طرّة أو نقشة".. وجه واحد في معرض للبنانية ماجدة شعبان
حوار بين بيروتيين قدامى ومعاصرين
بيروت مدينة ساحرة لمن يزورها أو يقرأ عنها، فما بالك بمن يسكنها، فتسكنه بكل تفاصيلها، بفرحها ووجعها، وتبعث فيه الرغبة في توثيقها وإعادة تصويرها كما يحملها في ذاكرته ومشاعره، مثلما فعلت الرسامة ماجدة شعبان التي تقدم معرضا تشكيليا عن بيروت الماضي والحاضر، وعن المدينة التي تقاوم من أجل أن يظل الحب والحياة شعار أهاليها وسط الأزمات المتعاقبة.
تسكن بيروت لوحات الفنانين التشكيليين اللبنانيين منذ عصور عديدة بهيئات أبنيتها التقليدية والمعاصرة وبطبيعتها المجاورة للبحر، ولكن أيضا بما تشكله من أهمية عاطفية بالنسبة إلى من رسم مشاهدها حنينا أو شغفا بحاضر يريد أن يبقى في عين الآخرين “منارة الشرق” كما جرت عادة تسمية بيروت، إضافة إلى لقب “سيدة العواصم العربية”.
وشكلت بيروت في الأكثرية الساحقة من الأعمال الفنية أهميتها كعاصمة تكتنز روح البلد بأسره أسوة بما تشكله كل عاصمة عربية في قلوب ونصوص الفنانين التشكيليين في العالم العربي، لاسيما في سوريا والعراق وفلسطين.
وهي اليوم، أي بيروت، أكثر من أي زمن مضى أكثر من مدينة، بل هي أشبه بهاجس مُلح يريد أن يجد له تفسيرا وسط كم هائل من المصائب والتناقضات والتجاذبات وأيضا وفق إيقاع بارز نُسج على مر السنوات الثلاثين الأخيرة على مفردتين هما الحب والكره. ولئن كان الحب واضحا لا لبس فيه فإن الكره ارتدى أقنعة عديدة ومتحولة تميزت بغزارة التفاصيل المقلقة في أغلبها.
ويأتي نص الفنانة التشكيلية اللبنانية ماجدة شعبان ضمن هذا السياق الذي لا ينضب في ما قدمته من معرض فردي حمل عنوان “طّرة أو نقشة”.
ويجيء المعرض بتنظيم جمعية “بيروت، الولادة من جديد” بالتعاون مع صالة “ذي غاليريست” في مركزها الثقافي بالجميّزة، حيث عُرضت لوحات الفنانة التشكيلية اللبنانية ماجدة شعبان ورسوماتها التي “تجسّد مشاهدة حياتية تعكس الإبداع والرقيّ الذي تميّزت به أعمالها”، وفق البيان الصحافي المرافق للمعرض.
وأشارت الجمعية إلى أن “المعرض يأتي استكمالا لنشاطات جمعية ‘بيروت، الولادة من جديد’ الثقافية التي أطلقت في بداية شهر مارس الماضي معرضا فنيا لتشجيع أربعة رسامين لبنانيين، بالإضافة إلى مجموعة من الفنانين الأجانب، وسعت من خلاله إلى المساهمة في عودة الحياة تدريجيا إلى العاصمة بيروت، لاسيما بعد انفجار مرفأ بيروت، وخلق مساحة فنية وثقافية حضارية لأبناء المدينة”.
والجدير بالذكر أن نشاط هذه الجمعية هو أيضا نشاط العديد من صالات المدينة التي حافظت على وتيرة العرض الفني حتى في عزّ فصل الصيف، وهو ما لم تعهده بيروت في السنوات التي سبقت استفحال الأزمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المتزامنة مع تفشي وباء كورونا المستجدّ.
ولم يقتصر تعبير الفنانة ماجدة شعبان عن عاطفتها وأفكارها في معارضها الفنية السابقة والأخيرة على الرسم، بل طال الشعر أيضا؛ إذ قالت “بيروت، سأكتشف مرارًا وتكرارًا صورًا لأسقفك الطائرة، وسأرسم مصاريعك المسحورة ومطرقة طفولتي على رصيفك”.
وتسكن بيروت جميع لوحات الفنانة التي يحتار الناظر إليها للوهلة الأولى إن كانت رسومات توضيحية أم لوحات فنية. وفي الواقع تقع أعمالها في الوسط بين العالمين. وهي لوحات لا تتحدث عن المدن بشكل عام، بل عن مدينة بيروت. ومن السهل التعرف على المفردات البصرية التي تؤكد على هوية المدينة سابقا وحاضرا، والتي تتناولها الفنانة في لوحاتها.
ومن تلك المفردات نذكر الطربوش الأحمر على رؤوس بعض شخوصها، والنوافذ الخشبية الملونة، والتحف القديمة كجهاز الراديو القادم من زمن ستينات القرن الماضي، ولافتات تدل على أمكنة معروفة وشوارع “منمنمة” كما هي معظم شوارع بيروت. وهناك تجاور بين المباني التقليدية والمعاصرة في فوضى عمرانية لافتة تنعكس بشكل واضح على ملامح شخوصها القلقة حينا والنزقة حينا آخر. ولكن أكثر ما يلفت الانتباه في شخوصها التي تميل إلى الكاريكاتيرية “الصارمة” إذا صح التعبير هو هذه اللامبالاة المستفحلة.
وجوه وشخوص بيروتيةوربما ما طرحته الفنانة بصريا على كونه عاديا وواضحا، بل توضيحيا للوهلة الأولى في لوحات عديدة، تغذى من عمق مأساة اللامبالاة التي تكنها شخوصها لبعضها البعض ولذاتها على حد السواء. حتى اللون الطاغي على معظم لوحاتها هو اللون الرمادي الحيادي الذي يبدو عابقا بالخطوط المشغولة وكأنها ببراثن قط متهور يتضور من الملل. ولكنه، أي اللون الرمادي، في الآن نفسه أحد أهم الأسباب التي ألقت فتورا في تعابير وجوه شخوص اللوحات وهممها حاميا إياها من الألم ومن مختلف أنواع الخيبات.
ماجدة شعبان ترسم أيضا، إلى جانب مشاهد بيروتية مُحببة، صورة مدينة هي على جرف شاهق يهدد المدينة وسكّانها. وتتبدى هذه الخطورة، ولنقل هذا التشويش المتعب للنظر، في خلفيات معظم اللوحات حيث تتشابك وتتداخل وتتفلت خطوط دقيقة وتلتحم أحيانا كثيرة بشخوص اللوحات كأنها تابعة لكبكوبة خيوط عملاقة تختبئ وراء كل المشاهد.
وتتشابه ملامح الأشخاص المرسومة من حيث ما تعبر عنه أكثر من تشابهها في الهيئة الخارجية. وأكثر ما يلفت النظر هو تلك النظارات السميكة والمستديرة التي تضعها الكثير من شخوصها وهي تبدو كأنها تعيق النظر أكثر بكثير مما تسهله. ولا شك أن تلك النظارات هي سمة فنية أساسية تحمل إمضاء الفنانة وتشير إلى أن اللوحات لماجدة شعبان دون غيرها من الفنانين.
وقد يتساءل البعض عما تعتبره الفنانة “الطرّة”؟ وما المقصود بـ”النقشة”؟ وربما تعني “الطرّة” اللبناني العريق صاحب الطربوش، بينما تعني “النقشة” اللبناني المعاصر المتمايل وشبه المغشيّ عليه. أما المزيج بين الاثنين فهو قاتل لأنه اللامبالاة المشتركة.
وتجدر الإشارة إلى أن الفنانة التشكيلية ماجدة شعبان أقامت منذ عام 2002 معارض فردية في لبنان والولايات المتحدة وفرنسا، نذكر منها “أصداء” و”عدم استقرار” و”صرخات صامتة” و”فائض من الأسود”. كما شاركت في معارض جماعية عديدة وكتبت الشعر بانسجام كليّ مع أعمالها الفنية. ومن مؤلفاتها ديوان “أصداء” و”بين نجلا وميا”.
انشر
WhatsApp
Twitter
Facebook
حوار بين بيروتيين قدامى ومعاصرين
بيروت مدينة ساحرة لمن يزورها أو يقرأ عنها، فما بالك بمن يسكنها، فتسكنه بكل تفاصيلها، بفرحها ووجعها، وتبعث فيه الرغبة في توثيقها وإعادة تصويرها كما يحملها في ذاكرته ومشاعره، مثلما فعلت الرسامة ماجدة شعبان التي تقدم معرضا تشكيليا عن بيروت الماضي والحاضر، وعن المدينة التي تقاوم من أجل أن يظل الحب والحياة شعار أهاليها وسط الأزمات المتعاقبة.
تسكن بيروت لوحات الفنانين التشكيليين اللبنانيين منذ عصور عديدة بهيئات أبنيتها التقليدية والمعاصرة وبطبيعتها المجاورة للبحر، ولكن أيضا بما تشكله من أهمية عاطفية بالنسبة إلى من رسم مشاهدها حنينا أو شغفا بحاضر يريد أن يبقى في عين الآخرين “منارة الشرق” كما جرت عادة تسمية بيروت، إضافة إلى لقب “سيدة العواصم العربية”.
وشكلت بيروت في الأكثرية الساحقة من الأعمال الفنية أهميتها كعاصمة تكتنز روح البلد بأسره أسوة بما تشكله كل عاصمة عربية في قلوب ونصوص الفنانين التشكيليين في العالم العربي، لاسيما في سوريا والعراق وفلسطين.
وهي اليوم، أي بيروت، أكثر من أي زمن مضى أكثر من مدينة، بل هي أشبه بهاجس مُلح يريد أن يجد له تفسيرا وسط كم هائل من المصائب والتناقضات والتجاذبات وأيضا وفق إيقاع بارز نُسج على مر السنوات الثلاثين الأخيرة على مفردتين هما الحب والكره. ولئن كان الحب واضحا لا لبس فيه فإن الكره ارتدى أقنعة عديدة ومتحولة تميزت بغزارة التفاصيل المقلقة في أغلبها.
ويأتي نص الفنانة التشكيلية اللبنانية ماجدة شعبان ضمن هذا السياق الذي لا ينضب في ما قدمته من معرض فردي حمل عنوان “طّرة أو نقشة”.
بيروت تسكن جميع لوحات الفنانة التي يحتار الناظر إليها للوهلة الأولى إن كانت رسومات توضيحية أم لوحات فنية
ويجيء المعرض بتنظيم جمعية “بيروت، الولادة من جديد” بالتعاون مع صالة “ذي غاليريست” في مركزها الثقافي بالجميّزة، حيث عُرضت لوحات الفنانة التشكيلية اللبنانية ماجدة شعبان ورسوماتها التي “تجسّد مشاهدة حياتية تعكس الإبداع والرقيّ الذي تميّزت به أعمالها”، وفق البيان الصحافي المرافق للمعرض.
وأشارت الجمعية إلى أن “المعرض يأتي استكمالا لنشاطات جمعية ‘بيروت، الولادة من جديد’ الثقافية التي أطلقت في بداية شهر مارس الماضي معرضا فنيا لتشجيع أربعة رسامين لبنانيين، بالإضافة إلى مجموعة من الفنانين الأجانب، وسعت من خلاله إلى المساهمة في عودة الحياة تدريجيا إلى العاصمة بيروت، لاسيما بعد انفجار مرفأ بيروت، وخلق مساحة فنية وثقافية حضارية لأبناء المدينة”.
والجدير بالذكر أن نشاط هذه الجمعية هو أيضا نشاط العديد من صالات المدينة التي حافظت على وتيرة العرض الفني حتى في عزّ فصل الصيف، وهو ما لم تعهده بيروت في السنوات التي سبقت استفحال الأزمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المتزامنة مع تفشي وباء كورونا المستجدّ.
ولم يقتصر تعبير الفنانة ماجدة شعبان عن عاطفتها وأفكارها في معارضها الفنية السابقة والأخيرة على الرسم، بل طال الشعر أيضا؛ إذ قالت “بيروت، سأكتشف مرارًا وتكرارًا صورًا لأسقفك الطائرة، وسأرسم مصاريعك المسحورة ومطرقة طفولتي على رصيفك”.
وتسكن بيروت جميع لوحات الفنانة التي يحتار الناظر إليها للوهلة الأولى إن كانت رسومات توضيحية أم لوحات فنية. وفي الواقع تقع أعمالها في الوسط بين العالمين. وهي لوحات لا تتحدث عن المدن بشكل عام، بل عن مدينة بيروت. ومن السهل التعرف على المفردات البصرية التي تؤكد على هوية المدينة سابقا وحاضرا، والتي تتناولها الفنانة في لوحاتها.
ومن تلك المفردات نذكر الطربوش الأحمر على رؤوس بعض شخوصها، والنوافذ الخشبية الملونة، والتحف القديمة كجهاز الراديو القادم من زمن ستينات القرن الماضي، ولافتات تدل على أمكنة معروفة وشوارع “منمنمة” كما هي معظم شوارع بيروت. وهناك تجاور بين المباني التقليدية والمعاصرة في فوضى عمرانية لافتة تنعكس بشكل واضح على ملامح شخوصها القلقة حينا والنزقة حينا آخر. ولكن أكثر ما يلفت الانتباه في شخوصها التي تميل إلى الكاريكاتيرية “الصارمة” إذا صح التعبير هو هذه اللامبالاة المستفحلة.
وجوه وشخوص بيروتيةوربما ما طرحته الفنانة بصريا على كونه عاديا وواضحا، بل توضيحيا للوهلة الأولى في لوحات عديدة، تغذى من عمق مأساة اللامبالاة التي تكنها شخوصها لبعضها البعض ولذاتها على حد السواء. حتى اللون الطاغي على معظم لوحاتها هو اللون الرمادي الحيادي الذي يبدو عابقا بالخطوط المشغولة وكأنها ببراثن قط متهور يتضور من الملل. ولكنه، أي اللون الرمادي، في الآن نفسه أحد أهم الأسباب التي ألقت فتورا في تعابير وجوه شخوص اللوحات وهممها حاميا إياها من الألم ومن مختلف أنواع الخيبات.
ماجدة شعبان ترسم أيضا، إلى جانب مشاهد بيروتية مُحببة، صورة مدينة هي على جرف شاهق يهدد المدينة وسكّانها. وتتبدى هذه الخطورة، ولنقل هذا التشويش المتعب للنظر، في خلفيات معظم اللوحات حيث تتشابك وتتداخل وتتفلت خطوط دقيقة وتلتحم أحيانا كثيرة بشخوص اللوحات كأنها تابعة لكبكوبة خيوط عملاقة تختبئ وراء كل المشاهد.
وتتشابه ملامح الأشخاص المرسومة من حيث ما تعبر عنه أكثر من تشابهها في الهيئة الخارجية. وأكثر ما يلفت النظر هو تلك النظارات السميكة والمستديرة التي تضعها الكثير من شخوصها وهي تبدو كأنها تعيق النظر أكثر بكثير مما تسهله. ولا شك أن تلك النظارات هي سمة فنية أساسية تحمل إمضاء الفنانة وتشير إلى أن اللوحات لماجدة شعبان دون غيرها من الفنانين.
وقد يتساءل البعض عما تعتبره الفنانة “الطرّة”؟ وما المقصود بـ”النقشة”؟ وربما تعني “الطرّة” اللبناني العريق صاحب الطربوش، بينما تعني “النقشة” اللبناني المعاصر المتمايل وشبه المغشيّ عليه. أما المزيج بين الاثنين فهو قاتل لأنه اللامبالاة المشتركة.
وتجدر الإشارة إلى أن الفنانة التشكيلية ماجدة شعبان أقامت منذ عام 2002 معارض فردية في لبنان والولايات المتحدة وفرنسا، نذكر منها “أصداء” و”عدم استقرار” و”صرخات صامتة” و”فائض من الأسود”. كما شاركت في معارض جماعية عديدة وكتبت الشعر بانسجام كليّ مع أعمالها الفنية. ومن مؤلفاتها ديوان “أصداء” و”بين نجلا وميا”.
انشر