- كريم رسن: صياد الذكريات الشقية..
الأقل وخبرة الألم
هل تشقى الذكريات مثلنا؟ ما صار كريم رسن (رسام عراقي مقيم في كندا) يعثر عليه الآن مفتتا هو شظايا المرآة التي كانت وقائع يومياته قد رقدت في أعماقها زمنا طويلا.
ولأننا نرى في لوحاته أقل مما كان الرسام قد رآه في أحلامه، فسيكون ما نعرفه عن خبرة الألم الشخصي أقل أيضا. ولكنه الأقل الذي ينفع. الأقل الذي سيكون في إمكانه أن يزودنا بخيرة الألم.
سيسلينا أن نلتقط المعاني المجازية ونحول الأشياء التي تظهر على سطوح لوحات هذا الرسام إلى رموز موحية ونرسم خطوطا وهمية تصل بين الشيء وظله. بين الصورة وبين ما ترمز له. لكن الرسم لن يعدنا بشيء من هذا القبيل.
هناك كدح ومكابدة من أجل العثور على الشيء المفقود. وهو الشيء الذي لن يتمكن الرسام من القبض عليه في حياة لم تعد تشبه نفسها. حياة غادرت مثل صانعها إلى المنفى.
ولع البدايات
كان كريم رسن (1960) في بداياته مولعا في التقاط وحدات شكلية قادمة من حضارات مندثرة لينتهي من خلال مزجها برؤاه البصرية إلى ابتكار تكوين شكلي متماسك جديد. كان الرسام يضم تلك الوحدات القادمة من عالم سحري بعيد وملغز، بعضها إلى البعض الآخر ليدفع بذلك الخليط إلى مركز متخيل، سيكون هو ذاته مركز اللوحة. كانت خبرته الحياتية يومها لا تتخطى حدود دائرة مغلقة، تعيد إنتاج مصادرها التعبيرية من خلال أشكال، لا يمنع اختلافها من تلاقيها، وإن جرى ذلك التلاقي من أجل خدمة استرخاء بصري مطلوب. كان سحر تلك الوحدات الشكلي عنصر اطمئنان بالنسبة لرسام كان يحلم في الوقوف خارج منطقة، يتداول فيها الرسامون العراقيون وحدات شكلية محلية محدودة العدد، في ظل استهلاك ملفق لمفهوم الهوية.
كان رسن حريصا على أن يحصر هويته في ما يفعله شخصياً، في ما يجعله يقف وحيدا، لا في ما يجمعه بالآخرين.
وإذا ما كان كريم رسن قد انهمك في التجريد الغنائي زمنا طويلا، مأسورا بوقع علاقات لا شكلية كانت تنتج عن تخلي عناصر الرسم عن تشددها التقني في الظهور واضحة على سطح اللوحة، فانه يعود اليوم إلى سيرته الأولى، لكن بطريقة مختلفة تماما.
يكتب يومياته رسما
إن ما يجمعه اليوم من مفردات يومياته في غربته الكندية لا يعينه على التأليف المتماسك الذي من شأنه أن يقودنا بصريا إلى المركز. مركز ذاته أو مركز اللوحة على حد سواء.
صارت اللوحة فضاء لتشظي معانٍ صعبة، معانٍ لا يقود بعضها إلى البعض الآخر أو يمهد الطريق لظهوره. هناك عناء مرهف تنطوي عليه محاولة اماطة اللثام عن سيرة المفردة وهي تقيم فضاءها الخاص. صار الرسام يلاحق صورا، هي في حقيقتها تجليات لشعوره الشخصي بالضياع. وهو شعور غامض، صورته ستكون ملتبسة، لذلك لا يمكن التعبير عنه بسلاسة من خلال الرسم. حينها تكون الحاجة إلى شيء من الأدب بالمعنى التعبيري ضرورية، غير أن رساما نافرا من الوصف من نوع كريم رسن لا يمكنه أن يكون تعبيريا.
خفيفا مثل غريب
سيقول لك «اقيم حيثما تقع كوابيسي. سأمر خفيفا على الرسم مثل غريب» إنه يرى في لوحاته ما لا نراه. وهو حدث طبيعي، غير أن غربته في صنيع يديه لا تُخفى. هناك شيء منه يبدو شاردا، حيرته تجعل السرد متقطعا. ما لم يرسمه يظل هو الشيء المفقود. وهو الشيء الذي لم يُرسم بعد. وقد لا يُرسم، بسبب قدرته على أن يغير هويته كلما شعر أن الرسام صار في طريقه إلى القبض عليه.
سيلاحقنا سؤال الرسام مثل ذنب»أين تقع الحياة الحقة؟» مشى كريم رسن آلاف الكيلومترات، غير أنه لم يعثر إلا على معنى حياته مفتتا في مفردات هي أشبه بالإيقاعات التي لا تقوى على الوصول إلى لحظة كمالها. ألا يرغب رسن في أن يقول شيئا، يكون في إمكانه أن ينقذنا من اليأس؟ ولكنني أفكر فيه كائنا يقف عند هاوية اليأس، بعد أن صار الرسم بالنسبة لرسن حلا وجوديا بدلا من أن يكون نزهة جمالية. كم كان مريحا ليديه أن تطمئنا إلى جمال يقع باعتباره أسلوب حياة.
ولكن رساما من نوعه لن يلجأ إلى الحلول المريحة.
اليوم يرسم كريم مضطرا من أجل أن يطرد الوحوش من رأسه. تلك الكائنات الملهمة التي قادته إلى منطقة الخطر التي صار بعدها كل شيء قابلا للفناء، حتى الرسم الذي صار نوعا من الصدام بالعالم الخارجي، لما ينطوي عليه من إحساس باللوعة.
سيتخلى المشهد الذي يرسمه عن الفتنة التي تمهد للتسويات مع الواقع. هناك مساحة للشك صارت تتسع في استمرار بين الرسام وأشكاله في كل لحظة نظر. فلم تعد هناك مفردات جاهزة للاستعمال، مكتفية بأناقة وعدها الجمالي لكي يمد الرسام إليها يده ويلتقطها ليضعها على سطح لوحته.
مرآة لحكاية ناقصة
في مواجهة عالم هذياني، صار الرسام يتنقل بين مقتنياته الوحشية، بحثا عن صورته الضائعة في مرآة الزمن المفقود. ما من صورة ليتأملها، وما من حكاية ليسردها. دائما هناك صورة مثلومة. دائما هناك حكاية ناقصة. وما بينهما هناك سيرة جمال تائه، يسعى الرسام إلى أن يملأ ثغرات وقائعها بما يراه مناسبا من عناصر الرسم التي صارت هي الأخرى مشدودة إلى خيالها الناقص، بتأثير مباشر من شعور عميق بالحسرة لم يعف تلك العناصر من شكوكه.
هل صار كريم رسن رسام عالم يحن إلى ما نُسي منه؟
كل لوحة من هذا الرسام هي كتاب فوضى. وصية من أجل المضي في الهدم.
صار كريم رسن في غربته أشبه بالقناص. إنه يجلس في زاوية قصية من حياته ليصطاد فريسته، التي سيكتشف في ما بعد أنها لم تكن سوى جزء من إرثه الشخصي. في رسوم كريم رسن يمتزج الحلم بالواقع، بطريقة تسمح للخيال والواقع في أن يتأملا معا خسائرهما. أليس من حق الذكريات في مثل هذه الحالة أن تشقى هي الأخرى وهي التي تسعى إلى اعادة تركيب الواقع خياليا؟
غير أن مَن يرى رسوم رسن في غربته لا بد أن يشقى بطريقة الرسام المثالية في تفكيك الالم. هناك انفعال يصرخ بوجعه في كل سينتيمتر من سطح اللوحة، لا من أجل تجسيد ذلك الالم، أو على الاقل من أجل التماهي مع تجلياته، بل من أجل القبول به باعتباره واقعا نهائيا. الصرح الذي انتهينا إليه باعبتاره زقورة سومريينا الحالمين بوطن يقع في اللحظة التي لم تنته من جنتهم. صار الرسام يستخرج من ذاكرته مفردات شكلية، لم يكن يعرف أنها كانت موجودة هناك، قبل أن يرسمها.
هل يجازف الرسام هنا بصفته، كائنا خياليا يحرص على أن يفر من الواقع لكي لا يكون مضطرا إلى وصفه مدرسيا؟ في حالة كريم رسن الراهنة فان الواقع هو الآخر سيكون متخيلا. صار كل شيء من حوله يسيل، حتى صار الرسام نفسه يشك في صلابة المادة التي يتكون منها جسده. كما لو أنه صار يتماهى مع بيت الشاعر الجاهلي «ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر».
رسام الحدود المفتوحة
لقد مضى الزمن الذي كان فيه كريم رسن مسيطرا على وحداته الشكلية، باعتباره الرسام القادر على التأليف التصويري في أية لحظة. لقد تغير العالم فصار على الرسام أن يغير عاداته. وهو ما استجاب إليه رسن بصدق الرسام الحريص على موهبته. ولكن هل صار عليه أن يثق بالوهم الذي صار يقف بينه وبين الحياة الحقة؟
لنقل مجازا أن رساما مولعا بالأساطير من نوع كريم رسن لم يجد فرقا في أن يرسم ما يراه وما يتخيله. لقد انمحت الحدود بين الواقع والخيال منذ اللحظة التي شعر فيها الرسام أن رموزا قادمة من حضارتي الازتيك والمايا كانت قادرة على أن تضع بين أصابعه سحر الابدية التي ستكون جزءا من حياته اليومية. ولكن أن تصنع لوحة شيء وأن تكون جزءا منها شيء آخر. وهو الامتحان المصيري الذي صار رسن يواجهه أثناء غربته في كل لحظة رسم. لقد تخلى مضطرا عن دور منظم الإيقاع الموسيقي ليكون جزءا من الموسيقى الوحشية التي تدوزن ايقاعاتها خارج ما هو متوقع.
يومياته هي جمل موسيقية متقطعة، يسقط بعضها على الأرض فيكون مرئيا، ويحلق البعض الآخر ممتزجا بالغيم الذي يهرب به فلا يراه أحد. شيء من الحزن يظل مقيما في قعر العين التي لا ترى إلا ما تتمكن من الاحتفال به بصريا.
معادلة تقف بإجلال أمام الصمت الذي يفصل بين مفردة وأخرى من مفردات الرسم. وهو صمت سيجد الرسام لذة لا نهائية في المشي بين محطاته. محاولة رخية في النظر المتأني إلى فراغ قد تنقذنا معجزاته من شعور عميق بالخواء، صار يحيط بنا من كل الجهات. بسبب ذلك الفراغ لن يضطر الرسام إلى وصف غربته أدبيا، بالمعنى التعبيري أيضا. إنه يهبها صورتها، مثلما هي ومثلما صار يتخيلها، وهي تقع فاصلة بين نهارين، لا يتصل أحدهما بالآخر.
أكان على الرسام أن يهب لقاه البصرية الكثير من الشعر، لكي يتأكد من أنه كان موجودا لحظة النظر؟
شبيهه في الرسم
لن يكون الرسم معنيا بالتاريخ. لا التاريخ العام ولا التاريخ الشخصي. إنه يصنع تاريخه الخاص. قدرته في التجول بين المعاني التي يستخرجها من العدم. ومن أجل ذلك يفعل الرسام ما يراه ضروريا لاكتمال صورته الشخصية، باعتباره واهب حياة، يرتجلها الخيال في غفلة من الواقع.
يمكن لكريم رسن أن يقول «إنني أرسم ما أعيشه الآن، في هذه اللحظة العصيبة من حياتي» ولكنه في الحقيقة يرسم في الوقت نفسه ما يتخيله. ولا يريد لخياله أن يخذله مثلما خذله الواقع. يسعى إلى أن يعثر على شبيهه في الرسم. ذلك الآخر الذي توزع بين الصور والروائح والأفكار والرؤى والأمتار التي مُشيت بقدمين حالمتين.
يرسم كريم رسن قرينه كما لو أنه آخر.
هناك في كل لوحة رواية يرويها رجل أعمى لرجل أصم. يبدو اليأس مطبقا. يضعنا كريم رسن مشاهدين في موضع المساءلة الايجابية. سيكون علينا أن نحكم ببراءة. وهو واجب نسبي، ذلك لأن الرسام الذي انتهى من عمله لن يلتفت إلينا إلا بإشفاق. هناك ما يحيره. ما يصدمه من وقائع حياته التي يعيشها باعتباره الآخر الذي كلف برعاية حياة شخص لم يتعرف عليه من قبل. الآخر الذي صار يخترع ممرات تعينه على الهروب من حياة، صار الرسام بمثابة حارس لها.
وليمته المدهشة
«هذه هي وليمتي» يقول لنا كريم رسن وهو يضع بين أيدينا أجراسا تقرع ما أن نهم بسؤاله عن ماضي أيامه الآتية. سيكون علينا أن نقبل بتناقض التفاصيل. ولن ننتظر جوابا منسجما من رجل تعذبه الاسئلة. لم يعد الرسام معنيا بالانسجام، الذي كان يستخرجه في سالف أيامه من طريقة غنائية في النظر.
تقنيا تستجيب رسوم كريم رسن لمبدأ التشظي الوجودي الذي يشكل العمود الفقري لحياة الرسام في غربته. فما يُرسم بالهام قلق سيقع على سطح زلق، هو الأكثر تجسيدا لبيئة هذيانية. هي البيئة التي يكون فيها الكلام عن كائنات عاكفة على غربتها ممكنا. وإذا ما تلك الكائنات قد يأست من إمكانية أن تقيم صلحا مع العالم، فان السطح الذي صارت ينزلق من تحتها صار وسيلة لانفصالها عن كل حياة سابقة.
يعين رسن كائناته على التصريح بلا انتمائها حين يحيطها بلا مكان تصويري.
في هذه الحالة لن يكون هناك معنى محدد للحياة الحقة.
سيكون علينا في استمرار أن نتحدث عن حياة يقترحها الرسم في لحظة هلع.
ألا يعني هذا أننا صرنا نفكر في النجاة أكثر مما نفكر في ما يجعلنا في منأى عنها؟
يرسم كريم رسن في لحظة ارتجال. يذهب لي الرسم بالطريقة نفسها التي يباشر فيها نهاره في الغربة. ليست هناك مواد جاهزة. فكرته عن عالم كان يهدمه ليعيد بناءه لم تعد تتحكم بيديه. صار على يديه أن تضعا خيالهما في خدمة ما لا يمكن إعادة بنائه ثانية. لن يكون هناك نص قابلا للتنصيص عليه. بالمعنى الذي يذهب إلى محو كل أثر من حياة سابقة.
لم يبق إلا فتات
رسوم كريم رسن تقاوم الهدم ولكنها لا تنكره. هناك جمال يستأنف لعبته الماكرة في كل لحظة رسم. يعيد الرسام تنظيف عيوننا من الغبار لكي نرى المشهد نظيفا. لكي نقع في اليأس من غير أن نفقد ثقتنا بقوة الأمل. يروي الرسام وقائع حياة معيشة، كما لو أنها جزء من حياة متخيلة، أضفى عليها الرسم شيئا من مقارباته الواقعية.
يمسك كريم رسن بقرني معادلته لكي يضع الرسم على الميزان: شيء منه يفتننا وشيء آخر منه يصدمنا.
هذا رسام بلاد لم يبق منها سوى الفتات.
ستكون دفاتره مفتوحة دائما. ليس من أجل خيال الرسم، بل لان الواقع الذي يعيشه الرسام صار نوعا من الخيال التجريبي. لن يكون الرسام في مواجهة ذلك الواقع مضطرا إلى إعادة تركيب رؤاه القديمة. يقف الرسام هنا على الخط الفاصل بين حياة كانت قد نُسفت وحياة لا تحضر إلا متشظية، حياة يمكنها أن تمس ولكنها لا تُمس. هي أشبه بالقدر الذي صار الرسام يلعب بأجزائه من غير أن يكون قادرا على محو جزء من تلك الأجزاء.
بهذا يكون كريم رسن قد فتح دفتر الرسم ليكتب يومياته التي هي في الوقت نفسه يوميات الرسم. يبدأ الرسام يومه من لحظة، يكون فيها الرسم غافلا عن عناصره في الوقت الذي يبدأ الرسم فيه من لحظة يكون فيها الرسام حائرا في مواجهة خيال يده. لن يكون السؤال «ما الذي سيٌرسم؟» ولكن «كيف سيُرسم ذلك الشيء الذي لم يره أحد من قبل؟»
ما أنجزه كريم رسن في غربته يؤكد أنه كائن حياة.
رغبته في أن يعيش في الرسم لم تكن استعارة مجازية.
يعيدنا الرسام إلى خبرة العين بطريقة مضادة. في كل التفاصيل التي تظهر على سطوح لوحاته هناك ما يمكن أن يُحيلنا إلى ما لن نتمكن من رؤيته بيسر. هاك خيط سري يصل بين ما نراه وبين ما كان الرسام قد عاشه منفعلا بتأثيره الحياتي المباشر.
وليمة كريم رسن ستكون مفتوحة على ما نراه وما نتوقع أن الرسام وحده كان قد رآه.
سيكون صعبا في حالة من هذا النوع أن يُرى الرسام في ما فعله.
ما لم يفعله يظل مصدر حيرة.
هذا رسام يفرش دفاتر غربته أمامنا، مؤمنا أن الجمال هو الحل.
فاروق يوسف
ناقد وشاعر من العراق يقيم في السويد