- تشكيل جيل الستينات في الفن العراقي الحديث: جيل الريادة الثانية
حين نتكلم عن «جيل الستينات» في الفن العراقي الحديث إنما نتكلم عن منجز فنيّ ضخم تمثّل في بُعدين رئيسين: فأولاً، كان هناك التنوّع ضمن رؤية تجديدية انطبعت بخصائص عصرها من نواحيه الفنية والفكرية والاجتماعية ـ الثقافية التي ستجعل له ـ وهذا هو البعد الثاني ـ حضوراً مقترناً بالتوتر في واقع تاريخي تجذّر وعي الفنان، وعموم المبدعين، فيه برغبة الخلق ودافع التجاوز.
ولو عدنا بهذا الجيل الى الأساس التكويني له، والذي ارتبط / وأصدر عن الأسس التي وضعها من اتفقت التسمية على دعوتهم بـ«الفنانين الرواد» الذين سيكون الاحتكاك بهم عميقاً ومباشراً من خلال المؤسستين الرائدتين في تاريخ العراق الفني: معهد الفنون الجميلة (بتأسيس قسمي الرسم والنحت فيه عام 1936)، وأكاديمية الفنون الجميلة (1962)‘ فضلاً عن «الجماعات الفنية» التي أسسوها، والتي ستتخذ كل منها خطاً واضح المعالم والتوجهات في الحياة الفنية العراقية بما كان لفنانيها من زخم ابداعي كبير، ومميز.
غير أن «الجماعة» التي ستكون أعمق أثراً وتأثيراً في الواقع الفني، سواء بفكرها أم بالمنجز الفني لأعضائها، هي «جماعة بغداد للفن الحديث» (1951). فيوم أصدرت بيانها الذي تزامن مع معرضها الثاني، كان لها أن أكدت فيه على اهمية «استلهام الجو العراقي» من قبل فنانيها في ما قدموا، يومها، من أعمال، عادّةً ذلك طريقاً لتنمية أساليبهم الفنية، ومشددةً على التذكير بأن فنانيها «يريدون تصوير حياة الناس في شكل جديد يُحدده ادراكهم وملاحظتهم لحياة هذا البلد الذي ازدهرت فيه حضارات عديدة، واندثرت، ثم ازدهرت من جديد». ولفت «البيان» الى أن فناني «الجماعة»، وهم يواصلون عملهم هذا، «لا يغفلون عن ارتباطهم الفكري والأسلوبي بالتطور الفني السائد في العالم، ولكنهم، في الوقت نفسه، يبغون خلق أشكال تُضفي على الفن العراقي طابعاً خاصاً وشخصية متميزة»، فكان ذلك بمثابة التأسيس لرؤية جديدة في الفن العراقي تقوم على الجمع بين معطيين: المعطى التراثي (الذي ركزت على اصوله الرافدينية)، والفن الحديث في العالم بما قدمت تجاربه الجديدة من منظور فني متميز، إن في مستوى الشكل أو الأسلوب.
وكما بدا، فإن الترددات الأساسية لصوت ذلك «البيان» ظلت تهيئ للفنان العراقي، جيلاً بعد جيل، سبل الاتجاه الصحيح للخلق الفني الذي سيندفع عند كل جيل، إن لم يكن عند كل فنان، بقيم فنية متجددة، وآخذة بروح التواصل مع قيم أرست اللبنات الأولى لها التجارب التي تحققت على أيدي من عُرفوا بـ«جيل الرواد»، والتي حقق الفنان العراقي بها/ ومن خلالها، منذ أوائل خمسينات القرن العشرين، «منزلة بارزة في مضمار لا يسهل البروز فيه» (جبرا: جذور الفن العراقي ـ ص8)، لتكون لهذا الفن انطلاقته الثانية في ستينات القرن ذاته، و«في اتجاهات جديدة لا حصر لها»، فبرزت علاقات جديدة بين الفنان وعمله الفني، وبين العمل الفني بما اجتمع له من رؤى وأساليب ستشكل اضافة حقيقية ومتمكنة تبلورت فيها اتجاهات، وتكرست اساليب لم تكن معروفة من قبل، جعلت هذا الفن على صلة أعمق بتراثه من جانب، وبحركة الفن الحديث في العالم وتجاربه الحية، من جانب آخر.
من هنا عُدَّتْ ولادة «جيل الستينات» في الفن العراقي الحديث ولادة لقوة دينامية جديدة في هذا الفن حاول غير فنان (أو «جماعة») ايجاد نظريتهم التجديدية في العمل الفني، مرتكزين الى دعامتين أساسيتين، تمثلت الأولى في منجز «جيل الرواد» بما عرف في اطار عمل فناني الجماعات الثلاث (الرواد، جماعة بغداد، الانطباعيين) التي تشكلت بين عام 1950 وعام 1952، بتعدد اتجاهات فنانيها التي توزعت بين التعبيرية، والانطباعية، والتحسس العميق لفاعلية ما هو تاريخي. واما الثانية ففي حركات التجديد في العالم التي سيلامس غير فنان من فناني جيل الستينات انجازاتها من قرب ـ تماماً كما كان الأمر مع «جيل الرواد» (الذي جمع فناني الجماعات الثلاث) بالنسبة لتيارات الفن التي عرفها العالم على مرحلتهم ـ وذلك من خلال الدراسة في معاهد وكليات توزعت بين دول الشرق الأوربي وغربه، لتجمع في الفن، رؤية واتجاهات وتوجهات فنية، بين «الواقعية» بحفرياتها المباشرة، والاتجاهات الحديثة التي تخطت كل ما كان للفن من أطروحات عُدَّتْ قديمة، وارساء دعائم جديدة للفن والعمل الفني، متخذة من «الحداثة»، بما لها من مفهومات، وبما اتخذت من توجهات (اهمها الخروج على الشكل السائد في العمل الفني،، وتحرير استخدامات اللون، وتحديد الطبيعة الكيانية للوحة). فإذا كان الرواد، مجتمعين في «الجماعات الثلاث»، قد صبَّوا عملهم في اتجاهات محددة، ومتبلورة الطابع فنياً، جامعين بين فن «أقرب الى البدائية في وضع الخطوط والألوان» (جماعة الرواد ـ1950ـ التي التفّت حول الفنان فائق حسن الذي سيطبع جانباً من فن مرحلته بـ«تقنيته البارعة، وادراكه» أسرار «الرسم والألوان والقماشة»، فكان لتوزع أعماله، أو جمعها، بين التعبيرية والتجريد أن أكد «قلق الرسام المتمكن من صنعته ورؤيته» (جبرا: الفن المعاصر في العراق ـ حركة الرسم ـ ص8)، فإن هذا القلق هو ما سيرثه عنه «جيل الستينات»، وطلاّبه بوجه خاص).. والتوجّه الى «تصوير واقع الناس بشكل جديد»، فضلاً على «خلق أشكال تُضفي على الفن طابعاً خاصاً وشخصية مميزة» (جماعة بغداد للفن الحديث ـ 1951ـ وقد التفّت حول جواد سليم الذي كان يرى «أن كل انتاج فني مهم، جيد، في أي زمان ومكان، هو مرآة ينعكس فيها الواقع الذي يعيش فيه [الفنان]. أما كيف يتحسس هذا الانتاج إن كان… انسانياً حقاً، وكيف يكون صادقاً وقوياً ومعبراً، فإن هذا يتعلق بحرية الفنان في التعبير عما يحيطه، وهي حرية فكرية واقتصادية في آن واحد.»). ومن طرف آخر جاءت الدعوة الى العمل على ايجاد فن «مستقى من الطبيعة والهواء الطلق» (جماعة الانطباعيين ـ 1952ـ التي التفّت حول الفنان حافظ الدروبي الذي سيرمي من خلال تأسيس هذه «الجماعة» الى اشاعة نزعته، التي يحددها شاكر حسن «في ارساء العمل الفني على أسس تقنية واضحة»، ويعيّنها هو بالعودة الى «الواقع المحلي، والطابع القومي» وذلك «من اجل ايجاد فن يتمثل الواقع، ويتأثر [به]، ويؤثر فيه»).. فإن ما سيتبلور من هذه الاتجاهات / التوجهات في اعمال طلبتهم، الذين أخذوا أنفسهم باهتمامات أساتذتهم بالتعرّف الى مدارس الفن الحديثة، والوعي بنظرياتها، وما اوجدت من تقنيات واساليب، فراحوا يمارسون التعبير عن تجاربهم من خلال رؤية جديدة، واعتماد أساليب ستشكل، بتبلورها، اضافة فعلية لحركة هذا الفن، ومن زاويتين: تاريخية، من حيث التطور.. وفنية، في ما يتصل بتعدد الأساليب الفنية التي أبعدت فناني هذا الجيل عن التشابه والتماثل في ما قدّموا من أعمال ميّزت بعضهم عن البعض الآخر.
ومع أن الجماعات الفنية الثلاث هذه قد حافظت على كيانيتها مدة طويلة (امتدت الى الستينات، وربما عبرتها ـ في تأكيد حضورها الفني، في الأقل)، فإن «الجماعات» التي ستتشكل في الستينات ومطلع السبعينات لم تُعمّر طويلاً، إذ أصبح ما يمكن أن ندعوه بـ«الاستقلال الشخصي» للفنان هو الأقوى.. كما ان تطلع الفنان الستيني الى أن يكون على غراره الخاص: رؤية فنية، وموقفاً في الفن ومن المجتمع، واسلوباً في التعبير عن ذلك كله، هو ما جعله ينظر الى أن مروره عبر «تشكيلات جماعية التكوين» هو اقل من «موهبته الفردية»، وأضحى اليقين عند البعض أن الفنان هو من يخلق نفسه، وليس لـ«الجماعة» التي ينتمي إليها أن تفعل ذلك، بخلاف اعتقاد «جيل الرواد».
ومع ما يُلاحظ على فناني هذا الجيل أن البعض منهم، وإن كان قد تبنى اتجاهات أقرب الى ما كان قد شاع، حينها، في الفن الأوربي من اتجاهات وتوجهات حداثية، «فإن ثمة روحاً من التراث (ظلت) لصيقة بهم، لا يستطيعون، ولا يريدون، أن ينفضوها» عن أنفسهم ـ كما يلاحظ جبرا ابراهيم جبرا في كتابه «جذور الفن العراقي»:12 ـ وكأن ما أكد عليه فنان رائد مثل جواد سليم من أن روح الحداثة الحقيقية إنما تسري الى عمل الفنان من خلال «هويته التاريخية» قد تجوهر عندهم في المنحى الذي اتخذوه، والذي وجده بعض النقاد يُضفي صفة التميز على عمل الفنان.
وإذا كنا نجد ناقداً، وفناناً، مثل جبرا ابراهيم جبرا يذهب مؤكداً أن الفنانين العراقيين «الذين يتمتع الكثير منهم باطلاع واسع على تاريخ الفنون لدى الأمم الأخرى، حاولوا منذ البداية ايجاد رؤية فنية يتسنى لهم أن يسموها عراقية، أو عربية»، فإن هذا هو ما عقد الصلة بينهم وبين التراث الفني لحضاراتهم القديمة (البابلية، والسومرية، والآشورية)، والعربية الاسلامية التي استمدوا منها من الأساليب ما حقق لدى البعض منهم تزاوجاً فريداً بين التراث والحداثة.
ولو عدنا الى ما تحدث فيه غير فنان من فناني هذا الجيل لوجدناه يؤكد هذا البعد الجديد في الفن بوصفه «قوّة ابداعية» لها شأنها في التأثير على انسان عصرهم، وفي بناء واقعه، وهو ما عمّق مسارهم الخلاق.. وهم في هذا إنما كانوا مندفعين بقوة فكرة تقول بضرورة وضع فنهم في تيار الفن السائد في العالم، وغير معزول عن تياراته. ويمكن ان نتبين اهمية ذلك بالعودة الى ما شهدته حقبة الستينات تلك من تحولات كبرى في عمليات البناء الفكري والفني والثقافي، فضلاً عن التحولات السياسية.. والتي سيحرص غير فنان من فناني هذه الحقبة أن ينتظم في تياراتها، أو، في الأقل، غير منعزل عن تأثيراتها الايجابية.
إن جيل الستينات هذا، سواء في الرسم أم في فنون الكتابة (وأبرزها الشعر والقصة القصيرة، ومن بعدهما الرواية) كان جيلاً ولد من رحم لحظة هزيمة تاريخية. وإذا كانت الهزيمة هذه قد بدأت من انكسارات شهدها الانتماء السياسي (ما بين 1959و1963)، فإنها ستعرف ذروتها في حرب حزيران 1967ـ وهي «الحرب ـ الهزيمة» التي ستُنهي الكثير مما تبقى من «مقولات تقليدية» في الفكر والسياسة والثقافة.. وسيتراجع واقع «الوحدة العربية» ومفهومها في ما كان له من معانٍ وأبعاد كبيرة.. كما ستتراجع مقولات «الصراع الطبقي»، وسيعد ما يفرزه هذا الواقع في عداد «الفكر القديم» لـ»جيل قديم» نظر البعض إليه كونه يقف خارج اطار عصر هذا الجيل الجديد باهتماماته وهمومه الابداعية.
بتعبير آخر: إن جيل الستينات هذا كان أن تخلّق في واقع كانت صورة الوجود الحياتي والثقافي والفكري أخذت تكتسب معانيها وأبعادها الجديدة التي ستكون، في غير بُعد ومنحى لها، أقرب الى أفكار «اليسار الجديد»، وتعييناً في ما يتصل برؤيته العالم، وأسلوب البحث عن حضور يشكل له دوراً فيه.
وما يمكن أن يُلاحظ هنا: إن هذا الجيل سيعمل على بناء ثقافة طويلة المدى ـ بمعنى البعد الذي امتدت به زماناً منذ النصف الأول من ستينات القرن العشرين الى اليوم ـ أي إننا هنا إنما نحتفي بثقافة ورؤى ثقافية عمرها نصف قرن. والسؤال هنا هو: ماذا أنتجت؟ وماذا قدمت؟
يمكن لمن عاش هذا التمدد الابداعي والامتداد التاريخي، وعايشهما أن يقول بمزيد الثقة والتأكيد: إن الثقافة، بما فيها الفنون والآداب، هي التي صنعت المشهد الحقيقي للواقع الثقافي، بدءاً من ذلك التاريخ، وإن عديد المثقفين، فنانين وشعراء وأدباء، الذين شكلوا «علامات المرحلة»، قد صنعوا «قواعد انتاجهم» الدالة على الشخصية، شخصيتهم، التي أرادوها متميزة.. وبنتاجهم الذي جاء متميزاً، هو الآخر، بـ«انتصاراته الابداعية» في عصر مهزوم سياسياً وإيديولوجياً.
ولكن، هل يعني ما نشير إليه إن ثقافة الستينات، بابداعها الفني والأدبي، قامت على أنقاض الهزيمة (التي مثلت واقع المرحلة)؟ فإن كان، فماذا أخذت من عالم الهزيمة هذا؟ وعلى أي نحو جاءت استجابتها له؟
إن أهم ما يمكن الاشارة إليه هنا هو إن حركة الرسم لجيل الستينات لم تأخذ نفسها بالمنطلقات التي أخذ شعراء الجيل نفسه، جيل الستينات، أنفسهم بها، منطلقين من «الاحتجاج» على تجربة «الرواد»، داعين، وعاملين على ايجاد «بديل شعري» قدّم هذا الجيل من نفسه ممثلاً له.. في حين عمد الرسامون الى ما يمكن تعيينه في خطوات ثلاث جاءت متتابعة: التكوين على أساس التجربة التي ولدوا من رحمها، واكتسبوا حرفياتها عن أساتذتهم، ثم التطوير من خلال محاولة استيعاب ما يجري على ساحة العالم الفنية من تطورات.. لتكون، من بعد هذا وذاك، عملية التأسيس لأنفسهم، اتجاهات ورؤى وأساليب.. بما شكل إضافة فعلية الى تجربة الخمسينات وامتداداتها. ولعل هذا هو ما جنّبهم مغبة ما يمكن أن نُطلق عليه تسمية «معارك في الفراغ» خاضها الشعراء الستينيون، استنزفت الكثير من جهودهم التي كان يمكن توجيهها في اتجاه أكثر فاعلية وأعمق نتائج.
وعلى هذا يمكن تمييز ثلاث حركات فنية في جيل الستينات، توازت في معطياتها، كلٌّ منها في الاتجاه الذي اتخذت، ومن خلال الأساليب التي ترسمها فنانوها:
فقد خلق التطور الثقافي والفكري والاجتماعي في عراق الستينات واقعاً فنياً وثقافياً وفكرياً جديداً، سادت كل مجال من مجالاته هذه مفهومات، وأخذت بفلسفات، وتبنت، أو اتخذت، مواقف جديدة. وكما خلق هذا الواقع وعياً جديداً فإنه أوجد رؤية جديدة عند فنان الستينات امتازت بمفرداتها الجديدة، وبأساليب التعبير عنها، تداخلت مع/ واستعارت، بهذه الدرجة أو تلك، من تجارب الفن في العالم، وخصوصاً الحديثة منها، والقريبة من تجربة هذا الجيل وما انطبعت به حساسيته الفنية. ولعل هذا هو ما جعل «الجماعات» في هذا الجيل تتعدد تسمية (وقد زاد عددها على العشرة)، بينما سيشهد العام 1970 وحده ( بوصفه تواصلاً مع/ وامتداداً للستينات) ظهور ثماني جماعات فنية، وإن لم تكن جميعها قد جاءت باتجاهات تمكنها من أن تميّز نفسها بأحد مستويين: الفكر الفني، والعمل الفني.. بل إن من بين الفنانين والنقاد من وجد أن هذه الكثرة العددية لم تكن أكثر من «مناسبة عابرة لاشباع رغبات بعض الرسامين لحب الظهور…» وإن كانت، من زاوية اخرى للنظر، تمثل «دلالة على ازدياد حجم الانتاج الفني نفسه، واشتداد ساعد الحركة الفنية جميعاً، كما أن له دلالته على مسايرة روح العصر، وزيادة الزخم الفني الى درجة لم يعد [فيها] المضمون الفني الجماعي ليوازي التطور الشكلي.» (شاكر حسن آل سعيد: البيانات الفنية في العراق ـ ص11)
ومع أن فناناً ناقداً مثل شاكر حسن قد وجد، في بدايات السبعينات، وهو يتابع الحركة الفنية لهذا الجيل بقراءاته النقدية، أن دور هذه «الجماعات الفنية» كان دوراً ثانوياً، فإنه وجد «الاهتمام بالتقنية لذاتها» قفز «الى مركز الصدارة.»(نفسه ـ ص12)
وإذا كان التركيز النقدي سينصب على جماعتين من بين هذه «الجماعات» التي تجاوزت العشرين عدداً، وهما: «جماعة المجددين» (1965) التي ضمت رسامين كان من بينهم: علي طالب،، وصالح الجميعي، وسالم الدباغ، وفائق حسين… و«جماعة الرؤية الجديدة» (1969)، فإن ذلك جاء بمنطلق تأكيد فناني هاتين الجماعتين على الاهتمام بالتقنية في العمل الفني، والتأكيد على ضرورة تجديدها. فقد أكدت «جماعة الرؤية الجديدة» هذه على «الحرية الفنية غير المشروطة بموقف اسلوبي موحد، أو بالخطوط العامة لرؤية فنية جماعية كأساس لها في التوصل الى طبيعة التقنية الفنية».. ورأى فنانوها أن «الفن ممارسة موقف إزاء العالم، عملية تجاوز مستمرة واكتشاف لداخل الانسان من خلال التغيير»، عادّين «الرؤية الفنية» لهذا الفنان، وفي هذا الفن، هي في أن يبني العالم من جديد، ومحددين تكوين هذه الرؤية ببحث الفنان عن «هوية حضارية»، داعين الى «تمزيق التراث»، لا من باب رفضه، وإنما لايجاده من جديد. وفي هذا رأوا أن عليهم تحديه لتحقيق تجاوزه.. واضعين أنفسهم موضع المطالَب بالتغيير والتجاوز والابداع.. ممجدين، في الوقت نفسه، دور «الفنانين الرواد»، الذي رفضوا فيه الوصاية.. أما مفهومهم للثورة فقد حددوه في النظر الى «الثورة كونها تمثل تجاوزاً «للقيم السلبية، وبلورة لروح المستقبل»، بمعنى كونها «صانعة الانسان الجديد». وقد وقّع بيانها هذا الفنانون: ضياء العزاوي، واسماعيل فتاح، ورافع الناصري، وصالح الجميعي، ومحمد مهرالدين، وهاشم سمرجي…
فضياء العزاوي، الذي سينتقل بعمله الفني الذي استأثرت بداياته بالرموز والاشارات الاسلامية والتي جعلها ـ بحسب ما يرى جبرا ابراهيم جبرا ـ «منطلقاً لخياله»، الى استخدام «الحروف العربية ابداعياً، ولكن بشكلانية أشد من شكلانية شاكر حسن آل سعيد، وفيما بعد لنتيجة مغايرة تماماً»، إذ جعل منها «تحديثاً لطريقة كان الخطاطون ورسامو المنمنمات العرب يستخدمونها في القرون الوسطى». (جذور:26) وسينتقل من «الكلمة» المعرّشة بتكويناتها الحروفية الى «النص» الذي سيتداخل بـ«الهاماته» مع أسلوب التعبير عنه، والطريقة المتخذة في تنفيذه، والتي اضحت لوحته، بفعلها، «تكويناً نصياً» مستلهماً برؤية فنية ـ تشكيلية، وبحسّ حداثي جعل للحرف، والكلمة بعدهما في جمالية التشكيل الفني للوحته.
وسيقع فنان مثل رافع الناصري، هو الآخر، تحت تأثير «سحر الحرف العربي (…) ولئن يكن معظم رسمه تجريدياً، فإنه جعل يستخدم عبارات كاملة، ذات طابع ديني في الأغلب، لرسومه»، باحثاً من بعد ذلك عن القيم الشكلانية للحروف الفردية في تنويعاته التشكيلية الجديدة» التي ستتطور لاحقاً… (جبرا: جذور الفن العراقي:41) في وقت سيحدد فيه هاشم سمرجي عمله الفني بما هو «بَصَريُّ بحت».
الى جانب هذين الاتجاهين سيكون هناك فريق ثالث يمكن وضع عمله في سياقات «الواقعية التعبيرية» التي منها ما انعطف نحو «الواقعية الاشتراكية» نظرية في الفن (كما في حال الفنان ماهود أحمد، وزملاء آخرين له سيطلقون على أنفسهم العام 1973 «جماعة الواقعية الحديثة»، مؤكدين ذهابهم في عملهم الفني «الى الروح العامة في المجتمع»، ومشددين على أن الواقعية «مادة ابداعية… في حالة حركة دائمية»…) فمن هذا الفريق من وجد في «بغداديات» جواد سليم، وشاكر حسن عناصر يمكن تحريك فاعليتها الموضوعية بروح جديدة، وبرؤية أخرى (كما جاءت في أعمال الفنان ستار لقمان الذي نستطيع أن نعدّه، في المنحى الذي اتخذ، الوريث الشرعي لاستاذه فائق حسن، وقد جمع في أعماله بين التعبيرية والانطباعية بكل ما لهما من خصائص، مركزاً، كما أستاذه، على «الموضوعات البصرية» التي استأثرت «البغداديات» بالجانب الأكبر، والأهم، فيها، سواء بنقوشها، أم بطرزها الفنية، أم بتشكيلاتها المعمارية (من شبابيك، وأبواب، وشناشيل)، كما بطقوس الحياة فيها. وكذلك الفنان حسن عبد علوان ـ الذي سيجد في عوالم ألف ليلة وليلة البغدادية ما يُحرّك عمله الفني في اتجاهات تعبيرية أقرب ما تكون الى «أسطرة الواقع»..)، تحدوهم فكرة تجديد السمات والخصائص التي من شأنها المساعدة في ايجاد فن عراقي ـ عربي الطابع، بضرب من التواصل مع الرؤية الفنية التي أرسى دعائمها، الفنية والموضوعية، الفنان جواد سليم الذي عمد الى إعادة صياغة الحياة العراقية، والبغدادية منها تخصيصاً، مركزاً جهده على ابراز الشكل والمعنى في مستوى العمل الفني الواحد… ليُدخلوا في أعمالهم، حذوهم حذو المعلم جواد، أشكالاً ورموزاً دالة، وبنبض انساني عميق يتمثل، أكثر ما يتمثل، بالايمان بالحياة بوصفها قيمة انسانية عالية، وبكل ما يتحدر منها من رموز حية، فضلاً عن تأثيرات الزمان والمكان، أو لنقل «المكان الزماني»، كما في أعمال خضير الشكرجي الذي كان أن استقى أشكاله مما تمتلئ به حياة المدينة وواقعها، واحتواؤها ضمن مدارات مغامرته الفنية التي كانت لها خصوصيتها. فقد ظلت لوحته، طوال حياته مع عمله الفني، تُركّز على شيء من التوازن «بين التجريد الجمالي والمضمون العاطفي» (جذور:54)، منصبّة في تشكيلات لونية جاءت براعته الفنية واضحة فيها.
وإذا كانت الذاكرة قد برزت على نحو واضح في عمل فنان من فناني هذا الجيل الستيني فإنها ستبرز في عمل الفنان عامر العبيدي الذي يبدو، في أعماله، وكأن «الذي يُحرّك خياله هو التاريخ العربي. فالعديد من رموزه وأشكاله مستقاة منه». (جذور:64) فقد اختزل هذا التاريخ في مشهد «الخيول» التي اتخذها رمزاً يعبر به/ ومن خلاله عن طموح جامح يسكنه، أو يسكن رؤيته الانسانية. وقد ركز رؤيته الفنية في هذا الرمز المحمّل بتاريخية العلاقة مع وجود الانسان العربي.. فقدّم أعمالاً لها من الحضور والمغزى ما ميّز به فنّه ونفسه فناناً له توجهاته وأسلوبه.
غير أنهم، جماعات وأفراداً، راحوا يبلورون وعيهم الفني، ورؤيتهم الجديدة من خلال حركية التواصل مع عملهم. ففي الوقت الذي نجد فيه فناناً مثل ضياء العزاوي يتحول بعمله الفني من (الصورة المتحفية) «التي بنى عليها أعماله الأولى، مستلهماً من الفن القديم، السومري والاسلامي، أشكاله، جاعلاً منها زخارف وتهاويل تجريدية حديثة… واصلاً إياها بقرائن معاصرة» (جبرا: نفسه ـ ص18، 19)، سينتقل بعد ذلك بلوحته الى التركيز على الأثر البَصَريّ.. فـ«هناك دائماً ما يعود إليه ويكتشفه» بما يجعل منه، كما يضيف جبرا في رؤيته هذه لفنه، «مكتشفاً، موسعاً مدارك الانسان الى ما لا نهاية» (ينابيع الرؤيا ـ ص176).. نجد فناناً مثل رافع الناصري يحرص على أن يجعل من عمله الجرافيكي عملاً يتوازى وهذه الروح الجديدة في أكثر من بُعد ومغزى، منتقلا بالعمل الفني من «طابعه التشبيهي» الى الرؤية الفنية الجديدة الجامعة بين «التجريد» المندمج الملامح بحيوية الاحساس وعمق الاستجابة للون، وكأنه، كما بدا في كثير من اعماله في الستينات والسبعينات، يتواصل مع الشمس في ما لها من اشعة اللهب، وانحدارات ألوان أشعتها هذه وهي تلامس رمال الصحراء ساعة الغروب، بكل ما تصنعه حركة الرمال من أشكال متغيرة الملامح والأشكال…
وليس الناصري وحده الذي يقف على خط التجريد هذا، وإنما هناك فنانون آخرون، من مجايليه، قد نحوا هذا المنحى، مع احتفاظ كل منهم بخصائص عمله الدال على شخصيته الفنية (مثل: علي طالب، وسالم الدباغ، وهاشم سمرجي)، وقد ساهموا جميعاً في إحداث انعطافة مهمة في الفن العراقي الحديث.. في وقت سيتخذ فيه فنان مثل محمد مهرالدين اتجاهاً مغايراً لاتجاهات زملائه، في الرؤية كما في الأسلوب. فأعماله جاءت مأخوذة بموضوع كبير هو: الانسان. وصورة هذا الانسان، كما بدت في تمظهراتها، ليست واحدة عنده، وإن جمعتها «حالة الحصار».. ذلك أن انسانه محاصر بالحياة وصراعاتها، بل وبمأزقه الوجودي فيها، وهو مأزق من يبحث عن حرية أوسع أفقاً، وأرحب مجالات.. فضلاً عن كونه الفنان الأكبر صلة بالحداثة بين فناني جيله، وقد تمثها في أشكال وصيغ فنية راحت ألوانه تتداعى منها (بديل أن تتداعى إليها). وإذا كان له أن يصف نفسه، في وقت مبكّر نسبياً من عمله الفني، بأنه «غريب هذا العالم»، فإن لنا أن نعيد ذلك الى علاقة التوتر الحاد التي يرتبط بها مع العالم، والى الموقف الذي يتداخل ورؤيته ازاء هذا العالم.
بالمقابل، وعلى النقيض من مثل هذا التوجه، نجد الفنان راكان دبدوب يُقدّم أعمالاً تتمتع بنشوة حسية عالية، إن في «خاصية الشكل» الذي استمد الكثير من عناصره التكوينية من بيئته (الموصلية)، او في «خصائص الألوان» المستخدمة، تجسيداً وتعبيراً. فالشكل في عمله مصدر متعة بصرية.. ولذلك نجده يتعاطى معه من خلال ادراكه الحسيّ له. وتأتي ألوانه المبتهجة بهذا الشكل المُدرك حسياً لتجعل له مزاياه التي يتجسد بها، مع ملاحظة كون «أشكاله» هذه تأخذ من النحت سمات تتشكل منها/ وبها، وكأن أشكال النحت هذه، وما يأخذه عنها من «تمثيلات تعبيرية» عناصر أساسية في تركيب (ولا أقول: بناء) رؤيته العالم التي هي رؤية تقارب الارتباط بالحلم، أو الصدور من عوالمه التي يرتادها بحسيته العالية هذه.
سيتحدد بمثل هذه الرؤية، وإن في تمثيلات مغايرة، الفنان سعدي الكعبي، الذي يمكن تسميته بـ«فنان الوحشة». فهو منذ أن بدأ، وما يزال، ينسج لوحته بألوان تكرس، عند الرائي، شعور الوحشة هذا.. فأشكاله تأتي من صلب التكوين اللوني عنده الذي يبدو وكأنه يلمّ فيه ألوان عالم محترق لم يتبق منه سوى الرماد، وإن «تحرر» هذا الرماد عنده من لون السواد الى ألوان قريبة . وسيتخذ منحيين واضحين في عمله الفني هذا، وهما: التحوير، وإعادة التكوين الذي شمل «أشكاله» المعتمدة في بناء اللوحة، وخصوصاً الانسانية منها (في بُعد حضور الانسان فيها).
وكمن أغوته هذه الاتجاهات بتجاذباتها التجديدية، سيدخل حلبة الستينات في أبعادها هذه فنان من المؤسسين لـ«جماعة بغداد للفن الحديث» هو شاكر حسن آل سعيد متقدماً بفكرة «البعد الواحد» (1970) التي دعا فيها الى ممارسة الحرف «في الفن التشكيلي»، وقد وجدها «تبدأ في الأصل عند الفنان الحديث»، واصفاً إياها بالمناورة الأدبية «لتكوين مناخ جديد زاخر بامكانات رمزية وزخرفية معاً»، وعنده أن من شأن هذا أن «يُضفي على الفن بُعداً جديداً لم يكن الفنان قد ألمَّ به…»
وبالتقارب، زماناً ومكاناً، ستُعلن «جماعة» أخرى قدمها رائدها الفنان كاظم حيدر باسم «الأكاديميون»، مؤكداً أن «الأكاديمية صفة مشتركة لكل الفنون»، وأنه والجماعة التي أسس لها، يحاولون تجديد «هذا المفهوم بطريقة دعاها بـ«العراقية الخاصة»، كونها، بحسب تحديده لها، «نابعة من تراثنا الحضاري والفني الذي يحمل اعلى مراحل الأسلوب الأكاديمي، ومستمدة من تربة هذا الوطن، وبفكر عالمي حديث.»
خلاصة لهذا كله، ونتائج مستخلصة منه، نقول:
ـ أياً كانت صيغة الحداثة، وصورها‘ التي اتبعها، أو أنتجها فنانو الجيل الستيني، فإنها انطلقت من / وانبنت على احترام التقاليد، مع التشديد على تواصل التجديد بما يحقق من اضافة فعلية، ولا يحول دون الانفتاح الخلاق على التجارب الجديدة للفن في العالم.
ـ وإذا كان هذا الجيل قد نشأ وتكوّن في واقع كانت الثورة من معانيه/ أبعاده الكبرى، ليكون بدوره «جيلاً ثورياً»، فإن الثورة، في عُمق معانيها، هي ما تمثله هذا الجيل رؤية وعملاً..
ـ وإذ نصف هذا الجيل بالثورية فإن هذا الوصف ينطلق من واقع حي، وقد مثّل الجيل هذا الواقع بانتمائه الثوري، أو تبنيه أفكاراً توزعت بين الفكر اليساري، واليسار الجديد، والراديكالية، التي مثّلت، بامتياز، أفكار المرحلة، وانبنت عليها توجهات معظم مثقفيها. ومن هنا كان النزوع الى المغامرة الفنية واضح البصمات في أعمال هذا الجيل ومنجزاته، فنية كانت أو أدبية.
ـ غير أن هذا، بما قد يوحي به من «روح الالتزام» لم يحل بين فناني هذا الجيل وبين تعدد الرؤى والأساليب في عملهم، لذلك وجدناها رؤى واساليب جمعت بين التعبير والتجريد، مع أخذ بعضها بالحس الانطباعي، وميل بعض آخر منها الى الأكاديمية والواقعية، ولكنها جميعاً جاءت بروح جديدة، لتصبح العلاقة بالواقع، عند غير فنان، «علاقة مجازية»، إن جاز التعبير.
ـ هذا كله لم يأتِ عفواً، وإنما كان محصلة أسئلة صاغها فنان هذا الجيل في ضوء واقعين: واقع الفن في العالم المعاصر، وتأثيرات الحركات الفكرية والتحولات المجتمعية فيه.. وواقعه القومي والذاتي وما ولّد من اندفاع لديه لتحقيق ما يُعرف بدوام استمرار التطور. لقد كانت أسئلة هذا الجيل من الفنانين أسئلة تفتح مثل هذا المسار للفن الذي كان به / ومن خلاله جيلاً متميزاً في حاضر الفن.