الفنان خالد حوراني يخنق الجدران العنصرية برحابة البياض
ميموزا العراوي
الأربعاء 2022/09/28
انشر
جدران مائية وهشة أمام أفق مفتوح
يبرع الفن في تحويل القسوة إلى جمال وفكرة ورسالة إنسانية عابرة للزمن، وهذا ما تؤكده التجربة الجديدة للفنان الفلسطيني خالد حوراني، الذي حول جدران الفصل العنصري للاحتلال في فلسطين إلى مواد فنية لها رؤاها الخاصة التي تتجاوز الواقع.
افتتحت صالة “زاوية” الفنية فرع “دبي” معرضا للفنان التشكيلي الفلسطيني خالد حوراني تحت عنوان “فاصل متواصل، ونعود”. وضم المعرض مجموعة من اللوحات بالأحجام الكبيرة تناول الفنان فيها الجدار الفاصل في فلسطين المحتلة.
يذكر الفنان التشكيلي الفلسطيني متعدد المواهب خالد حوراني في معرضه الجديد الذي أقامه في صالة “زاوية” في دبي تحت عنوان “فاصل متواصل، ونعود” بما يشبه تبريرا لتناوله موضوع الجدار الفاصل لأنه كان ولايزال موضوعا مُستعادا لا يغادر التشكيل الفلسطيني المعاصر إلا قليلا.
هشاشة الجدران العنصرية
خالد حوراني تعامل مع الجدران على أنها سائرة ومتحركة ومتمددة فيما يلاحقها ليوثق تمددها حتى تتوقف عن السير
يوضح الفنان قائلا إنه اختار أن يرسم الجدار “لأنه تكثيف لمعنى الاحتلال.. وأحاول إلغاء وجود الجدار من خلال تجاوزه بالتسلق تارة باليد وبالحبال والسلالم وتارة أخرى بالخيال”.
قد يكون هذا الكلام “غير مُقنع” في بادئ الأمر، ولكن لا يعود كذلك عندما نتأمل أعمال الفنان الموجودة في هذا المعرض التي أعطت لمعنى الجدار “مذاقا” آخر.
في البداية يمكن القول إن الفرد الذي يختبر معنى الجدار في كونه أحد عناصر الهندسة المدنية الأساسية ربما يستطيع أن يدرك ولو بشكل جزئي لماذا هذا الجدار هو أكثر من جدار شيده الاحتلال وفصل به الفلسطينيين عن باقي وطنهم المسلوب، ولماذا هو موضوع لا ينضب.
كلبنانية أستطيع العودة الى أيام الانتفاضة اللبنانية منذ أكثر من سنتين، لاسيما في مراحلها الأخيرة حينما شيّدت السلطة جدرانا خرسانية لتفصل الثوار عن المراكز الرسمية لاسيما مجلس النواب. والمهم في هذه التجربة، فيما يخص تحديدا ما قدمه الفنان خالد حوراني، هو أن تلك الجدران المرفوعة في وجه الناس و”مجلس الشعب”، أي مجلس النواب، كانت شبه محصورة في منطقة ضيقة. ورغم ذلك كانت تُشعرنا بالاختناق الشديد والرغبة في “ركلها” وكأنها من كرتون لا قيمة له ولا قوة.
والأهم من ذلك كله أننا كمجموعات كنا نتوجه خصوصا وبملء إرادتنا إلى تلك المنطقة “المأهولة” بالجدران العازلة وكأننا في اقتراب أقصى حتى “اللمس” الحسيّ لمعنى القمع والظلم الذي تجسد في تلك الهياكل الخرسانية التي عكف العاملون في كنف السلطة على تشييدها في أكثر ساعات الليل تقدما. إن كنا شعرنا بذلك أمام تلك الجدران “الوضيعة” فماذا يكون شعور الفلسطيني أمام جدران العزل الهائلة المشبعة بكراهية لا متناهية وشديدة القدم؟
الخيال يصنع واقعا جديدا
تشبه جدران السلطة اللبنانية بشكلها الأدنى والأقل قسوة ما يواجه الفلسطينيون منذ سنوات كثيرة. أما هذا الشبه فمتأت من كون تلك الجدران وكأنها سارت وتمددت وانتشرت (كما يسير الجدار الفاصل في لوحة حوراني) افتراضيا في كل أرجاء لبنان لتصبح عنوانا عاما.
أصبحت محاولة القفز على جدران السلطة اللبنانية محاولة يومية يقوم فيها اللبناني بذهنه وبجسده وبفنه عند كل مرة يلمح فيه أحد وجوه رجال السلطة أو عند سماع صوته أو رؤية أيّ مركز رسمي تابع له.
وفي وجه امتداد وتنامي الجدران العازلة يقول الفنان في البيان الصحافي للمعرض كلمات مُعبرة جدا “أوقفوا الجدران لأتوقف عن رسمها”. ونضيف هنا قائلين “أوقفوها وهي تلاحق خطواته كظلال لها تأبى المغادرة. تتراكض وتتزاحم وترتفع مستطيلات خرسانية قطعة تلو القطعة كما في شريط سينمائي بغيض”.
وقد تعامل الفنان مع الجدران على أنها سائرة ومتحركة ومتمددة وهو محكوم بملاحقة وتوثيق تمددها حتى تتوقف عن السيران. وقد استقدم من عالم التلفزيون والشرائط الإخبارية المصورة، المحكومة بأصغر الوحدات الزمنية وهي الثواني وأنصاف الثواني، عنوان معرضه. وبالفعل يتوافق العنوان وكلام الفنان مع أسلوب رسمه للوحات التي تضمنها المعرض. فهي لوحات باهرة وناصعة وتوحي بغياب الزمن، حتى وان أفشت الظلال عن تقدم الشمس في السماء. أما المكان فهو تحت سلطته، أي الزمن المُعلق، ومُعرّض في أيّ لحظة للإفلات منه.
وتبدو الجدران في لوحاته مائية وهشة أمام أفق مفتوح في الأعلى وفي الأسفل، وعلى أرض ناصعة البياض تحمل أقدام المتجولين وترفع من أراد منهم التسلق على الجدار، حد ّ تسخيفه وكأنه مساحة “لعب” غير جدية تدعو الفلسطينيين للتعاطي معها على أنها كذلك، لأنها كذلك واهية وواهنة. وقد دقها الفنان بأحجار التسلق الملونة فإذا بها تستحيل ملهاة. وحتى حين تبرز العتمة في لوحاته فهي لتكون ظلا رفيقا يتلطى به المشاؤون.
الأبيض الطاغي
صحيح أن الجدار الفلسطيني قليلا ما بارح المخيلة والتشكيل الفلسطيني وقد ولدت أعمال فنية رائعة منطلقة منه كفكرة وحضور مادي على السواء غير أن ما قدمه الفنان خالد حوراني أخذ أبعاد مختلفة جاءت بشكل خاص متأثرة بكونه كاتبا وناقدا فنيا ومصورا فوتوغرافيا ونحاتا ومُنظم معارض لفنانين فلسطينيين، أي يرى المشاهد بأكثر من عين وبمستويين اثنين: الموضوعي والشخصي.
فالفنان يرى الجدران ويرسم لوحاته المُجسدة لها ضمن سياقات عديدة فنية وإخبارية وتوثيقية ووجودية.
يراها حسية وأثيرية على السواء امتد تأثيرها خارج حدود جغرافيتها ليطال كيفية العيش في عالم يشتّد وحشة. غير أن الفنان “يكلل” الوحشة الحاضرة في لوحاته باجتياح الضوء الطبيعي وبصقل الأرض التي يمشي عليها السائرون المتعبون بنصاعة بيضاء استطاعت “تشكيليا” أن ترفعهم قليلا عن الأرض في مهمة قدرية ألا وهي تخفيف وطأة “الاعتقال”.
وثمة أمر مهم يبثه، في نفس المُشاهد، هذا الأبيض الطاغي على لوحاته وهو أنه يوحي بتعليق الزمن وبالتالي فتح حدود الجغرافيا بالرغم من ارتفاع الجدران الشاهقة. ويُخيل للناظر إلى اللوحات بأن الشخوص قادرة على اجتياز الجدران لأنها تميل في أحيان كثيرة إلى الضبابية في ألوانها لتبدو غير ملتصقة بالأرض، بل بالفراغ.
وتذكرنا إحدى اللوحات المعروضة والتي تحمل عنوان “العودة” بما قدمه الفنان خالد حوراني يوما من خلال جدارية جمعت لوحات متعددة تبدأ بواحدة بيضاء، وأخرى، كتب عليها أجزاء من قصيدة الجدارية للشاعر محمود درويش، وتنتهي بلوحة سوداء.
أما لوحاته الأخرى كتلك التي عنونها بـ”ناصر”، و”الساعة الذهبية” و”أي كلاود”، و”قيلولة” فهي تجسيد مؤثر لكلمات الشاعر المشبعة بأوكسجين الحب والأمل في قصديته تلك ولاسيما في هذا المقتطف منها “أَرى السماءَ هُنَاك في مُتَناوَل ِ الأَيدي/ويحملني جناح حمامة بيضاء صوب طفولة أخرى/ولم أحلم بأني كنت أحلم/ كل شيء واقعي/كنت أعلم أنني ألقي بنفسي جانبا.. وأطير/سوف أكون ما سأصير في الفلك الخير/وكل شيء أبيض/البخر المعلق فوق سقف غمامة بيضاء/والّلاشيء أبيض في سماء المطلق الأبيض”.
فالفنان، المتجدد والمتنوع في أعماله، عبر يوما عن عدم انتمائه لمدرسة فنية محددة قائلا “أنا لا أقلل هنا من قيمة التيارات الفنية. غير أنني أفضل الانتماء للحياة؛ الحياة التي تعتبر أصدق من كل النظريات والتيارات”. وقدم لوحات لم يعد فيها الجدار مشهدا يُشكل تبعا لمدارس فنية دون أخرى بل إلى مدرسة الحياة فاستحال إلى مفهوم يُمكن تدميره لأنه لم يعد حقيقيا/حسيا/واقعيا إلا في نظر من شيده. إنه مسخرة المساخر. إنه مرتع للعب وللتفكّر بالقدرة الإنسانية الهائلة على التخطي.