وداعا عبد العزيز الفارسي مُطاردًا بعلامات الموت في قصصه والبشر العابرين فوق شظاياهم

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • وداعا عبد العزيز الفارسي مُطاردًا بعلامات الموت في قصصه والبشر العابرين فوق شظاياهم

    • وداعا عبد العزيز الفارسي مُطاردًا بعلامات الموت في قصصه والبشر العابرين فوق شظاياهم

    إعداد وتقديم: هدى حمد
    لم يتنبأ أحدٌ بأنّ عُمْر الطبيب والكاتب عبد العزيز الفارسي سيكون قصيرا، قدر ما تنبأتْ كتاباته بذلك، رفقة ابتسامته التي تشي بأنّه لم يحمل الحياة يومًا على محمل الجد. حتى إنّ صديق عمره سليمان المعمري، عندما كتب -قبل وفاة الفارسي- بخمسين يومًا تقريبا مقالا بعنوان: «إنسانية الطبيب.. وحساسية الأديب»، لامَه بعض الأصدقاء، ظنّا منهم بأنّه يرثيه، وهو في مقتبل العمر، يضجُ بيننا بالحياة والأسئلة، ولكننا في صدمة الذهول.. أدركنا أنّ عُمْره قصير حقا.
    كان شغفُ الكتابة مُشعًا في عينيه، وفي الحماس الذي يتملكه ما إن يبدأ بينك وبينه حديث ما حول السرد، تُدركُ بصحبته أنّه حكاءٌ عظيمٌ، وأن الحكايات تتناسلُ وتكبر ما أن تُلقي حجرا صغيرا في بركة مائه العذب، رغم أنّه كتب قبل وفاته تأكيدا قويا على أمر مُغاير أصاب حياته: «كم من إشارة أعطيتُ لم يفهمها أحد.. الصمت ثم الصمت حتى آخر رمق»، وكما يبدو فقد عاش الفارسي كل لحظةٍ في حياته كأنّها الأخيرة، مُطاردا بإشارات الموت وعلاماته في حكاياته وفي البشر الذين يعبرون فوق شظاياهم. «الرجل الذي أفنى حياته في تخيّل الأشياء، والذي تعلّم من إيماءات مرضاه، من دمعهم، ومن دقّة ملاحظاتهم للأشياء الصغيرة».
    ورغم أنّه كائنٌ مخطوف، يختطفه الطب والمرضى من الكتابة، وتختطفه الكتابة من كل الدنيا، إلا أنّه سيفاجئك بأنّه لا يدخر رأيا يدفعُ به عجلة قصصك لمكان لم تفكر فيه يوما، حيث تبدو أفكاره أول وهلة مجنونة ومغامرة، ثمّ ستروق لك، وقد يقول لك: «ما الذي ينقصنا لكي نكتب عن قُرانا وحاراتنا وعُمياننا ومجانيننا؟“.
    أحبّ الفارسي أمين صالح، وتأثرت اشتغالاته السردية بقصص تشيخوف وغسان كنفاني ويوسف إدريس وغيرهم، وكتب في مذكراته الأخيرة: «قبل الرحيل وبعد مراجعة كل حياتي، ما أرجو فعله الآن، هو أن أقرأ «مدن الملح» و»أرض السواد» مرّة أخيرة.. سنلتقي يا منيف.. سنلتقي».
    كان معنيا بـ «الشناصيين» بصورة خاصّة! أولئك الذين ينتمي لنسيجهم المكاني والنفسي، فلم يأسر نفسه في أمكنة مُتخيلة، بل «زحزح حضور «الشناصيين» من هامش الكتابة إلى متنها، وقد وظّف المحكي الدارج ليرفع من درجة طرافة النص». اقتنص حكايات الناس وأوهامهم بالغة التعقيد، كصياد ماهر، ثمّ آلف بين الكلمات، فخلق كائناته التي لا تُنسى. «شخوصه نصف الكوميديين ونصف التراجيديين، تظهرُ هواجسهم أثناء مجابهتهم لأحداث حياتهم اليومية العادية، تلك التي يقابلونها بسوء فهم كبير، لتكبر عقدة النص».
    ولعلنا نتساءل ما الذي كان يُشغل بال رجلٍ مُوشكٍ على الموت! تحيل مذكراته التي تركها لنا لبعضٍ من رغباته. فلقد رغب قبل الموت أن يلتقي بـ باتريك زوسكيند ليسأله: كيف التقى صانع العطور بهاجس القتل؟ وتمنى أيضا أن يلتقي بأبطال مسلسلات الرسوم المتحركة. كان محموما بالكتابة، ويشعرُ دوما بعدم الرضا، فالأقلام الثمينة لم تكن لتهبه الكتابة التي يريد.
    رحل عبدالعزيز الفارسي، يوم الأحد 10 أبريل 2022، بعد أن ترك لنا في مشوار حياته القصيرة أعمالا قصصية وروائية هي: «جروح منفضة السجائر» 2003، «العابرون فوق شظاياهم» 2005، «مسامير» 2006، «لا يفل الحنين إلا الحنين» 2006، «وأخيرا استيقظ الدب» 2009، «الصندوق الرمادي» 2012، «رجل الشرفة؛ صياد السحب» 2016)، ومن الروايات: «تبكي الأرض يضحك زحل» الصادرة في 2007، (والتي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية لعام 2008)، ورواية مشتركة مع سليمان المعمري بعنوان: «شهادة وفاة كلب»2016.
    وعبر هذا الملف الخاص الذي تفرده مجلة ، يحاول أصدقاؤه وقراؤه ومحبوه أن يرفعوا تلويحة وداع أخيرة، مستعينين بذكرياتهم وبروح كتابته التي ستجعله خالدا بيننا.


يعمل...
X