الفضاء الدرامي، أو لمن اختفوا منه بعد فترة، ولكن في النهاية يظهرن السيدات متسلمات الأدوار من الحكايات السابقة مطمئنات بحماية كل منهن بالأخرى.
منار خالد
المكان: حمام، والحالة: سخن، هكذا أرادت المخرجة منال خالد أن تسمي فيلمها "حمام سخن" الذي
يشتبك مع ثورة يناير كزمن لأحداثه، وتحديدًا في فجر يوم 26 يناير 2011، والمكان هو مصر، والحبكة عبارة عن مجموعة حكايات متفرقة بين مجموعة سيدات، بداية اسم الفيلم اللافت للنظر، "حمام" وبعيدًا عما تحمله الكلمة من معاني واضحة، إلا إنها تؤكد كونها مكان داخلي، غير محدد موقعه، لكنه يبقى مكان بالداخل شديد الخصوصية، وما يليه من وصف يمهد لوضع الأحداث في حدوده الزمنية المشتعلة والمرتبكة بسبب قيام الثورة، أي تشتبك الكلمة الأولى من العنوان مع كل ما هو داخلي، في حين تشتبك الثانية مع الأحداث الخارجية، ومنها تتأسس علاقة تقابل أولية بين (الداخل/ الخارج) بداية من اسم الفيلم، حيث يفتتح المشهد الأول على مكان داخلي وهو "سنترال" يمتلكه رجل، يتجه نحو غلقه بعد منتصف الليل، وأثناء ترتيبه للمكان يجد فيلم باب الحديد في التليفزيون، وتخترق "هنومة" حدود ذلك المكان من خلال شاشة تليفزيون صغيرة ومشهد هند رستم الشهير أثناء تغير ملابسها بينما يتلصص عليها قناوي، فيقوم الرجل بالالتفات للتليفزيون والتلصص هو الآخر بدوره كمشاهد، ومن ثم تنقلنا كاميرا الفيلم للخارج وما به من أحداث ثورة يناير، لتؤسس تضادًا آخر بين حدود تلك الثنائية، وتمهد بقدوم أنثى من خارج حدود المكان تشتبك مع ما هو قائمًا بالخارج لتأتي تختبئ بذلك الداخل، ويحتل صوتها شريط الصوت عوضًا عن وجود هنومة، وما من ربط بأنوثة كل منهما بالأخرى، مثلما تم الربط مسبقًا بين الرجل وقناوي، بينما تأتي هنا الأنثى لأختراق حدود ذلك الرجل المكانية، حيث يلتصق الرجل بمكانه دون اشتباك على مستوى الصورة بالأحداث الخارجية، للتأكيد على اهتمام الفيلم برصد تجربة المرأة في ذلك الحدث على وجه التحديد بداية من المشهد الأول، لكن الرجل في الوقت ذاته يظهر كمعاونًا أمينًا لها يحميها بما يمتلكه من "داخل" مؤمن، يضع الفيلم منذ الحكاية الأولى مجموعة تأسيسات لكافة الحكايات القادمة، لتبقى هذه الطريقة هي خيوط الربط بين باقي الحكايات وبعضها البعض، أي ربط بين جميع النسوة داخل الفيلم، فحكاية الأولى تبدأ بسؤال من الرجل للمرأة "أنت مسلمة ولا مسيحية؟"، وتمرر أسئلة أخرى كإعجابه بها كأنثى، وابتسامة امتنان منها له كرجل، وسؤاله لها عن اسم طفلها دون إجابة، كونها علاقات غير مكتملة، لا معالم واضحة لها ولا حدود تحكمها، سوى ذلك الزمان وذاك الحدث، واحتماء كل فرد بالآخر، دون اكتمال العلاقات، وعلى ذلك المنوال سارت الحكايات التالية، حيث أم ممرضة بمستشفى تترك طفلتها "فرح" وتذهب للعمل ولم تظهر مرة أخرى بعد ذلك، ومازالت ثنائية (الداخل/ الخارج) مستمرة بين طفلة داخل البيت وأم خارجه، وسيدة أخرى تختبئ من أفراد الأمن بعد الاشتباك معهم، فتحتمي بالبناية نفسها التي يوجد بها بيت الطفلة، يغلق عليها أفراد الأمن الباب من الخارج بالقفل، فتصعد للطفلة طالبة المفتاح، وتقام بينهما علاقة غير مكتملة ترصدها الكاميرا بحاجز الباب المغلق، وتترك الحكاية اسئلتها غير المجاب عنها أيضًا، فأين ذهبت أم فرح وهل ستعود أم لا؟، والسيدة هل ستخرج خارج حدود البناية أم ستستمر بداخلها، وما حدود تطور علاقتها بتلك الطفلة؟، وما من اختلاف بالحكاية الأخيرة، وحال السيدات داخل حدود الحمام الشعبي، ودخوله كنوع من أنواع العقاب من أفراد أمن للحبس بداخله، ومحاولات للاشتباك وتفكير في الهرب، ليجدن أنفسهن في النهاية داخل حمام واحد يتجردن فيه من ملابسهن ويشتركن في فعل الاستحمام والنظافة، ومعًا في الغناء لشادية "إن راح منك يا عين هيروح من قلبي فين"، دون الاجابة على سؤال مصير كل منهن، في الخروج من ذلك الحمام.
-مستويات متعددة داخل الثنائية الواحدة
الثورة بذاتها هي حركة اجتماعية تقوم بهدف هدم أشياء وإعادة بناء وهيكلة أشياء جديدة، حيث لكل ثورة متطلباتها، التي تهدف للتغيير، لذا فربط زمان الأحداث "ثورة يناير" بهيكل الفيلم السينمائي على مستوى صورته التي تقدم مشاهد توثيقية لأحداث الثورة، وتقدم بشكل موازٍ لها دراميا عن طريق صورة قائمة على تطور ثنائية الداخل والخارج، فالخارج وما به من أحداث مصيرية، وعدم اتزان لشكل حال البلاد في ذلك الوقت، يبدو وكأنه في حالة تضاد مع ما يحدث بالداخل، حيث الداخل يمثل الأمن والأستقرار، بينما الخارج أكثر خطرًا، ولكن الفيلم سعى أن يُحدث إتساقًا متدرجًا بين أطراف الثنائية، بداية للتأكيد على اشتراك المجتمع بأكمله بشكل أو بآخر في ذلك الحراك التاريخي الهام، ومنها عمل على موازة الصورة الدرامية للحدث الموثق، فالخارج مذبذب غير متزن، والداخل أيضًا لا مصائر معلومة به، يُطرح بداخله أسئلة غير مُجاب عنها، للتأكيد على عدم اكتمال المصائر مادام الخارج لم يتضح ملامحه بعد، والداخل بذاته عملت الصورة على تقسيمه لمستويات، حيث "داخل أولي" كالسنترال، البيت، الحمام، و"داخل مختبئ" بداخله، كمخزن داخل السنترال، وبيت داخل البناية، وحمام داخلي به مغطس داخل حيز المكان العام للحمام الشعبي، لخلق مستويات للحماية، حيث أن كل ما هو داخل أولي ذهبت إليه هؤلاء النسوة، كان السبب فيه ذوات فاعلة خارجية كأفراد الأمن، ومنها للانتقال للمستوى الثاني/ الداخل المختبىء الذي يذهب إليه النسوة بمحض إرادتهن وهن سعداء، أي تحقيق حرية لهن داخل حدود ذلك السجن أو مكان الحصار.
-حصار وتبادل أدوار
لعبت الصورة السينمائية دورًا هامًا في التأكيد على حالة الحصار الناتجة عما يحدث في الخارج، فالسجن الذي دخلت به كل سيدة منهن لم يكن بشكل السجن المتعارف عليه، بل دائمًا ما يكون مكان به شخصيات لإحداث تفاعل من ذلك القيد يولد حرية وطمأنينة، لذا فكان للكاميرا دورًا على التأسيس لشكل الحصار بين زوايا تصوير قريبة وإضاءة خافتة للحكاية الأولى، ومرآة تحاصر الأم في الحكاية الثانية، وزاوية كاميرا أخرى لها ترصدها محاولة احتساء الشاي واشعال السيجارة في شرفتها المطلة على أحداث الخارج، لتظهرها داخل كادر ضيق مختنق، والطفلة المطلة من شراعة باب بيتها على السيدة الغريبة المختبئة بالبناية، وما للشراعة من أسياخ حديد تنم عن الحصار ذاته، كما أن الكاميرا لعبت دور المتلصص على أحداث مكان الحمام في الحكاية الثالثة، بزاوية مرتفعة تنظر عليهن من الداخل فلا سبيل للخروج، والحصار مازال قائمًا، وهؤلاء النسوة يسلمن الرايات لبعضهن البعض أحيانًا بطريقة غير مباشرة مثلما قدمت الحكاية الأولى علاقة السيدة بأمها عن طريق مكالمة التليفون ومدى قلقها على ابنتها المشتركة في أحداث الثورة، لكن لم تظهر الأم في الحكاية الأولى، لنجدها الأم بطلة الحكاية الثانية وموجودة داخل الفضاء الدرامي ومن ثم تختفي وينتهي الحدث دون معرفة مصيرها، فالأم الأولى بالبيت بينما الابنة بخارجه، والأم الثانية خارجه بينما الابنة بداخله، وأحيانًا أخرى يسلمن الراية لبعضهن بطرق واضحة عن طريق الصورة، مثال الأم في الحكاية الثانية التي بدأت يومها بتنضيف بيتها، فوضعت سجادة صغيرة على السلم للتنضيف والتهوية، لتأتي السيدة المختبأة داخل البناية وتقام علاقة بينها وبين الابنة الوحيدة حبيسة البيت بينهما حاجز الباب لكنهما يلتقيان على نحو أمومي بين اهتمام كل منهما بالأخرى وتبديل الأدوار بين السيدة المذكورة والأم عن طريق استخدام تلك السجادة التي تركتها الأم صباحٍا لتحتمي بها السيدة مساءًا من برد الشتاء في الجلوس على السلم في إنتظار المصير المجهول.
-ما بين الصورة والصوت
وعلى غرار خلق الثنائيات أحيانًا لخلق تضاد وأحيانًا أخرى لخلق حالة موازة بين الأحداث، تكونت ثنائية تقابل أولية بين الصورة وشريط الصوت، فما بها من مشاهد توثيقية وحالات حصار وتلصص، يقابله في شريط الصوت أغنيات لمحمد فوزي، ومونولوج "صاحب السعادة" لاسماعيل يس، ومشاهد من فيلم "باب الحديد"، وآخرى من فيلم "بحب السيما" أي حضور قوي وفعال لحالة بهجة سمعية عن طريق حضور الفن بأشكال متعددة مقارنة بحالات الحصار المرئية بين التوثيق والحالة الدرامية، وذلك على مستوى التقابل، ولكن مع قراءة كل حكاية على حدة نجد أن هناك تطور ملحوظ لهذه الثنائية يجعل طرفيها بعد مدة قصيرة من الوقت في حالة ترادف، حيث يتحول الحصار إلى حميمية شديدة الألفة، بين الحكاية الأولى التي تمرر مشاعر إعجاب وامتنان متبادل بين الرجل والمرأة، والحكاية الثانية ومشاعر الأمومة والبنوة وتعويض كل منهما دور يلعبه آخر في حياتهما، وترابط مجموعة النساء في الحكاية الأخيرة ووصولهن معًا لمكان شديد الخصوصية وهو "الحمام" وهو في الأصل عنوان الفيلم والكلمة الأولى منه التي سبق وتم الذكر إنها تضع تحت مظلتها كل ما هو داخلي، أي خلق حالة تجانس داخل ذلك الحصار، ليكون في هذه الحالة شريط الصوت مُكمل لحالة الود القائمة بل ويتطور هو الآخر من غناء مُسجل لأغاني مشاهير، لغناء على لسان النسوة وبأصواتهن داخل حدود ذلك المكان الخاص، أي تطور لكل طرف من أطراف الثنائية أيضًا بين الداخل والخارج، فمثلما قدمت الصورة الفارق بين ما هو داخلي وما هو خارجي، وما من داخل مختبئ وما من حصار بزوايا الكاميرا، قدم شريط الصوت أيضًا تطورًا بين ما هو خارج ومؤثر وهادم لحالة السجن بين أغنيات وأصوات مشاهد سينمائية، وما هو داخلي نابع من شعور بالسعادة الحقيقة بعد تحول القلق لطمأنينة، ومنها يكون الحمام الذي بدأ منه الفيلم وانتهى فيه هو المكان الأكثر خصوصية وكأنه تطور لكل الحكايات السابقة، التي تركت وراءها أسئلة عديدة ليأتي المشهد الأخير ذات اللقطة العامة للمكان وشكل النساء وهن أحرار يمارسن فعل العناية بأجسادهن ويصدرن الأغنيات المُحملة بكلمات الحب بألسنتهن، ومنها تترادف أطراف الثنائية المحورية للفيلم فلا فارق هنا بين الداخل والخارج إذن، مادامت شخصيات الفيلم جميعها أتحدت بالمشاركة مع بعضهم البعض، ففعل المشاركة هو القائم بالأساس بالخارج بهدف ثورة على النظام، ومنها يلتصق مكان الحمام القائم على فعل المشاركة بالداخل مع صفة السخونة والاشتباك القائم بالخارج، وتترادف أطراف الثنائية أكثر فأكثر فلا تضاد مادام تحققت حالة الطمأنينة حتى وأن لم تضح المصائر النهائية بعد، هن مازالوا يقفن على الأبواب أي مصائر غير مكتملة سواء لمن ظهروا وحضروا للنهاية داخل الفضاء الدرامي، أو لمن اختفوا منه بعد فترة، ولكن في النهاية يظهرن السيدات متسلمات الأدوار من الحكايات السابقة مطمئنات بحماية كل منهن بالأخرى.