الرواية والقصص أداة للتأريخ، نقاش في روايات المعاصرين
محمد أسامة
-مقدمة
دائما ما تسمع عبارة “التاريخ يكتبه المنتصر” على لسان العامة عند ذكر حدث ملتبس أو معركة ما أو باب سد للإطالة فيه “شماعة مثلا” وأيضا وهو السبب الأكبر “حفظ ماء الوجه والإبقاء على المظلومية” فيعذر أي طرف سواء فيما ذكر “إيهام تلقائي للمتلقي” أو في تكاسله عن تدوين ما حدث “شماعة أخرى”
-فضلا عن اختلاف السرديات التاريخية للحدث الواحد، كالجدل المستمر عن دخول المسلمين لمصر “٢١ هجريا / ٦٤١ -٦٤٢ ميلاديا “، أو الحملات الصليبية مثلا، وتبعا لذلك تختلف المسميات التي تصير مطاطية على مقاس الراوي مثلا “فتح- احتلال- استرداد- استيلاء- تطهير” إلى آخره.
– وعلى ذكر هذا يجب أن نسأل، هل الأدب من قصص وحكايات أداة من أدوات التأريخ والتدوين؟ يمكن فهي تسهل استيعاب القارئ للأحداث بحبكة درامية مقاربة لواقع الحدث فتحقق له التسلية والمنفعة المطلوبة، ونجد في عقب ذلك سؤالا آخر، هل الأدب يحلحل فكرة التاريخ يكتبه المنتصر؟ سنعرفها بالتفصيل لاحقا ولكن لنضع فكرة أن لعبة الخيال والسرد التاريخي والمزج بينهما يمكن أن يتشكل بأي طريقة يريدها الكاتب أو الصانع “بشرط أن الأساس يظل موجودا” ولو انتقلنا للسينما مثلا سنجد فيلم وا إسلاماه على الرغم من أخطاءه الغريبة إلا أنه يتمسك بالمراحل التاريخية حتى موقعة عين جالوت وكذلك فيلم صلاح الدين الأيوبي للمخرج يوسف شاهين يتمسك بالأطر الخارجية “كحملة ريتشارد قلب الأسد وصلح الرملة فيما بعد”.
– نفض الغبار بغبار جديد أم توزيع القديم؟
تتشعب رؤى الروائيين في استخدام هذا الدرب كما مثلنا سالفا وفق الأيدولوجيات والأطروحات والرسائل التي يريد إيصالها، فنرى منهم من يحاول التقاط حدث ما معروفا بعض الشيء، ومن ثم ينفض الغبار عنه” لو افترضنا أن الغبار هنا الجدل المستمر حوله” من خلال رسم الشخصيات ومآسيها وصنع قالب للحبكة ملائم للأفكار الذي يود مناقشتها والتي ربما تفقد قيمتها بدون هذه الإطار أو الاسقاطات التي ينوه بها الكاتب عن بعض الشعارات المحفوظة “كالتاريخ يعيد نفسه مثلا” أو على الأقل إعادة تقييم للحدث وصنع صورة مكملة “من خلال وقائع أخرى تدور في نفس الخط الزمني” مع رؤى وأفكار أو دراسة حال مجتمع، فيكون سرد التاريخ تقريري في الغالب
– وذلك مثاله في رواية دروز بلجراد للكاتب اللبناني ربيع جابر، حيث تم استخدام مذبحة جبل لبنان عام ١٨٦٠ والنزاع على بلجراد بين العثمانيين والصرب والثورات في الجبل الأسود كتمهيد لما سيحدث أو ستتحرك عليه الشخصيات ولذلك سرد الراوي يكون جامدا صلبا فيها فتستمد الفكرة من وجوده
وعلى ذكر إعادة التوزيع، يحضر في ذهني مشروع “حكايا المنسيين” للكاتب المصري الشاب إبراهيم أحمد عيسى، وفيه نجد اجتهاد من الكاتب في التقاط حدث بين ثنايا الكتب والمصادر، ثم تقليبه بإكمال ما نقص من الشخصيات برسم دوافع ومشاعر تليق بأفعالهم، وتهيئة الحبكة للوصول للنهاية عبر انتقالات ربما تكون معتادة كقصص الحب أو بنت حالها بوضع شخصيات جديدة أو إعادة تشكيل أخرى لتمثلها كجدلية الأمل واليأس في شخصية الضابط العثماني في رواية “البشرات” أو شرعنة الأفعال وتبريرها في رسمه لشخصية “ألفونسو دي ألبوكريك” وشخصيات أخرى في رواية “بابْر – ما روي عن ابن أيوب”، فنجد الرواية إعادة إحياء للحكاية، ويكون دور الروائي فيها تكملة للصورة، وإعادة توزيع ما هو مبهم وفق مفهوم الحاضر كذلك
– صورة بتفاصيلها
[ فوجئت برجل يحمل عصا وينخسنا بها، أيقظنا قبل أن نُكمل راحة القيلولة، تجمعتْ صور في عيني كالهلوسة، تشكلتْ ملامح الرجل كأنه خارج من تحت الماء، كان أنفه طويلًا وعيناه ضيقتان وجلده مائلًا للسمرة، أخذ يضرب كل البغال الواقفة والصبيان النائمين، ثم رفع عصاه ورقص بها في فرح غامر، كان يلحِّن كلماته بطريقة ارتجالية من تأليفه.
“عبد الناصر كبس على اليهود يا ناس، البطل كبس على اليهود يا خلق”. ]
رجال غسان كنفاني– عمرو العادلي
لنسأل سؤالا بديهيا ما الأدق والأوقع؟ دراسة التاريخ بأحداثه المتعاقبة كشريط صور أم عرض سينمائي عريض مليء وكأننا داخل الناس بمعاناتهم وفرحهم ورعبهم كذلك ‘فلو بحثت عن تغطية مسجلة ما وليكن عن الغزو الأمريكي للعراق لعل عقلك يقفز منه أسئلة عديدة، كيف فزعوا وقت القصف؟ ما هو شعور الخوف لديهم؟ حتى ربما ترتعب عند سماع النشيد العراقي السابق مثلما فعلت” فالدخول في تلك التفاصيل مرهق ولكنه ممتع وأمين في إكمال الصورة وتطعيمها بما يجعلها حية.
-فالواضح من هذا الاقتباس مقصدنا، حيث نجد في رقصة “الأحول” وهتافه الممتد من خلفية مهنته وأصله رؤية مصغرة للمجتمع أثناء حرب ٦٧ وتأثير بيانات الإذاعة على الناس وقتها، ونجد اختيار الكاتب مفضلا ذلك على الصورة التقليدية والمحفوظة، ولعل هذا لا يقتصر على ذلك الكاتب بعينه، بل أخذ بعض الكتاب ذلك مذهبا لتشريح حالة الناس في فترات ملتبسة، وبالعودة للكاتب اللبناني ربيع جابر ولكن في رواية الاعترافات هذه المرة، نجد شخصية مارون وما يعاني من شتات بين هوية لا يعرفها انتزع منها وهوية أخرى غرس فيها وتشرب فيها إلى أحداث طاحنة أمام عينيه، يقف كالشاهد الغائب على تلك الأحداث، لا يجد من ذلك تحيزا لفصيل على فصيل، وربما كانت تلك قطعة ناقصة تمثل فئة لا يستهان بها من الناس وقتئذ، أي حالة وسط أمام الحياة وتفاعلها وتقييمها على أساس الانتماءات، وأمام الموت الذي لا يعنيه كل ذلك، ويكتمل المزيج.
[كنت صغيرًا والواحد وهو صغير لا يفكّر في كل هذه الأشياء. يستقبل العاطفة الجيّاشة، يستقبل اللمسات الحارّة، ويعانق الجسم الذي يعانقه، ولا يسأل نفسه أسئلة كثيرة. يكفيه هذا الحبّ، هذا الفوران الحلو للعاطفة. هذا الدفء يكفي.]
-الاعترافات- ربيع جابر
-وعلى ذكر كل ذلك فالكتاب المعاصرين- وخاصة الشباب منهم – أجادوا صنع تلك الحالة لما رأوا فيها من محاولة للتجديد والابتعاد عن بعض الأطر التقليدية، وبشيء يقارب تناول الروائي المصري عادل
عصمت لأحداث ثورة يناير ٢٠١١ في أجزاء من رواية “جنازة السيدة البيضاء” جاءت رواية الوقوف على العتبات للكاتب محمد عبد الرازق محاولة لوصف حال بين نقائض متعددة مستخدما تلك الأحداث في مصر وصاغ منها حالة متفردة بإيقاع متسارع مثل تسارع الأحداث بالضبط، ورسم مضبوط لنقاط الصراع
– وفي قصة لا أحد ينجو من آنا فونتينا من مجموعة تحمل نفس الاسم للكاتبة المصرية إيمان جبل تحاول في السعي لنفس الحالة ولكن باستخدام الرمز، لعقد موائمة بينها وبين الواقع، فلو كانت شخصية العجوز آنا فونتينا هي دور الواقع الذي تبجله الشخصيات الأخرى ومن خلال تلك الشخوص التي تعبر عن نفسها بأنها ضحايا لحدث ما، فمن وجهة نظري أنهم اعتبروا أن النجاة منه بالتبجيل والتعظيم، ولكن بمقاييس أخرى تعد نتاج للصدمة مع الواقع نفسه، يعني يهرب منه ويقف محاولا إظهار الولاء والطاعة.
-وبالتدقيق هنا نجد أن تلك الصورة الحية ضمت كل ما يختلج بالإنسان حتى بهلوساته وضغوطه النفسية، تتأثر بها فيزداد إبحارا في مأساته، وتؤثر فيها فتزداد الصورة قتامة، كما في سرد مذبحة الغوطة الشرقية الكيماوية في رواية الجدار للكاتبة المصرية ” نورا ناجي ” وتناول المقولة الشهيرة “ماتوا نياما” كنقطة بداية تتعايش معها الشخصية مثل غيرها من الأحداث ويقتسمان سوداوية المشهد والدوران بين العجز والتشكك في وجود العدل، على قدر الفظاعة تزداد وضوحا.
– حكاء في جوف الراوي.
-بين التقريرية ومزج الواقعية والحالة العامة، تجد بعض الكتاب يتجهون في مسلك غريب، وهو نقل ما يدور في العقل والمشاعر دون تعديل أو تحريف، مزيج غريب من الأحداث وخيال الراوي الذي لا يهمه أن يشطح بعيدا، وربما هنا نرى صدق الراوي بكلامه الفطري المدوخ قليلا “ما في قلبه على لسانه” أو الحالم الذي يتهادى مع واقعه باسطا أحلامه جنبا إلى جنب معه سواء في الوصول للكمال أو التفرد، والذي تراه مستمتعا بعداوته إياه بإفزاعه بالخيال نفسه وذلك في مشاهد في رواية “الضفة الثالثة لنهر الأردن ” للكاتب الفلسطيني الراحل حسين البرغوثي أو في تصنع التقارب بين التلميذ وأستاذه كما في مقابلة كفافيس للأمير في رواية بعد أن يخرج الأمير للصيد للكاتب المصري محمد عبد النبي
[وجلسنا على الرصيف وأشعلنا سيجارتين سألته: من أنت؟ فقال: «أنا لا أحد! قادم من لا مكان! أبحث عمَّن يشرب القهوة في الليل معي!» وحدَّق في قهوته بصمت القبور وفجأة جاء من الخلف صدى خطوات عسكرية، صدى دقيق، متزن، ومنتظم ضابطان كتائبيان يقتربان منَّا. سألوه: من أين يعرفني؟ فقال: «لا أعرفه! دعوني بسلام! أبحث عمَّن يشرب القهوة معي!». ]
الضفة الثالثة لنهر الأردن – حسين البرغوثي
وخلاصة القول، الرواية بأفكارها الجيدة وفي يد الكاتب الذكي الذي يعرف أدواته مداد لحبر التاريخ يصيغه كيفما شاء منتصرا أو مهزوما جانيا أم مجني عليه، بشرط ألا يحمل القلم ما لا يطيق أو يستنزفه في تبريرات لا قيمة لها، فينطلق المثل الشعبي المصري “صحيح، هو اللي بيزمر بيخبي دقنه؟!”
محمد أسامة
-مقدمة
دائما ما تسمع عبارة “التاريخ يكتبه المنتصر” على لسان العامة عند ذكر حدث ملتبس أو معركة ما أو باب سد للإطالة فيه “شماعة مثلا” وأيضا وهو السبب الأكبر “حفظ ماء الوجه والإبقاء على المظلومية” فيعذر أي طرف سواء فيما ذكر “إيهام تلقائي للمتلقي” أو في تكاسله عن تدوين ما حدث “شماعة أخرى”
-فضلا عن اختلاف السرديات التاريخية للحدث الواحد، كالجدل المستمر عن دخول المسلمين لمصر “٢١ هجريا / ٦٤١ -٦٤٢ ميلاديا “، أو الحملات الصليبية مثلا، وتبعا لذلك تختلف المسميات التي تصير مطاطية على مقاس الراوي مثلا “فتح- احتلال- استرداد- استيلاء- تطهير” إلى آخره.
– وعلى ذكر هذا يجب أن نسأل، هل الأدب من قصص وحكايات أداة من أدوات التأريخ والتدوين؟ يمكن فهي تسهل استيعاب القارئ للأحداث بحبكة درامية مقاربة لواقع الحدث فتحقق له التسلية والمنفعة المطلوبة، ونجد في عقب ذلك سؤالا آخر، هل الأدب يحلحل فكرة التاريخ يكتبه المنتصر؟ سنعرفها بالتفصيل لاحقا ولكن لنضع فكرة أن لعبة الخيال والسرد التاريخي والمزج بينهما يمكن أن يتشكل بأي طريقة يريدها الكاتب أو الصانع “بشرط أن الأساس يظل موجودا” ولو انتقلنا للسينما مثلا سنجد فيلم وا إسلاماه على الرغم من أخطاءه الغريبة إلا أنه يتمسك بالمراحل التاريخية حتى موقعة عين جالوت وكذلك فيلم صلاح الدين الأيوبي للمخرج يوسف شاهين يتمسك بالأطر الخارجية “كحملة ريتشارد قلب الأسد وصلح الرملة فيما بعد”.
– نفض الغبار بغبار جديد أم توزيع القديم؟
تتشعب رؤى الروائيين في استخدام هذا الدرب كما مثلنا سالفا وفق الأيدولوجيات والأطروحات والرسائل التي يريد إيصالها، فنرى منهم من يحاول التقاط حدث ما معروفا بعض الشيء، ومن ثم ينفض الغبار عنه” لو افترضنا أن الغبار هنا الجدل المستمر حوله” من خلال رسم الشخصيات ومآسيها وصنع قالب للحبكة ملائم للأفكار الذي يود مناقشتها والتي ربما تفقد قيمتها بدون هذه الإطار أو الاسقاطات التي ينوه بها الكاتب عن بعض الشعارات المحفوظة “كالتاريخ يعيد نفسه مثلا” أو على الأقل إعادة تقييم للحدث وصنع صورة مكملة “من خلال وقائع أخرى تدور في نفس الخط الزمني” مع رؤى وأفكار أو دراسة حال مجتمع، فيكون سرد التاريخ تقريري في الغالب
– وذلك مثاله في رواية دروز بلجراد للكاتب اللبناني ربيع جابر، حيث تم استخدام مذبحة جبل لبنان عام ١٨٦٠ والنزاع على بلجراد بين العثمانيين والصرب والثورات في الجبل الأسود كتمهيد لما سيحدث أو ستتحرك عليه الشخصيات ولذلك سرد الراوي يكون جامدا صلبا فيها فتستمد الفكرة من وجوده
وعلى ذكر إعادة التوزيع، يحضر في ذهني مشروع “حكايا المنسيين” للكاتب المصري الشاب إبراهيم أحمد عيسى، وفيه نجد اجتهاد من الكاتب في التقاط حدث بين ثنايا الكتب والمصادر، ثم تقليبه بإكمال ما نقص من الشخصيات برسم دوافع ومشاعر تليق بأفعالهم، وتهيئة الحبكة للوصول للنهاية عبر انتقالات ربما تكون معتادة كقصص الحب أو بنت حالها بوضع شخصيات جديدة أو إعادة تشكيل أخرى لتمثلها كجدلية الأمل واليأس في شخصية الضابط العثماني في رواية “البشرات” أو شرعنة الأفعال وتبريرها في رسمه لشخصية “ألفونسو دي ألبوكريك” وشخصيات أخرى في رواية “بابْر – ما روي عن ابن أيوب”، فنجد الرواية إعادة إحياء للحكاية، ويكون دور الروائي فيها تكملة للصورة، وإعادة توزيع ما هو مبهم وفق مفهوم الحاضر كذلك
– صورة بتفاصيلها
[ فوجئت برجل يحمل عصا وينخسنا بها، أيقظنا قبل أن نُكمل راحة القيلولة، تجمعتْ صور في عيني كالهلوسة، تشكلتْ ملامح الرجل كأنه خارج من تحت الماء، كان أنفه طويلًا وعيناه ضيقتان وجلده مائلًا للسمرة، أخذ يضرب كل البغال الواقفة والصبيان النائمين، ثم رفع عصاه ورقص بها في فرح غامر، كان يلحِّن كلماته بطريقة ارتجالية من تأليفه.
“عبد الناصر كبس على اليهود يا ناس، البطل كبس على اليهود يا خلق”. ]
رجال غسان كنفاني– عمرو العادلي
لنسأل سؤالا بديهيا ما الأدق والأوقع؟ دراسة التاريخ بأحداثه المتعاقبة كشريط صور أم عرض سينمائي عريض مليء وكأننا داخل الناس بمعاناتهم وفرحهم ورعبهم كذلك ‘فلو بحثت عن تغطية مسجلة ما وليكن عن الغزو الأمريكي للعراق لعل عقلك يقفز منه أسئلة عديدة، كيف فزعوا وقت القصف؟ ما هو شعور الخوف لديهم؟ حتى ربما ترتعب عند سماع النشيد العراقي السابق مثلما فعلت” فالدخول في تلك التفاصيل مرهق ولكنه ممتع وأمين في إكمال الصورة وتطعيمها بما يجعلها حية.
-فالواضح من هذا الاقتباس مقصدنا، حيث نجد في رقصة “الأحول” وهتافه الممتد من خلفية مهنته وأصله رؤية مصغرة للمجتمع أثناء حرب ٦٧ وتأثير بيانات الإذاعة على الناس وقتها، ونجد اختيار الكاتب مفضلا ذلك على الصورة التقليدية والمحفوظة، ولعل هذا لا يقتصر على ذلك الكاتب بعينه، بل أخذ بعض الكتاب ذلك مذهبا لتشريح حالة الناس في فترات ملتبسة، وبالعودة للكاتب اللبناني ربيع جابر ولكن في رواية الاعترافات هذه المرة، نجد شخصية مارون وما يعاني من شتات بين هوية لا يعرفها انتزع منها وهوية أخرى غرس فيها وتشرب فيها إلى أحداث طاحنة أمام عينيه، يقف كالشاهد الغائب على تلك الأحداث، لا يجد من ذلك تحيزا لفصيل على فصيل، وربما كانت تلك قطعة ناقصة تمثل فئة لا يستهان بها من الناس وقتئذ، أي حالة وسط أمام الحياة وتفاعلها وتقييمها على أساس الانتماءات، وأمام الموت الذي لا يعنيه كل ذلك، ويكتمل المزيج.
[كنت صغيرًا والواحد وهو صغير لا يفكّر في كل هذه الأشياء. يستقبل العاطفة الجيّاشة، يستقبل اللمسات الحارّة، ويعانق الجسم الذي يعانقه، ولا يسأل نفسه أسئلة كثيرة. يكفيه هذا الحبّ، هذا الفوران الحلو للعاطفة. هذا الدفء يكفي.]
-الاعترافات- ربيع جابر
-وعلى ذكر كل ذلك فالكتاب المعاصرين- وخاصة الشباب منهم – أجادوا صنع تلك الحالة لما رأوا فيها من محاولة للتجديد والابتعاد عن بعض الأطر التقليدية، وبشيء يقارب تناول الروائي المصري عادل
عصمت لأحداث ثورة يناير ٢٠١١ في أجزاء من رواية “جنازة السيدة البيضاء” جاءت رواية الوقوف على العتبات للكاتب محمد عبد الرازق محاولة لوصف حال بين نقائض متعددة مستخدما تلك الأحداث في مصر وصاغ منها حالة متفردة بإيقاع متسارع مثل تسارع الأحداث بالضبط، ورسم مضبوط لنقاط الصراع
– وفي قصة لا أحد ينجو من آنا فونتينا من مجموعة تحمل نفس الاسم للكاتبة المصرية إيمان جبل تحاول في السعي لنفس الحالة ولكن باستخدام الرمز، لعقد موائمة بينها وبين الواقع، فلو كانت شخصية العجوز آنا فونتينا هي دور الواقع الذي تبجله الشخصيات الأخرى ومن خلال تلك الشخوص التي تعبر عن نفسها بأنها ضحايا لحدث ما، فمن وجهة نظري أنهم اعتبروا أن النجاة منه بالتبجيل والتعظيم، ولكن بمقاييس أخرى تعد نتاج للصدمة مع الواقع نفسه، يعني يهرب منه ويقف محاولا إظهار الولاء والطاعة.
-وبالتدقيق هنا نجد أن تلك الصورة الحية ضمت كل ما يختلج بالإنسان حتى بهلوساته وضغوطه النفسية، تتأثر بها فيزداد إبحارا في مأساته، وتؤثر فيها فتزداد الصورة قتامة، كما في سرد مذبحة الغوطة الشرقية الكيماوية في رواية الجدار للكاتبة المصرية ” نورا ناجي ” وتناول المقولة الشهيرة “ماتوا نياما” كنقطة بداية تتعايش معها الشخصية مثل غيرها من الأحداث ويقتسمان سوداوية المشهد والدوران بين العجز والتشكك في وجود العدل، على قدر الفظاعة تزداد وضوحا.
– حكاء في جوف الراوي.
-بين التقريرية ومزج الواقعية والحالة العامة، تجد بعض الكتاب يتجهون في مسلك غريب، وهو نقل ما يدور في العقل والمشاعر دون تعديل أو تحريف، مزيج غريب من الأحداث وخيال الراوي الذي لا يهمه أن يشطح بعيدا، وربما هنا نرى صدق الراوي بكلامه الفطري المدوخ قليلا “ما في قلبه على لسانه” أو الحالم الذي يتهادى مع واقعه باسطا أحلامه جنبا إلى جنب معه سواء في الوصول للكمال أو التفرد، والذي تراه مستمتعا بعداوته إياه بإفزاعه بالخيال نفسه وذلك في مشاهد في رواية “الضفة الثالثة لنهر الأردن ” للكاتب الفلسطيني الراحل حسين البرغوثي أو في تصنع التقارب بين التلميذ وأستاذه كما في مقابلة كفافيس للأمير في رواية بعد أن يخرج الأمير للصيد للكاتب المصري محمد عبد النبي
[وجلسنا على الرصيف وأشعلنا سيجارتين سألته: من أنت؟ فقال: «أنا لا أحد! قادم من لا مكان! أبحث عمَّن يشرب القهوة في الليل معي!» وحدَّق في قهوته بصمت القبور وفجأة جاء من الخلف صدى خطوات عسكرية، صدى دقيق، متزن، ومنتظم ضابطان كتائبيان يقتربان منَّا. سألوه: من أين يعرفني؟ فقال: «لا أعرفه! دعوني بسلام! أبحث عمَّن يشرب القهوة معي!». ]
الضفة الثالثة لنهر الأردن – حسين البرغوثي
وخلاصة القول، الرواية بأفكارها الجيدة وفي يد الكاتب الذكي الذي يعرف أدواته مداد لحبر التاريخ يصيغه كيفما شاء منتصرا أو مهزوما جانيا أم مجني عليه، بشرط ألا يحمل القلم ما لا يطيق أو يستنزفه في تبريرات لا قيمة لها، فينطلق المثل الشعبي المصري “صحيح، هو اللي بيزمر بيخبي دقنه؟!”