الأدبُ العالمِي
عندما قال لي صاحبي إنه سيتزوج، تذكرت القصة القديمة العبقرية لـ(هانس كرستيان أندرسن) عن الأمير الذي يبحث عن أميرة حقيقية ليتزوجها. هنا ظهرت -في ظروف معقدة ما- أميرة ضلت الطريق وطلبت البيات في قصره. لا يأخذنك الخيال بعيدًا لأن هذه قصة أطفال. كل ما حدث هو أن الملكة الأم قررت عمل اختبار صغير لهذه الأميرة لمعرفة إن كانت أميرة حقاً. وضعت حبة بازلاء على حشية فراش ثم وضعت فوقها أربع حشايا كاملة، وطلبت من الأميرة قضاء الليل في هذا الفراش. في الصباح بدت الأميرة مرهقة لأن شيئاً صلباً في الفراش ظل يؤلم ظهرها طيلة الليل. هنا هتفت الملكة في حماس: ''تزوجها يا بني فهي أميرة حقيقية!... فقط الأميرة سليلة الملوك هي التي يمكن أن تشعر بحبة بازلاء تحت أربع حشايا''.
لقد رأيت الفتاة التي راقت لصاحبي، وبدت جميلة رقيقة، لكني شعرت نوعاً ما بالتصنع وادعاء الرقي في سلوكها. فهي لا تظهر ما تبطن تماماً.. إن للتصنع حدوداً ولابد من علامة هنا أو هنا تكشف لك حقيقتها. هناك نصيحة يسدونها للراغبين في الزواج وأجدها حكيمة جداً: أعط الفتاة قطعة من ''اللادن'' أي ''اللبان'' أو ''العلكة'' ودعها تمضغها. راقبها بحذر. سوف تتماسك الفتاة بضع دقائق وتمضغ برقة، ثم تبدأ الفضائح. سوف تبدأ الانفجارات... طراك... كراك!.. طراق!.. وتلوي فمها في ميوعة ويتساقط اللعاب من شفتيها الغليظتين. باختصار سوف تنسى كل الأقنعة الاجتماعية التي وضعتها. إن ''اللادن'' له قوة كاسحة ولا تستطيع أي امرأة أن تقاومه ما لم تكن أميرة حقاً. طريقة الأكل كذلك لا تفشل: هناك مطربة مصرية اشتهرت بالرقة، وكان أحد الشعراء يهيم بها حباً. ظل يهيم بها حتى رآها مصادفة في القناطر الخيرية في شم النسيم. رآها تلتهم الفسيخ في جشع وتلعق أصابعها. ثم تهشم البصل وتزدرده كأنها أحد المعلمين في وكالة البلح. وتقذف في جوفها بأربعة أو خمسة أرغفة. سقطت تماماً من نظره وشفي من عشقه المجنون والحمد لله.
ذات مرة كنت أتصل بشركة طيران أؤكد حجز رحلة، فردت علي فتاة تتكلم بأرستقراطية وخنافة من طرف أنفها وقالت:
''بالتأكيد يا فندم.. لا لزوم للكونفيرميشن لأن البوكنج موجود هنا.. الفاوتشر معك ويمكنك أن تقوم بعمل كانسل في أية لحظة.. بليز دو.. هانج أون''. كانت تجد صعوبة بالغة في العثور على أي كلمة عربية مناسبة.
وبدأت ''تملّيني'' رقم الرحلة، وفجأة حدث خلل في الكمبيوتر عندها، فراحت تضرب المفاتيح في عصبية... ثم دوى صوتها الغليظ الحلقي كأنها تتشاجر في سوق الخضار:
ـ ''يا دي السخماط!!''.
للحظة خيل لي أنها تستعمل لفظة ألمانية أو هولندية لا أعرفها، ثم فطنت أنها تتكلم بالعربية العامية جداً جداً جداً. أنا لست من طبقة مرفهة أو ثرية، وقد تعاملت بحكم عملي مع طبقات فقيرة جداً في أسفل السلم الاجتماعي، لكن دعني أؤكد لك أنني لم أسمع (يا دي السخماط) هذه من أي شخص قبل هذه اللحظة!. طبعاً يمكن استنتاج أنها تقول (يا للكارثة!) بطريقتها الراقية الخاصة.
في اللحظة التالية ثابت إلى رشدها فعادت تقول:
ـ ''سوري يا فندم.. الشاشة فروزن حالياً.. لو أنك كولد باك خلال ساعة فلربما.. احم .. شكراً لاتصالك''.
وضعت السماعة وأنا أكاد أموت ضحكاً، وقررت أنني لن أتزوج هذه الفتاة بالذات لو قررت أن أتزوج.
صارحت صديقي بهواجسي هذه، فقال لي في غيظ:
ـ وماذا أفعل؟
قلت له في وقار:
ـ إما أن تقنع فتاتك بالنوم على حبة بازلاء تحت أربع حشايا، وإما أن تعطيها قطعة ''لادن'' أو تراقب رد فعلها لو حدث خلل في الكمبيوتر.
لم يبد له أي حل مقنعاً، حتى فكرة ''اللادن'' ستبدو غريبة جداً عندما يعطيها إياها ويراقبها في حذر كأنه يطعم فرس النهر في حديقة الحيوان.
وجاء الفرج عندما تذكرنا أن شم النسيم على الأبواب. اقترحت عليه أن يدعو حبيبته لأكلة فسيخ في القناطر الخيرية. سألني في بلاهة عما إذا كانت طريقتها في أكل الفسيخ سوف تفضحها، فقلت له في غيظ:
ـ أنت لم تتعلم شيئاً. لو قبلت أكل الفسيخ أصلاً فهي تمت لعالم الوحوش ولا تصلح لك يا صاحبي. وحتى هذه اللحظة لا أعرف ما توصل له، لكني أرجح أنه سيخدع نفسه وسوف يتزوجها في جميع الأحوال، حتى لو كانت تلتهم طناً من الفسيخ مع عشرة أرغفة من الخبز، وحتى لو قالت له بعد الأكل ''يا دي السخماط!''... لأننا لا نرى سوى ما نريد أن نراه.
― مقال "حبة بازلاء" للدكتور أحمد خالد توفيق.
********************************
Sahar Algharbie