من أجل الحرية والخلاص أنطوان شلحت

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • من أجل الحرية والخلاص أنطوان شلحت

    • من أجل الحرية والخلاص أنطوان شلحت: الثقافة الفلسطينية جزءٌ من فعل ٍ عمليٍّ مقاتل ٍ


    ]

    حاورته- دارين حوماني
    يطفو التاريخ والأدب على السطح وإلى الذروة عن الألم الفلسطيني والمشروع الكولونيالي الصهيوني منذ نشأتهما سويًا عند كل حديث مع الباحث في الشؤون الإسرائيلية والناقد والمترجم أنطوان شلحت، فالحديث معه هو حديث ليلي مع مكتبة، حين تبدأ بالسرد لك تنفذ إلى داخلك تمامًا فتتذكر من جديد كم أنك تحب فلسطين. فهو قادر على نقلنا من “الوعي القائم” إلى “الوعي الممكن” طبقًا لثنائية الناقد لوسيان غولدمان، باعتبار الأول وعيًا سكونيًا والثاني وعيًا رافضًا وناقدًا لكل ما هو قائم من تشتت وتمزّق في الخرائط. ثمّة لدى شلحت نبرة من الزمن تتجاوز المعنى المفروض علينا، وتحكي بزخم كأن الأمر متعلّق بمونولوج لا يمكن التفريط في عدم الإصغاء إليه. وحين ينبش في الأدب العبريّ نشعر معه بأنه يتفقّد الفلسطينيين فيه واحدًا واحدًا، ويتفحص أحاسيسهم حرفًا حرفًا. يعود مترجم “لماذا لم أعد يهوديًا” (2014) لشلومو ساند إلى ما قبل نكبة عام 1948 وحتى يومنا هذا باحثًا عمّا يتوجّب علينا أن نقرأه فيعطينا الفرصة لنتعرّف عن كثب على الأرضية الصهيونية وعلى الأدباء والباحثين الإسرائيليين فيقدّم لنا أعمالهم بلغة الضاد أو يقدّم لترجمات عبر “مدار- المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية” الذي يترأس وحدة الترجمة فيه.
    كرّس شلحت معظم حياته لتفكيك السرديات الصهيونية السياسية والأدبية، تلك الظاهرة وتلك المدفونة في الركام، فهو أيضًا مدير وحدة “المشهد الإسرائيلي” في “مدار” وله أكثر من 15 كتابًا بحثيًا سياسيًا ونقديًا و12 كتابًا مترجمًا عن العبرية وعشرات الأبحاث والدراسات نجد أنفسنا معها أمام دراماتوجيا حرفية مكثفة بالمعارف التاريخيّة والسياسية والثقافية رابطًا ومفككًا في تلاحم للمعرفي والحسي والرؤيوي. من أعماله المترجمة عن العبرية، “الطريق إلى عين حارود” (عاموس كينان، رواية، 1983)، “اختراع أرض إسرائيل”، شلومو ساند (2013)، “أوجه الشبه بين الكولونيالية الصهيونية والكولونيالية الأوروبية”، غرشون شفير، (2020). ومن كتبه البحثية “على فوهة البركان- متابعات نقدية عن الأدب الفلسطيني” (1996)، “ثقوب في الثقافة الأخروية، متابعات عن الثقافة والواقع الثقافي الإسرائيلي” (1998)، “طوق أوسلو: تعزيز السيطرة الكولونيالية الإسرائيلية” (2018)، وغيرها العديد.
    يترأس أنطوان شلحت أيضًا الهيئة الإدارية لـ “جمعية الثقافة العربية” التي تسعى إلى توفير مساحة ثقافية عربيّة في الداخل الفلسطيني، وتُعنى بالتواصل الثقافي العربي بين الفلسطينيين في الداخل والشتات وبين الفلسطينيين والعالم العربي رغم فوضوية هذا العالم. كما يتولّى إدارة تحرير موقع “ضفة ثالثة” الثقافي الصادر عن جريدة “العربي الجديد”، يشدّد فيه على أهمية ثقافة السجال الفكري وعلى تظهير صورة مختلفة عن الواقع الثقافي العربي. وهو كاتب في عدد من الصحف من تلك الكتابة التي تمتح من العمق فيصوغ رؤوسنا المرتبكة في كل مرة إلى إضافة معرفية، في رغبة منه لتدوين الوجود الصهيوني ومخاوف اللاوعي التل أبيبي حرفيًا ولاستجواب الهوية والمنفى والماضي الذي لا يمضي كأنه يدوّن كلماته على الجدران لأزمنة قادمة.. وهنا حوار معه:

    تستهل كتابك “خداع الذات” (2012) بدراسة حول ردّة الفعل على حرب حزيران/ يونيو 1967 في النصوص الثقافية الإسرائيلية، التي تميّزت عمومًا بمماشاة “الإجماع الصهيونيّ العام”، كما تتناول فيه تاريخ المسرح الإسرائيلي وكيفية تناوله للشخصية العربية، وتقدّم فيه ترجمة لثلاثة نصوص مسرحية للكاتب الإسرائيلي حانوخ ليفين الذي شكّل، آنذاك، ظاهرة فريدة من نوعها لما قدّمه من أعمال ساخرة، ما دفع أجهزة الدعاية الإسرائيلية الرسمية والشعبية لحملة ضده حيث رضخ مسرح “الكاميري” بتل أبيب، وأسقط مسرحية له بعنوان “ملكة الحمّام” عن الخشبة بعد تسعة عشر عرضًا.. هل يشكّل حانوخ ليفين استثناء في الحالة الأدبية العبرية، وكيف هي الأجواء الثقافية والأدبية حاليًا، هل لا يزال النص الأدبي الإسرائيلي يفتقر إلى الكتابة الاحتجاجية والنقد السياسي؟
    ما زال المسرحي الإسرائيلي الأشهر حانوخ ليفين (1942- 1999)، يشغل حيّزًا خاصًا في مشهد الثقافة العبرية في دولة الاحتلال بفضل أعماله الساخرة الاحتجاجية. وبالرغم من مرور أكثر من عقدين على وفاته ما يزال بالإمكان تلمّس البصمات الباقية لإبداعه المسرحي، نظرًا إلى أنه في جميع كتاباته شخّص مجتمع دولة الاحتلال ووصفه في تفاصيله الدقيقة، على ما احتوته تلك التفاصيل من فظاظة وانغلاق وعنف، ومن جور وانعدام تسامح وتوحّش لا يعرف حدودًا. كما أنه كتب عن أشخاص يستمرئون الاستعلاء ويتلذذون بإلحاق الأذى، لكون جبلتهم متشكلة من هذه الطينة، ويعشقون تضليل محاوريهم ومساومتهم من أجل المساومة. كما أماط اللثام عن العوامل الأشدّ حطة وراء هذه النوازع البشرية في مواصفاتها الإسرائيلية. وهكذا تتبدى شخوص ليفين، وهي شخوص المجتمع الذي شاهدها، بوصفها شخصيات عديمة الحياء، متبجحة، بل ومتطوّسة بتلونها وريائها، بمتناقضاتها ونقائصها. ويقول دارسو ليفين -بمن في ذلك من النقّاد الإسرائيليين-: إن المرء يكاد لا يعثر على وضعية في “كينونة إسرائيل، حتى بعد وفاته، على المستوى البشري والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، يستحيل استعارتها من خلال جملة مقتبسة عنه. وفي واقع الأمر، ابتكر ليفين منذ أعماله الأولى “أنتِ، أنا والحرب القادمة” و”كتشاب” و”ملكة الحمّام” أداة فنيّة للنقد السياسيّ الحادّ. ويتمثل جوهر هذا النقد في تعرية الخداع الذاتيّ لدى مجتمع دولة الاحتلال. وعندما كتبت هذه الأعمال الساخرة بالذات، في إثر حرب حزيران/ يونيو 1967، كانت كذبة “اللاخيار” واحدة من المصادر الرئيسة لخداع الذات في هذا المجتمع، ولذا اختار أن يوجّه إليها الكثير من سهام نقده. وكانت وضعيّة الموت تحت وطأة الحروب وعسكرة الحياة المدنيّة، ذات “الماركة الإسرائيلية المسجلة”، بمثابة ثيمة مركزية في أعماله الاحتجاجية، عبّر عنها منذ مسرحيته “أنتِ، أنا والحرب القادمة” بقوله: “دائمًا، طوال كل السنوات، كنّا ثلاثة/ أنتِ، أنا والحرب القادمة/ وعندما تأتي الحرب القادمة/ ستظلون ثلاثة/ أنتِ وصورتي والحرب القادمة”. تعرّض ليفين إلى سوط الرّقابة الإسرائيلية، مثلما أشرتِ، فتم إسقاط مسرحيته “ملكة الحمّام” عن الخشبة بعد عروض قليلة. كما كانت مسرحيته “الوطنيّ” هدفًا لهجوم الرقابة في ثمانينيات القرن الفائت. وإن العودة المستمرة إلى أعمال ليفين لتوصيف وضعيات راهنة من شأنها أن تحيل بالأساس إلى تبرّم خفيّ من طرف العائدين جراء ضمور أدب الاحتجاج الإسرائيلي في الفترة الماضية، بل ثمة من يعتقد أنه مع وفاته استغرق مسرح الاحتجاج في غيابة إغفاءة أخيرة.

    تعملون في المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية “مدار” على ترجمة كتب عبرية إلى اللغة العربية. من خلال الاطلاع على الأعمال المترجمة نرى أن ثمة حضورًا لأدب الديستوبيا في الألفية الثالثة، ما يحيلنا إلى وجود مخاوف وإحساس عميق بالواقع المرير وتوقّع الخراب في اللاوعي التل أبيبي، حدّثنا عن حضور هذه الأعمال في المشهد الأدبي العبري، وهل هذا مردّه لوجود هاجس لدى المثقفين الإسرائيليين “العلمانيين” أن إحكام سيطرة الفكر الديني هو نوع من المقامرة الوجودية نهايتها هلاك إسرائيل؟
    يشهد أدب الديستوبيا في إسرائيل، أو ما يمكن أن نطلق عليه تسمية “أدب النهايات” (الأدب الأبوكاليبتي)، في الآونة الأخيرة، نُموًّا وازدهارًا كبيرين. بيد أن كتابته شهدت عدة نماذج جليّة منذ ثمانينيات القرن العشرين، وجاءت على خلفيات متعدّدة أهمها أن الكتابة التي “تنشُد النُطق بالحقيقة” و”تتطلع إلى الأنقى” لا يمكنها أن تتعايش مع أي خنقٍ لمقوّمات الحياة وقمع للحرية، فتعبّر عن تململها من خلال استشراف إحالات هذا الخنق وذلك القمع ضمن رؤيا سوداوية تحمل أكثر من نذير سوء.
    أنجزنا في “مركز مدار” مؤخّرًا ترجمة رواية “الثالث” لكاتب إسرائيلي اسمه يشاي سريد (1965). و”الثالث” يعني الهيكل الثالث الذي يُقام في المستقبل، بعد أن تكون قنابل نووية دمّرت مدن الساحل في إسرائيل وفي مقدمها مدينة تل أبيب، ويقف على رأسه فلكيّ مُرتدّ عن الدين يعيده التجلّي الإلهي في النقب إلى دين آبائه وينجح في توحيد من تبقّوا من الشعب حوله في منطقة الجبل (القدس)، ويقوم الإسرائيليون الذين نجوا بطرد الفلسطينيين (“العماليق”) من البلاد ويؤسسون مملكة جديدة برئاسته ويبنون الهيكل الثالث ويعيدون ممارسة العبادة فيه، لكن بعد مرور نحو خمسة وعشرين عامًا تتورّط “مملكة إسرائيل الجديدة” في حرب أخرى مع جيرانها العرب ينتج عنها خراب الهيكل الثالث.
    ولعلّ النقطة المحورية على صعيد الدافع الأساس لكتابة هذه الرواية، هي الخشية الرهيبة للكاتب سريد من مصير الكيان الإسرائيلي المُنزلق بقوة نحو تديين/ تهويد الوعي والحياة. فالكاتب يستشعر البنى التحتية الجديدة المؤسّسة لـ”الهيكل الثالث”. ويقوم بشحن الهيكل الثالث بالتصوّرات والعبارات الدينية، بدءًا من العهد القديم فالمشناه والتلمود، وبالهوس العرقي في اليهودية، من أجل تأكيد طبيعة قدرة البنى الجديدة على التدمير، وفي سبيل تأكيد طاقاتها العظيمة المستفيدة من التكنولوجيا المتقدمة بغية “استعادة الوعي اليهودي”، و”استعادة” العرق اليهودي أو الرحم الأولي لليهودية (الأصولية اليهودية بمعناها الإثني). فتصبح هذه “الاستعادة” الهدف المُشتهى، ويتم تدمير الإنسان من خلال التمسّك بالتصوّرات الأصوليّة، واغتصاب “مملكة السماء” واستنزالها لتتحقّق على الأرض.
    والكاتب ابن الوزير وعضو الكنيست السابق يوسي سريد، من زعماء حزبي العمل وميرتس، وأحد رموز “اليسار الصهيوني”. وهذا يُحيل، في العمق، إلى شكل من أشكال دعوة الأبناء إلى محاسبة الآباء. وإن مثل هذه المحاسبة متواترة في النص الأدبيّ الإسرائيلي. وتصل ذروة الدعوة إلى محاسبة الآباء في “الثالث” في آخر الرواية، الذي يجد فيه البطل/ الراوي نفسه تحت نصل المقصلة فيصرخ: “الويل يا أبي، الويل”، في إشارة بليغة كفايتها إلى تأويل أن ما كان وما صار وما سوف يكون حدث بكيفية ما بجريرة الآباء الذين يضرس أبناؤهم الحصرم، في سياق ما يعرف باسم “التجربة الإسرائيلية/ الصهيونية”.
    واتجه الأدب العبري نحو ما تُسمى بـ”الرؤيا القيامية” (الأبوكاليبتية) منذ رواية “الطريق إلى عين حارود” التي كتبها الأديب الإسرائيلي عاموس كينان وهي من النماذج الأولى ضمن خانة هذا “الجانر” من الأدب، بل شكّلت إرهاصًا به (توليتُ ترجمة هذه الرواية إلى العربية وصدرت في العام نفسه لصدورها باللغة العبرية- 1984- في مجلة “الكرمل” الفصلية الثقافية الفلسطينية، وعادت وصدرت عن “دار الكلمة للنشر” ببيروت عام 1987). وهي تحكي قصة مواطن إسرائيلي، ومحاولته العسيرة المُشبعة بالعثرات للهروب من تل أبيب والوصول إلى عين حارود في الشمال، وهي البقعة الوحيدة الباقية المُحرّرة من نير حكم الجنرالات الذين انقلبوا على نظام الحكم في إسرائيل وأخذوا يرتكبون موبقات مماثلة لما يرتكبه جنرالات “العالم الثالث”، من تعطيل للبرلمان وإغلاق للصحف وعزل لإسرائيل عن العالم الخارجي، وفرض نظام حظر التجوال. ويدرك هذا الإسرائيلي الساعي إلى “نقطة الضوء” الأخيرة، في وعيه التام، أنه لا يستطيع بلوغ عين حارود إلا بمساعدة الفلسطيني محمود (يقول: “يتعين عليَّ أن أجد عربيًا… كل خطتي للهرب مبنية على العرب”)، لكون العربي يعرف مسالك الطرق من ضمن أشياء أخرى مهمة. ثم يعثر الكاتب على “محموده”/ شخصيته العربية. وتجري بين الاثنين خلال رحلتهما مواقف وتدور حوارات ليست متحررة من إسار الأخطاء العظيمة التقليدية. وبرغم ذلك لا تحجب حقيقة كون الإدراك السالف هو بمثابة “وعي مبكّر” لدى عاموس كينان بأن بلوغ عين حارود، وهي كما ذكرنا البقعة النظيفة الباقية، المُحرّرة والإنسانية وغير العنصرية، وبكلمات أخرى بلوغ الحل الديمقراطي والإنساني الشامل للصراع بين الشعبين، لن يتم إلا بمساهمة العرب الفلسطينيين كشركاء على قدم المساواة.
    اعتبرت هذه الرواية في حينه ضربًا من الخيال أو الكابوس الذي ينوء الكاتب تحت كلكله، وأن إمكان حدوث وقائع الرواية مستحيل لأن إسرائيل تُعدّ “دولة ديمقراطية مكينة” تمتلك ما يكفي كي تسدّ الطريق على وصول العسكر إلى سدّة الحكم، كما يحدث في الدول النامية العالمثالثية.
    إن رواية “الطريق إلى عين حارود” كانت بمنزلة “نبوءة” أطلقها عاموس كينان عام 1984 عن إسرائيل، وبدا، أنها مبنيّة للمجهول، غير أنها بنظرة راهنة النبوءة التي تحققت بدءًا من عام 2001، وهو العام الذي أصبح فيه أريئيل شارون (الجنراليسمو) رئيسًا للحكومة الإسرائيلية. وأصبحت إجراءاته غير الديمقراطية مسوّرة بـ”جدار واقٍ” من شبه “إجماع قوميّ” أصمَّ يشكو من ندرة تأثير أصحاب المواقف الليبرالية في المناخ السياسي وما يستجرّه من موبقات تطول الأوضاع الإسرائيلية الداخلية.
    بعد رواية كينان صدرت أعمال أدبية إسرائيلية تندرج أيضًا في إطار أدب الديستوبيا، ومن أبرزها رواية “فندق يرمياهو” لبنيامين تموز، ورواية “الملائكة قادمون” ليتسحاق بن نير.
    وحتى العام 2005 كان النظر إلى هذه الأعمال باعتبارها ظاهرة في الأدب الإسرائيلي ضربًا من المبالغة والمجازفة، غير أنّها التقت عند مفترق واحد يتمثل في كونها تشكّل تأويلات مجازية أو استعارية للوجود المحدّد، والدلالة المضادة والمستحقّة للنماذج اليوتوبية (أو الطوباوية) في هذا الأدب التي كان حافلًا بها منذ نشوء الحركة الصهيونية واعتماد مشروعها الكولونيالي في فلسطين، وجاءت بعض كتب مؤسس هذه الحركة ثيودور هرتسل (“ألتنويلاند” و”الدولة اليهودية” مثلًا)، أشبه بإنباء مدوّ بما تلاها. وقد بدأ التعبير عنه بين بعض الكتاب والمثقفين الإسرائيليين من تشكيك بالممارسة والمسلَّمات الصهيونية، وتحديدًا بعد الحرب الإسرائيلية الأولى على لبنان، التي تشكّل شبه إجماع لديهم على أن إسرائيل كانت البادئة بشنّها في حزيران/ يونيو 1982.
    بعد عام 2005، أنتج الأدب الإسرائيلي موجة من الأعمال الديستوبية. علمًا أن هناك أمرًا ما في الواقع الإسرائيلي الحاضر الآني، وليس فقط المنسول من ذاكرة الماضي، يثير الخوف والرعب والرؤى المروّعة حيال المستقبل. كما أن كُتّـاب هذه الموجة من الأدب ينتمون في معظمهم إلى الطيف اليساري من الخارطة السياسية الإسرائيلية. ومن الملفت أن عام 2017 شهد صدور ثلاث روايات ديستوبية إسرائيلية لثلاثة كتّاب قرروا أن يقتحموا عالم الأدب من صفوف المؤسسة العسكرية والأمنية.

    هناك من يرى أن ثمة إشكالية في الترجمة عن العبرية، فمنهم من يرى فيها شكلًا من أشكال التطبيع، ومنهم من ينظر إلى حقوق الملكية الفكرية التي تعني دعم مؤسسات إسرائيلية ماليًا، ما هي رؤيتك لهذه الإشكاليات؟
    الأكيد أن ثمة إشكالية في الترجمة عن العبرية لا تتقاطع قطّ مع الترجمة من أي اللغات إلى العربية، والتي تُعتبر وسيلة مهمة من وسائل التلاقح الحضاريّ والتثاقف. ولا أريد تفنيد أي ادّعاء بهذا الشأن على غرار التطبيع، ودعم دولة الاحتلال. موقفي في هذا الصدد أن الترجمة من العبرية تشكّل مساهمة في تعميق الوعي حيال هذا الكيان المسمى إسرائيل، على قاعدة إبراز وإدراك ما في الواقع لا ما هو مُقحم عليه.
    كما أننا في مركز «مدار» ننطلق من وعي ما أصفه بأنه “الأمراض الطفولية” لعملية الترجمة من العبرية، وبصورة أساسية انتقاء المواد ذات الطابع المعادي للصهيونية فقط، أو إخضاع كل مشروع الترجمة من العبرية برمته إلى مشروع دراسة إسرائيل، على الرغم من الفارق الذي ينبغي تحديده بين المشروعين، وعلى الرغم من أهمية كل مشروع منهما على حدة. ولا ينبغي تأويل هذا الوعي لناحية التنائي عن ترجمة ما يتميز بطابع معاداة الصهيونية لمجرّد كونه كذلك، بل هناك حاجة إلى الاستمرار في ترجمة هذه المواد مع مراعاة عدم الاكتفاء بترجمتها فقط.
    وبما أنني مهتمٌّ بالأساس بترجمة الثقافة الإسرائيلية وبمتابعة سيرورتها وصولًا إلى اللحظة الراهنة، يهمني أن أشير إلى أنه منذ مطلع ثمانينيات القرن العشرين، والثقافة الإسرائيلية الراهنة ليست نسيجًا واحدًا ومتكاملًا، وإنما هي عبارة عمّا يُمكن توصيفه بأنه تعدّدية ثقافيّة وأدبية، مغايرة لما اعتدنا عليه. وتنسحب هذه الحقيقة على كل ما يتصل بهذه الثقافة من ظواهر وأنواع أدبية. وتكفي قراءة نَصّ من النصوص الشابة الجديدة، غير تلك التي كتبها ويكتبها الذين عرفوا باسم “أدباء جيل الدولة” (عاموس عوز، أبراهام ب. يهوشع، ديفيد شاحر، يهودا عميحاي، وآخرون)، حتى ندرك أنه لا وجود لنص عبري منسجم مع ثقافته، بل إن معظم مبدعي “الموجة الحديثة” في الأدب الإسرائيلي العبري اليوم، ينبشون في خبايا الذّاكرة الجماعية، ويحاول بعضهم إعادة صوغها من جديد وفق رؤية فيها قدر لافت من الإنسانية.

    يقوم الأدب العبري على مجموعة من الإشكاليات، منها أو أهمها بالنسبة إلينا، تجذّر الفلسطيني في أدب الأطفال تحديدًا بصورة سلبيّة. هل يشكّل الفلسطيني هاجسًا في أدب الأطفال حاليًا، من دون أن ننسى عسكرة التعليم وشيطنة الفلسطيني في المناهج التعليمية ما يؤسس لجيل إسرائيلي أكثر حقدًا وما لذلك من تداعيات، وخصوصًا أن الفلسطيني عُرف تاريخيًا في النصوص اليهودية بـ”البدوي” و”المتوحش” و”اللص” و”دون البشر”؟
    ثمّة في العُرف الإسرائيلي التقليديّ عبارة تقول: “العربي الجيّد هو العربيّ الميّت”، أو كما صاغته الباحثة بالشؤون الثقافية “حفيفا بدايا”: “أنا أكره العرب، إذًا أنا موجود”! وهي سكَّت هذه الصيغة ضمن مسلسل تلفزيوني وثائقي تم إنتاجه أواخر 2019، وتمحور حولَ موضوع كراهية العرب، وخلص إلى نتيجة أن هذه الكراهية تشكّل الإجماع الإسرائيلي القومي الأبقى، والمركّب المركزي الأبرز في هوية المجتمع اليهودي في دولة الاحتلال. ويعود ذلك إلى عملية التنشئة الاجتماعية، وإلى القدر المُفرط من نزعة التمحور حول الذات ورفض الآخر.
    في استطلاع أجراه الباحث في شؤون التربية أدير كوهين، بين طلاب الصفوف الابتدائية اليهودية بحيفا (صدر عام 1985 بعنوان “وجه بشع في المرآة”). وطُلب من المستطلعين أن يتطرقوا إلى التّداعيات التي يثيرها سماع كلمة: عربي، كتابة قصة أو موضوع حول لقاء مع عربي، تلخيص كتاب ينطوي على وصف للعربي وشرح مؤثراته عليهم، محاولة شرح أسباب “النزاع مع العرب”، والمجاهرة بآرائهم فيما إذا كان السلام ممكنًا وفيما إذا بالإمكان إنشاء حياة صداقة مع العرب. وكانت مستحصلات الاستطلاع أنّ مستوى الخوف من العربي عالٍ بشكل مذهل، ففي 75 بالمئة من الإجابات ترافقت شخصية العربي مع “خاطف الأولاد” و”القاتل” و”المخرب” و”المجرم” وتنميط شخصية العربي بشكل سلبي كما هو مكرّس في أدب الأطفال العبري. وفي حوالي 80 بالمئة منها تأطرت تشابيه العربي: “يعيش في الصحراء”، و”يلبس الكوفية”، و”راعي البقر”، و”ذو سحنة مخيفة”، و”في وجهه ندبة”، و”قذر ونتن”، و”تنبعث منه رائحة كريهة”؛ الجهل التام بين أوساط الطلاب اليهود لشكل العربي وهيئته وهندامه. فبعضهم قال إن العرب “هم أصحاب شعر أخضر” فيما أكد البعض الآخر أن “العرب لهم ذيول”!؛ تسعون بالمئة من الطلاب يتنكرون لحق العرب في البلد ويؤمنون بأنه ينبغي قتلهم أو شنقهم أو ترحيلهم؛ فقط قلائل حاولوا شرح أسباب النزاع مع العرب، فيما اكتفى الباقون بجمل مبتسرة من سياق التاريخ مثل: “العرب ينوون قتلنا… وتشريدنا من البلد… واحتلال مدننا. وقذفنا إلى البحر!!”؛ غالبية الطلاب الذين يرغبون في السلام يرون أن “السلام” يعني تسليم العرب بالسيادة الإسرائيلية على “أرض إسرائيل الكاملة”، بما في ذلك الضفة الغربية وقطاع غزة.

    هنا يُطرح السؤال: ألم تخضع هذه النتائج إلى التقادم بعد انطلاق ما تسمى “عملية السلام” في تسعينيات القرن الفائت وما أنتجته من تأثيرات؟
    تؤكد أبحاث كثيرة أن هذه العملية لم تترك تأثيرًا انعطافيًا نظرًا إلى أن تعامل معظم الكُتّاب معها جرى باعتبارها مرحلة استثنائية.
    يقف في مقدمة هذه الأبحاث التي تنتمي إلى علم النفس السياسي ما يصدر عن الباحث دانييل بار- طال. فقد وجد في فحص متجدّد أجراه عام 1997 أن كتب التدريس العبرية ظلّت تعاني من التثبت في الماضي، من غير أدنى تغيير يتناسب مع “عملية السلام”. وجزم بأن السلام بقي خارج حدود المدرسة الإسرائيلية، بوصفه انحرافًا طفيفًا عن مسار تاريخ حافل بالحروب، وبقي لسان الحال يقول: ما جدوى تغيير الكتب إذا كان السلام فصلًا قصيرًا لن يصمد طويلًا؟ وبرأيه، الانحياز إلى السلام يتطلب تعاملًا إيجابيًا حيال الإنسان الفلسطيني، في حين أن التعامل حياله سلبي على نحو شبه مطلق، ويتم حقنه في جيل مبكر، وحتى التربية في البيت الإسرائيلي ليس بإمكانها أن تحول دون اكتساب تعامل ثقافي سلبي إزاء العرب يبلغ ذروته في جيل الطفولة.
    إن منظومة التعليم الصهيونية ما فتئت تشدّد على حالة تفرّد تَسِم “أمة يهودية” في بحثها الدؤوب عن السيادة في وطن حَباهم “الكتاب المقدس” به، وعلى منح أفضليات لوعي المستوطنين الصهاينة على حساب الشعب المستعمَر وما يقترن بذلك من عدم الالتفات إلى النتائج المترتبة على أفعالهم. فعبر هذا التنميط يجري إصدار الحكم على الخصم. وهو يؤدي حتمًا إلى حكم منحرف ومختل يلقي المسؤولية عن خلق الصراع واستمراره، وعن منع الوصول إلى حل له، على كاهل ذلك الخصم. ويتمحور حول “عنف الخصم” ويحول دون أي تعاطف وجداني معه ودون أي اعتبار لحاجاته الإنسانية.
    تجدر الإشارة إلى أن من يُفترض بهم أن يضطلعوا بدور رياديّ في ما ينطوي على دحض لتنميط الإنسان العربي سلبيًا، ممن يؤطرون أنفسهم “أنصار السلام”، ينأون بأنفسهم عن ذلك بصورة لا يمكن عدّها غير واعية.
    وهناك كتب اعتُبرت مغايرة، لناحية الاحتجاج على الوضع القائم. فقد تناول بحث صدر في المجلة التربوية الإسرائيلية “طفولة” ثلاثة كتب من هذا القبيل صدرت بين 1987 و2007، وخلص إلى نتيجة أن الكتب الثلاثة خالية من الشخصيات الفلسطينية بذواتها الإنسانية ذات العمق النفساني. ومع أنها تشدّد في رسائلها الضمنية على ضرورة وجود حوار مع الفلسطيني، بوصفه آخر، ولا تشكّك في وجود “شريك عملية السلام”، فإن القراءة المتمعنة لها تكشف عن مقاربة إسرائيلية متمحورة حول الذات يتسم بها كل الإسرائيليون، ويستلزم واقع الصراع أن تتطلع دولة الاحتلال إلى تسويته بموجب “مفهومها هي” الذي أوجد الإجراءات الأحادية الجانب على ما بها من تجاهل متعمّد لوجود الطرف الفلسطيني وحقوقه، على ما تؤكد مُعدّة البحث.
    أحد كتب الأطفال هذه هو كتاب “إيتمار يلتقي أرنبًا” لديفيد غروسمان، صدر عام 1988، ويحكي قصة الولد الإسرائيلي إيتمار الذي يحب الحيوانات ويخشى من الأرانب فقط بسبب ما رسخ في مخياله بشأنها. وفي إحدى رحلاته مع والديه إلى الغابة التقى أرنبًا يخاف من الإنسان، وسرعان ما ربطت بينهما علاقة صداقة. حتى في حال التسليم بأن الكاتب يروم أن يغتال أفكارًا مسبقة في مخيال الصغار مع ما يمكن أن يترتب على ذلك من إسقاطات تتعلق بالصراع، فإنه لم يتجنّب الوقوع في أخطاء عظيمة. فالقصة مروية من ألفها إلى يائها بلسان الولد الإسرائيلي، صاحب الذات الواضحة والمتبلورة. والأنكى من ذلك أنه يحمل اسمًا صريحًا ومُحدّدًا بينما الآخر، الأرنب، لا يحمل اسمًا بتاتًا، فضلًا عن افتقاره إلى السمات الإنسانية لمجرّد كونه حيوانًا، وإن كان أليفًا. وإذا ما قاربنا المسألة من زاوية أن غاية الكاتب هي تبديد مخاوف غير واقعية في مخيال طفل بما يطلق العنان له من دون قيود، فإن مجرّد ذلك يردّ على مسألة التمحور حول الذات، التي بقدر ما إنها أنوية بقدر ما إنها لا تأخذ في الاعتبار حاجات الآخر بل حتى لا تراه.

    برأيك، هل تلعب الانتفاضات الفلسطينية والمجازر الإسرائيلية المتكررة بحق الفلسطينيين، دورًا في التأثير على وعي المثقفين الإسرائيليين؟
    لا شك في أن هناك دورًا للثقافة في مناحي الحياة الفلسطينية وإيصال رسالة الحرية التي ينشدها الفلسطينيون إلى العالم. وإن السعي إلى الخلاص والحريّة كمفهوم نظري وعملي غير منفصل عن الأزمة في تجربة الفلسطينيين المُمضّة، وضمن ذلك كانت الثقافة وما تزال جزءًا من التفكير النظري ومن الفعل العملي المُقاتل من أجل الخلاص والحرية. ومن الطبيعيّ أن يكون قسم من المعاني والدلالات متعلقًا بمجتمع دولة الاحتلال الصهيونية، وبكيفية انعكاس كل حدث على جوهر صراعه مع الشعب الفلسطيني وعلى الرواية “المُعتمدة” من طرفه لهذا الصراع. ويجدر بنا هنا أن نتوقف عند الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987 التي تركت بصمات واضحة على هذا المجتمع.
    اندلعت هذه الانتفاضة بعد أكثر من خمسة أعوام على انتهاء الحرب الإسرائيلية في لبنان (1982)، وإذا كانت هذه الحرب الأخيرة أظهرت للإسرائيليين شجاعة الفلسطينيين بلبنان وصمودهم الكبير في مواجهة جيش يفوق قدراتهم الذاتية عددًا وعدّة، فهي لم تطرح عليهم مشكلة الفلسطينيين بالخارج، ورأت إسرائيل أنها “غير معنية بها” إلا بمقدار ما يقوم الفلسطينيون بإزعاجها مباشرة. وأمام الرأي العالمي قالت إن الفلسطينيين في لبنان هم في بلد ليس لهم وأن تضيف -لصبّ الزيت على النار- بأنهم السبب الوحيد والرئيس لمشكلة لبنان وحربها الأهلية. وانتهت الحرب، من وجهة النظر الإسرائيلية، بإظهار كون المشكلة في هذا البلد لبنانية وإنها مشكلة شبكة من التدخلات والصراعات الدولية التي تستند إلى المشكلة الداخلية وتستغلها أو تستفيد منها. في المقابل وبعد النهاية القاتمة لحرب 1982، حسمت الانتفاضة الأولى مسألة الصراع مع الفلسطينيين بكونها صراعًا “بين مجتمعين على قطعة الأرض ذاتها وعلى الشرعية”. كما كتب أحد الأكاديميين الإسرائيليين في تشرين الأول/ أكتوبر 1988، أنه منذ عام 1967 عاد الصراع ليكون بصورة مباشرة بين إسرائيل والفلسطينيين؛ وهو صراع مختلف عن الصراع مع الدول العربية. فهذا الأخير كان في صلبه صراع مصالح، مثله مثل أي صراع بين دولتين لا بين مجتمعات. ولدى العودة إلى ما كُتب من مقاربات عديدة أثناء تلك الفترة، نتوصل إلى استنتاج أن الانتفاضة الأولى أظهرت كونها ثورة شعب على أرضه، ثورة شعب حُرم من حقوقه السياسية والمدنية واحتلت أرضه ومُنع عنه الحق المُعترف به لشعوب العالم- حق تقرير المصير. وثاني استنتاج يرتبط بإطلاق الانتفاضة سيلًا من كتابات إسرائيلية تشكل في التحصيل النهائي ممارسة ثقافية خارج مجال الخضوع والإذعان لرواية الاحتلال. وهذا السيل اتخذ منحيين متصلين: الأول، منحى قراءة الواقع الفلسطيني عبر وعي ورؤية مُتبصرة. والثاني، منحى إعادة استقراء تاريخ الحركة الصهيونية منذ نشوئها وما زرعته من بذور سوء لفهم التاريخ المعاصر وللإطلالة على المستقبل.
    ومن أبرز النماذج الدالة على ذلك ما كتبه الشاعر حاييم غوري، وهو من أشد دعاة وأنصار “أرض إسرائيل الكبرى”، بأن “المشكلة السياسية الراهنة وانزلاق المجتمع الإسرائيلي إلى حضيض فقدان المشاعر هما النتيجة (الحتميّـة) للسيطرة على شعب آخر”. كذلك كتب الأديب المعروف يزهار سميلانسكي أن ما يحدث في أراضي 1967 ليس “أعمال شغب” إنما “ثورة شعب”، وأن من الحجارة ومن أنهار الفتيان يتكون شيء ما عظيم وبسيط وإنساني. على أن أهم ما ترتّب على هذا المنحى الثاني هو إعادة التفكير بـ”فكرة إسرائيل” من طريق دحض رأي شائع يقول إنّ “مشكلات الحركة الصهيونية بدأت مع الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية في عام 1967″، بموازاة توكيد الطابع الكولونيالي لهذه الحركة وأنها وُلدت من رحمه وبقي ملازمًا لها مثل ظلّها الذي يستحيل الافتراق عنه… وهذا هو ما تعيد إثباته يومًا، يومًا.

    عام 2018 صدر قانون القومية الإسرائيلي الذي ينص على أن “الدولة القومية للشعب اليهودي، وأن حق تقرير المصير يحق الشعب اليهودي فقط، وأن الدولة تعتبر تعزيز الاستيطان اليهودي قيمة وطنية ينبغي العمل على تكريسها”، وتم اعتباره على أنه أحد أهم القوانين بالسجل التاريخي الإسرائيلي.. في تتبّع لبنود هذا القانون، ألا يشكّل جريمة أبارتهايد بحسب القانون الدولي، وهل هناك إجماع عليه إسرائيليًا، وما هي تداعياته الملموسة على فلسطينيي 48؟
    إن جُلّ الجدل داخل إسرائيل حول سنّ “قانون القومية” يتسم بكونه لا يتجاوز سؤال الجدوى، فيما يتم تهميش المعايير الأخلاقية والليبرالية والإنسانية الكونية. وقد حذرت العديد من الأوساط السياسية والإعلامية والأهلية في إسرائيل من انعكاسات القانون على المواطنين العرب ومبدأ مساواتهم، لكنها تجنّبت التماهي مع حملة احتجاجهم على القانون لأن هذه الحملة تستأنف على المبدأ الأساس له، أن إسرائيل دولة قومية للشعب اليهودي، والذي تؤيده الأغلبية الساحقة.
    وتمثّل هذا الأمر في مقاطعة معظم أحزاب المعارضة مظاهرة الفلسطينيين في إسرائيل ضد “قانون القومية”، التي جرت في تل أبيب يوم 11 آب/ أغسطس 2018. ولم يشارك في المظاهرة، إلى جانب أعضاء الكنيست من القائمة العربية المشتركة، سوى أعضاء الكنيست الستة من حركة “ميرتس” وعضوَي كنيست اثنين (أحدهما عربي) من بين أعضاء الكنيست الـ 24 الممثلين لتحالف “المعسكر الصهيوني” بين حزبي العمل و”الحركة” في الكنيست العشرين.
    وقبل موعد المظاهرة بساعات أعلن رئيس حزب العمل و”المعسكر الصهيوني” أنه لن يُشارك في مظاهرة المواطنين العرب ضد قانون القومية “لأنهم لا يؤمنون بالدولة اليهودية، ولأنّ منظميها يؤيدون حق العودة للفلسطينيين”!!. وسبقته رئيسة المعارضة، إذ قالت في مقابلة مع إذاعة الجيش الإسرائيلي: “لن أشارك في هذه المظاهرة، لأن بعض أعضاء القائمة المشتركة يرفضون فكرة أن إسرائيل هي الدولة القومية للشعب اليهودي”.
    كما يحذر المعارضون لـ”قانون القومية” من أنه سيضع ذخيرة بيد أعداء إسرائيل في العالم ويمكّنهم من تحويلها إلى جنوب أفريقيا جديدة، ما قد يسهل نزع شرعيتها.
    ولا يجوز تجاهل أن ما يغذي معارضة العديد من الأوساط مرتبط بالرغبة بعدم خسارة العرب الدروز الذين تحالفوا مع إسرائيل منذ قيامها ويشاركون في أجهزتها الأمنية منذ عام 1948، وهم اليوم يشعرون بالخيانة وبالطعن في الظهر لأن القانون يُحوّل إسرائيل من ناحية دستورية إلى دولة لليهود، ويجعل الدروز مواطنين من الدرجة الثانية.
    غير أن كل هذا لا ينفي وجود شبه إجماع صهيوني حول المبدأ الأساس للقانون، وهو أن “إسرائيل هي الدولة القومية للشعب اليهودي”، وأن فلسطين التاريخية، التي تسميها الصهيونية “أرض إسرائيل”، هي “الوطن التاريخي للشعب اليهودي”. لكن المعترضين ينتقدون غياب كلمة ديمقراطية من عبارة تعريف إسرائيل، كما ينتقدون غياب مبدأ المساواة. ولعلّ هذه النقطة الأخيرة جعلت شرائح مختلفة من الجمهور الإسرائيلي مُتضرّرة أيضًا، علاوة على وجود قطاع يرغب في المحافظة على الديمقراطية إلى جانب يهودية الدولة، متوهمًا عدم وجود تناقض صارخ بين المُكونيّن.

    في الذكرى الخمسين لنكبة 1967، صدر كتاب “مملكة الزيتون والرماد” من تحرير الروائي الأمريكي من أصل يهودي مايكل شايبون (جائزة بوليتزر، 2001) وأييلت والدمان بمشاركة عدد من الكتّاب منهم البيروفي ماريو بارغاس يوسا (جائزة نوبل، 2010) وثلاثة كتّاب فلسطينيين، فضحوا فيه ممارسة الكيان الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين والعرب، نود أن نتعرّف على الشقوق بين الصهيونية والدياسبورا، وإشكالية “إسرائيل” دولة يهودية، أو وطن لليهود، خصوصًا أن ثمة الكثير من هذا “الشتات” كما يعتبرونه، يرفض الانضمام إلى إسرائيل كدولة لليهود.
    سؤالك مهم جدًا. نشهد حاليًا على تجدّد السجال حيال العلاقة بين اليهود والشتات (الدياسبورا) في ضوء ما قامت به الحركة الصهيونية من استعمار إحلالي في فلسطين. ففي نفس عام تأسيس الحركة الصهيونية، 1897، تأسست حركة أخرى لليهود هي حركة البوند. وفي سنواتهما الأولى اعتبرتا متنافستين أيديولوجيتين متساويتين، حيث أعلن الصهاينة أن التحقيق الكامل للقومية اليهودية يمكن أن يحدث فقط “في الوطن التوراتي لأرض إسرائيل”، بينما أصرّ (البونديون) على أنه لا يوجد أي تناقض بين الهوية اليهودية الكاملة وبين الالتصاق بمراكز الحياة اليهودية في شرق أوروبا. وتجسدت الفروق بين الحركتين في اللغة التي اختارتها كل منهما لنفسها، فالصهيونية تجندت من أجل إحياء اللغة العبرية القديمة، في حين رفعت حركة البوند لواء ثقافة (الييديش) التي وصفتها بأنها “مجيدة بكتابها وشعرائها”. وكان شعار حركة البوند بلغة الييديش: “حيثما نعيش تكون دولتنا”.
    وحركة البوند، أو باسمها الكامل “المنظمة العامة للعمال اليهود في ليتوانيا، بولندا وروسيا”، واجهت فشلًا سياسيًا ذريعًا، مع أنها عرضت أيديولوجيا مثيرة للحماسة، وتضمنت ثقافة يهودية علمانية تتحدث بلغة الييديش، ورؤية اشتراكية، ونضالًا من أجل حقوق العمال، ووحدة تضامن وفخر لمجتمع أقلية يعيش بناته وأبناؤه كمواطنين متساوين في أوطانهم، ولكنها لم تصمد في امتحان الزمن. فغالبية فروع وصفوف الحركة دمرها الهولوكوست، والقادة الذين نجحوا في الهرب إلى الاتحاد السوفياتي السابق تم إعدامهم من طرف النظام الستاليني. وأعضاء البوند الذين بقوا وعاشوا في الغرب أو وصلوا إلى إسرائيل بعد إقامتها لم ينجحوا في الحفاظ على الحركة، التي رأت نفسها منافسة للرأسمالية والصهيونية معًا.
    ولم يبق من حركة البوند القديمة هذه أي شيء تقريبًا، ما عدا بعض الأرشيفات في فرنسا والولايات المتحدة، ولكن في القرن الـ21، حيث يتخبط الجميع في صراعات الهوية، لوحظ وجود مطلب متجدد لهوية يهودية علمانية وغير إسرائيلية، كما لوحظ أن العديد من المجموعات اليهودية الشابة تتفاخر وترفع شعارات وأسماء شخصيات من البوند. وينقسم هؤلاء إلى تيارين: الأول يضم يهودًا مناهضين للصهيونية، فكرًا وممارسةً، ينضوون في منظمات مثل If not now الأمريكية (تأسست عام 2014) وJewdas البريطانية (تأسست عام 2006)، واللتين تتفاخران بقيم نيو بوندية، والتيار الثاني عبارة عن مجموعات فنانين وأدباء ومترجمين ومسرحيين وموسيقيين يحاولون إعادة ثقافة الييديش كأساس لثقافة يهودية علمانية. وهناك تداخل معين ما بين المجموعتين، وخصوصًا على مستوى الأفراد الذين ينضوون في عضويتهما، ولكن هناك أيضًا توتر متأصل بينهما. فمن يضع الأيديولوجية السياسية كأساس لا يتحمل تعاونًا مع صهاينة، في حين أن من يهمه بالأساس إحياء ثقافة تكاد تكون قد ضاعت، يرغب في توسيع الصفوف.

    في مقالة لك في صحيفة “العربي الجديد” تذكّرنا بقول الجنرال موشيه دايان عند احتلال القدس عام 1967 والذي تردّد بعض الشيء قبل إصدار الأمر باحتلال الحرم، وتساءل “ما حاجتنا إلى كل هذا الفاتيكان”؟، وبتحذير الباحث غيرشوم شالوم عام 1926 مما سمّاه “القوة الدينية المخزنة بكثافة” وخوفه من أن تنفجر ذات يوم؛ نود أن نتعرّف على الواقع المجتمعي الآن، هل أعداد المتشدّدين في تزايد مطّرد، وهل يمكن أن نشبّه الأمور بالواقع العربي حيث باتت المجتمعات العربية منقسمة بين الديني والعلماني؟
    في الظاهر يبدو الخلاف بين العلمانيين والمتدينين في إسرائيل حادًّا للغاية، ولكنه في الباطن لا ينطوي على طاقة التصعيد الذي يستجرّ الحسم.
    وما يجب ملاحظته أن نفوذ الأحزاب الدينية والحريدية في إسرائيل ما زال قويًا وهكذا سيظلّ، وتجربة الأعوام الفائتة تدل على أن أربع حكومات إسرائيلية فقط تشكلت من دون هذه الأحزاب، وذلك في 1974 و1992 و1995 و2013، ومع هذا؛ فإن الأحزاب التي اشتركت في ائتلافات هذه الحكومات الأربع اهتمت بالحفاظ على مصالح الأحزاب الدينية لأنها كانت تدرك أنه سيأتي وقت تكون فيه بحاجة إلى دعمها. وعلى الرغم من أن الأحزاب اليمينية هي التي كانت تحرص دومًا على “تحالفها التاريخي” مع الأحزاب الدينية إلاّ أن حرص الأحزاب اليسارية الصهيونية على هذا الأمر لم يكن أقل من حرص أحزاب اليمين. وبالتالي، ما دامت الحال مستمرة على هذا المنوال فإن احتمالات تغيّر الخارطة السياسية في إسرائيل، واحتمالات حدوث انقلاب جوهري في العلاقات بين المتدينين والعلمانيين، ستبقى ضئيلة للغاية.
    كما أن وجود نظام الحكم في إسرائيل (يصفه بعض الأكاديميين الإسرائيليين بأنه إثنوقراطي في ظل تعريف الدولة لنفسها بأنها يهودية) مرهون باستمرار علاقته الوثيقة بالدين. فحتى الجهات التي تزعم أنها تريد الحفاظ على إسرائيل كدولة ديمقراطية بالرغم من كونها يهودية، على غرار “المعهد الإسرائيلي للديمقراطية” (تأسس عام 1991)، ترى أنه لا يجوز فصل الدين عن الدولة في إسرائيل بتاتًا. وقبل عدة أعوام تصدّى باحثون في هذا المعهد لمطالبة أوساط يهودية من الولايات المتحدة بتطبيق النموذج الأمريكي المتعلق بالفصل التام بين الدين والدولة على الحياة الدينية في إسرائيل. وقد اعتبرت هذه الأوساط أن الموقف الإسرائيلي الرافض لهذا الأمر يشكل مسًّا خطرًا بحقوق الفرد، وبكون إسرائيل دولة غربية ليبرالية. وبحسب باحثي المعهد من السهل تفهّم مثل هذا الموقف في السياق الأمريكي، ولكن ثمّة أسبابًا وجيهة تبرّر انتهاج موقف مضادّ في سياق إسرائيل. ومن أبرز تلك الأسباب:
    أولًا، خلافًا للولايات المتحدة التي تُعتبر من أبرز نماذج “دولة جميع مواطنيها” والذي لا توجد فيه فجوة بين تعريف المواطنة وتعريف الانتماء القومي، فإن إسرائيل ترى نفسها “دولة قومية للشعب اليهودي”، مع وجود اختلاط في إطار الهوية اليهودية بين البُعدين القومي والديني ولا يجوز الفصل بينهما. ومع أن اليهودي، في قراءتهم، غير مُلزمٍ بالمحافظة على فرائض وتعاليم الدين كي يعتبر يهوديًّا ولكنه سيفقد هذا التعريف أو الاعتبار حتى على المستوى القومي إذا ما غيّر ديانته واعتنق أي ديانة أخرى، وفق ما قضت المحكمة العليا في إسرائيل.
    وفي الجلسة التي عقدها الكنيست الإسرائيلي يوم 7 تشرين الثاني/نوفمبر 2021 لإحياء ذكرى مرور 48 عامًا على وفاة رئيس الحكومة الأول ديفيد بن غوريون، اختار وزير الخارجية ورئيس الحكومة البديل، يائير لبيد، الذي يعتبر نفسه علمانيًا، أن يعيد إلى الأذهان أن مقاربة بن غوريون حيال العلمانية اتسمت بكونها ليست نقيض الدين أو التديّن بل تُشكّل أحد تيارات اليهودية، علمًا بأن ثمة شبه إجماع بين الباحثين الإسرائيليين على التشكيك باحتمال وجود “علمانية يهودية” وإن كان بالإمكان العثور على علمانيين يهود. ومما قاله لبيد حرفيًا: “إذا كنت علمانيًا إسرائيليًّا فأنت عمليًّا تقليديٌّ محافظ. وقد لا تكون محافظًا على إقامة الشعائر والفروض الدينية، ولكنك يهوديّ من اللحظة التي تصحو فيها صباحًا وحتى اللحظة التي تغمض عينيك فيها ليلًا وتغرق في أحلامك بلغة التناخ”!
    ثانيًا، جوهر الثقافة اليهودية، من الناحية العملية، ينبع من عالم اليهودية الديني، وبالتالي فأي فصل مبدئي بين الدين والدولة يمكن أن يلزم الدولة اليهودية بالانفصال عن “جوهرها” أو “مضمونها الثقافي”!

    ثمة أحزاب متطرّفة إسرائيلية تدعو إلى طرد كل الفلسطينيين من “أرض إسرائيل”، ما مدى قدرة وتمدّد هذه الحركات المتشدّدة داخل مفاصل الدولة بحيث يمكن أن تؤثر على القوانين والتشريعات والقرارات التي يمكن اتخاذها بحق الفلسطينيين.. وخصوصًا أنه يتم اعتبار فلسطينيي 48 مواطنين من الدرجة الثانية، وليس لهم نفس الحقوق، كما أن عددًا من الدراسات تُظهر وجود تخوّفٍ لدى فلسطينيي الداخل من نقلهم إلى خارج أراضي 48؟
    لعل أول ما يتعيّن قوله هو أن مصطلح الترانسفير ليس غريبًا قطّ على الحركة الصهيونية. وقد أشار الكثير من المؤرخين الإسرائيليين -وفي مقدمهم توم سيغف- إلى أنه منذ اليوم الأول لبداية مشروعها الاستعماري في فلسطين، أدركت الحركة الصهيونية أنها ستواجه مقاومة عربية. ومنذ اللحظة الأولى التي وصل فيها “طلائعيـو” هذه الحركة لم يكفّ اليهود في فلسطين عن السجال فيما بينهم عن أفضل الطرق للتعايش مع “المشكلة العربية”، وقد درسوا أي احتمال يقع بين ترحيل العرب إلى مناطق أخرى وإقامة دولة ثنائيّة القوميّة، كما اختبروا احتمالات تقسيم البلد كلها، لكنّهم في خضم ذلك أجمعوا على مبدأ أساسي فحواه: “أرض أكثر وعرب أقل!”.
    وهناك كمٌّ من الإشارات المتراكمة التي تؤكد أنه ما من موضوع راهن يحتشد حوله “إجماع قوميّ ووطني إسرائيلي” أكثر من موضوع المحافظة على “الطابع اليهودي- الصهيوني” لدولة إسرائيل، ولا سيما منذ الفترة التي أعقبت الانتفاضة الفلسطينية الثانية (انفجرت عام 2000) مباشرة، وصولًا إلى سنّ “قانون القومية” عام 2018، وإلى عودة الحديث عن احتمال نقل مناطق من داخل تخوم ما يسمى بـ”الخط الأخضر” ذات ديموغرافيا عربية فلسطينية إلى منطقة نفوذ الدولة الفلسطينية التي ستُقام في المستقبل ضمن ما عُرف باسم “صفقة القرن” إبان ولاية الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.

    هل تعتقد أن التطرّف الذي يطغى على دولة الاحتلال والكلام المتجدّد عن الترانسفير، عائد بشكل رئيس إلى ما وصفته أنت وغيرك من المتابعين للشأن الإسرائيلي بأنه انزياح نحو اليمين وبالأساس على خلفية إخفاق ما يسمى بـ”عملية السلام” مع الفلسطينيين، كما تشهد على ذلك كل التطورات التي أعقبت توقيع اتفاقيات أوسلو؟
    ثمة ميل عام في إسرائيل للترويج بأن سبب معاودة الحديث عن الترانسفير في الآونة الأخيرة يعود إلى ما يُسمى “الانزياح نحو اليمين” الذي شهده المجتمع الإسرائيلي منذ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000 وما تسببت به من “عودة الصهيونية إلى ذاتها”. فمثلًا أشار استطلاع أجري عام 2002 ضمن “مشروع الأمن القومي والرأي العام الإسرائيلي” في “مركز يافيه للأبحاث الاستراتيجية” في جامعة تل أبيب (أصبح اسمه لاحقًا “معهد أبحاث الأمن القومي”)، إلى أن مؤشرات الانزياح يمينًا تكمن في ازدياد تأييد الإسرائيليين لمشاريع حلول الترانسفير ضد الفلسطينيين، حيث أيّد 46 بالمائة منهم تطبيق الترانسفير ضد الفلسطينيين في الضفة والقطاع، وأيّد 31 بالمائة تطبيقه ضد الفلسطينيين في إسرائيل.
    غير أن الأستاذ الجامعي الإسرائيلي آشير أريـان أكد أن هذا النمط من التفكير لدى الإسرائيليين ليس جديدًا، فقد أظهر استطلاع عام 1991 أن 38 بالمئة من الإسرائيليين أيّد تطبيق الترانسفير ضد الفلسطينيين في الضفة والقطاع، وأيّد 24 بالمئة تطبيقه ضد الفلسطينيين في إسرائيل. ولفت إلى أن سبب ذلك راجع إلى تأصل فكرة الترانسفير في تفكير الحركة الصهيونية.
    كما يورد الذين يعزون معاودة طرح فكرة الترانسفير إلى الوقائع التي تلت الانتفاضة الفلسطينية، أن من مؤشرات الانزياح يمينًا دخول الحزب الإسرائيلي الذي يتبنى علنًا برنامج الترانسفير بزعامة الوزير المقتول رحبعام زئيفي كطرف فاعل في الائتلاف الحاكم الذي تزعمه أريئيل شارون عام 2001، ما أضفى شرعية علنية على هذا الموضوع.
    غير أنّ زئيفي نفسه سبق له أن أكد أنه استقى فكرة الترانسفير من آباء الحركة الصهيونية. ففي واحد من مقالاته بعنوان “الترحيل من أجل السلام” والذي نشره في صحيفة “هآرتس” في 17 آب/ أغسطس 1988 كتب: “صحيح أنني أؤيد الترانسفير بحق عرب الضفة الغربية وقطاع غزة إلى الدول العربية، لكنني لا أملك حق ابتكار هذه الفكرة، لأنني أخذتها من أساتذة الحركة الصهيونية وقادتها، مثل ديفيد بن غوريون الذي قال من جملة أمور أخرى “إن أي تشكيك من جانبنا في ضرورة ترحيل كهذا، وأي شك عندنا في إمكان تحقيقه، وأي تردّد من قبلنا في صوابه، قد يجعلنا نخسر فرصة تاريخية” (“مذكرات ديفيد بن غوريون”، المجلد الرابع، ص 299). كما أنني تعلمت هذا من بيرل كتسنلسون وآرثر روبين ويوسف فايتس وموشيه شاريت وآخرين”.
    وقبل أقوال زئيفي هذه بأكثر من ثمانية أعوام ألمح الوزير الإسرائيلي الأسبق والخبير الإستراتيجي أهارون ياريف إلى وجود “خطة جاهزة” في الأدراج الإسرائيلية الحكومية لترحيل 700 – 800 ألف عربي، حين “تنشأ الأوضاع الموضوعية لذلك”…
    وحرفيًا قال ياريف في محاضرة ألقاها في “الجامعة العبرية” في القدس، في 22 أيار/ مايو 1980: “هناك آراء تدعو إلى استغلال حالة الحرب من أجل ترحيل ما بين 700 و800 ألف عربي… ولم تتردد هذه الآراء على ألسنة المسؤولين فحسب، وإنما أيضًا أعدت الوسائل اللازمة لتنفيذها”!
    وهذا يؤكد خلاصة فحواها أنّ التربة الإسرائيلية على صعيدي المسؤولين السياسيين والرأي العام الشعبي، لديها من الجهوزية ما يكفي لتقبل فكرة الترانسفير وعدم مضادتها، وإن من الناحية الأخلاقية على الأقل.
    عند هذا الحد يكفي أن نستعيد ما قاله زئيفي نفسه في هذا المضمار ضمن مقاله السالف: “[… ] لقد زعموا أنّ هذه الفكرة (الترانسفير) غير أخلاقية، وبرأيي أنه ليست هناك فكرة أكثر أخلاقية منها، لأنها تحول دون وقوع الحروب وتمنح شعب إسرائيل الحياة. وإذا كانت هذه الفكرة غير أخلاقية فإنّ الصهيونية كلها وتجسيدها خلال أكثر من مئة عام هما غير أخلاقيين. إنّ مشروع الاستيطان في أرض إسرائيل وحرب «الاستقلال» حافلان بعمليات ترحيل العرب من قراهم. فهل كان هذا أخلاقيًا ولم يعد كذلك الآن؟”.


    دارين حوماني



يعمل...
X