سيرة حب لكرسي خشبي في لوحات اللبنانية نايفة نصار
ميموزا العراوي
الجمعة 2022/09/
ألوان وزخارف من ماضي المنازل البيروتية
اختارت الفنانة التشكيلية اللبنانية نايفة نصار أن تصور “عبق الماضي” في أحدث لوحاتها، لكنه ليس الماضي الذاتي الذي يرصد عالمها والشخوص المؤثرة فيه فقط، وإنما هو أيضا الماضي المشترك بين اللبنانيين، إذ هو الذي يجمعهم ويوحدهم حول مصير واحد وأمل في غد يمحو ألم أزمات تعاقبت عليهم طوال عقود.
بعد طول غياب عن ساحة العرض الفني تعود التشكيلية اللبنانية نايفة نصار إلى عالمها الفني الذي طالما عشقته، لتقدم معرضا في صالة “كاف” الفنية تحت عنوان “عبق الماضي” ضم أعمالا فنية معظمها بأحجام متوسطة مشغولة بمادة الأكريليك على الخشب. يستمر المعرض الذي افتتح في الأول من سبتمبر إلى الثالث والعشرين منه.
مع عودة موسم العرض الفني في أواخر فصل الصيف، مع العلم أن بيروت حافظت على وتيرة العرض الفني حتى في عز أيام الصيف، تعود الفنانة التشكيلية اللبنانية نايفة نصار كيريللوس إلى العرض الفني بمجموعة كبيرة من الأعمال الفنية وضعتها تحت عنوان “عبق الماضي”.
ما تقدمه الفنانة لا يعود فقط إلى تأثير الماضي الشخصي بل جاء تحت تأثير ما عاناه لبنان وتعانيه بيروت
لم تتوقف الفنانة عن الرسم والاهتمام بالعالم التشكيلي محليا وعالميا، ولكنها وجدت الفترة المناسبة للعودة إلى العرض. ومن المعلوم أن نايفة نصار كيريللوس هي زوجة الفنان النحات المتميز بأفكاره وتعبيره الفني بسام كيريللوس، غير أن ذلك لم يجعلها تحت تأثير ما قدمه من أعمال، وذلك لا بالأسلوب ولا بالتقنية المستخدمة ولا بطريقة التعبير عن أفكار تتعلق بالوطن وبالماضي.
تعرض صالة “كاف” التي أخذت على عاتقها دعم الفن اللبناني المعاصر بكافة أساليبه الفني مجموعة فنية متجانسة قدمتها الفنانة بهذه الكلمات “هنا جلس جدي.. بكيت وضحكت معه. ما ترونه جاء تحت تأثير الماضي وما صنعه بأفكاري وأحلامي. هكذا أرى جدي.. على كرسي خشبي بسيط.. وأرى أرضا مكسوة ببلاط قديم عليه تصاميم تراثية. وسجاد مزخرف وأيضا تفاحة تتوق إلى ما كان وولى.”.
مما لا شك فيه أن ما تقدمه الفنانة لا يعود فقط إلى تأثير الماضي الشخصي وقطع من ذكرياتها الشخصية العامرة بمشاعرها العميقة تجاه جدها، بل جاء أيضا تحت تأثير ما عاناه لبنان وتعانيه بيروت حتى يومنا هذا.
من هذا المنطلق أصبح جد الفنانة ممثلا بشخصه الناطق بكل جميل أو هو مهدد بالعبور بفعل التدمير الممنهج للأبنية التراثية، ودون أن ننسى أيضا ما نتج عن انفجار الرابع من أغسطس الذي أودى بمبان أثرية وما تضمنته من أثاث تاريخي يدل على فترات ذهبية عاشها لبنان تاريخيا.
كل لوحة قدمتها الفنانة تستحق أن تكون موضوع اهتمام المشاهد، ولكن الأهم هو حين ننظر إلى تلك الأعمال مجتمعة الواحدة إلى جانب الأخرى وما تشكله بهذا التجمع من سيرة بصرية لكرسي بات أكثر من كرسي، ليكون شخصية قائمة بذاتها في علاقتها مع المسطح المزخرف الذي استقرت عليه تارة وتشقلبت على إيقاع تصاميمه التراثية حينا آخر.
الكرسي شخصية قائمة بذاتهاوإضافة إلى ذلك سيعثر زائر المعرض على حروق وكسرات أصابت نواحي من البلاط هي أشبه بجروح تصيب كاهل الإنسان القابع في وطن اسمه لبنان. وفي لوحات أخرى تظهر تشققات في جدار أزرق بلون السماء يواكب تشققاته كرسي تعدد فصار كرسيين.
وسيرى الناظر إلى بعض لوحاتها كيف “نما” للكرسي ظهر وأصبح كاملا يحيل إلى نوع تراثي وشعبي آخر من الكراسي. وسيتعرف زائر المعرض كيف يمكن للأرض أن تكون سقفا وجدارا ومنزلقا ديناميكيا يحتضن خواطر كرسي يريد أن يخبر عن ذكرياته هو، وعن مغامراته هو، مستعينا بفن ومشاعر الفنانة التي لم تنفذ أعمالها لتكون تزيينية بقدر ما أرادت أن تعبر من خلالها عن طفولة كرسي “كهل”، حافظ على نشاطه ورغبته بأن يكون جزءا من حاضر ناصع لا يريد أن يغوص في النسيان.
لم تترك الفنانة نايفة نصار الكرسي وحيدا، بل أدخلت إلى عالمه تفاحة حمراء تشتد حمرتها حينا وتخف حينا آخر. تفاحة شبه مشتعلة تلقي بأحمرها على الأرض أحيانا وتلتمع مكتملة حينا آخر. تتقشر وتتمدد قشرتها تارة وتظهر منقوصة بفعل قضمة سابقة تارة أخرى. تفاحة تقف ثابتة أحيانا في وسط اللوحة كمرساة أو كنقطة انطلاق لحركة الكرسي “السعيد” بحضورها، وأحيانا أخرى تتلهى عنه لتدور وتنط في فضاء اللوحات. كما يحضر أحيانا ظلها وكأنه ظل لما يعنيه الحاضر والماضي للفنانة، وأحيانا أخرى يختفي تحت حدة ضوء عام يشرق في جميع أنحاء اللوحة مانعا لتكون الظل كمفهوم يحمل ملامح حزينة.
"عبق الماضي" ضم أعمالا فنية لنايفة نصار معظمها بأحجام متوسطة مشغولة بمادة الأكريليك على الخشب
ويعثر المشاهد في أكثر من لوحة على عدة حبوب من التفاح، ولكنه لا يلبث أن يتأكد أنها تفاحة واحدة تظهر مسار تحركاتها، صولاتها وجولاتها على المساحة التي خصصتها الفنانة لها. وحين يتعدد ظهور تلك التفاحة إلى جانب عناصر أخرى عالية الرمزية كعيدان الكبريت الذي إما اشتعل سابقا أو لم يشتعل بعد، إضافة إلى الكرسي الخشبي التقليدي المشغول سطحه بالقش، وبحضور عناصر أخرى كالبسط والسجاد المزخرف بشكل بديع يحافظ على مروحة ألوان شبيهة بألوان قطع البلاط الذي يكسو الأرض، تصبح لوحاتها، لاسيما لأنها مربعة الأشكال، تشبه المسطحات الخشبية أو الكرتونية الصلبة لألعاب تقليدية كالشطرنج وغيرها لتضيف إلى لوحاتها معنى آخر فيه الخسارة والربح، فيه الحركة والثبات وفيه طفولية الخطوات التي تريد أن تختبر وتعيش ضمن مكان محمّي مخصص لها.
ولعل أجمل لوحاتها هي أولا تلك التي ترتفع فيها حبوب التفاح، وكأنها سحر، عن الأرض لتصبح معلقة في الفراغ متخلصة من ظلالها، وثانيا تلك اللوحات التي يقوم فيها الكرسي بما يشبه الاستعراضات البهلوانية فيتعاكس حينا ويصطدم حينا آخر مع ظله. ظل يصبح في بعض اللوحات هو الأكثر حضورا ولفتا للانتباه، أي يصبح هو موضوع اللوحة.
من عناوين أعمالها نذكر “فضاء الذكرى” و”جزء من حنين” و”كبريت الانتظار” و”دفء الاحتضان” و”شذى الظل” و”فوضى” و”ريحان الشعور”.
تبرز في المجموعة لوحة واحدة مختلفة عن باقي اللوحات، وتظهر فيها يد تنزل الكرسي في فراغ أسود. لوحة تكاد تكون منطلقا للسيرة، أي الكلمة الأولى. إنها اليد التي تطلق للكرسي حريته في إبداء سيرة تحركاته ولقاءاته مع باقي عناصر اللوحات.