العظم و«النقد الذاتي بعد الهزيمة»

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • العظم و«النقد الذاتي بعد الهزيمة»

    • العظم و«النقد الذاتي بعد الهزيمة»





    من المعلوم أنّ كتاب « النقد الذاتي بعد الهزيمة» يندرج ضمن الموجة الثانية من النقد الذاتي. وكانت الموجة الأولى قد أعقبت هزيمة الجيوش العربية أمام الجيش الصهيوني سنة 1948 فيما عرف بـ«النكبة». وإذا كان كتاب «معنى النكبة» لقسطنطين زريق قد عدّ العلامة البارزة في الموجة الأولى فإنّ كتاب « النقد الذاتي بعد الهزيمة» قد عدّ أبرز عناوين الموجة الثانية(1).
    ركزّت الموجة الأولى من النقد الذاتي على جملة من الظواهر والقيم الاجتماعية والثقافية والسياسية اعتبرتها السبب الرئيسي في النكبة رافضة بذلك التفاسير التآمرية والتبسيطية (إلقاء المسؤولية على العدو وحلفائه أو على السياسيين والقادة العسكريين). ومن هذا المنطلق اعتبر النقد الذاتي بعد النكبة أنّ هزيمتنا في فلسطين لم تكن بسبب تخاذل السياسيين والعسكريين وتكالب الأمم الغربية علينا وإنما بسبب أعمق من ذلك بكثير هو تخلف مجتمعنا العربي. وقد تجسّد هذا التخلف في هيمنة العادات والتقاليد البالية وتحجر الفكر والثقافة وسيادة الغيبيات والخرافات مما أورث المجتمع أمراضا وعاهات (الأمّية – تعطيل دور المرأة – ضمور الفكر العلمي – شيوع روح الاتكالية والعجز… الخ).
    ولكن حصلت النكسة ولم يجفّ حبر الموجة الأولى من النقد الذاتي. لقد عانى النقد الذاتي بعد النكبة ممّا سميناه « التفكير الخاطىء» وقد تمثّل في:
    – التبشير باشتراكية العسكر على أنها ثورة ثقافية
    – الوقوع فريسة سهلة للدعاية الصهيونية حول «المعجزة اليهودية» في فلسطين
    – أفيون الأدلجة(2)
    ثم جاءت الموجة الثانية. ويعدّ صادق جلال العظم من أبرز أعلامها. فهل وفّق في تجاوز هنات الذين سبقوه؟ وهل كان أكثر منهم جرأة في نقد الذات؟
    الكتاب
    يحتوي الكتاب(3) على 173 صفحة من الحجم المتوسط وقد صدر لأول مرة عن «دار الطليعة» ببيروت في شهر يناير 1969 ثم طبع ثانية في شهر مارس من السنة نفسها وثالثة في أغسطس ورابعة في يوليو 1972.
    استُهل الكتاب بتصدير للأديب الفرنسي أندري مالرو André Malraux (1901-1976) مقتطف من كتابه الشهير «الشرط الإنساني» La Condition humaine ويتعلق بـ»التحوّل الحضاري» المرتبط حتما بتحويل الاضطهاد إلى وعي بالاضطهاد أي إلي قيمة. ثم بناه على مقدمة ومجموعة من الفقرات المرقمة وملحق. المقدمة ثلاثة أقسام، قسم أوّل عرّف فيه النقد (التحليل الدقيق بغية تحديد مواطن الضعف وأسباب العجز والمؤثرات المؤدية إلى وجود العيوب والنقائص) وبيّن أهميته، وقسم ثان قدّم فيه محتوى الكتاب (نقد وتحليل للأوضاع المحيطة بالهزيمة والمرتبطة بها… ومناقشة لعدد من الآراء ووجهات النظر التي نشرها بعض المفكرين والكتّاب والمعلقين العرب في تفسيرها والعمل على تخطّيها)، وقسم ثالث أشار فيه إلى أن بعض الآراء الواردة في الكتاب كان قد عبر عنها في محاضرات سابقة للنكسة وتالية لها.
    أما الفقرات المرقمة فهي ستة. استقلت كلّ واحدة بموضوع:
    – الفقرة الأولى: من ص 11 إلى ص 26: مقارنة بين تعامل روسيا شعبا وحكومة مع هزيمتها المدوية أمام اليابان سنة 1904 وتعامل العرب مع هزيمتهم أمام «إسرائيل» سنة 1967.
    – الفقرة الثانية: من ص 27 إلى ص69: مناقشة الآراء التي عزت الهزيمة إلى «الغدر» الصهيوني من جهة وإلى قوّة إسرائيل غير الذاتية (توجيه اليهود للسياسة الأمريكية الخارجية)
    – الفقرة الثالثة: من ص69 إلى ص 92: دور الشخصية الاجتماعية العربية في الهزيمة (الشخصية الفهلوية)
    – الفقرة الرابعة: من ص 92 إلى ص98: مناقشة النموذج الفيتنامي في النضال ضد الاستعمار.
    – الفقرة الخامسة: من ص 98 إلى ص 126: أهمية البحث العلمي في التحضير للنصر على إسرائيل
    – الفقرة السادسة: من ص 126 إلى ص 166: نقد الثورة العربية الاشتراكية (النظام الناصري بشكل أساسي) وبيان دورها في النكسة.
    وختم الكتاب بملحق أثبت فيه نماذج من كتابات بعض المفكرين المصريين حول ما سمّاه «وسطية» النظام الناصري.
    تبرز أهمية الكتاب من خلال طبعه أربع مرات في ظرف سنة وبضعة أشهر. ثم إنّ الطبع والنشر كان في دار الطليعة التي كانت إلى عهد قريب مختصة في نشر الفكر التقدّمي (= الاشتراكي). ويشي التصدير بالإطار الفكري العام الذي ينتمي إليه الكاتب وهو الفكر الاشتراكي كما يضع موضوع البحث في إطاره العام فهو بحث يرتبط بالمشكلة الحضارية أي هو يتجاوز سطح المشكلة (هزيمة عسكرية) إلى عمقها الحضاري. أمّا محتوى الكتاب فقد بُني بطريقة متدرجة إذ بدأ الكاتب بعرض موضوعه وهو «النقد الذاتي». ثم عرض لنماذج من النقد «غير الذاتي» أي النقد الذي يعفي الذات من أية مسؤولية عمّا حصل. بعد ذلك بيّن دور المجتمع العربي في إنتاج الهزيمة من خلال شخصيته القاعدية «الشخصية الفهلوية». أمّا الحلول فهو يراها في النموذج الفيتنامي شرط أن تقدم الثورة العربية الاشتراكية (الناصرية) نقدها الذاتي وتتجاوز «وسطيتها» (= نزعتها التلفيقية).
    الملحق يلعب دور الشاهد على مصداقية آراء الكاتب ومواقفه من النظام الناصري من خلال كتابات مفكرين ومثقفين مصريين (وشهد شاهد من أهلها).
    مضامين النقد الذاتي
    ركّز العظم في نقده للذات العربية على ثلاثة مجالات هي على التوالي المجال العسكري والمجال السياسي والمجال الإيديولوجي وقد عرض لهذه المجالات بترتيب منطقي فضمور الفكر العسكري هو نتيجة لخلل سياسي تمثل في سوء تقدير طبيعة إسرائيل ومكامن قوّتها. والخلل الكامن في المجالين العسكري والسياسي إنما هو النتيجة الطبيعية لعدم وضوح المضمون الاشتراكي العلمي في الثورة العربية (النظام الناصري).
    1- ضمور الفكر العسكري
    اعتبر العرب ما حصل فجر الخامس من حزيران/يونيو عدوانا عسكريا غادرا. يسخر العظم من هذه النعوت ويرد على أصحابها بالقول: «إنّ الهجوم الجويّ الإسرائيلي المركّز الذي دمّر سلاح الطيران المصري وحسم المعركة منذ بدايتها لا يمكنه اعتباره غدرا إلاّ إذا قسنا الصراع بيننا وبين العدوّ الإسرائيلي بمعايير النزال والفروسية حيث يفترض أن تتكافأ الفرص والأسلحة بين الخصمين المتنازلين حتى تكون الغلبة في المعركة للأجدر والأشجع». (ص 28). ثم يضيف. «في الواقع إنّ ما قيل عن الغدر بالنسبة للهجوم الإسرائيلي لا ينم عن محاولة هزيلة لإزاحة المسؤولية عن النفس ورفع المعنويات فحسب بل يبيّن أيضا أنّ العرب دخلوا الحرب وعقلية الفروسية في القتال لا تزال تسيطر على عقولهم وردود فعلهم. وليس أدلّ على ذلك من العبارات والأفكار والأحكام والقيم التي سمعناها من إذاعاتنا والتي تردّدت في صحفنا وأقوالنا حول صليل السيوف، والكرّ والفر، ورباط الخيل والمفاهيم الفردية العشائرية لمعاني الشجاعة والاستبسال والشرف والحميّة والغدر والدناءة والمواجهة المباشرة في القتال». (ص 30) ويختم بنموذج مما سمّاه هيمنة عقلية الفروسية على القادة العرب: «وجدنا أنفسنا في حرب قال فيها عبد الرحمن عارف لجيوشه الزاحفة إلى الجبهة كونوا أشدّاء مع العدوّ ولكن لا تقتلوا امرأة أو ولدا… علما بأنّ جزءا كبيرا من جيش العدوّ مؤلف من النساء» (ص 32).
    2 – سوء تقدير قوّة إسرائيل وطبيعتها
    كان الساسة والإعلاميون العرب واثقين من الانتصار على إسرائيل حجتهم الأساسية في ذلك التفوّق الديمغرافي العربي. وبعد الهزيمة عزوا انتصار إسرائيل إلى قوّتها غير الذاتية أي إلى ارتباطاتها بالاستعمار والامبريالية. يرفض العظم هذا التفسير ويعتبره تفسيرا تآمريا فالمشكلة في رأيه ليست في لوم الاستعمار الذي خلق إسرائيل وثبّتها وإنّما في تحويل الإنسان العربي والمجتمع العربي إلى طاقات فعّالة تستطيع تحمّل مسؤولية مواجهة الاستعمار كما يتجسّد في إسرائيل، وفي مدى قدرتنا على تحويل ما كنّا نعرفه من حقائق عن الاستعمار قبل الخامس من حزيران إلى جزء من استراتيجية العمل العربي على مستوى التنفيذ الفعلي والواقع المحسوس. (ص 42 – 43). وعوض أن يراجعوا أخطاءهم انبروا لسب العدو وشتمه والصراخ المستمر بأنّ إسرائيل انتهكت الأعراض وخرقت حرمة المساجد واعتقلت ونفت ونكّلت… يعلّق العظم على هذا السلوك الإعلامي بالقول: «أقل ما يقال في هذه الظاهرة أنها تنزل بالمعركة القومية المشرّفة التي تواجه العرب إلى مستوى التفاهة والسفسطة والاستهتار وأنها تعكس علينا ظلالا سلبية إذ أننا كلّما حقّرنا العدوّ وخفّضنا من شأنه بدت هزيمتنا أفجع وأسوأ مما هي عليه في الواقع، لأننا نكون قد هزمنا أمام عدو حقير ومنحط مما يسلبنا كل مبرر معقول يفسّر الهزيمة».
    هناك مبرر آخر يسلب العرب كلّ مبرر معقول بفسّر الهزيمة وهو تضخيم قوّة الصهيونية العالمية إذ اعتبرت الرأسمالية واقعة تحت تأثيرها والشيوعية ربيبة لها. وقد اعتمد أصحاب هذا التحليل على كتاب «بروتوكولات حكماء صهيون» (وثيقة تتحدث عن خطة يهودية لغزو العالم). يرى العظم في هذا التفسير تضخيما لقوة إسرائيل ونفوذها إلى حدّ صبغها بقدرات أسطورية فائقة تجعلها سيّدة النظام الرأسمالي والنظام الشيوعي ومجرى التاريخ مرة واحدة. وبطبيعة الحال إنّ تضخيم قوّة العدو وسطوته ونفوذه على هذا النحو الخيالي هو أسلوب من أساليب تبرير فشلنا وإسقاط مسؤولية الهزيمة على أسباب خارجة عن نطاق إرادتنا لأنها تمتّ إلى قوى نريد أن نعتقد بأنها على درجة من العِظم والكبر بحيث تعجز أمامها شجاعة الشجعان. (ص 55).
    لم تكتف السياسة العربية الخرقاء بالتحقير والتضخيم وإنما أضافت إلى ذلك التبسيط إذ هي تفسر السياسة الخارجية الأمريكية المعقدة بطبعها بكونها رهينة اللوبي الصهيوني. مثل هذا التبسيط يعود، حسب العظم، إلى كون العقل العربي لم يألف تفسير الأحداث بأساليب علمية جديدة لا تعتمد على التعليلات الغائية وإرجاع الأحداث إلى إرادات خفية وقوى شخصية، وإنما تعتمد على اعتبارات اقتصادية موضوعية مثلا أو قوى اجتماعية تضغط بصورة آلية أو تتفاعل على نحو جدلي فيما بينها. (ص 56)
    3- عدم وضوح المضمون الاشتراكي العلمي في الثورة العربية
    الهزيمة العسكرية التي حصلت في حزيران 67 لم تكن بسبب ضمور الفكر العسكري أو السياسي فهذان المجالان إنما هما نتيجة قاعدتهما الإيديولوجية أي هما يكشفان عن خلل إيديولوجي تمكّن من الثورة العربية الاشتراكية وطليعتها النظام الناصري.
    يشخص العظم هذا الخلل بحكم واضح: «لم تكن الثورة العربية الاشتراكية ثورية بما فيه الكفاية ولا اشتراكية بما فيه الكفاية»، فهي غارقة في دوامة « الوسطية». ويقصد بالوسطية عدم القدرة على الحسم الجذري أي عدم الإيمان بالتغيير الجذري لأوضاعنا. إنها ثورة مترددة في القبول بالعلمانية، وغير واضحة في تحديد الهدف من الإصلاح الزراعي وفي الموقف من الملكية الفردية، وغير قادرة على الحسم في المسألة التشريعية فهي تجمع بين الموروث التشريعي الديني والتشريعات الغربية الرأسمالية والتشريع العلمي الاشتراكي. (ص 132 – 133). هذه «الوسطية» أوقعتها في أخطاء وأوهام كثيرة منها:
    – العودة إلى مفهومٍ للقومية العربية يتساوى فيه الموقف اليميني الرجعي بالموقف اليساري الاشتراكي العلمي (دعوة عبد الناصر إلى عدم التمييز بين الوطني اليميني والوطني اليساري)
    – عدم القدرة على تحويل الطاقات البشرية الهائلة إلى طاقات فاعلة: المثال الصارخ هي المرأة باعتبارها أضخم مستودع للطاقات الإنسانية الكامنة غير المستخدمة وغير الممسوسة بعد. إنها أعظم كتلة من المادة البشرية والعقلية الخام التي تملكها الأمة والتي لم تستفد منها حركة الثورة العربية بأي وجه من الوجوه» (ص 151)
    – التبشير بقيام فيتنام عربية وهذا نوع من الخداع والتمويه على الطريقة الفهلوية (ص 131)
    معنى النقد الذاتي
    هزيمة عسكرية مدويّة كانت نتيجة منطقية لسياسة خرقاء كانت بدورها نتيجة لثورة اشتراكية لم تكتمل. هذه الحلقات المترابطة من الأخطاء لا تفسّر شيئا إلا إذا تجاوزناها إلى عمقها الاجتماعي ومن ثمّ تجاوزنا المجتمع نفسه إلى تاريخه.
    يرجع العظم هذه السلسلة من الأخطاء إلى نمط من السلوك الاجتماعي درسه عالم الاجتماع المصري حامد عمّار وأطلق عليه اسم « الشخصية الفهلوية». أهم خصائص هذه الشخصية هي:
    – البحث عن أقصر الطرق وأسرعها لتحقيق هدف معيّن أو غاية معينة لأن الذي يهم الفهلوي ليس إنجاز العمل على أكمل وجه وإنما إنجازه وكفى حتى لا يقال إنه عاجز. ذلك يعني غياب الإحساس بالمسؤولية وحضور الإحساس بالذنب خوف الفضـــــــيحة والعــــــــــار (ص 71). هذا ما يفسّر، حسب العظم عدم تبليغ العسكريين المصريين في المطارات قادتهم حقيقة ما حصل في الإبان خوفا من الفضيحة (ص 73-74)
    – النزوع إلى الحماس المفاجىء والإقدام العنيف والاستهانة بالصعاب في أول الطريق ثم انطفاء وفتور الهمة عندما يتبيّن أنّ الأمر يستدعي المثابرة والجلد والعمل المنتظم الذي لا تظهر نتائجه إلا ببطء وعلى شكل تراكمي (مثال الشاب الذي يندفع بفعل الحماس مطالبا بحمل السلاح ولكن مقدرته على حمل السلاح قد لا تتعدى مستوى بندقية صيد (ص 75-76). هذا الشاب يكون ثوريا في السياسة ومحافظا اجتماعيا ودينيا وثقافيا، فالثورة سلوك وليست شعارات سياسية.
    – المغالاة في تأكيد الذات والميل الملح لإظهار القدرة الفائقة في التحكم بالأمور كما يتبيّن من تصرّف الأفراد الأسخياء بوعودهم حين يقولون « اعتبر المشكلة محلولة. الخ…»
    – الاستهتار بالغير والتقليل من شأنهم والاستهزاء بهم، وقد ظهر ذلك بشكل واضح في استهانة العرب بقوة إسرائيل (ص 82)
    ولكن منطق النقد الذاتي لا يقف عند حدّ فهو يبحث دوما عن علّة العلّة حتى يخيّل إليك أنه خرج نهائيا عن مجال القضية المدروسة. من هذا المنطلق واصل العظم الحفر في قاع الهزيمة ليدرك أنّ الفهلوة ترتبط ارتباطا مباشرا بمفاهيم الفروسية للرجولة والشرف والكرامة والشهامة والشجاعة… إذ تزدهر الشخصية الفهلوية في المجتمعات التي ترتكز في سلوكها ونظراتها إلى نمط الحياة التقليدي الاتباعي حيث تتوجه أنظار الأفراد وأفكارهم وردود فعلهم نحو التقاليد العريقة والسنن السلفية المتوارثة… (ص 84). وعلى هذا الأساس فإنّ الخطأ (بالمفهوم التاليراني) الأساسي الذي وقعت فيه الثورة العربية هي اكتفاؤها بتغيير البنية التحتية (إلى حد ما) والإبقاء على البنية الفوقية التي أنتجت الشخصية الفهلوية. وما لم يتم تغيير هذه البنية الفوقية فلن يحرر العرب أراضيهم حتى وإن حاولوا استنساخ النموذج الفيتنامي في حرب التحرير الشعبية لأن الجندي العربي تعوزه العقلية العلمية وتسيطر عليه الذهنية الخرافية الأسطورية (ص 94 – 95).
    نقد «النقد الذاتي»
    مقارنة بالموجة الأولى من النقد الذاتي هناك الكثير من النقد «المكرّر». من ذلك نقد السياسة العربية ونقد الموروث الديني والثقافي ونقد غياب المرأة عن الفعل … الخ(5) ولم يتميّز العظم سوى بـإسهابه في عرض الجوانب العسكرية للنكسة وبنقده للثورة العربية الاشتراكية(6) حيث حمّلها مسؤولية عدم الإجهاز النهائي على البنيان الاجتماعي التقليدي.
    إلا أنّ ما استوقفنا في هذه الدراسة هو وقوع العظم، باعتباره أهمّ ممثل للموجة الثانية من النقد الذاتي، في الأخطاء نفسها التي وقع فيها رجال الموجة الأولى من النقد الذاتي. نعني بذلك ما سميّناه «التفكير إيديولوجيا» و»قبول السرديّة الإسرائيلية».
    التفكير إيديولوجيا
    من أهمّ خصائص التفكير الإيديولوجي باعتباره وعيا زائفا التقسيم المانوي للعالم، فهناك عالم الملائكة وهناك عالم الشياطين ولا شيء بينهما. في «النقد الذاتي بعد الهزيمة يمثّل العالم الاشتراكي (روسيا – الصين – فيتنام – كوبا …) عالم الملائكة في حين يمثل المجتمع العربي التقليدي والمجتمع الغربي الرأسمالي عالم الشياطين. لقد افتتح كتابه بتمجيد النقد الذاتي الذي مارسته روسيا بعد هزيمتها سنة 1904 تمجيدا جعل من الروس / السوفييت لاحقاً قدوة للعالمين: «وبعد الهزيمة التي منيت بها روسيا انطوت على نفسها تراجع نفسها وتعيد النظر في كلّ شيء وتنتقد ذاتها على لسان مثقفيها ومفكّريها وفنّانيها وأحزابها والفئات القيادية الواعية من طبقاتها الكادحة فكانت ثورة 1905 المشهورة أول النتائج المباشرة الكبيرة للهزيمة العسكرية وأوّل ثمار حركة مراجعة النفس ونقدها. ومع أنّ ثورة 1905 أخفقت فقد تلتها اضطرابات وانتفاضات مهدت الطريق لثورة أكتوبر الشاملة التي جاءت حاقدة على الأنماط التقليدية الاتباعية المتوارثة في الإنتاج والتفكير والتنظيم والحكم» (ص 16). وختمه بالثناء الكبير على التجربة الفيتنامية: «وينبغي علينا في هذا الظرف أن نصارح أنفسنا أنّ عقد المقارنات والتشبيهات بين الثورة العربية على حالها وبين الثورات الاشتراكية الكبرى وفيتنام فيه الكثير من الإجحاف والتجني على تلك الثورات التي نقرن أنفسنا بها وبمنجزاتها الضخمة.» (ص 131). إنّ عالم الاشتراكية هو عالم الكمال، فهو الوحيد الذي مارس النقد الذاتي وتجاوز بفضل ذلك كلّ مشاكله، وهو الوحيد الذي يعرف معنى الصداقة: [… ما من دولة في التاريخ فقدت الجزء الأعظم من سلاحها في بحر أسبوع ثم استعادت الجزء الأكبر ممّا فقدت في بحر شهرين إلا الجمهورية العربية المتحدة والفضل في تعويضه يرجع إلى الاتحاد السوفييتي] (ص 18) ، وهو الوحيد الذي مارس النضال الشعبي المسلح على الوجه الأكمل، وهو الوحيد الذي أدرك قيمة العلم والعلماء: [بعد تأسيس الجمهورية الشعبية في الصين بشهر واحد فقط قامت الحكومة الجديدة بتأسيس الأكاديمية الصينية للعلوم ثم وجهت نداء للعلماء الصينيين العاملين في الجامعات الأـجنبية لينضموا إلى جامعاتها ومعاهدها ولبّى عدد كبير منهم النداء] (ص 119)، وهو الوحيد الذي حرّر المرأة تحريرا حقيقيا: [وكان جيش النساء «جيش الشعور الطويلة بصموده واستبساله مرهوب الجانب من قبل الضباط والموظفين والعملاء … إن هذا الاشتراك المباشر للجماهير، والنسوة منهن خاصة قد لعب دورا حاسما في الحرب]. (ص 155).
    لقد تبوّأ العالم الاشتراكي كلّ هذه المكانة لأنه استطاع أن يتخلّص نهائيا من بنيانه الاجتماعي والثقافي البالي. هكذا يربط العظم بشكل واضح وجلّي، بين الهزيمة والموروث الثقافي والديني العربيين. إنه تفكير إيديولوجي طالما هو يقدّم أنصاف حقائق فليس هناك ثورة في العالم تخلصت نهائيا من موروثها بل احتفظت بكثير من عناصره وطوّرت عناصره الأخرى. إنّ محتوى الثورات الاشتراكية في الصين وروسيا وفيتنام كان دوما محتوى قوميا يوائم بين الاشتراكية والموروث الثقافي. وهذا هو جوهر الخلاف بين اشتراكية الاتحاد السوفياتي واشتراكية الصين على سبيل المثال. ولذلك إن حديث العظم عن اشتراكية علمية صالحة لكل مكان وزمان إنما هو حديث «خرافة» أو هو حديث وجداني وكأنه يتحدث بلسان حال هنري كورييل، أحد أبرز رموز الحركة الشيوعية المصرية، عندما قال: « كلّما فكّرت في الاتحاد السوفياتي أتحوّل إلى شاعر». هذه الشاعرية أنسته أن يحدّثنا عن واقع حقوق الإنسان والحريات في العالم الاشتراكي العظيم.
    قبول السردية الإسرائيلية
    بدا العظم محتفلا بالإنجازات اليهودية في فلسطين وفي نيّته مجرد عرض أسباب انتصار إسرائيل على العرب. وبذلك وقع، مثل غيره، ضحية الدعاية الصهيونية والغربية حول «المعجزة» اليهودية في فلسطين.
    تحدث العظم عن الإنجاز العلمي الصهيوني في فلسطين: «إنّ أوّل ما أسّس اليهود في فلسطين كان الجامعة العبرية. وبعد أن قامت دولة إسرائيل ازدهر معهد وايزمان للأبحاث العلمية الذي يضمّ نخبة ممتازة من العلماء في الفيزياء النووية الذرّة والكيمياء والرياضيات الخ. ناهيك عن المعاهد الفنيّة والمهنية والصناعية الأخرى المنتشرة فيها» (ص 115). كما تحدّث بشيء من الإعجاب عن المرأة اليهودية التي ساهمت في الدفاع عن المستعمرات اليهودية (ص 154). بل إنه تحدث عن دور الإيديولوجيا الصهيونية في تحويل المرأة اليهودية العربية من امرأة شرقية إلى امرأة ثورية! (ص 156). هذا التفوّق الصهيوني إنما يعود إلى كون إسرائيل صورة مصغّرة عن الحضارة الغربية المتقدمة علميا وصناعيا وتكنولوجيا. يفسّر العظم تعاطف الغرب مع إسرائيل بالقول: «إن شعوب وحكومات الدول المتقدمة صناعيا وحضاريا، سواء في الكتلة الشيوعية أو الرأسمالية، تجد نوعا من التعاطف والتفاهم وصلات القربى بينها وبين دولة مثل إسرائيل حققت مستوى علميا وصناعيا تكنولوجيا، أي أن هذه الدول والشعوب ترى في إسرائيل وما حققته على هذا المستوى صورة مصغّرة عن نفسها وامتدادا لحضارتها ولكل ما تعنز به من إنجازات عصرية وعلمية وتقنية. وقد شدّدت الدعاية الصهيونية على هذا العامل، فأظهرت إسرائيل بمظهر المجتمع الديناميكي الحركي المتقدم الذي يشارك في إثراء التراث العلمي والحضاري والأدبي الحديث مثله في ذلك مثل المجتمعات المتقدمة في أوروبا الغربية والشرقية على حدّ سواء. حتى البلدان النامية وشعوبها أخذت تنظر إلى إسرائيل على أنها تجربة رائدة في هذا المضمار يحسن التعلم منها والاستفادة من خبراتها». (ص 50). وبذلك تكون إسرائيل نموذجا يحتذى. فأحسن دعاية نقوم بها لفائدة القضية الفلسطينية هي أن نكتسب العلم والمعارف والتكنولوجيا (ص 51).
    ولكن نظرة رصينة للواقع من شأنها أن تعيد الإنجاز الصهيوني إلى حجمه الطبيعي، فالإنجازات الصهيونية العلمية ما كان لها أن تكون بتلك الضخامة لولا الأموال الأمريكية والغربية والتعويضات التي أخذتها دولة إسرائيل من ألمانيا والنمسا بحيث تسلّم حكام إسرائيل بعيد النكبة أموالا أكثر مما تسلّمه مائتا مليون أوروبي في إطار مشروع مارشال لإعادة تأهيل أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية(7). أمّا القول بأن إسرائيل جزء من الحضارة الغربية فقد أثبتت التجربة التاريخية أنّ الوعي القومي الأوروبي يختلف جذريا عن الوعي القومي اليهودي من حيث المنشأ ومن حيث المآل، فقد كان الأول أثرا للثورة البورجوازية التي حطّمت اللاهوت وأساطير الأصول المقدّسة، في حين جاء الثاني لاهوتيا يرتكن إلى الأساطير ويستولد الحاضر التاريخي من ماض فوق تاريخي. «لقد شكّلت القوميات الأوروبية وقائع حداثية انطوت على الاحتفاء بالإنسان والعلم والتاريخ خلافا لصهيونية تنقض الاحداث والمعطيات الحداثية، وهي تحتفي بالماضي والأساطير و»شعب الله المختار» الذي يفضُل غيره من الشعوب. بل إنّ الصهيونية وهي تنقلب على العقل والإنسان والتاريخ، وهي مراجع بورجوازية بامتياز، مثّلت ردّا عاصفا على العقل الحديث وما يرتبط به» (8).
    الخاتمة
    مثّل العظم أهم علم من أعلام الموجة الثانية من النقد الذاتي. وكان نصّه في جزء كبير منه تكرارا لأدبيات الموجة الأولى. ولم يكتف بذلك بل ورث عن سابقيه الأخطاء نفسها التي سيرثها لاحقوه من أعلام الموجة الثالثة والرابعة. ومع ذلك فقد أسس النقد الذاتي بعد النكسة لأهم مشاغل الفكر العربي المعاصر وتحديدا جدلية التراث والحداثة.
    الهوامش(1) حول موجات النقد الذاتي في الفكر العربي المعاصر راجع: السيّد ياسين، في الأصول التاريخية للنقد الذاتي العربي المعاصر منشور ضمن «المأزق العربي»، مركز الأهرام للترجمة والنشر، ص ص 597-605.
    (2) حول النقد الذاتي بعد النكبة راجع كتابنا: النقد الذاتي في الفكر العربي (الخطاب النقدي للمفكرين العرب حول نكبة فلسطين نموذجا)، مركز نماء للبحوث والدراسات، بيروت 2013.
    (3) اعتمدنا الطبعة الرابعة الصادرة عن دار الطليعة سنة 1972.
    (4) نستعمل عبارة الخطأ هنا بالمعنى الذي قصد إليه السياسي الفرنسي تاليران Talleyrand إذ بلغه أنّ نابليون أعدم أحد النبلاء فقال قولته المشهورة «إنها أكبر من أن تكون جريمة لقد كانت خطأ».
    (5) راجع كتابنا «النقد الذاتي في الفكر العربي»، مرجع مذكور ص ص 133 وما بعدها
    (6) باستثناء محمد فاضل الجمالي فإن أعلام النقد الذاتي احتفلوا كلّهم بالثورة العربية الاشتراكية. راجع كتابه، ذكريات وعبر من العدوان الصهيوني وأثره في الواقع العربي، ط2، دار الحياة، دار الكاتب الجديد، بيروت 1965 ص 171.
    (7) روجي غارودي، الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية، ترجمة حافظ الجمّالي وصباح جهيم، ط 2، دار عطية للنشر، بيروت 1996 ص 249 وما بعدها.
    (8) فيصل درّاج، ذاكرة المغلوبين: الهزيمة والصهيونية في الخطاب الثقافي الفلسطيني، ط1، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2002 ص 13.
    ———-محمد الرحموني





يعمل...
X