- سميح القاسم لا يحب الموت.. لكن لا يخافه
ينظر إلى تجربة الشاعر الفلسطيني سميح القاسم الإبداعية «1939-2014»، وعلى نحو خاص، من خلال مستويين، أحدهما موقع خطابه ضمن ما اصطلح عليه بـ«شعر المقاومة» حيث كان أحد مبدعي فلسطين الأكثر ترجمة له، عبر مراحل إبداعه الأدبي منذ شبابه الأول، وحتى أن أغمض كلتا عينيه، وجرحه لا يزال ينزُّ في بعض أجزاء خريطته، وثانيهما طبيعة خطابه، وأدواته، ورؤيته التي سعى للالتزام بها طوال عقود من حياته، وإن كان سيدفع بسببها الضريبة على أصعدة عديدة، من بينها نير الاحتلال، ومن ثم عنت بعض الذين من حوله، وما أكثر اتجاهاتهم الفكرية، إذ يريد كل منهم من الأديب أن يكون صورة طبق الأصل، عن عالمه هو، وعلى حساب استقلالية رأيه، إذ أنه وعلى امتداد الخط البياني لخطابه، ركز على أسس عديدة لم يحد عنها، قيد أنملة، وفي مطلع ذلك: رفضه للاحتلال، وتشبثه بالأرض، رغم ما له من زخم في مجال الحضور، عربياً، وعالمياً، نتيجة ما لخطابه من خصوصية مشهود لها حقاً.
أعترف، بداية، أن أية مقاربة من عوالم القاسم، هي في جوهرها مجازفة كبرى، بل مغامرة كبرى، وذلك بسبب تشعب المجالات التي عمل عليها، إلى جانب الشعر، بؤرة إبداعه، وبوابته إلى عالم الفن، وهو نفسه عالم مقاومة المحتل الذي بات في حالة تلاغٍ مستمرة معه، ومع ذكريات طفولته، وفتوته، وحبه، وشبابه الأول، وسيرة مكانه، وأشجاره، وأصدقائه، بل سيرة وطن وشعب كاملين، فما كان منه إلا أن اختار الطريق الأكثر خطورة، وهو عارف ما ثمن ذلك قبل كل شيء، ومن هنا، فإننا نجد سميح الشاعر، وسميح الإعلامي، وسميح الكاتب المسرحي، وسميح الروائي، وسميح السربي، أو السارد، بل السيروي، أو الرِّسالي، وسميح المترجم، وسميح الحكاء،وسميح المواطن، وسميح الحزبي، الأممي، بل وسميح الأكثر تركيزاً على عروبته-حتى كمصطلح ولهذا التركيز أسبابه التي سنتوقف عندها- إضافة إلى سميح العاشق، وسميح المناضل، حيث إن كل حالة مما سبق، ولاغرو، تصلح لأن تكون محور مجلدات خاصة، كيف لا وعدد كتب الرجل يزيد عن عدد سنوات حياته التي عاشها، ناهيك عن أن هناك ما ظل من إنتاجه الأدبي، حتى الآن، خارج مجلدات أعماله الكاملة المطبوعة، وفي مطلع ذلك حواراته الأكثر أهمية، والتي كان لي شخصياً شرف إجراء أحدها معه.
يبلغ الالتزام لدى الشاعر القاسم أوجه، فهو التزام فريد، استثنائي، متعدد الوجوه، فكرياً، وحياتياً، وإبداعياً، بل إن أي استقراء لخطاب هذا المبدع، على امتداد عقود من عمره، يبين مدى تحقق هذا الالتزام، إنه الالتزام ببيته، وأهله، وهو التزام بمهاده الأول، وبرؤاه، دون أية مساومة على أية مفردة من هذه المفردات، بحيث أن في إمكاننا أن نجد هذه الثِّيمات، وسواها، في خطابه، عامة، هذا الخطاب الذي يلتزم به، أيضاً، ويَفي له، ما جعل بعض النقاد يرون أن الجانب الحياتي، أو الذاتي، الذي تتأسس عليه اللحظتان الحداثية، وما بعد الحداثية تكادان تغيبان عما أنتجه، في ظل وجود مشروع كبير، متبنى من قبله، وهو صليب قضيته التي عرف أنه من عداد أصحاب المواقف الكبار في ميادينها، مادام أنه كرس عقود حياته في سبيل همه، ورسالته، من دون أية مساومة، ما جعله يطرد من عمله، بل يضيق عليه، ويهدد بالقتل، بل تمارس عليه أشكال الحجر، أو النفي، من السجن المنزلي إلى ما وراء قضبان السجن الرهيب الذي طالما رآه معقل الرجال، وأكاديمية عليا لصقل رؤاهم، يقول:
لكني أومن يا أماه
أومن..أن روعة الحياة
تولد في معتقلي
أومن أن زائري الأخير..لن يكون
خفاش ليل . مدلجاً بلاعيون
لابدأن يزورني النهار
وينحني السجان في انبهار
ويرتمي ويرتمي معتقلي
مهدماً لهيبة النهار…
العمود الفقري لخطاب القاسم، إبداعياً، يكمن في قصيدته، هذه التي ولدت في تواز مع اسمه، منذ مغامرته الشعرية الأولى في باكورته الأولى «مواكب الشمس» التي طبعت في العام1958، وهو بين الثامنة عشرة والتاسعة عشرة من عمره، كما يحب أن يركز على ذلك، هذه الباكورة التي جسرت نحو دائرة قرائه الأوائل، ومن بينهم محمود درويش الذي يشترك مع هؤلاء في رسالة الإعجاب موقعة باسمه وزملائه في الصف الأول الثانوي، يطلبون منه تحديد موعد لزيارته، حيث تكون هذه الرسالة طلب انتساب لهؤلاء جميعاً، لتشكيل نواة متميزة، تعكس علاقته مع محمود درويش وجهها الحقيقي، وهي علاقة حياة، وإبداع، ورؤى، لاسيما أن الاثنين سيعملان ضمن حزب واحد، هو الحزب الشيوعي الإسرائيلي-راكاح، قبل أن يتركاه، من أجل التفرغ للخطاب الإبداعي، ولتظلَّ سطوة الرؤى الأممية على حياتيهما، وقصيدتيهما على نحو بارز، إلى الدرجة التي ستكون أحد ملامح هذه القصيدة، بل أحد ملامح خطابيهما عامة، في آن:
نحن صريحان في الحب والموت
يوماً غضبت عليك
ويوماً غضبت علي
وماكان شيء لديك
وماكان شيء لدي
سوى أننا من تراب عصي
ودمع سخي
نهاراً كتبت إليك
وليلاً كتبت إلي
وأعياد ميلادنا طالما أنذرتنا بسرخفي
وموت قريب وحلم قصي
ويوم احتفلت بخمسين عاماً من العمر
عمرالشريد الشقي البقي
ضحكنا معاً
وبكينا معاً
حين غنى وصلى
يعايدك الصاحب الربذي
على ورق السنديان
ولدنا صباحاً
لأم الندى وأب الزعفران
ومتنا بلا أبوين
على بحرغربتنا
في زوارق من ورق السيلوفان
صحيح، أن القاسم، عندما فتح عينيه على الإبداع، وجد في العمود الشعري مدخلاً له إلى هذا العالم الرحب، بيد أن حساسية روحه، التي تنوس بين أرومتها، واستقراء أسئلة اللحظة، وما بعدها، كي تخلص لهذه المحطات الثلاث، جعلته يعد من هؤلاء الشعراء التجريبيين، بل الشعراء المجددين، حيث الشكل الفني للخطاب لا يتحول لديه إلى قيد، بل إنه يخلص لشرط القصيدة التقليدية، وهي تنبض بالحياة، كما هو شأن قصيدة التفعيلة التي يكتبها، أو قصيدة النثر التي تظهر في سربياته وهي مأخوذة من كلمة السرب وكان أول من أوجد هذا المصطلح، هو أول من كتب النص السربي، قبل أن يطلق عليه تسميته، بل إن نصه الكولاجي الذي يسجل باسمه- بعد أن استفاد من تجربة التشكيل- يدل على روحه الأميل إلى التجديد، وفق معادلاته الفنية الخاصة. ودون أن ننسى تماهي خطاب الشاعر القاسم، لاسيما في العقود الأولى من تجربته، مع خطاب المدرسة الواقعية الاشتراكية، وامتثاله روح تجارب عالمية كبرى في هذا المجال، من دون نسيان خصوصية قضيته:
حاوروني بالمنافي..أتحدى
فندوا الحجة بالأصفاد والزنزانة الخرقاء
إني أتحدى
ألبوا الطاعون والحزن
وأبقى أتحدى
اقطعوا زندي
بالصدرالمدمى أتحدى
واقطعوا ساقي
أعلوصهوة الجرح وأمشي
وبعنقي أتحدى
بجبيني أتحدى
وبأسناني
وأسنان الأغاني أتحدى
ولع الشاعر القاسم بالجمال، الذي تعايش معه كإحدى المفردات اليومية، دعاه إلى البحث الدؤوب عنه في مظانه كلها، وأية مظان أرحب، لهذه الضالة من عالم الإبداع، حيث بات يحفر فيه عميقاً، كي يسمو إبداعه، وهو ما لا يتم إلا عن روح تجعل من السمو ضالتها، بل وتواجه قبح العالم، من خلال إفراد أجنحة الجمال، ليكون إكسير الأرواح الظمأى، وبوصلتها إلى دروب الخلاص، وهو ما كان يدعو روحه تزداد تحليقاً مع هذا الحفر، وليس أدل على هذا من أنه واجه كل أشكال جرائم المحتل، من خلال اشتغاله على عنصر الجمال، ما دعاه ينظر إليه، كما هي حقيقته، كضمير يقظ لشعب كامل، ولذلك فإن ردود فعله تجاه قصيدة ما له، كانت تجيء مضاعفة، نظراً لما يعرفه من دور كبير لهذا السلاح الأكثر فتكاً، وهو طهرانية الجمال وسموه….!
والشاعر القاسم الذي وجد نفسه، مبشراً بانتفاضة شعبه، قبل أن تطلق في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، وهلل لها، وغنى، وأنشد، وكان من بين المنتفضين، فهو فعل ذلك بالنسبة إلى ثورات الربيع العربي، بل إنه صار يرقص في ساحة بورقيبة في تونس، بعد سقوط نظام ابن علي، مؤكداً أن روح صديقه درويش التي طالما انتظرت هذا الحدث كانت حاضرة معه، واتخذ الموقف ذاته مع أكثر من سقوط أكثر من نظام، بيد أنه سجل عليه أنه تفاءل بنظام دمشق، واستثناه، وإن كان قد قال «أنا مع مطالب السوريين»، وأنا ضد الفساد والاستبداد» بيد أنه دافع عن هذا النظام في أحد مقالاته، وأكد لي شخصياً في حوار بيننا أنه صديق لأسرة الأسد..إلخ، وأوصاهم خيراً ببعض القضايا ومنها قضية الكرد..إلخ..!
يلاحظ متابع تجربة القاسم الشعرية أنه رغم نزوعه إلى التجديد، إلا أن الإيقاع الخارجي في قصيدته كان يهيمن عليه، إضافة إلى محاولته العناية، ضمن حدود معينة، بالإيقاع الداخلي، لاسيما في قصائد التفعيلة أو السربية التي راح يكتبها، لذلك فإن قصيدته استطاعت أن تستحوذ جماهيريتها، وتردد على ألسنة أبناء شعبه، وهم يواجهون الاحتلال، كما أن غناء بعض هذه القصائد أعطاها بعداً آخر، لتكسر قصيدته تلك الحدود التي قد ترسم بين النص والمتلقي، إلى الدرجة التي تكون روحه حاضرة بتضاريسها، ووجدها، وعلاماتها الفارقة، عبر خطاب فني، متصادٍ مع فعل المقاومة، ليكون واحداً من يمكن أن نسميهم بمربع هذا الشعر، مربع الشعر المقاوم، وهم، توفيق زياد، معين بسيسو، درويش، القاسم، وإن كنا هنا سنقصي الطوقانيين: إبراهيم وفدوى بالإضافة إلى آخرين منذ أبي سلمى وعبدالرحيم محمود ومروراً بسالم جبران وراشد حسين وحتى أصغر شاعر فلسطيني يكتب بدم قلبه.
تتعدد طرائق رسم الشاعر لصورته الشعرية في قصيدته، تبعاً لبنية النص، وهو يتدرج في طبيعته، على صعيدي الوضوح والغموض، حيث كان أميل إلى الحالة الأولى، ولعل دافعه إلى ذلك أن قضيته واضحة، وأن أعداء حريته واضحون، وأن رؤيته واضحة، وهو ما قاله على نحو حرفي في أحد نصوصه.
الملحمية التي تظهر كإحدى الثِّيمات البارزة في أكثر قصائد الشاعر ذات البناء المركب، تستمد مسوغها الفني من ثقافته، ومفهومه للقصيدة، ومعاناته كابن مكان محتل بأقدام الغرباء، ناهيك عن حضور الملحمة، والأسطورة، والأغنية، في حياته قبل أن توجد في مختبره الإبداعي، في دورة هذا الأشكال بين بعدي: التراث والفعل المقاوم، لتكون هذه الملحمية استجابة لمكونات عديدة، تنطلق من ذاكرته، ووجدانه، وروحه، بل وواقعه، ما جعل بعض قصائده تحلق ضمن هذا التوصيف، محققة شروطها الفنية، والواقعية معاً:
يارايحين إلى حلب
معكم حبيبي راح
ليعيد خاتمة الغضب
في جثة السفاح
ومادام الشاعر القاسم ليس صاحب مشروع محض حداثي، وإنما يتراوح مشروعه هذا بين مرجعيتين فنيتين، هما «الأصالة» و«الحداثة»، لذلك فإن التزامه بالبحور الشعرية، أو تفعيلاتها، يظل مهيمناَ على أغلب نصوصه الشعرية،ناهيك عن أن لغته ستتردد، ضمن إطار النص الواحد، بين معجميتها، ومعجمية الحياة، وفق فهمه العالي لدورة الزمن، ما يدل على أن مفهومه للغة ضمن الخطاب الأدبي، هو أنها عبارة عن أداة، بيد أن هذه الأداة كانت جد متطورة، لاسيما أنه يعد في سرده، كما شعره، أحد هؤلاء الذين أشعلوا في المفردة نبضها، ليكون إلى جانب بعض المبدعين المعروفين، كـ«نزار قباني وأدونيس وسليم بركات ومحمود درويش» وغيرهم أيضاً، ممن لهم معجمهم اللغوي، ولا ينغلق التجنيس على مفردتهم، وتمضي به إلى أمداء بعيدة، لتكون للغته فتوحاتها، وهو ليس بغريب على القاسم الذي يتميز بطراوة الحديث، وسلاسة اللغة، وجماليتها، وسطوتها، في نصه الشعري، أو الروائي، أو المسرحي، أو حتى المقالي، أو الحواري، أو الرِّسالي، حيث ثمة قاسم مشترك من دهشة تشكلها الأداة اللغوية في سائر هذه النصوص.
وكأني بالشاعر القاسم الذي كتب في هذه المجالات كلها، وراد فضاءات كثيرة، كان يحس أن فعل المقاومة يفرض على عاتق المبدع الفلسطيني أن يكون كتيبة من المبدعين، مادام أنه ضمير شعب، ونسغ أرض، وروح رسالة، ومن يدقق في قصيدة الانتفاضة التي تبدو من خلال تشريحها النقدي أنها قد صورة عن روح ابن المكان الفلسطيني، وهي تتأجج، في لحظة الانتفاضة، لتكون نشيداً يربط بين الماضي والحاضر والمستقبل، حيث فيها خطا المنتفضين، وأنفاسهم، وجراحاتهم، وأحلامهم، ورب قائل لو أن القاسم لم يكتب غيرها لسجل له أن يكون من الشعراء الكبار، فما بالك بقصائد أخرى ترتقي إلى مقامها، ومن بينها:
ومن خلال وضع تجربة الشاعر القاسم من الناحية الفنية على طاولة التقويم، أو التشريح، يظهر هاجسه الرئيس منها، كامناً في الدور الذي تقوم به، في سبيل خدمة أهله، وهي ملاحظة فعلية، يمكن اكتشافها على نحو بارز، لاسيما في ما إذا قارنا بين تقنية قصيدته وتوأمه الروحي محمود درويش التي راحت في سنواتها الأخيرة تتأثر بما هو تفكيكي وما بعد حداثي، دون أن تساوم هي الأخرى على وظيفيتها، ولكن ضمن حدود معينة، إذ أن العناية بمتلقي الخطاب من قبل الشاعر القاسم تبدو أكثر، ولعل في وجوده ضمن الأرض المحتلة ما يفسر هذه الظاهرة،حيث يتعلق الأمر هنا باستراتيجات النص، ورؤية الشاعر لدورها الفني والرّسالي، وإن كنا نجد أن الشاعر القاسم، وضمن قربه من متلقيه، وعنايته به، لا يساوم على الكثير من شروط قصيدته، خارج ثنائية: الغموض والوضوح، بل إنه استطاع أن يحلق في الكثير من هذه القصائد التي باتت تتردد على أوسع نطاق.
تعاطي الشاعر مع الاستعارات والمجازات، في حدودها الأولى، يتجلى، بالنسبة إلى القصائد التي يكتبها بعيداً عن لحظة الغضب،بيد أنه يكاد يزول، في تلك التي يكتبها تحت وطأة الألم، وردود الفعل، لتظل اللغة الطيعة التي ينهلها من معجمه بلا تلكؤ، في توازمع تطويع الإيقاع للحالة، وهو ما يدخل في إطار السمة البارزة لقصيدته وهي: الغنائية التي سرعان ما تجسر نحو متلقيها، وتتواشج مع روحه، وتأسره،، ناهيك عن سلاسة الصورة، واستفزازيتها، من بين أهم أدوات الشاعر، ودون أن ننسى هيمنة عنصر القص على قصيدته، سواء أكان مكثفاً، أم كان ملحمياً، يحضر في فضاء تجربته، اليومي بتفاصيله، إلى جانب الميثولوجي، ولافرق بين بسالة الشنفرى في لحظة غضبه، أو مثيلتها لدى هاملت الدانماركي، بل لافرق بين أساطيرالآباء، وأساطير بطولات الأحبناء والأحفاد، حيث تتعدد الأصوات في نصه، وهو البارع حتى في تناول الذات عبرضميرالمخاطب، كما يتجلى ذلك في «إنها مجرد منفضة…» :
لجوادنا العربي، يصله في معاركه الطويلة
ويقول: يانارالأعاجم
أفنى ولايرتد عرفي
أفنى ولكن لست أغدر فارسي، وأخون سيفي
أنا لم أزل في وجهك المجدوريانارالأعاجم
لقد ركز الشاعر القاسم على انتمائه القومي-بشكل أوضح- عبر استخدام مصطلح «العروبة»، ولذلك أسباب عديدة، فهو استمرار لصرخة المواجهة ضد الاحتلال والتي كان توأمه درويش قد سبقه إليها، عبر قوله «سجل أنا عربي» في إهاب التحدي، باعتبار أن المحتل في صدد محو ملامح إنسانه، وهو من مفردات المقاومة التي تستفز هذا المحتل، بل هي مواجهة لمحاولات محو الملامح، والاقتلاع من الوجود، وربما أن هذا التركيز من لدنه ظهر، بوتيرة أعلى، لاسيما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ومحاولة بعض خصومه من المنتمين إلى التيارات الفكرية والفنية الأخرى التقليل من شأنه، بزعم أنه قد فقد الرهان، لاسيما أن فعل دعاية المحتل كان على قدم وساق، في ما يخص هويته، ونجد في بعض نصوصه، و حواراته، مواجهة لذلك، وكأن قدره وأمثاله، أن يعملوا على أكثر من جبهة، وهم يسترخصون أرواحهم من أجل أهلهم، إلى الدرجة التي تذكرنا باستهداف درويش نفسه، من قبل أبعاضهم.
جبلة روح القاسم يجب أن تفهم على نحو واضح، من خلال ثقافته البيتية الأولى، بما في ذلك بعض المفاهيم حول استمرارية الروح، وانبثاق الماضي في الحاضر، ضمن دورة متواصلة، وتبلور وعيه في فضائي مقاومة الاحتلال، والتشبع بالفكر الإنساني-وقد ولدا متوازيين- ناهيك عن توزع هذه الروح بين مستويي الأصالة والتجريب، وإن كان تجديده في شكلين، أولهما ضمن القالب الشعري، في ما يخص قصيدتي العمود والتفعيلة لديه، والثاني من خارجه، ويشمل سربياته وكولاجاته على وجه التحديد، وكأني به يأخذ ما هو مضيء من كل مدرسة فنية، كما كل مدرسة فكرية، دون أي انغلاق، في كلتا الحالتين،ولابد من أن نشدد على مسألة مهمة، وهي أن انتقائيته من المدارس الفكرية والفنية-مع وجود نواة خاصة لديه- لاتخرج عن إهاب معادلة فهم الذات والآخر، في أقصى حدي الخصوصية والانفتاح، والاستجابة لضرورات الصيرورة، من خلال الثقة بحضور هذه الذات، فنياً، ودلالياً، ورؤيوياً، ضمن معادلة التجذر في الأرض، ومقاومة المحتل، وحب الناس، وترجمة كل ذلك في خطاب إبداعي لافت، عبرحامل لغوي،يواصل دورته بين مداميك معجم ثلاثي الأبعاد، تراثياً، وحداثياً، وحلمياً يكاد يتعالق مع مابعد الحداثة كما هو شأن نصوص درويش الأخيرة، مستقى من لغة الحياة، بمفرداتها اليومية، ليشكل بذلك «شعرية الوجود والمقاومة»، حيث تلتقي في هذا المساحة رموز أساطير تطلع من اللحظة، في موازاة مع مثيلاتها في فضائي المكان والعالم، لتتعايش الـ«سدوم» وأنتيغونا» وأوديب وطفل الانتفاضة المفتوحة في ملحمة، هي واحدة، في نهاية المطاف، تائقاً إلى صناعة نص جديد يرتقي إلى مستوى جرحه:
يا أمتي
ماذا لديك تكلمي
ما أنت أمه
عودي فقد تعب اللسان
ومات قراء الجريدة
عودي مغنيك القديم يود تبديل القصيدة
يا أمتي قومي امنحي هذي الربابة
غير البراعة في الخطابة
لحناً جديداً
وامنحي الأجيال
أمجاداً جديدة
وأخيراً، فإن تجربة سميح القاسم، التي انطلقت من الواقع، فهي تفاعلت تأثيراً وتأثراً مع تجربة درويش، وإن كان للأول سبقه الزمني على الثاني، بل إنها تفاعلت مع تجارب من هم مربع المقاومة الذهبي، أو اللهبي، من دون أن نغفل عن تجارب شعراء عالميين، كما هو حال إليوت، ووايتمان، وتحديداً رادة الشعر التقدمي من أمثال: لوركا ونيرودا وناظم حكمت، وما كان لهذه التجربة أن تستمر، وتحقق حضورها الراسخ، واللافت، لولا عمق موهبة الشاعر، وشساعة روحه، وشفافيتها، وحساسيتها التي تسجل له، وتشكل الفضاء العام لتجربة، استثنائية، فريدة، أسست مع تجارب أقرانه مدرسة الشعر المقاوم، لتدخل تاريخ الشعر العربي والإنساني العام، بكل جدارة، يقول:
لن نلين
دون حرياتنا عصف المنون
في هفانا
كان في الليل مع الأنسام يسري
ياحفيدي يابن كوبا الثائرة
لن تغطي الفجر كف غادرة
ياحفيدي نم
فعينا والديك لن تناما
ترصدان البحر والجو لكي
لا تضاما
_______________________________________________
\ فصل من مخطوط بالعنوان نفسه حول تجربة الشاعر.
إبنراهيم اليوسف \
\ ناقد وشاعرسوري