الروائى الأسطورى في زمن نجوى وهدان
حاتم عبدالهادى السيد
بقلم / حاتم عبدالهادى السيدتحيلنا مسرواية ”زمن نجوى وهدان” للمبدع / مجدى محمود جعفر – منذ البداية – الى حقول الإلغازية، للتساؤل عن ”نجوى وهدان” التى قصر الزمان في حوزتها، وأحالنا منذ أول دال الى الرواية ذاتها، لنسأل عن كنه هذه المسمّاة بنجوى/ البطلة، ربما الأسطورة التى استحوذت الدنيا، وغدا الزمان والمكان معادلاًن موضوعياًن وفنياَن، لإسمها الغامض؟!.انها رواية لافتة ـ منذ أول وهلة – حيث تأخذ القارىء الدهشة، وحب الفضول للتعرف الى هذه الخارقة، التى طوّعت الزمان حتى غدا يوسم بها،ويُكنّى بصفاتها. ولعل اللوحة البديعة على الغلاف ستحيلنا كذلك الى التّشكيل،لفك مغاليق هذه المرأة الأسطورية / الفتاة العافقة على سُرّة الزمان، ومرمره، وجوهرياته، وترميزاته الغرائبية، مما يجعلنا نقول بداية: ”إنه زمن نجوى وهدان.. وحسب“!! .وعبر”الخٌطّية الإجناسيّة” للفظة ”رواية“، التى وُضٍعت على الغلاف، ورأيناه يماهينا في الداخل بلفظة (مسراوية)، ليحيلنا الى المسرح، ولغته، والتي قد لا تستقيم مع لفظة ”رواية“ المحايثة، لكنه ـ فيما يبدو ـ روائى ماكر-، ينقلنا عبر الاحالات الذهنية الى تماثلات المسرح الروائى، أو الرواية المسرحية، لكنها ليست هذه، ولا تلك ـ فيما أحسب-، بل هى رواية بامتياز،يرويها عبر الشخوص/ المشاهدين، وكأنه يكتب السينما والمسرح والمسرود الروائى معاَ، وتلك لعمرى حصافة كاتب عليم باللغة، التى تَنشُد ـ لأول وهلة ـ تشاركية القارىء، الذى جعله يلهث معه، لاستكناه مغاليق، وسحر السّرد السيميائى الباسق ..
انه زمن “مجدى جعفر” ، زمن السرد المكتنز، المشاهداتى، زمن الواقعية السحرية التى تحيلنا الى مسرح توفيق الحكيم، وصلاح عبدالصبور، وعبدالرحمن الشرقاوى، ونجيب سرور، وغيرهم عبر فصول مسرح روايته، الذى يماهينا به، منذ أول سطور ”الوصف المسرحى المنمذج”، ليمعن فى مخاتلة القارىء، ليكتسب أرضية المسرح الذى يسع الفنون، ومسروديات الحكاية البديعة، لنجوى وهدان، التى تمتاح البراءة، لتوقع بالناقد الكبير في شراكها، لا ليكتشف موهبتها فحسب، بل لتندغم في حلمه ويقظته، وتتلبّسه كشيطانة، ليراقب ذاته عبر”الصور والظلال”، الحلم والحقيقة، لتبدأ ديمومة “ما ورائيات السردالمتراكم”، الرامز، الإحالى للذات والمجتمع من جهة، ولفرادة اللغة السلسالة، والمنسابة كنهر أسيل ينبع من معين لغتى: المسرح والرواية معاَ، وتلك – لعمرى- لعبة لغوية هائلة، شاهقة، عبر هارمونى التراجيديا الإنسانية الزاعقة، حيث تسرد المسراوية تفاصيل مشهديات الأحداث، يقول يقرأ السكرتير للناقد أهم عناوين ومانشيتات الصحف والمجلات…الناقد مبتسماً، ومشيراَ بيده :
• لا جديد… كلام اليوم هو كلام الأمس.. ناظراَ الى تلال الخطابات المكدسة على المكتب:
• كل هذه الخطابات ؟!.
• السكرتير: عشر خطابات، يعرب فيها أصحابها عن إعجابهم بمقالك الذى كتبته الأسبوع الماضى، وعشرون خطاباَ تحمل كتباَ لشعراء وقصاصين وروائيين، معظمها من اصدارات نوادى الأدب.
• الناقد متنهداَ: لعنة الله على نوادى الأدب، انها هدر للمال العام.
• السكرتير:” ساحبا مظروفاَ ” أبيض كبيراَ: هذا الخطاب جاءت صاحبته، وانتظرتك ما يزيد عن الساعتين، وانصرفت لقضاء حوائجها، وستعود الخامسة مساءاَ.
• الناقد: وماذا تريد؟!.
• السكرتير: تريد أن تكتشف موهبتها !!.
• الناقد: كم عمرها ؟!.
• السكرتير: يتجاوز الأربعين.
• الناقد: أربعون عاماَ.. ولم تكتشف بعد ؟!.
• السكرتير: ماصّاَ شفتيه ”ولم ينبس“.
• الناقد وماذا تراها؟.
• السكرتير: امرأة نصف جميلة، نصف موهوبة، نصف مثقفة، نصف متعلمة، وثرية .
• الناقد: أثرية حقاَ ؟!.
• السكرتير: نعم ويبدو عليها القراء الفاحش.
الناقد: اذاً.. لا تقل نصف جميلة، ونصف موهوبة، ونصف مثقفة، ونصف متعلمة، بل قل: جميلة وموهوبة ومثقفة ومتعلمة. (الرواية: ص 6: 7 ).
انه الايهام بالسرد المسرحى، حيث تتشاكل الكتابة”عبر النوعيّة” التى تصنع دراما حركية تحرّك الأحداث، لكنها لا تنشدها لذاتها، بل تستكنه خلف الظلال، لتحيلنا إلى الجوهر/إلى مجتمع الناقد الكبير، الباعث الوهم في قلوب الحسناوات، الثريّات، الجميلات، لغرضٍ ما في نفس يعقوب، وهو ما يجسّده الكاتب، لينقل لنا صورة مجتمع الأدباء والنقاد في مصر- من وجهة نظره / نظر السارد، الراوى العليم، حيث تتوافد إليه الكاتبات من كل أنحاء الوطن العربى ليكتب عنهن، فَيُعرفن ويشتهرن،بعد أن يكون الناقد قد عبث في خصلات الإبداع الجسدى لديهنّ، ليظهر الجرائم الفاجعة التى ترتكب في حق الابداع والانسانية، كما تكشف الضمير اللا أخلاقى لمثل هؤلاء، وما أكثرهم!!.
لقد استطاع مجدى جعفر في هذه الرواية أن يُخَلّق”لغة ثالثة” للسرد،مستخدماَ تقنيتى: الدراما / الحوار(السينوغرافيا) لصنع مشهديات لزمن نجوى وهدان، والتي ستعطيه – في النهاية- درساَ لن ينساه، بل ستجرّده من ملابسه كذلك، لتكتشف عجزه الرجولىّ كذلك، لتبدأ مسيرة السرد الروائى: (الرواية النفسية / الذاتية ) رغم أنفه، ورغم ايهام القارىء بمسرحة الحوار، الا أنها مقصديّة جمالية قصد بها، وتغيّا تشاركية القارىء، عبر كسر الحاجز الوهمى الرابع لأسطورة:” نجوى وهدان “، على الرغم من الدراما التى تحاول نسبة المسرود الحكائى الى المسرح، فتتجاذبه مرونة السرد المتنامية، والتى تكشف عن روائى شاهق، بديع، محايث، ومخاتل، يُضمّن، ويوظّف: المسرح والرواية معاً، لصالح الأسطورة: “أسطورة زمن نجوى وهدان”،وقد يحيلنا الى واقعنا المصرى في مقولة: (زمن فيفى عبده)، ويفعل ذلك بمهارة عبر التماهى،كما يوظف الطب النفسى عبر التداعى والحكى، وقد ظهر ذلك فى جلسات العلاج النفسى، (الفضفضة الذاتية)، لاستدعاء ماضى الناقد/ماضيها / عجزها وعجزه معاَ، في صنع حياة قائمة على الفضيلة، لنكتشف عبر – التبئير/التنوير ”المسرو– أسطورى “- كمّ الضعف والعجز لدى الناقد، وهو يخلع ملابسه تماماَ ليضاجعها في القبر الذى صنعته بحديقة المنزل، والتي قالت العرّافة أنها لن يصيبها الحمل، الا بالمضاجعة في القبر، حيث تم اغتصاب عذريتها من قبل في هذا المكان، لذا تعيد عبر التماثل، الفلاش باك- صورة الماضى،فلربما أنعمت عليها السماء بالولد المنتظر!! ..
ان الرواية تفتح مجالاَ للمثيولوجيا، للأسطورة عبر مشهديات العلاج النفسى، الإفضاء، البوح، الاعتراف بأخطاء الماضى، التّطهرّ من الخطيئة – على حدّ المصطلح الكنائسى – للعودة الى الذاتعبر الانكشاف، حالة التنوير، الإعتراف، وهو ما يشى بإنكسارات الذات المأزومة، من جانبها وجانبه، ومن جانب المجتمع في عصر الستينات والسبعينات آنذاك، حيث العجز العربى وظهور النزعات الاشتراكية، والشيوعية، والناصرية، وحياة الضياع والتّخبّط والسجون وكبت الحريات، والتي شهدها المثقفون، والمجتمع المصرى آنذاك، حيث الطبقية، والطغمة الحاكمة، وظهورالرأسمالية، وحركات التحرر، والحلم بمجىء المخلّص، الفارس، الزعيم، والنزوع للحركات الإشتراكية، والوحدة، والقومية العربية، لتحقيق النهضة لغدٍ عربى مشرق.
ورغم الخطابية الزاعقة التى تستدعيها مسروديات المسراوية /الرواية، الا أن الكاتب قد اختار هذه اللغة التشاركية، ليشركنا في غواية السرد، واحالاته الرامزة. فهو يبدأ بالواقعى، ثم ينسحب الى المتخيل، فالأسطورى، فالسينمائى،ثم يحيلنا الى الذات، وأحوالها عبر مشهديات السرد، وحكاية كل منهما للآخرعبر تبادلية الأدوار وتماثلات الحركة عبر لعبة الزمكانية: حجرة الناقد/ حديقة قصرها/عن طريق تبادلية تمثيل دور الطبيب والمعالج النفسى، ومن خلال شخصيات الرواية / المسرحية: (هند، الست كوثر، البستانى) وكأنه يقدم واقعاً سحرياً درامياً عبر سرد روائى شاهق، واسقاطات ومعادلات ضمنية وفنية وموضوعية وذلك بالاندماج في الحدث المسرود من جهة الناقد الذى رأيناه – يحاول التطهر، عودة الوعى، عودة الروح – كما يقول توفيق الحكيم – للذات المصرية / للشعب / للمثقف تجاه السلطة الغاشمة، المتأرجحة، لذا لا غرو أن نشاهد الناقد يقوم باستدعاء شخصية البستانى القديم، الحلم الغائب، الفطرة للفلاح المصرى، ابن الريف الذى هجر القرية الى المدينة بحثاً عن الشهرة، واذا به يرتد للخلف، وكانه يشير الى الهزيمة وانكسار الذات المصرية بعد هزيمة 1967م والتي وسمت بعد ذلك بالنكبة كبداية لعودة الروح، وتحقق الانتصارات على الذات في عهد السادات، وانتصار الشعوب العربية التى آمنت بفكرة الوحدة والقومية والحلم العربى لعودة المارد العربى من جديد.ان الكاتب، هنا، يماهى بالسرد وثنائيته، ربما ليعبّرعن حال المثقف والمبدع العربى آنذاك، حيث القهر أمام الحرية، وحيث النصر بعد الهزيمة، وحيث القوة بعد الضعف والانكسارات .
وفى النهاية: انها رواية تنشد الحقيقة، في زمن نجوى وهدان، وتتوسل اللغة لتصل الى الذات والعالم عبر رحلة داخل الزمان والمكان لتصنع رمزية أسطورة، واقع معيش، سياسى واجتماعى، وواقعى، وسيميّائىّ كذلك. تنشد لغة المسرح، لغة الجماهير العربية، من المحيط الى الخليج، في الحلم بعصر جديد للحرية، ونهاية الاستعمار، ليتحقق اليقين، وتتطهر الذات الانسانية العربية من أوجاعها، وانكساراتها الزاعقة.
سيظل / مجدى جعفر يقدم الإدهاشى، والجمالى، الجديد، والمحايث، عبر الواقعية السحريّة، السيميائية الشاهقة، والمثيرة، والجميلة أيضاَ.