الرسم الأكاديمي إلى آفاق التدخل الرقمي
آسيا الكعلي
آسيا الكعليتمثل تقنيات التشكيل الرقمي وسيطا تقنيا وابداعيا ساهم في تغيير وإثراء المنظومة الفنية للممارسات الإبداعية الراهنة. حيث اختفت الأشكال التقليدية للفنون المرئية كالرسم الخطي والرسم الزيتي والنحت، حتى انكفأت الفنون التشكيلية التقليدية في المجال الفني، عن المعارض الكبرى والبينالات العربية، كي تصبح ذاكرة لحقبة منتهية صلاحيتها. في هذه التجربة الفنية الذاتية اخترت تقديم صور تراثية خاصة وهي مادة فنية عملت على إخراجها من قالبها الأكاديمي المتوارث إلى جانب مختلف من التجديد، ساعية إلى كيفية الحفاظ على خصوصية هذه المنتجات التراثية وإعادة توظيفها في سياقات أخرى جديدة تثمينا إنشائيا لما أنجزته وصممته في فترتين زمنيتين متباعدتين. فترتين تستدرجان الذاكرة وتبرهنان تطوّر خياراتي الجمالية وأساليبي التصويرية. يهدف هذا البحث إلى إظهار أنه من خلال إعادة تشكيل الرسومات، فإنّ الرسم يمثّل تجربة حيّة ويمكن أن يكون نموذجا آخر يسمى البحث الفني في الصورة التراث.توطئة
الصورة الفنية بمختلف أنواعها وأساليبها وتقنياتها هي ترجمة دقيقة لما هو مخزون داخل النفس والفكر من انفعالات وأحاسيس وأفكار ورؤى، وهي ذو رسالة موجهة من قبل الفنان إلى الجماهير. والفنان يعتبر رسالته استمرارا لما سبق من رسالات فيؤكدها أو يجددها أو يضيف إليها ليتماشى مع مسيرة الحداثة، ويعتبر مجال الفن التشكيلي مجالا خصبا لنشر هذه الرسالة، وذلك من خلال تناولها في علاقات تشكيلية جديدة، تعمل على إخراجها من قالبها التقليدي إلى جانب مختلف من التجديد. إنّ الممارسة التشكيلية سبيل للتواصل البصري بمرحلة أولى ثم الفكري، وهي حتما من الطرق الناجحة للنقد والتعبير. وقد اختلفت وتنوعت الوسائط الشكلية والتقنية التي وظفها الفنان المعاصر لتدخل نسق التشكيل لبعد ما بعد الحداثي. بحث الفنان عن تقنيات جديدة تتكفل بإيصال وتواصل الرسالة الفنية التي تصلح لتكون حقلا للتأمل والتفكير. وجد الفنان المعاصر في مجال تقنيات تركيب الصورة (Montage) تقنيات جديدة تساهم في كسر الأنساق الفنية السائدة وفتح آفاق جمالية مغايرة لعمل يصلح أن يكون عملا تشكيليا ينتمي بأسلوبه ومعاييره إلى دائرة الفن المفاهيمي، يقدم فيه الفكرة والمعنى على الشكل الظاهر. وبذلك أتاح دمج هذا الأسلوب الانفتاح على مجالات وفضاءات أوسع كفيلة بطرح رهانات ودلالات تشكيلية عميقة، للانخراط في مدار لغة تشكيلية مستيقظة المعاني والمضامين المضمرة فكرا وشكلا تهدف للتواصل مع المتلقي أو الآخر.وعلى ذكر هذا الأخير اخترت الحديث عن تجربتي الفنية التي قدمتها في معرضي التشكيلي “عود على بدء” وذلك من يوم 7جانفي إلى 15 جانفي 2022 في المركز الثقافي محمد معروف بسوسة. وقد أردت من خلالها تقديم رؤية معاصرة للصورة التراث وإيجاد لغة بصرية تعبيرية مبتكرة وصياغات تشكيلية جديدة تساهم في الحفاظ على هوية الصورة الأصلية والصورة المعالجة بالتقنية الرقمية. وهذا المعرض هو تكملة لما سبق من رسوم وتصاميم نجد فيه أشكالا وصياغات عديدة ومتنوعة للتمرئي. ومن هنا نفهم سر العود والمعاودة والتذكّر الذي يخترق جميع الأعمال لأنّه استدراج لذاكرة متجدّدة بين التكوين الأكاديمي والبحث عن الهوية التشكيلية المختلفة، تلك التي لا تنكر أصولها بقدر ما تؤسّس اختلافها. أردت من خلال هذه التجربة تسليط الضوء على إمكانية استحداث رسومي الأكاديمية وذلك عن طريق معالجتها في الحاسوب باستعمال برنامج الفوتوشوب، من ذلك إبراز دور هذه التقنية في الارتقاء بالجانب الابتكاري في العمل الفني. في خضم هذه التحركات القابعة في مدار البحث في التراث وإعادة البحث في تعبيرات متجدّدة للرسوم الأكاديمية فإننا نقرأ آليات البناء التشكيلي ومراوحته بين الثابت والمتحول، لبناء نسيج تشكيلي مفاهيمي معاصر للصورة التراث وللانخراط بها في مدار لغة تشكيلية جمالية معاصرة. فبم تتقوم آليات البناء الدلالي والجمالي للصورة المرسومة في هذه الممارسة الفنية؟ كيف السبيل للانتقال مما هو تراثي ( ونقصد بذلك التقاليد الفنية الأكاديمية المتوارثة لفن الرسم) إلى رؤية فنية معاصرة منفتحة على أشكال التعبير الفني المعاصر؟ كيف غيّرت تقنية الفوتومنتاج الرقمي شكل الصورة التراث في العملية التعبيرية المرئية وماهي رهاناتها؟ كيف يساهم الفنان في تمرير فكرة قيمة التراث الإبداعية؟ وإلى أي مدى يستوعب التراث آليات وميكانيزمات الثورة التقنية الرقمية؟ أي تطوّر وانفتاح لأشكال التعبير الفني الأكاديمي ضمن التحوّلات والتطوّرات التكنولوجية المعاصرة؟أهمية الرسم الخطي ووظيفته في الرسم الأكاديميعلاقة الرسم الخطي واللون بفن الرسم هي علاقة متغيّرة عبر التاريخ. والسؤال المطروح في هذا الموضوع : أيهما أهم في ممارسة فن الرسم؟ هل هو الرسم الخطي أم اللّون؟ ويمكن القول إنّ الرسم الخطي قد أعطي الأولوية المطلقة انطلاقا من القرن الخامس عشر، وهو ما يناسب عصر النهضة أي منذ ظهور الرسم المسندي. ويعود ذلك إلى “ليون باتيستا ألبارتي” (1404- 1472) الذي يمثل أبرز المنظرين للفن في تلك الفترة التاريخية إذ استعرض في مؤلفه المتعلّق بالرسم ثلاث مراحل متّصلة بتدريسه، وجب على كل تلميذ حذقها وتعلمها: تتعلق الأولى بمرحلة التكوين، وهي لا تعني في هذا المجال، كما نفهمها اليوم، ربط العلاقة بين عناصر اللوحة بهدف إيجاد الوحدة فيها، بل يقصد بالتكوين هنا اعتمادا على معناه الوارد في البلاغة سابقا، تطوير السرد والحكاية في صيغة أكثر منطقية وأكثر صدقا.. والمرحلة الثانية تهم تصميم اللوحة، ويقصد به الرسم الخطي. قكيّف “ليون باتيستا ألبارتي” علم هندسة إقليدس الإغريقي مع متطلّبات الرسم الخطي، مبرزا قوانين المنظورية وطرق استعمالها في هذا المجال. أما المرحلة الثالثة فهي تتعلق بالألوان التي اعتبرت إضافة نافعة تساعد الرسم الخطي، على إبراز حقيقة اللوحة. اعتمد تقسيم “ليون باتيستا ألبارتي” أساس نظريات الفن وركيزة تدريسه الأكاديمي طوال عصر النهضة والكلاسيكية والكلاسيكية الجديدة فقد أكّد “ليوناردو دافنشي (1452- 1519) أنّ “الرسم شيء ذهني” فالجمال يكمن في الطبيعة وعلى الرسام محاكاته ونقله بطريقة عقلانية، معتمدا في ذلك قواعد علمية في الهندسة والرياضيات كعلم المنظور ودراسة أشكال جسم الإنسان الخارجية وعلم النسب. وحيث أنّ استخدام كلّ هذه العلوم يتمّ أثناء تصميم اللوحة أي في الرسم الخطي فإنّ هذا الأخير يصبح المرحلة الحاسمة ، والأمر الذي جعل من عنصر اللون عاملا ثانويا قليل الأهمية. لقد تيقّن الرسام خلال الفترة الكلاسيكية والكلاسيكية الجديدة خصوصا، أنّ الجمال في الطبيعة ويجب أن ينسخها بطريقة مدقّقة ويحاكيها في شكل ثنائي الأبعاد. وأمام أهمّية الأشكال التي وجب أن تكون مطابقة للطبيعة، تتحدّد أهمية الرسم الخطي.وبالرجوع إلى كلمة “رسم خطي” كانت تفيد نفس المعنى لكلمة تصميم أي مشروع وبرنامج عمل، أي منجز عقلاني. ولم يتم الفصل بين هاتين الكلمتين إلاّ في القرن الثامن عشر. وفي هذا المضمار كتب “بول شانتيلو( 1609- 1694): ” رسم خطي حيث صوّر التصميم الذي أعدّه”. ولا شكّ إن كلّ مادة عقلانية مرتبطة بقوانين ضرورية مسبقة وقواعد متفق عليها. تحيلنا هذه العقلانية إلى فترة عصر النهضة الإيطالية حيث سعى الرسامون خلال هذه المرحلة إلى محاكاة الطبيعة باللجوء إلى ممارسة تصويرية وجدت جذورها في المجال الذّهني وفي العلوم. وقد أدى هذا التمشي إلى التفرقة بين ما هو فكري وما هو يدوي. الشيء الذي خلق قطيعة بين خاصيتين أساسيتين في الممارسة الفنية طيلة تلك الفترة من التاريخ: التصوّر الفكري والإنجاز. لذلك أجزم أنّ على الفنان تصميم عمله قبل إنجازه، مما يفضي إلى التصوّر المسبق لسياق العمل الإبداعي ولنتيجته. ويقول “أندري فيليبيان” “على الماهرين أن يعملوا انطلاقا من الذّهن، يعني تصور ما يريدون إنجازه مسبقا”تاريخيا مثّل الرسم الأكاديمي مدرسة فنية في الرسم والنحت برع بتأثير أكاديميات الفن الأوروبي والذي يتّبع معايير المدارس الرومانسية والكلاسيكية الجديدة. والرسم الخطي الأكاديمي هو نتاج ثورة تمرّد قادها الرومانسيون على المدرسة الكلاسيكية القديمة ولكنها قادتهم أنفسهم إلى إحياءها مجددا بعد أن أيقنوا أن المدرسة الكلاسيكية كانت مدرسة مهمة في الحفاظ على المعايير التكوينية والمبادئ البصرية وأهمها الأجسام والأبعاد. وتشتمل موضوعات الرسم الأكاديمي على الدراسات الحية المباشرة للموديل الحي والطبيعة الصامتة والتماثيل والبورتريه. يقول الرسام الإيطاليLE DOMINIQUIN “لي دومانيكين” “إنّ الرسم الخطي هو الذي يبرز الذات… اللون دون الرسم الخطي ليس له وجود”. ويرى “إيمانويل كانط ” أنّ الرسم الخطي هو الوحيد مركز اهتمام حكم التذوّق، أمّا اللون فليس إلا إغراء مضاف، طارئ ولا يتّصل إلا بالحس. ونفس الشيء بالنسبة “لدومينيك أنجرس” Dominique INGRES المنتمي إلى الكلاسيكية الجديدة إذ يقول “إنّ الرسم الخطي يمثّل، ثلثين ونصف من الإنجاز الكلي للوحة”. إنّ الجمال بالنسبة إلى “دومينيك أنجرس” يكمن في الطبيعة، ويجب أن ننسخها بطريقة مدققة ونحاكيها في شكل مثنى الأبعاد. وهذا الشكل له قوانينه الصارمة مثلما الكتابة لها نحوها. فأمام هذه الأهمية إزاء الأشكال التي وجب أن تكون مطابقة للطبيعة، فإنّ الرسم الخطي يصبح بالنسبة إلى “دومينيك أنجرس” العنصر الأهم في الممارسة التصويرية. فكان يعمل أثناء العمل على محافظة رسمه الخطي، فيملأ الخطوط المحيطة محاولا عدم تجاوزها. وهو نفس التمشي عند أستاذه “لوي دافيد” Louis DAVID والذي بيّنت لنا رسومه التي بقيت غير مكتملة، العناية الفائقة التي كان يوليها للرّسم قبل أن يمرّر ألوانه. إنّ الرسم الخطي يمثّل بالنسبة إلى “جاك لويس دافيد” أهمية بالغة. وحتى لا يفقد الشكل العام للوحة، كان لا يترك شيئا يفوته. وهو يقول: “عندما نتمكّن من الرسم الخطي، تمرير اللون لا يفقد شيئا من هذا الأخير”. أما “بوستان” فقد سبق أن أكّد قائلا في هذا الموضوع: “هكذا يجب أن يكون عليه الرّسم الخطي للأشياء للأشياء التي تعبّر عن فكرة نفس الأشياء”.إلاّ أنّ الفكرة المتأسّسة على عقلانية اختصت بها النّهضة وخصوصا الكلاسيكية، والتي أكّدت أنّ “الرسم الخطي يتكوّن من ثلاثة أرباع ونصف مما تتضمّنه اللّوحة،” بيّنت تراجعها وعجزها مع ظهور الرومانسية. فقد رفض “أوجين دولاكروا” بدوره Eugène Delacroix هذا الطابع العقلاني الذي يزيح البعد الرّوحي عن العمل الفني ليقبل بأهمّية مادية اللّوحة وبقدرة تعبيرية اللّون. وقد تأكّد هذا الاهتمام مع الانطباعيين وخصوصا “فانسانت فان غوخ” Vincent VAN GOGH إلى أن أصبح في القرن العشرين في مركز اهتمامات الفنانين الحداثيين أمثال “هنري ماتيس” Henri MATISSE و”فاسيلي كاندينسكي” Vassily KANDINSKY و”خوان ميرو” Juan MIRO وغيرهم.الفن المعاصر واختفاء الأشكال التقليدية للفنون المرئيةإنّه من الثابت أنّ ما وفّره العصر الحالي من نظريات وتكنولوجيات مستحدثة، قد فتح مجالات متعدّدة للفنان المعاصر مكّنته من مقاربات جديدة ومتنوّعة. فتوظيف الأغراض والأجساد كخامة، واستغلال الفضاء في التّنصيبات في أشكال سينوغرافية جديدة، وتصور العروض الأدائية والفرجويّة بالاعتماد على التّكنولوجيات الحديثة، والسّعي إلى تشريك الجمهور كعناصر فاعلة في هذه العروض، مثّلت لا محالة إضافات في تاريخ الفنون عامة. فهي التي نبعت من حاجة ماسة إلى الفنان ومن تفاعله مع وضعيته ضمن الإطار الاجتماعي والاقتصادي والحضاري الذي نشأ فيه. تساءل الأستاذ سامي بن عامر في معجم مصطلحات الفنون البصرية هل يعتبر الفن المعاصر فنا عالميا لطابعه اللاشخصي الذي يتجاوز كل الثقافات، مما يشرّع في شموليته وكونيته؟ وهل التكنولوجيات الحديثة التي أصبحت تغزو جل أرجاء العالم تفترض حتما نشر ثقافة آحادية عالمية؟ وهل يمكن القبول في هذه الحالة بمبدأ كونية الفن المعاصر وبشموليته؟ ألا يمثّل ذلك خطورة على تنوّع الفنون في العالم بتنوّع الثقافات؟ وهل يمكن لهذا الصنف الإسطيتيقي الذي قطع علاقته بالفن الحديث وولد في الغرب وتحديدا في الولايات المتحدة الأمريكية، أن يحتكر صفة المعاصرة باختلاف الأمكنة والثقافات المنتمي إليها؟ أليست المعاصرة تحديدا وبداية مفهوما تاريخيا وما هو معاصر هو الذي يتزامن مع الموضوع؟ أليس الفنّ المعاصر عموما وبالأساس هو الفنّ الذي ينجز اليوم نسبة لزمان المتكلّم الحي؟ ألا يمثّل ذلك إقصاء للفنّ في مفهومه الواسع كفضاء رحب للممكن؟ هل يستطيع هذا الصنف من الفنّ والذي التصق بالمفهومي والتكنولوجي أن يلغي كلّ الفنون ذات البعد الذّاتي والروحي واليدوي.إنّ ما يقدّم اليوم في المعارض الدولية وفي البينالات العربية، يكشف لنا هيمنة الفن المعاصر على الساحة الدولية، مقابل التراجع لأصناف الفنون التقليدية كالرسم والنحت التي أصبحت مقترنة بالفن الحديث. ونفس الشيء يحدث في مسرح الدراما والموسيقى وغيرها من القطاعات الفنية. يطرح مفهوم الفن المعاصر اليوم أكثر من سؤال وأصبح موضوع جدل كبير أمام ما عرفه من انتشار كبير خلال العشريتين الأخيرتين في الغرب وفي جلّ بلدان العالم. اعترض العديد على الفن المعاصر انطلاقا من وجهات نظر مختلفة، منها ما تكون نابعة من رؤية ماضوية مناهضة للتجديد، أو أخرى تعبّر عن رأي يرفض تحديد الفن ضمن رؤية أحادية تستمدّ جذورها من مصدر محدّد أو ترى أنّ الفنّ قد غرق في اللامعنى والتفاهة…ولعلّ أهمها ما كتبه جان بودريار( 1929- 2007 ) في المقال “مآمرة الفنّ” (1996) حيث أثار العديد القضايا التي ساهمت في إثراء هذا الجدل القائم حول الفن المعاصر وحول شرعيته وانتشاره وقد هاجم “بودريار” كل مظاهر العنف الذي تسببت فيه العولمة فقلّصت بذلك القيم والخصوصيات الذاتية.ولقد كتبت الناقدة اللبنانية عزيزة سلطان عن العلاقة التي أصبحت تربط بيانيلي الشارقة بالثقافة المعولمة حيث اختفت كل الأشكال التقليدية للفنون المرئية كالرسم والنحت فتقول :” ولئن كان البيانيلي السادس قد أعلن قطيعة مع جيل المحدثين العرب وتكريس الغزو الثقافي الأجنبي، غير أنّ البيانيل فتح المجال أمام ما يمكن تسميته بالشعريات التطبيقية: حالة من نزع الصفة السياسي عن الوعي وعودتها إليه أي فتح العولمة على مصراعيه تحت عنوان التطرّق إلى النّواحي الإنسانية الثقافية في تعارضها مع الممارسات الجمالية. كأن الفن بدأ الآن، حتى انكفأت الفنون التشكيلية التقليدية في العالم العربي (لوحة الحامل والمنحوتة)، عن المعارض الكبرى والبينالات العربية قبل الأجنبية، كي تصبح ذاكرة لحقبة منتهية صلاحيتها علما أنّ الأمر ليس كذلك في العالم الغربي، الذي مازال يحترم ماضيه ويحتفي بكباره ويبجل بيكاسو وسيزان وماتيس وسواهم”. وحول تبني المفهوم الخاطئ للفن المفاهيمي في تجارب الكثير من الفنانين العرب الذين اطمأنوا لسهولته الظاهرية، أضافت مهى عزيزة سلطان: “إلا أنّ ثمّة فهم خاطئ في التشكيل العربي الرّاهن للأسس التي قام عليها الفن المفاهيمي، على اعتبار أنه يقتصر على الفكرة بامتياز، كفن الحوار والمناقشة، فن المشاكل والأزمات، فن دون قوانين وتعليمات وتقنيات…فن يتنكّر للتقاليد الفنية الأكاديمية المتوارثة، ويحاول التحرّر من القيود الاجتماعية والثقافية والبصرية المتوارثة. لكأنّ المفاهيمية في تجارب بعض الناشئة ومحبي الصراعات هي مرادف للسهولة والغرابة. لذا تظهر الإنجازات الفنية الجديدة (في مجال التجهيز والفيديو والصورة الفوتوغرافية والوسائط المتعدّدة…)كما لو أنها تدور في حلقات البحث عن النفس من خلال توطين أفكار وتجارب عالمية مسبوقة أو استنباط تجلّيات لومضات إبداعية مشتّتة ( في أكثر من عاصمة عربية وأجنبية) ، وسط تاريخ ملعون ومجبول بأنباء المذابح والحروب والحصار والحواجز والعزلة والقرارات العربية المؤجلة، إضافة إلى اهتزاز صورة التعامل مع الفنان العربي إثر أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، التي كانت بمثابة زلزال أصاب الذاكرة والهوية في الصميم”. وكتب فاروق يوسف عن موضع الفنون الكلاسيكية فيقول “يمكننا الحديث بيسر عن قطيعة نسبية من الأنواع الفنية التي صارت تقليدية ( الرسم والنحت، بالأخص) ولكن لا يزال الوقت مبكّرا أيضا على الحديث عن أنواع فنية متماسكة جديدة. ماهو جاهز أمامنا ليست سوى تقنيات الفن الجاهز. فن التجهيز والإنشاء والتركيب. الفن المفاهيمي. فن الفيديو. فن الحدث. فن الأداء الجسدي. فن الأرض. كلّها تسميات استنبطت من التقنية المستعملة من أجل التعبير عن فكرة أو العمل من خلال تلك الفكرة على الوصول إلى يقين مشترك بالتحول. فلا يزال هناك في الممارسة الفنية الجديدة الشيء الكثير من الرسم. لا يزال هناك الشيء الكثير من النحت “.ذاكرة متجدّدة في تجربتي الفنية الذاتيةإنّ الاهتمام بكل ما يتعلّق بذاكرتنا أصبح مقلصا جدا إن لم يكن منعدما. والذاكرة في التجربة الفنية مغامرة بحثية وجمالية في سياق الابداع الفني، ووسيلة نقل عبر الأزمنة تحملنا إلى المخزون الذي عايشناه وحفظناه في ذاكرتنا، حلمناه وتمثلنا صوره في خيالنا. والباحث في مجال الفن التشكيلي يجب أن يستخدم قدرته في الممارسة الفنية، يجب على الباحث إظهار مهارة فنية بأي شكل يختاره من خلال البحث. ثم إن عملية البحث هي إعادة البحث عن العودة مرارا وتكرارا لإدراك الظواهر، والتدقيق في العالم، وبالتالي إعادة النظر في تجربته. وهذا يعني أن يشمل إعادة التفكير، وإعادة الفعل، والتساؤل وقد نعود إلى بداية التجربة الفنية. من الناحية المفاهيمية، قال جوزيف كوست (1971) أنّ “الفنان ليس مختلفا عن العالم الذي لا يوجد فيه تمييز بين العمل في المختبر وكتابة أطروحة، عليه الآن تنمية الآثار المفاهيمية لمقترحاته الفنية ويجادل في تفسيرها”. وبالتالي يمثل الرسم مجالا للبحث الفني وباعتباره رؤية هو مجالا للتحرك والتساؤل في الاستفسارات الفنية. يأتي الاستفسار عندما يدرك الباحث كفنان أنه لا يوجد تمثيل للنقاط أو الخطط، أو الظلال، أو الأنسجة الموجودة في الادراك المباشر، يرى الفنان الأشياء فقط، وفي نفس الوقت يبدأ في الاعتماد على تجربته الحية في تلك الأشياء يرى “فريديريك فرانك”( 1973) أنّ الرؤية هي طريقة للتأمل يتم بواسطتها صنع كل الأشياء جديدة، والتي من خلالها يتم اختيار العالم حديثا في كل لحظة…إنه عكس النظر إلى الأشياء من الخارج، وأخذها كأمر مسلم… فما لم أرسمه، لم أره حقا أبدا. والرسم هو القدرة على مزامنة الفكر والمشاعر وحركة الجسم والأدوات والمواد.في هذه التجربة اخترت الاشتغال على مخزون لا بأس به من الرسوم بآليات تشكيلية وتقنية رقمية وفق منهج جمالي معاصر، رسوم تعود بي إلى فترة دراستي بالمعهد العالي للفنون الجميلة بتونس، مارست هذه التقنية قبل دراستي الأكاديمية ثم صقلت موهبتي بعد دراستي في المعهد. لذلك سميتها ب”عود على بدء”، اخترت إعادة توظيف هذه الرسوم التراثية بإعادة رسم بعضها بتقنيات ومواد أخرى لتتحوّل إلى رؤى جمالية تسرد حكايات وذكريات، ذكريات دراستي بالمعهد وذكريات أنشطتي بورشة النحت لوالدي رحمه الله وذكريات حضوري في ورشات الرسم التحليلي لمختلف المستويات مع الأستاذ عمر بن محمود، محمد الفاضل غديرة، محمد بن مفتاح، الهادي لبان، خليفة شلتوت… وغيرهم من الأساتذة الذين تعلمت منهم الكثير. سميتها “رسوم تراث” لأنها تحققت صبغتها التراثية بالفعل زمنيا في زمن معيّن، انتسب إلى الماضي، ولهذا فهي تراث أي أنّها أثر، موروث تقنيات أردت إحضاره في تجربة فنية معاصرة. هي ذاكرة متجدّدة لا يمكن التعامل معها خارج مفهوم الزمن وتأثيراته المتحوّلة وهي ثمرة بحث متواصل، غير متناه تجمع بين الماضي والحاضر والمستقبل لتصبح صيرورة. وإن ثبتت أهمّية الذاكرة والعودة إلى الجذور، فإنّ الذاكرة وهذه العودة تتطلّبان منّا قدرة على الإبداع والتغيير والنقد والتفتّح عل المعرفة. إنّ العملية الإبداعية، هي بالأساس تمرين على التجاوز والحرية. “وإننا إذا رفضنا هذه الحرية فإننا بذلك نمنع خيالا إبداعيا نابعا من الطاقة الإبداعية الكامنة في الفنان. لذلك فإنّ الاعتراف بحرّية الفنان يفضي إلى إعطاء القيمة للذات البشرية وللقيم الإنسانية العميقة فيها”.انطلقت في تجربتي مع فن الرسم باستعمال القلم الفحمي، لخلق صفات تشكيلية وجمالية معينة بلغة بصرية ثنائية الأبعاد، ولتمثيل مواضيع كالمجسمات والمنحوتات النصفية والأجساد والطبيعة الصامتة بمختلف أشكالها، هذا المسار الذاكراتي المتحوّل من حقبة زمنية إلى أخرى انعكس في هذه التجربة التي عكست بدورها مرونة هذه التقنية وانفتاحها ومطاوعتها للتوجهات الجديدة في مجال الابداع الفني. وهي رسوم تنتقل بنا من مرحلة إلى أخرى ومن زمن إلى آخر، لتشكل رؤية أو قراءة في ذهن القارئ، بل تنتقل لتحيك رؤية فنية تترجم وتألّف ما بداخلنا من أفكار وذكريات، هي ليست رسوم صامتة، بل فيها روح مني، وأسلوب يترجم أفكاري وطريقة تناولي للمواضيع. فذاكرتي مع الرسوم، في تصفحها، وتأمّلها مؤانسة وحنين وعود واستمتاع، فالماضي عود وإمتاع ومؤانسة في الحاضر. حاضر لا يخلو من صور ذهنية مازالت ذاكرتي تعيش على وقعها. كل رسم هو حكاية لمرحلة ما قد مضت، إذ كل رسم هو محاولة للوصول والاكتشاف. وإعادة صياغتها رغبة في إحياء ما مضى، وتواصل وتجديد لذاتي ولذاكرتي، كل مرحلة لها أسلوبها ولها تقنيتها ولونها المعبر عنها. ومن هذا المنطلق فإن تقنية الرسم في تجربتي تتّخذ نمطا إيقاعيا متواصلا في ربط مرحلتين من ذاكرة رسومي، مرحلة عشتها في الماضي ومرحلة أعيش على وقع ماضيها في الحاضر، فبفضل تقنيتي الرسم و”الفوتومنتاج” تمكّنت من وصل مرحلتين من الرسم والتشكيل الرقمي. لعلي أقدر على ترجمة الشغف الكبير بهذه التقنية وجعلها تحيك وتترجم عمق احساساتي وحنيني لذكريات عشتها، ذاكرة فردية تجمع الماضي والحاضر عمدت تحويلها إلى ذاكرة جماعية عن طريق إعادة تشكيلها وعرضها في مقاربة فنية معاصرة، قوامها الصورة المرسومة والرقمية في تشكلاتها اللونية والضوئية . أبحث عن وجود حقيقي لماض عاملة وحاملة رغم كل شيء.. ليبقى الحلم في رسوم وأعمال غنية بالرؤيا وبالذكرى التي أثبتت الرسوم رموزا وعناصر وصياغات. تجربتي مع فن الرسم فعل تذكر والتقاف وهو كذلك تأسيس لعالم يطلب رؤيتي ورئاتي التي تأسست من خلال تراكم خبرات سنين تعلّم وتدريس بالمعاهد العليا للفنون والحرف والفنون الجميلة.تدرّجت في الانتقال بالرسوم من مرحلة التعلّم والممارسة والاكتشاف إلى مرحلة التجريب والتجديد والانفتاح، انفتاح يمنحني أحقية التجاوز في بناء العلاقة المختلفة بالأشياء و المواضيع ، “والتجاوز عملية إبداع ميزتها الفرادة والعتمة النابعة من ذاتية المبدع الذي تجاوز قيود التقليدية”. لذا بحثت عن عمق وعن معنى وعن رؤية في صياغة المشهد، لا على أسس المعرفة بالمرئي بل على خلفية تجاوز المرئي لاستدعاء التخيّلي مصدرا ومبتغى العملية الإبداعية. قد تترجم الرسوم رنينا، صدى متأججا من ذاتي بين الماضي والحاضر. وببساطة وبنظرة مفعمة بحب التجاوز والتجديد، وبتأمل وتمعن في تركيب الصورة، تولّدت عن هذه العمليات التأليفية مؤثّرات بصرية وتفاعلات جمالية مستحدثة، فتتنوّع الدلالات الرمزية للصور وتختلف انطباعات المتلقي باختلاف معاني ودلالات عناصر الصورة التشكيلية. قد تتولّد أعمال تعلن في تشكلاتها عن عوالم واقعية وأخرى خيالية ، أعمال أردت أن أكتشف روابط الأشياء والعناصر فيها باختيارات دقيقة ومباشرة : أشخاص، تماثيل، منحوتات نصفية، وفضاءات تينع من فضاءات أخرى كما لو الصور تتوالد من رحم بعضها. ومن لدن الولادة الجمالية وأفكار التحول الزمني بمفهوم العمل الثابت سعيت إلى إعادة تشكيل الرسم ضمن جماليات المشهد المتكرّر والمتعدّد والمتشابه والمختلف سعيا لتحقيق المتعة المشهدية والانسلال داخل الذائقة الجمالية.رسمت تمثال Jean-Baptiste Poquelin الشهير”موليير” (1622-1673) للنحات “جان أنطون هودون” الذي نحت العديد من التماثيل لشخصيات أدبية وفكرية من عصر الأنوار مثل “جان جاك روسو” و”فولتيير” في سنه المتأخرة. وقد أضفى النحات على أعماله بعدا نفسيا عميقا وقيما تشكيلية فريدة. كذلك من أعماله التي رسمتها تمثال “فولتير” و “بنيامين فرانكلين” Benjamin Franklin . كما رسمت تمثال “العبد المحتضر” ل”مايكل أنجلو” أكبر فناني عصر النهضة في إيطاليا، ومن خلال ملامح التمثال الجميلة يجنح الباحثون لتصويره على أنه تقديم للروح البشرية المقيّدة بالملذات الأرضية والمسجونة بالغلاف الجسدي. كما استمتعت برسم تمثال “أفروديت” باليونانية (Venus) إلهة الحب والجمال والاخصاب. حيث يتّسم جسم أفروديت بالرشاقة وتناسب المقاييس، أما ملامح الوجه فهي مثالية وخيالية من أي تعبير، حدقتا العينين محدّدتان والشعر مقسوم من الوسط بتموّج خفيف في خصلات كثيفة مجمّعة من الخلف. وكانت “أفروديت” من أكثر إلهات الإغريق ظهورا في الفن نظرا لكونها شخصية قريبة من القلوب، ونظرا لظهورها في العديد من الأساطير. إذ كانت ربة الجمال والتناسل والخصوبة. وقد بدأ تصوير “أفروديت” منذ العصر الأرخى واكتسب جمالا خلال العصر الكلاسيكي. في العصر الهلّينستي استحبّ الفنانون تصوير “أفروديت” عارية بأعداد كبيرة وباستخدام مواد مختلفة. فابتكروا أشكالا عدّة لأفروديت ارتبطت كلّها بفكرة الاستحمام. وقد ظلّ هذا النمط شائعا في العصر الروماني.اخترت للتركيبة صورا لمباني معمارية ومعالم أثرية: مثل قصر الجم، رباط سوسة، آثار دقة.. وزاوجتها مع رسوم خطية لأستخرج منها صورا فنية تشكيلية تتناغم فيها الأشكال البنائية مثلما تتداخل الخطوط والأشكال والألوان، فالمنجزين المعماري والتصويري يكوّنان مشهدا فنّيا إلى جانب احتوائهما على مضامين وغايات مادية وجمالية بالنسبة للمعمار، ونفسية روحية فكرية بالنسبة للرسم. وكلّ ذلك إنّما هو تعبير عن ملامح الحياة ومدى تطوّرها المادي والرّوحي. إنّ التراث المعماري يثير فينا انطباعات وأفكار معيّنة كالبهجة والهدوء والانبهار، وقد نشعر بالهيبة والجلال أمام ذلك الإبداع الباهر، لمنشآت وأشكالا مرئية نستمتع بتشكّلاتها البصرية. اخترت إظهار جماليات الرسوم في تشكلاتها مع الأماكن التراثية وخاصة اللامرئي والفانطاستيكي فيها. راغبة في أن يحمل فضاء الصورة لقاءا حميميا بين الصورة المرسومة والأثر المعماري. وقد حاولت أن أقتفي مظاهر رحلة هذه الرسوم بوصفها مجالا خصبا للتخيل والابتكار. فأدخلت عليها تغييرات ودمجتها بصور أخرى لإحداث صور هجينة. كما بحثت عن جماليات المضمون فيها من خلال الفكرة والتأويل .لقد كان للفنون التشكيلية بالمعمار علاقة وطيدة وغارقة في التاريخ. فالمعمار الإغريقي مثلا كان شديد الارتباط بفن النحت والرّسم. ونفس الشيء بالنسبة للمعمار الفرعوني. أما المعمار العربي الإسلامي فقد زخرت واجهاته بالنقوش المحفورة والمرسومة. وقد تميّزت في العصر الحديث عديد البحوث لمجموعة من هامة من الفنانين التشكيليين الذي زاوجوا في انتاجاتهم بين الفنون التشكيلية وفن المعمار. وقد كان لفن الرسم أثر كبير على المعمار في عديد المحطات التاريخية خلال القرن العشرين. ففي بداية هذا القرن قدّمت التكعيبية مقاربات اتّصلت بالفضاء المسطح والمتعلّق بتجاوز البعد الثالث مضيفا بعدا رابعا ناتجا عن التنقل المتعاقب للزاوية البصرية التي أفضت إلى تصوّر جديد في تمثيل المجسمات والتعامل مع الأشكال. وقد ساعد البناء الخطي والشّبكي ل”بيات موندريان” و”جان أرب” و”بول كلي” في تطوير معمار يعتمد على التفاعل بين الداخل والخارج. وأفضت البنائية إلى ظهور ما يسمى في فن المعمار بالجمالية الأوّلية التي أبرزت أسلوبا عالميا جديدا كان من رواده “مياس فان دير روه”، و”والترغروبيوس”و “لو كوربوزيه”. وقد تولّد عن الوعي بهذا التداخل والتكامل بين الفنون التشكيلية وفن المعمار، فكرة العمل الجماعي وتبادل الخبرات بين الفنان التشكيلي والمعماري، ممّا أفضى إلى ظهور كثير من مجموعات عمل، مكّنت من فتح آفاق جديدة ساهمت في تحقيق التوليف بين هذين الفنين. وقد كتب الدكتور زكي في مجلة الخيال مقالا بعنوان موسيقى العمارة يشرح فيه العلاقة الوطيدة التي تربط المعمار بالموسيقى والفنون التشكيلية بل وبالأدب والشعر أيضا. وقدّم جملة من المفردات الإسطيتيقية ذات العلاقة بكل هذه الفنون وهي: التعبير والاتزان والمقياس والانسجام والتّوفيق والتّباين والبساطة والهدوء والكثافة والصّخب والوقار والخفّة والرّقة والكآبة والحزن والفقر والاستقرار والعشوائية والتماثل واللاتماثل والوحدة والتغليب والتغيير والفلكلورية والشعبية والحداثة. ويكتب: “…انتهيت إلى أن الفنون تشكل عائلة ثقافية حضارية تمثل أرقى ممارسات الإنسان واهتماماته على الأرض، وأنّ لها لغة واحدة وإنّما يتحدّث بها أبناءها بلهجات وإن بدت مختلفة فإنّها تشترك معا في المفردات والمصطلحات والقواعد، وان اختلفت أساليب التعبير أو تباينت مجالات الاستغلال، وتؤكد العلاقة التاريخية هذا الترابط العضوي عبر العصور منذ الطرز القديمة حتى النظريات المقارنة بين العمارة والموسيقى والفنون التشكيلية جميعا”إنّ الأمثلة الشاهدة على علاقة العمارة بالفنون التشكيلية متعدّدة وهو ما يبيّن أنّ العمارة تمثّل مجالا ينتمي إلى الفنون أولا قبل أن يكون خاضعا إلى الفكر الهندسي. واللوحة الفنية هي شكل من أشكال النصوص البصرية، تنتظم معها سلسلة من الأشكال اللامتناهية وبمسميات وخصائص مختلفة منفصلة ومتصلة، وتاريخ الفن التشكيلي يقدم لنا سلسلة المسميات تتقاطع مع الفنون المختلفة كفنون العمارة والموسيقى والخطط والفراغ والمتواليات والمتتاليات والتضادات والتناغمات…ويكتب الدكتور نزار شقرون على مسألة التأويل في قراءتنا للصورة وبالتالي على تعدد معاني الصورة وفق تعدد القراءات وهو ما يطرح طابعها الرمزي وانتقالها من كونها صورة إلى العلامة “…تولد الصورة من طينة التأويل وتنفتح في مجال المشاهدة على العلاقة الجمالية التي يقيمها المتلقي مع ما يشاهد. ويجمع الباحثون على أنّ الصورة، بما هي توليف من العناصر تنتج معنى، وإن كانت اللغة قائمة على تحليل كلمات تحمل دلالتها، فإنّ الأشياء والوحدات المكوّنة للصورة تأخذ نسقها الدّلالي من ذاتها ومن سياق علاقاتها. فدلالة الصورة تتشبّه بالجملة وليس المفردة الواحدة، وترتبط الصورة بحقل رمزي يتحدّد وفق تنوّع المشاهدين، فانتقال الصورة من الشيء إلى العلامة يولّد المعنى المختلف لدى كلّ متقبّل، وغالبا ما يجعلها تجري في ركاب التأويل”دور التقنية في الإرتقاء بالجانب الإبتكاري للعمل الفنيهي إعادة نظر في ذاكرة فردية، “عود على بدء” : عود على صور تحكي قصص تآكلها عبر الزمن، قصص خبرة ومهارة متوارثة، هو تناغم بين الماضي والحاضر وهو حديث عن أركيولوجيا الذاكرة، حوارا لرسوم الماضي والحاضر ومواصلة لما مضى. هو تصوير لمفهوم الذاكرة في بعديها الحضاري والجمالي. قد تأدّي هذه الصور في آنية عرضها إلى تهجين أزمنة وأحداث داخل ذاكرة المشاهد وذلك عبر الانتقال الزمني من الماضي إلى الحاضر مع وعي جمالي وتخيّل سردي غير مسبق. ما يجعل كل رسم عبارة عن أقصوصة متفرّدة داخل مجموعة الصور. فما يربط الرسم بالأقصوصة هي تلك القدرة على خلق عوالم مرئية ولا مرئية. إلاّ أن كلّ منهما طريقتها، خاصة إن كانت الثانية تعمد إلى اللّغة والوصف، فالأولى تعمد إلى النظر والتأمل. فالرسوم تعمد إلى حكي ” أقصوصات تصويرية” عبر آليات الرسم الخطي والتأليف والتركيب. حملت الصورة تفاصيل ومقاييس “المودال” بأمانة صادقة واحتفظت بملامح الزّمن وبتركيب لحظي يمنح التفاصيل المبطنة رؤية مقروءة لتوضّح ما هو مخفي. في هذا العمل تؤكد الصورة التراث وجودها كما يؤكد فن الرسم الأكاديمي حضوره، كإبداع لأثر فني ولصورة فنية ولمفهوم معين يحمل جماليته التشكيلية والتقنية الخاصة. فالديناميكية المعاصرة للأثر الفني تشترط أساليب ومناهج تشكيلية لإثراء التواصل بين مختلف مراحل الإنجاز. لذلك اندمجت الأجهزة الالكترونية في ميدان الفن التشيلي، الذي شهد تحولا في اتجاه إعادة تأهيل العمل الفني، من خلال انتقال صور العالم الواقعي من الحيز البصري إلى مجالات الرقمنة. تنفتح الصورة التراث على مجالات مختلفة تتبلور حول الفن المعاصر وما له من أبعاد وقيم جمالية تحمل في طياتها التجديد والتنوع والتداخل في الأساليب والتقنيات، لتغدو التجربة في عصرنا الراهن كثورة على الأشكال التقليدية المتجذّرة في الرسم والنحت والحفريات، إلى الخروج عن المألوف، لتتحدّد في النهاية سياقات ومناهج فنية ومفهومية. يبحث الفنان من خلالها على تشكيل آليات ومناهج فنية تترجم عمق أفكاره وتلامس العصر وما شهده من تقدم في جميع المجالات ولا سيما المجال الفني.إنّ مفهوم السياق الإبداعي التشكيلي كما فرضته الحداثة والمعاصرة يتناقض أساسا وجوهريا مع مفهوم الفكرة المسبقة والنّظرية القبلية. فهو ينبني أساسا على اللاّمتوقع وعلى الاكتشاف، وهو متحرك دائم التحرّك متغيّر دائم التغيّر. وبقدر ما هنالك علاقات ممكنة بين العناصر المادية للعمل الفني، تتعدد الطرق والتقنيات. فتنوّع التقنيات والتجارب والبحث عنها من قبل الفنان ليس فقط إثراء للوسائل العملية، لكنها أيضا تعديد للمضامين التشكيلية الممكنة. فالتقنية تصبح مبدعة عندما نكفّ عن اعتبارها مجرّد وسيلة لتصبح عنصرا خلاقا في العمل الإبداعي. وبعبارة أوضح عندما يعمل الفنان على تجريب طرق جديدة لإيجاد علاقات مادّية في الإنتاج الفني هي مازالت مجهولة. وهذا ما بحث عنه الفنان الحديث والمعاصر. يقول رونيه باسرون (1920 – 2017 ) في هذا الغرض “ليس هنالك تقنية دون مشكل، التقنية في معناها التّام هي التقنية المفتوحة والمغامرة والمناضلة، هي تكتشف نفسها، هي مبدعة”يمثل فن الرسم خطابا وممارسة فنية، يتأثّر ويتغيّر الأسلوب حسب التطورات العلمية والتقنية الحديثة والمعاصرة، أيضا بالمتغيّرات الاجتماعية والفكرية. اتخذت تجربتي منحى تراثي في تحوّلها من واقعها الزمني “الماضي” إلى واقع زمني جديد أعيشه زمن التجديد والتغيير، ومتجدّد زمن تقبل المتلقي للعمل. فتقنية “الفوتومونتاج ” ساهمت في توليد أعمال جديدة في تجربتي التي أظنّها تجربة بمثابة البحث عن زمن متواصل لرسوم في غير مكانها وزمانها الأصلي . وفي هذه المرحلة عملت على التلاعب بالصورة الأصلية في ساحة برمجيات “الفوتوشوب” من خلال استنساخها من النسخة الأصل وتركيبها مع صورة جديدة، لتتعدّد وتتحوّل وتتشابه في برمجيات الفوتوشوب، فالمعالجة الرقمية بوصفها عنصرا من عناصر التشكيل الفني أدّت حضورا مهما في بناء الفكرة وأهمّيتها الوظيفية والجمالية. كما دققت في بعض سمات وخصائص الصورة بناء على اللون واهتممت بالمعالجة التشكيلية باستخلاص مكونات الصورة والتي تكون مفيدة في تمثيل وتوصيف شكل معين بالصورة. وتعدّ هذه العملية أول العمليات التي تصادفنا والتي يكون إخراجها هو خصائص أو سمات للصورة. كما تطرقت إلى تحديد التباين، بما هو من السمات المكمّلة لتشكيلية الصورة ولتوازنها. حيث دققت وحدّدت مقدار الاختلاف بين الإضاءات المختلفة لعناصر الصورة.عملت التكنولوجيا على إرساء الصورة الفوتومونتاج كعمل قائم الذات وإعطائه أبعادا لم تكن له في السابق. و”الفوتومونتاج الرقمي” أو مفهوم السلسلة في ظل الممارسة الفنية الحديثة أو كما يسميها “فورست” بممارسة الفن الحالي، الذي يحيلنا إلى تجارب يصعب قراءتها عند ذي بدء بما أننا إذا اعتمدنا الآليات الكلاسيكية في القراءة، وهذا من شأنه أن يطوّر المفاهيم إلى مفاهيم جديدة فيها ما يتضمّن التقنية على أنّها العنصر الرئيسي في الفعل. إنّ من بين الممارسات كذلك ما هو قابل للتحيين بلغة العصر والمعاصرة لكنّ العمل داخل السلسلة عادة ما يتأطّر تحت راية الممكن المتجدّد أو التنويعات ضمن الذات ) (Variations dans le même فتكون المواكبة منصهرة مع التحوّل الطبيعي للعقل البشري في كل ما يحمله من رؤى وفي كل ما يتحمله خيال الفنان من انصياع للتطوّر العلمي ومن استجابة لمنطق التحوّل الوظيفي للأداة التي يستهلكها أو التي يعتمدها في ترجمة الخيال إلى لغة بصرية.أثّرت المتغيّرات التكنولوجية والتقنية في المجال الفني وهذا التأثير له من الأهمية في تجديد الصورة الفنية وفي إبراز دور الوسائط الرقمية في الإرتقاء بالجانب الإبتكاري للصورة الفنية. فضلا عن الهدف في اطلاع وتحفيز الباحثين والفنانين للكشف عن إمكاناتهم ومواهبهم الإبداعية باستعمال التقنيات والوسائط الرقمية المتمثلة في الحاسوب وبرامج الرسم والمعالجة التصويرية. أدخلت برمجيات الحاسوب معايير جديدة للتقييم الفني والجمالي للعمل التشكيلي، منها اتساع رقعة التداول وتطوّر ميكانيزمات التلقي المتفاعل مع العمل، فضلا عن نظم العرض والإخراج نحو الكوني والعوالم الافتراضية، وبالتالي انعكس ذلك على محتوى الأعمال نحو تفعيل الفكرة في المنجز الفني وآليات التلقي المعاصرة. والمتأمل في الممارسات الفنية المعاصرة يلمح أنّ الخطاب التشكيلي قد مر بعدة مراحل ومحطات جديدة جعلته يتلون ويتغير في اتجاه البحث عن أساليب وصياغات تشكيلية معاصرة لم يقع التطرق إليها من قبل، مما يعني أنّ الفعل التشكيلي أصبح بإمكانه أن ينفتح على كل المرجعيات والموضوعات والعلوم، وبالتالي ينبثق من رحم الوسائط التكنولوجية الحديثة والبرمجيات الرقمية التي ما لبثت أن سجلت حضورها بكثافة في عصرنا الحالي. وبهذا يتأسس الخطاب الفني المعاصر من الفنان على فكرة تجاوز وحدة الاختصاص التي تؤدي بدورها إلى فكرة نفي الحدود بين مختلف الفنون، مما يعني ذوبان الفوارق وانتفاء الحدود بين مختلف الأشكال والتقنيات، وبالتالي ارساء علاقة جديدة تحاول أن تكون مطروحة بأثر فاعلية وبروز أكثر على الساحة الفنية بين المتلقي والعمل الفني.قائمة المراجع:Paul féart CHANTELOU, Journal de voyage du chevalier, Bernin en France, publié par L .Lalane , Paris 1885, p 75, Réed G.CHAVENSOL, Paris, Stock, 1930.
André FELIBIEN, Mémoire pour servir à l’histoire des maisons royales Paris 1681, p/ 80
Nicolas POUSSIN, Lettre et propos sur l’art, présentation par SirA. Blunt , Paris, Hermann.
René Xerbraken, Louis David jugé par ses contemporains et par la postérité, Léonce Laget, Paris 1973, p.143.
Nicolas POUSSIN, Lettres et propos sur l’art, présentation par Sir A. Blunt, Paris, Hermann, 1964, Coll .Miroir de l’art, p.171.
René PASSERON, La peinture et les fonctions de l’apparence, Paris Panthéon Sorbonne, p.,10.– مهى عزيزة سلطان، “الفن العربي المعاصر”، التشكيل العربي المعاصر، أسئلة الإبداع والتجريب، اتحاد الفنانين التشكيليين بجنوب المغرب، أشغال ندوة تداولية، 2016 ، ص 43- 44.
– فاتح علاق، مفهوم الشعر عند الشعراء الرواد، منشورات اتحاد كتاب العرب، دمشق2005 .
– فاروق يوسف، قوة الفن، عمان، دار العرب للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2016.
– بن عامر سامي، معجم مصطلحات الفنون البصرية، دار المقدمة، الطبعة الأولى 2021 .
– د. زكي حواس، “موسيقى العمارة” الخيال، السنة الخامسة، العدد الواحد والعشرون، جويلية 2015.
– نزار شقرون، معاداة الصورة في المنظورين الشرقي والغربي، صفاقس- تونس، دار محمد الحامي، الطبعة الأولى، 2009.
– د. زكي حواس، “موسيقى العمارة” الخيال، السنة الخامسة، العدد الواحد والعشرون، جويلية 2015.
تونس