الاشتراكية: 90 يوما داخل الستار الحديدي
غابرييل غارسيا ماركيز 1957
غابريل غارسيا ماركيز
غابرييل غارسيا ماركيز – ترجمة وضّاح محمودالفصل الثانيبرلين، مكان للهذيانليس في برلين الغربيّة أثر من آثار أوروبا إلا كاتدرائيّتها المحترقة التي قصمت برجَها القنابلُ. فالأميركان مثل الأطفال يرتعبون من الخفافيش، ذلك أنهم بدلا من ترميم بقايا الجدران القليلة التي ظلت قائمة بعد الحرب، وعوضا عن الاستفادة منها في إنشاء مدينة غنية بالآثار، اعتمدوا معيارا أكثر صحة ونظافة، ومربحا أكثر من الناحية التجارية: مَحْو كل شيء والابتداء بصفحة جديدة.لقد أحسست بالخواء أثناء اطلاعي الميداني الأول على تلك العملية الهائلة التي قامت بها الرأسمالية في عقر دار الاشتراكية. فطول الصباح رحنا نبحث عن المدينة ونحن نجول في أرجائها من دون أن نعثر عليها. ليس فيها شيء من التناسق ولا يُعرف رأسها من قدميها، وفوق ذلك فإنها تفتقر أيضا إلى مركز رئيسي يحس المرء فيه بمتعة الوصول إلى غايته.إن المساحات الواسعة التي لم يُعَدْ بناؤها ظلت حدائق مؤقتة، وهناك شوارع تبدو كأنها نُقلت بأكملها من نيويورك وزُرعت في الأرض زرعا. وفي بعض المناطق يسابق النهمُ التجاري النهمَ التقني، إذ استقرت فيها شركات كبيرة قبل عام من إزالة السقالات. وإلى جانب مبنى عجيب الشكل من مباني العمارة الحديثة -ناطحة سحاب تبدو كأنها نافذة زجاجية وحيدة- هناك قرية من البرّاكات الخشبية التي يتناول البناؤون فيها طعام الغداء. وفوق المنصات الخشبية يتدافع حشد محموم من العمال، وهم يجولون وسط هدير المثاقب ورائحة الإسفلت المغلي والروافع التي تطوف فوق المنشآت المعدنية وإعلانات الكوكا كولا العملاقة. من ذلك العمل الجراحي الدامي، ينبثق شيء ما مناقض تماما لأوروبا وهويتها، يتمثل في مدينة براقة معقمة حيث عيب الأشياء أنها تبدو فائقة الجدّة.قيل إن هذه التجربة المعمارية هي الأهم في أوروبا. ولا شك في ذلك، فبرلين الغربية من وجهة النظر التقنية ليست مدينة بل مختبرا، والولايات المتحدة الأميركية تتولى دور المعلم فيه. ليس لدي معطيات عن كمّ الدولارات التي استُثمِرت في إعادة الإعمار ولا عن الطريقة التي استُثمِرت بها، لكن النتائج أمامنا ماثلة للعيان.أعتقد بتواضع أن برلين الغربية مدينة مزيفة. السياح الأميركيون يغزونها في الصيف، فيطلّون على العالم الاشتراكي وينتهزون الفرصة كي يشتروا من أسواقها مواد مستوردة من الولايات المتحدة، أسعارها أرخص من نيويورك. لا يستطيع المرء أن يستوعب كيف يمكن لفندق يضاهي في جودته أحسن فنادق الولايات المتحدة، بغرفه الحديثة وتلفزيوناته وحمّاماته وهواتفه، أن يستمر في الخدمة مقابل أربع ماركات لليلة الواحدة، أي دولار واحد فقط. وسط ازدحام المرور لا تُرى أي سيارة إلا وتكون من أحدث طراز. إعلانات المحلات التجارية والدعايات ولوائح الطعام في المطاعم، جميعها مكتوبة باللغة الإنكليزية. على أراضي ألمانيا الغربية تعمل خمس محطات إذاعية لم تبث قط كلمة واحدة بالألمانية. وإذا ما لاحظ المرء كل هذا وأضاف له أن برلين الغربية ليست غير جزيرة صغيرة مزروعة داخل الستار الحديدي، وليس لها علاقات تجارية حتى دائرة قطرها خمسمائة كيلومتر، وهي ليست مركزا صناعيا مهما، وأنها تتبادل كل شيء مع العالم الغربي بالطائرات التي تحط وتقلع، بمعدل طائرة واحدة كل دقيقتين، من مطار يقع في وسطها، لا يجد مفرا من الاعتقاد بأنها ليست إلا وكالة ضخمة للدعاية الرأسمالية. إن نهضتها لا تتناسب وحقيقة واقعها الاقتصادي، ففي كل ركن من أركانها يُلمح القصد المدروس في تقديم مظهر من مظاهر الازدهار المختلق، وتُرى الغاية البيّنة في إبهار ألمانيا الشرقية وهي تتأمل المشهد من ثقب مفتاح الباب، فاغرة الفم.إن الحد الرسمي الفاصل بين المدينتين هو بوابة براندنبورغ حيث يخفق العلم الأحمر بمنجله ومطرقته. وعلى مسافة خمسين مترا من البوابة نُصِبَتْ لافتة تحذيرية تقول: “انتبه، أنت تقترب من الدخول في المجال السوفييتي”. وصلنا أمام تلك اللافتة عند المساء بعد أن زرنا برلين الغربية وتعرفنا عليها. وبعفوية تامة خفف فرانكو من سرعته. أشار لنا شرطي روسي أن نتوقف فتفحص السيارة بنظرة روتينية تماما ثم أمرنا أن نمضي قدما. إن العبور إلى الطرف الشرقي سهل ويسيرٌ مثل انتظار اللون الأخضر على شارة المرور، لكن الاختلاف هنا ملحوظ فهو صادم وحاد. دخلنا مباشرة في جادة الـ”أونتر دِن ليندن”، وهي الجادة العظيمة التي يعني اسمها “تحت ظلال الزيزفون”، وكانت تُعتبر في زمان مضى من أبهى جادات العالم. أما الآن فلم يعد ماثلا فيها غير بقايا أعمدة غطاها الهباب وبوابات تطل على الفراغ وأساسات صدعتها الطحالب والأعشاب. لم يُعَدْ هنا إعمار أي شيء، ولو متر مربع واحد.وبمقدار ما يتقدم المرء في برلين الشرقية، يدرك أن الاختلاف بين الشطرين أعمق من الاختلاف بين نظامين، وأن هناك عقليتين متعارضتين تحكم كل منهما جانبا من جانبي بوابة براندنبورغ. إن المجمعات السكنية القليلة التي ظلت صامدة في القطاع الشرقي لا تزال تبدو عليها آثار المدفعية. والمحلات التجارية هنا قذرة، ومنكفئة خلف واجهات فيها فتحات أحدثها القصف، والمواد المعروضة فيها غير جذابة ونوعيتها متواضعة. هناك شوارع كاملة مبانيها مقوّضة ولم يبق من طوابقها العليا غير الهياكل، والناس لا يزالون يعيشون مكتظين فوق بعضهم في طوابقها السفلية، بلا مرافق صحية ولا مياه جارية، ينشرون الغسيل على الشبابيك حتى ينشف، مثلما في أحياء نابولي الفقيرة الوعرة. وفي الليل، بدلا من الإعلانات التي تغمر برلين الغربية بالألوان، لا يسطع في الجانب الشرقي شيء غير النجمة الحمراء. وميزة هذه المدينة المعتمة المكفهرة أنها حقا تتناسب والواقع الاقتصادي للبلاد، باستثناء وحيد هو جادة ستالين.يتمثل الرد الاشتراكي على نهضة برلين الغربية في المهزلة الهائلة المتجسدة في جادة ستالين. إنه مشروع يخل بالعقل، سواء من حيث الحجم والأبعاد أو من حيث الذوق الفظ فيه، وهو مزيج متنافر من كل الأساليب، لا ناظم له إلا معايير موسكو المعمارية. إن جادة ستالين هي مدى واسع مليء بالمساكن التي تشبه مساكن أهل الريف الأغنياء بالمال، والفقراء بذوقهم، لكنها مكدسة تكديسا واحدا فوق الآخر، وفيها أطنان لا تعد ولا تحصى من الرخام ومن التيجان المزخرفة بالزهور والحيوانات والأقنعة الحجرية، وكمّ هائل من البوابات السقيمة المزيّنة بتماثيل إغريقيّة مزيّفة، مصبوبة بالباطون المسلّح.إن معيار من صمموا هذا العمل الذي لا يستوعبه عقل هو معيار بسيط. فإذا كانت جادة “أونتر دن ليندن” مفخرة هتلر، فإن مفخرة برلين الاشتراكية هي جادة ستالين، ذلك أنها أكبر وأعرض وذات وزن أكبر، بل إنها أبشع أيضا. في برلين الغربية تبنى مدينة لأناس أغنياء، هم أنفسهم من كانوا يرتادون جادة “أونتر دن ليندن” قبل الحرب. تعتبر جادة ستالين مقرا سكنيا لأحد عشر ألف عامل، وفيها مطاعم وصالات سينما وملاهٍ ومسارح، هي بمتناول الجميع، وكل مكان من هذه الأمكنة هو مثال صارخ على الإسراف في التكلف والتحذلق: أثاث منجّد بقماش أرجواني وثير، وسجاد أخضر مزين بحواش مذهبة، إضافة إلى المرايا والرخام المزروع في كل ركن وزاوية، وحتى في المراحيض. ما من عامل في أي بقعة من الأرض يعيش أفضل ممن يعيشون في جادة ستالين، ولقاء أسعار زهيدة. ولكن مقابل هؤلاء العمال، ذوي الامتيازات الذين يعيشون هنا والبالغ عددهم أحد عشر ألفا، هناك حشود مكدسة فوق بعضها في مساكن بائسة تعتقد –وتقول صراحة- أن ما أنفق على التماثيل والرخام والأثاث والمرايا، كان كافيا لإعادة إعمار المدينة إعمارا لائقا.هناك من قدَّر أن برلين لن تصمد أكثر من عشرين دقيقة في حال اندلعت حرب جديدة. وإن لم تندلع الحرب بعد خمسين عاما أو مائة عام، وساد أحد المعسكرين على الآخر، فإن شطري برلين سيصيران مدينة واحدة تكون معرضا تجاريا هائلا يقام من العينات المجانية للنظامين.إن برلين اليوم -وليس ذلك بسبب مظهرها الخارجي وحسب- هي مكان للهذيان. ومن أجل التعرف على حياتها الخاصة والحميمة ورؤية وجهها الخفي والكشف عن تفاصيل بنيتها لا بد من النزول إلى عالم المترو. لقد أعطى هتلر الأوامر بإغراق المترو بالماء، قبل ساعة من انتحاره والروس على أبواب بيته، وذلك كي يخرج الناس الذين احتموا فيه ويقاتلوا في الشوارع، ولذا فهو قذر ورطب حتى الآن، لكنه اليوم الوسيلة التي يستخدمها عامة البرلينيين –الفقراء على كلا الجانبين- للاستفادة من المنافسة المحمومة التي يخوضها النظامان على السطح بلا ضجيج. هناك أناس يعملون في أحد شطري المدينة ويعيشون في الشطر الآخر، فيرتبون أمورهم بأحسن طريقة ممكنة للاستفادة من أفضل ما يقدمه كلا النظامين. وفي بعض المواضع من المدينة يكفي لتحقيق ذلك أن يعبر المرء الشارع، فهذا الرصيف اشتراكي والآخر، المقابل له، رأسمالي. على الرصيف الأول، المنازل والمحلات التجارية والمطاعم ملك للدولة، أما على الرصيف الثاني فهي ملكية خاصية تعود للأفراد. نظريا، من يقطن على أحد الرصيفين ويعبر الشارع ليشتري زوجا من الأحذية من الرصيف المقابل، يكون قد ارتكب على الأقل ثلاث جُنَح على كلا الجانبين.لكن جميع الأحكام في برلين شكلية نظرية. وهناك اتفاقات واضحة تماما لمنع المضاربات وهروب رؤوس الأموال وإفساد الأنظمة المعمول بها. ومبدئيا لا يمكن للمرء أن ينفق على جانب ما يكسبه من الجانب الآخر، وكل عملية تجارية يجب أن ترفق بتبرير لمصدر الأموال، لكن السلطات تتغاضى عن ذلك عمليا، فليس هناك ما يهمها غير المظاهر والشكليات. بوسع سكان برلين أن يعبروا من جانب إلى آخر مشيا على الأقدام في الشارع، لكنهم يحترمون قواعد اللعبة ويعبرون بالمترو حيث لا يخفى على أحد أنهم ذاهبون إلى الجانب الآخر أيضا، وأن السلطات تتجاهلهم.إن الدليل الأكثر سطوعا على هذه المعركة الشرسة رأيناه عندما اشترينا ماركات شرقية من أحد بنوك برلين الغربية. صرفنا الدولار الواحد بسبعة عشر ماركا شرقيا. اعتقد فرانكو صادقا أن الموظف قد أخطأ، فسعر الصرف الرسمي ماركان شرقيان اثنان مقابل الدولار الواحد. لكن الموظف أوضح لنا أن سعر الصرف هذا لا يؤخذ بعين الاعتبار في برلين الغربية وأن البنوك هنا –على مرأى من جميع الناس وفي عملية قانونية تماما- تصرف الدولار بسبعة عشر ماركا شرقيا. وهو ما يقارب ثمانية أضعاف السعر الرسمي. نظريا، كانت عملية غير مجدية لأننا لن نستطيع شراء أي شيء في ألمانيا الشرقية من دون أن نقدم الدليل على أن النقود تم تصريفها في البلد نفسه. لكن ذلك لم يكن غير كلام نظري، فبعشرين دولارا بدلناها في برلين الغربية تجولنا في ألمانيا الشرقية بالطول والعرض. وبإجراء حسابات بسيطة، تبين لنا أن غرفة في أحسن الفنادق، بحمامها ومذياعها وهاتفها وبالفطور الذي يأتي إلى السرير، كلفتنا 75 سنتافا كولومبيا، وأن غداء كاملا في أحسن المطاعم كلفنا 20 سنتافا بما في ذلك الخدمة والتماثيل والمرايا وموسيقا شتراوس.في هذه المدينة لا شيء يوحي بالثقة أبدا، ولا أحد يعرف حق المعرفة علام يتكل، وأبسط أفعال الحياة اليومية تتطلب شيئا من الشطارة وخفة اليد؛ ومن يعيشون فيها ولا يمتلكون مفاتيحها السرية، يعيشون حالة من القلق المستمر ويشعرون أنهم جالسون على برميل من البارود. يبدو أن لا أحد باله مرتاح هنا، فالخبر الذي يُفسر في باريس على أنه حماقة جديدة من حماقات المسؤولين، يدويّ في برلين دوي المدافع. وأي إطار من إطارات السيارات ينفجر هنا، قد يثير الذعر والرعب بين الناس.أما مدينة لايبزغ فلها حكاية أخرى. فبعد أربع ساعات من السفر بالسيارة على طريق متعرجة تحف بها أشجار الحور، وصلنا إلى المدينة ودخلناها عبر شارع ضيق ومقفر، يكاد لا يتسع للخط الحديدي الذي يسير عليه الترام. كانت الساعة العاشرة ليلا والسماء بدأت تمطر. ذكرتني هنا جدران الطوب الخالية من النوافذ، ومصابيح الإنارة العامة الحزينة، بالفجر في بوغوتا وهو يطلع على أحيائها الجنوبية.كانت المدينة في مركزها تنعم بهدوء مريب، فإنارتها شحيحة مثل إنارة ضواحيها. ولم يكن هناك ما يدل على الحياة غير أضواء النيون المنبعثة من لافتات بارات الدولة التي تحمل علامة H.O، ولم يكن فيها سوى عدد قليل من الزبائن المدنيين وبعض العسكر. وبعد البحث بلا فائدة عن مطعم مفتوح من مطاعم الدولة التي تحمل اسم “ميتروبا”، قررنا أن نذهب إلى الفندق. لم يكن عمال الاستقبال يتقنون غير الألمانية والروسية، وكان الفندق الذي اخترناه أحسن فنادق لايبزغ، وقد صُمم ديكوره وفقا للمعايير نفسها التي صُممت بها جادة ستالين. على طاولة الاستقبال، ما من جريدة من جرائد الغرب الشيوعية التي تصل جوّا إلا وكانت معروضة. في البار المضاء بالثريات الزجاجية الثقيلة والمبهرجة، كانت إحدى الفرق الموسيقية المكونة من بعض عازفي الكمان تعزف لحنا من ألحان الفالس المثيرة للشجن، والزبائن يشربون الشمبانيا غير المبردة بصمت وسكون في جو يتميز بالكآبة. أما النساء اللواتي دخلن خريف العمر وتلونت وجوههن بمساحيق التجميل البنفسجية، فكن يعتمرن قبعات تقادمت موضتها، والموسيقا كانت تطفو متهادية في جو تضمَّخ بالعطر الثقيل.في إحدى زوايا الصالة كانت ثلة من الرجال والنساء يتناولون الشاي مع البسكويت، وقد ارتدوا زي الصيد فبدوا كاملي الأناقة بالسترات الطويلة الحمراء والقبعات السود وجزمات ركوب الخيل. ولم يكن ينقص تلك الثلة غير الكلاب البيضاء الضخمة المبقعة بالأسود حتى تبدو كأنها منتزعة من لوحة من لوحات الطباعة الحجرية المستقاة من أصفى أجواء الأرستقراطية الإنكليزية وأنقاها. أما نحن، فبالجينز الأزرق والقمصان العادية وغبار الطريق الذي لم نمسحه عنا بعد، كنا العلامة الوحيدة التي تدل على الديمقراطية الشعبية.كنا قد أتينا إلى هنا كي نتفرّج، لكنا بعد أربع وعشرين ساعة في لايبزغ لم يعد همنا أن نتفرّج وحسب، بل أن نستوعب ما نراه ونفهمه. منذ خمسة عشر يوما مررنا في هايدلبرغ –كما لو أن ذلك من مصادفات الأقدار-، وهي مدينة طلابية في ألمانيا الغربية، تدهش الزائر أكثر من أي مدينة أخرى في أوروبا، بشفافيتها وأجواء التفاؤل والرجاء التي تعم فيها. ولايبزغ أيضا مدينة طلابية لكنها مدينة حزينة، وعربات الترام فيها قديمة ومكتظة بالبشر المكتئبين، اللابسين ملابس رثة. لا أعتقد أن في المدينة كلها أكثر من عشرين سيارة مقابل نصف مليون نسمة تسكن فيها. في نظرنا، لم يكن أمرا معقولا أن يكون شعب ألمانيا الشرقية شعبا حزينا، بل أكثر الشعوب التي رأيتها في حياتي حزنا، وذلك بعد أن استولى على السلطة ووسائل الإنتاج والتجارة والبنوك والاتصالات والمواصلات.في يوم الأحد تتدفق الحشود إلى الحدائق ومدن الملاهي حيث تُعزف الموسيقا الراقصة ويتناول الناس المشروبات الغازية ويمضون أمسيات مملة مقابل سعر زهيد جدا. لا مكان لمغزّ إبرة في حلبة الرقص، إلا أن الأزواج المكتظين فيها يكادون يبدون جمادا وعلى وجوههم الكدر نفسه الموسوم على وجوه الحشود المكتظة في عربات الترام. الخدمة بطيئة وعلى المرء أن يصطف في الدور وينتظر نصف ساعة لشراء الخبز وبطاقات قطار الألعاب أو السينما. أمضينا ساعتين كاملتين حتى تمكنا من شراء الليمونادة في إحدى مدن الملاهي، حيث تعيّن علينا أن نشق طريقنا بالأذرع بين جموع العشاق والآباء والأمهات وأولادهم. إن منشأة ضخمة ومجهزة مثل هذه المنشأة، من دون أن تعمل بفعالية، هي أقرب مثال إلى الفوضويّة.لم يكن بوسعنا أن نستوعب الأمر، فلقد كنا كمن ذهب إلى السينما لقتل الوقت، فوجد نفسه يشاهد فيلما من عمل المجانين، لا يُعرف رأسه من قدميه، وليس لحبكته من غاية غير إثارة حيرة المشاهدين. ذلك أن الحيرة هي أقل ما يمكن أن يصيب المرء عندما يبدو كل شيء، في العالم الجديد وفي حمى الثورة، باليا، متهالكا، هرما.كنا أنا وفرانكو قد نسينا جاكلين، إذ سارت طول النهار وراءنا، متخلفة عنا، وهي تنظر بلا اكتراث إلى الواجهات المغبرة حيث تعرض سلع ومواد رديئة بأسعار بخسة. عند الغداء ذكّرتنا بوجودها حينما احتجت على عدم وجود الكوكا كولا. وفي المساء طفح الكيل بها ونحن في مطعم المحطة فعلقت قائلة: “هذا بلد شنيع”، وذلك بعد أن تأخر مجيء العشاء ساعة، وضاقت أنفاسنا من الدخان والروائح وأُرهقتنا الفرقة بموسيقاها التي تدخل في مسامع الزبائن من جهة لتخرج من الجهة الأخرى.كان رأي فرانكو من رأيها تماما، فخرج مبكرا في صباح اليوم التالي يبحث عن تفسيرات لذلك بعد أن تذكر أن جامعة ماركس-لينين هي في لايبزغ حيث يَدْرسُ الماركسيةَ شبان وصبايا أتوا من أنحاء العالم كله. إنها مكان للسكينة والتأمل، توارت مبانيه بين الأشجار، وهو بذلك أشبه بمدرسة إكليريكية كاثوليكية. هناك حالفني الحظ وسُررت بأن التقيت بمجموعة من الطلاب القادمين من أميركا الجنوبية. وبفضلهم تأكدت ملاحظاتنا وترسخت على أسس ملموسة، فقد كان من الممكن أن تكون ذاتية وغير منصفة. والفضل بذلك أيضا يعود بالطبع، إلى السهرة الرائعة التي أحييناها تلك الليلة في منزل الهير فولف.الجزء الأول .
..