الحدْس التراجيدي في شعر يوسف الصائغ

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الحدْس التراجيدي في شعر يوسف الصائغ

    • الحدْس التراجيدي في شعر يوسف الصائغ








    سعد الدين كليب*
    شهد يوسف الصائغ، وهو في منتصف عقده الثاني، المحاولات الأولى للشعر الحرّ في العراق، على يد نازك الملائكة وبدر شاكر السياب، وزملائهما من الشعراء الروّاد كالبياتي والحيدري، كما شهد المساجلات الأدبية والنقدية الحارّة حول التجديد وضروراته الشعرية والثقافية والاجتماعية عامة. وهو ما سوف يسهم لاحقاً في تكوينه الأدبي والنقدي، ليكون واحداً من شعراء الحداثة، ومن دارسيها الأوائل. فقد أصدر مجموعة شعرية مشتركة، سنة 1957، وفي سنة 1974 دافع عن أطروحته في الماجستير، وعنوانها: “الشعر الحرّ في العراق”. وما بين هذين التاريخين أصدر الصائغ رواية “اللعبة” وعدّة مجموعات شعرية؛ ثم توالت إصداراته الأدبية بين الشعر والرواية والمسرحية والسيرة الذاتية. فلم يكن الشعر وحده هو الذي يحوز على اهتمام يوسف الصائغ كتابة ودراسة؛ وإنما تنوعت اهتماماته الأدبية والفنية تنوّعاً شديداً، فهو بالإضافة إلى ما ذكرناه آنفاً فنّان تشكيلي ومخرج مسرحي.
    وقد كان لذلك التنوّع في مزاولته الأجناس والفنون أثره الملموس في بناء النصّ الشعري لغوياً وأسلوبياً وجمالياً؛ وذلك أنّ التنويع بين الأجناس والفنون يحيل على التعدّد في طرائق الرؤية والتفكير والتعبير. فليس الجنس الأدبي مجرّد شكل فني فحسب، وإنما هو منظور رؤيوي وجمالي أيضاً، فما يمكن رؤيته بالقصيدة لا يمكن رؤيته في الرواية أو المسرحية أو اللوحة، وما يتمّ استيعابه جمالياً باللوحة لا يتمّ استيعابه كما هو في القصيدة أو المسرحية أو القطعة الموسيقية؛ ولكن قد يحدث أن تتبادل الآداب والفنون، وهي الحواسّ الجمالية للمجتمع، طرائق الرؤية والتفكير والتعبير فيما بينها، فتحمل القصيدة مثلاً بعضاً من المنظورات أو التقنيات المعتمدة في أجناس وفنون أخرى، ولكن من دون أن تتخفّف من خطابها الذاتي، بما يغيّر جوهرياً في طبيعتها الشعرية- الغنائية. وهو ما يدخل في التراسل الجمالي بين الأجناس والفنون. وقد اعتمد الصائغ ذلك التراسل في مجمل مسيرته الشعرية تقريباً، سواء أكان ذلك في نصوصه الشعرية المطوّلة أم في نصوصه القصيرة ولقطاته الشعرية الخاطفة. ولا يرتبط الأمر أولاً بالنزعة الفنية إلى التجديد أو التجريب، من خلال التراسل، وإنما يرتبط أولاً بالخبرة الإبداعية- العملية في عدّة أجناس وفنون.
    فقد امتلك يوسف الصائغ عدّة حواسّ جمالية- فنية يتلمّس بها الواقع من حوله، ويعيد بناءه شعرياً بالاستفادة من تلك الحواس بحسب ما يقتضيه الموقف الشعوري، فقد يتصدّر الرسم بالكلمات أو الحوار الدرامي أو السرد موضوعياً وذاتياً أو المونتاج السينمائي، في هذا النصّ الشعري أو ذاك، وقد تجتمع كلّها أحياناً، بما يرفع وتيرة التراسل إلى حدّها الأعلى. ولعلّ حداثة النصّ الشعري عند الصائغ تكمن في هذا الجانب تحديداً، أي التراسل، بانعكاساته المختلفة على مستويات النصّ كلّها، بدءاً باللغة وانتهاء بالبنية الفنية. وقد يكون الصائغ من أوائل شعراء الحداثة الذين مالوا إلى التراسل الجمالي بين الأجناس والفنون المختلفة، مستفيداً من خبرته الإبداعية العملية فيها، ومجرّباً إياها في صياغة نصّ شعري خاصّ ومختلف. وقد تبدى ذلك على نحوٍ لافت للنظر في نصوصه القصيرة خاصة، والتي هي، في معظمها، أشبه بالمنمنمات أو اللوحات الجدارية أو اللقطات السينمائية. وقد توقف عند ذلك أو ألمح إليه، عدد من النقاد الذين كان لهم وقفات نقدية عند شعر الصائغ، من مثل محمد المبارك وحاتم الصكر وعلي جعفر العلاق وعبد الإله الصائغ…، مؤكدين نزوعه إلى الإفادة من الرواية والمسرحية والسيرة الذاتية وفنّ الرسم. بل إنّ المبارك يذهب إلى أنّ الصائغ يتفرّد، من بين مجايليه من شعراء العراق، بخاصية تعدّد الأصوات في القصيدة، “ليكون بينهم سيد القصيدة الروائية- الدرامية في الشعر العراقي الحديث.”(1).
    لا نعتقد أنّ هاجس التجريب كان واحداً من الهواجس المهيمنة على الصائغ، كما هو الحال لدى الشاعر المصري حسن طلب، أو الشاعر السوري إبراهيم الجرادي مثلاً، بالرغم من محاولات التجريب المتكررة لديه. وذلك أنّ محاولاته تلك ترتبط بالرؤية الجمالية أكثر مما ترتبط بالشكل الفني. فهي محاولات محكومة بالكيفية التي يرى بها الواقع من جهة، وبالكيفية التي يعيد بها إنتاجه شعرياً عبر التراسل من جهة أخرى. فيوسف الصائغ لا يبهر المتلقي أو يشدّ انتباهه بابتكاراته الشكلانية أو تنويعاته الأسلوبية أو توليداته اللغوية، فهذه مما لا يُعنى به الصائغ إلا قليلاً، وفي الحدّ الأدنى. إنه معنيّ برسم اللحظة الشعورية بأبسط ما يمكن من التعبير، وأعمق ما يمكن من الإيحاء في الوقت نفسه. وهي معادلة استطاع الصائغ أن يحلّها أو يطوّعها في مجمل شعره، وفي نصوصه القصيرة على وجه الخصوص؛ وقد كان للتراسل أثره الواضح في ذلك التطويع، كما سوف نلاحظ لاحقاً.
    التجربة والحدس التراجيديّ:
    يرى الناقد علي جعفر العلاق، في دراسته النقدية المعنونة بـ “شعرية الخوف. قراءة في شعر يوسف الصائغ” أنّ “أكثر شعره احتفاءً بالخوف والهشاشة واللامعنى هو شعره في مجموعتيه (سيدة التفاحات الأربع) 1976 و(من قصائد البلبل الأسود) 1980 تحديداً، شعره له صدمة الكابوس، وحرقة الفجيعة.”(2). ونحن إذ نؤكد حضور الخوف في مجمل شعر الصائغ منذ مطلع مسيرته الشعرية، نؤكد في الوقت نفسه أنّ اصطلاح شعرية الخوف لا يستوعب حتى المجموعتين المذكورتين. وبالرغم من أهمية التحليل النقدي الذي أجراه الناقد للنصوص التي تناولها، فإننا نجد أنفسنا حذرين أمام اصطلاحه، ولا سيما أنّ شعرية الخوف لديه ذات أبعاد نفسية صرف؛ إذ ركّز على الدوافع النفسية الداخلية للخوف، من دون أيّ إشارة إلى مصادره الخارجية التي تنضح بها نصوص الصائغ، سواء منها ما تعرّض له الناقد، وما لم يتعرّض له. فهو يؤكّد أنّ “شعرية الخوف، في قصائد يوسف الصائغ، هي فائض هذا الذعر الداخلي عندما يفتك بنصوصه.”(3)؛ وكأنّ الخوف يسم طبيعة الشاعر النفسية فحسب، ولا صلة له بما يحدس به أو يعاينه ويعانيه في الواقع المعيش، ولا صلة له أيضاً بمنظومة القيم الأخلاقية والجمالية لديه !
    إنّ الحدس التراجيدي(4) هو الأكثر حضوراً وهيمنةً في التجربة الجمالية لدى الصائغ، عبر مسيرته الشعرية كلّها، أو كما يقول: “وظلّ يلاحقني حدْسي”(5). وهو حدس تتقاطع بعض مظاهره مع التوجّس أو الخوف، غير أنه أوسع مدى منه وأعمق إشكالية. فهو استشعار ذاتي مبكّر بالفجيعة المحتملة على الصعيد الاجتماعي العام أو على الصعيد الذاتي الخاصّ؛ إنه استشعار أليم بالانهيار، من دون امتلاك القدرة على الفعل موضوعياً أو ذاتياً. وبما أنّ الحدس التراجيدي ذو طبيعة جمالية انفعالية في الشعر والفنّ عامة، فإنه يبدو أكثر فجائعية، مما لو كان مجرّد حدس حسّي أو عقلي بحت؛ وكذلك فإنّ معطيات ذلك الحدس تظهر، في الفنّ بسبب سمته التخييلية التصويرية، بوصفها معطيات ملموسة، شأنها شأن الظواهر والأشياء. فلا يظهر الحدس في الفنّ على أنه حدس بما سوف يقع أو يكون احتمالاً أو افتراضاً، وإنما على أنه واقع حيّ وملموس، وذلك عبر التعبير والتصوير، اللذين يزيدان من فداحة الحدس التراجيدي في الفنّ، لامتلائه بالهواجس والمخاوف والانفعالات الحادّة، إضافة إلى المشهدية الفجائعية، التي هي نفسها حدس الفنّ بالمآلات المأساوية أو العذابية.
    قد ينعكس الحدس التراجيدي نصّياً عبر الصورة الفنية أو اللغة الشعرية أو عبر جمالية المكان، أو الخطاب الثقافي، بدرجات متفاوتة، ولكن من دون أن يتبلور قيمةً جمالية محدّدة أو متكاملة الملامح؛ غير أنّ انعكاسه الأهمّ يكمن في ذلك التبلور تحديداً، إما على نحو تراجيدي صرف، وإما على نحو عذابي صرف أيضاً، وإما بشكل مختلط من الاثنين معاً؛ وذلك بحسب المنحى المهيمن في الحدس، وهل هو منحى عام أو خاصّ أو مختلط. ففي حين يرتبط التراجيدي بالعام أولاً، يرتبط العذابي بالخاص أولاً، من دون أن ينفي ذلك إحالة الواحد منهما على الآخر؛ فقد يحمل التراجيدي حمولة ذاتية ملموسة، وقد يحمل العذابي حمولة اجتماعية ملموسة كذلك، وقد يتراوح النصّ بين هذا وذاك. وهو ما نلحظه في تجربة الصائغ التي اشتملت على تينك القيمتين بشكل كثيف جداً؛ حيث تتصدّر قيمة التراجيدي في النصوص الطويلة خاصة، من مثل: اعترافات مالك بن الريب، ورياح بني مازن، وسفر الرؤيا، والمعلّم؛ وتتصدّر قيمة العذابي في النصوص القصيرة خاصة، من مجموعتيه، سيدة التفاحات الأربع، ومن قصائد البلبل الأسود. وإذ نرى هاتين القيمتين تتبادلان الصدارة، لا نكاد نلمح إلا مظاهر باهتة للجمال أو للجلال فيها، ولا نكاد أيضاً نمسك بالشاعر وهو يصوغ مفهومه الجمالي عن القبح، كما هو مفترض في تجربة يرتفع فيها الحدس التراجيدي إلى أقصاه.
    فمن المعلوم أنّ ثمة علاقة طردية بين القبح من جهة، وبين التراجيدي والعذابي من جهة أخرى؛ فكلّما استفحلّ القبح اتسعت التراجيديا بأشكالها ومستوياتها العذابية المختلفة. لكن الصائغ كثيراً ما يكتفي برصد الآثار الجمالية والانفعالية والنفسية لمفاعيل القبح، من دون أن يتوسّع في رسم مظاهر القبح وأشكاله. وكأنّ الحدس التراجيدي قد استنفد لديه الحدس الجمالي كلّه في علاقته بالواقع من حوله؛ فلا يكاد يرى فيه شعرياً إلا التراجيديا العامة والعذابات الخاصة. وبدهيّ أننا لا ننفي وجود أيّ ملمح أو مشهد للجمال أو للجلال في تجربة شعرية ممتدّة على نصف قرن تقريباً؛ ولكننا نؤكّد استعلاء الحدس التراجيدي على مجمل التجربة.
    تتزامن قيمة التراجيدي مع مرحلة الأحلام الثورية الكبرى لدى الشاعر حتى منتصف السبعينيات من القرن العشرين؛ وتتزامن قيمة العذابي لديه مع المرحلة التالية، وهي مرحلة الانكسار الثوري والفقد الشخصي(6)؛ وهو ما يدلّل على التحوّل المهمّ أو الخطير الذي طرأ على منظومة القيم، في مسيرة الصائغ الحياتية، والذي جعله يعيد ترتيب أولوياته الجمالية والرؤيوية عامة؛ فتراجع لديه- إلى حدّ التلاشي- النموذج البطولي التراجيدي الذي يعبّر عن المثل الثوري الأعلى، لتحلّ محلّه الأجواء العذابية والنماذج الإنسانية المقهورة أو المذعورة، بما فيها نموذج الجميل- التراجيدي. ولم يكن لبعض النصوص ذات الخطاب السياسي المباشر، والتي يتعرّض فيها الشاعر للحرب العراقية- الإيرانية من منظور “الانتصار العظيم”، أو يمتدح بها الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، أن تخفّف من وطأة تلك الأجواء على التجربة. بل لعلّها تزيدها نصاعة وفداحة، وتؤكّد ذلك التحوّل المهمّ أو الخطير.
    فبعد أن كان الحدس التراجيدي ذا منحى عام، ومرتبطاً بالخطاب الاجتماعي الثوري، عبر فترة لا بأس بها في المرحلة الأولى؛ أصبح ذا منحى خاصّ ومرتبطاً بالخطاب الذاتي/ الفردي غالباً في المرحلة الثانية؛ وبعد أن صاغ في الأولى نماذج ثورية ومتمردة وناقمة على الاستلاب والاستبداد بالرغم من سقوطها التراجيدي، راح يصوغ في الثانية نماذج مذعورة ومتردّدة ومطحونة بالعزلة والاغتراب. ومع أنّ الحدس التراجيدي بقي هو هو في المرحلتين، من حيث الحدس بالفجيعة، فإنّ الذي اختلف فيه هو خطابه الجمالي والثقافي من جهة، وتجلياته الفنية والأسلوبية من جهة أخرى. إذ انصرف الشاعر عن النصوص التراجيدية الطويلة، إلى النصوص العذابية القصيرة؛ كما انصرف عن أشكال التناصّ الظاهرة والمختلفة مع التراث الشعري، إلى نصوص يبدو التناصّ فيها باهتاً أو شبه معدوم؛ وانصرف كذلك عن البنى الشعرية المركّبة أو المعقّدة، إلى الأبنية السهلة البسيطة… إلخ؛ وكذلك في اللغة الشعرية والصورة الفنية، وفي وظيفة الشعر الاجتماعية، والخطاب الثقافي الذي انتقل من المواجهة والصِّدام إلى الانسحاب والانكفاء.
    إنّ التحوّل من التراجيدي إلى العذابي ليس بالأمر الهيّن، كما قد يُظنّ، فهو دالّ على إعادة النظر في المنظومة القيمية الجمالية والأخلاقية والسياسية أيضاً. وتوضيحاً لذلك نتوقف، مع الجدول التالي، عند أهمّ الفوراق بين التراجيدي والعذابي في تجربة الصائغ خاصة، والتجارب الشعرية الجمالية عامة؛ مع الإشارة إلى أنّ الجدول لا يُعنى بتجليات الشكل الفني لهذه القيمة أو تلك، وذلك أنها خاصة بكلّ نصّ وتجربة على حدة:
    قيمة التراجيدي
    قيمة العذابي
    ذات خطاب جماعي أو اجتماعي أولاً
    ذات خطاب فردي أو ذاتي أولاً
    ذات بُعد صدامي مع الواقع
    ذات بُعد انسحابي من الواقع
    ذات طبيعة درامية معقّدة
    ذات طبيعة غنائية بسيطة غالباً
    ذات مثل أعلى واضح ومعلن
    ليس فيها مثل أعلى واضح أو ملموس
    تنتج معرفة جمالية بالصراع الاجتماعي أولاً
    تنتج معرفة جمالية بالصراع النفسي أولاً
    تعزّز الشعور بالانتماء عبر الفجيعة العامة
    تعزّز الشعور بالاغتراب عبر العزلة أو الوحدة
    تتراوح بين الشعور بالقوة والشعور بالضعف
    تندرج تحت الشعور بالضعف عامة
    نلحظ من تلك الفوراق أنّ ثمة اختلافاً واضحاً بين التراجيدي والعذابي، بالرغم من اندراجهما تحت الحدس التراجيدي. ولكن لا بدّ من الاحتراز من أنّ تلك الفوارق لا تمنع من الالتباس أو التداخل أحياناً، بين هذه القيمة وتلك، حتى على مستوى النصّ الأدبي الواحد؛ فمن الممكن أن تظهر بعض سمات الواحد منهما في الآخر، كأن يتصف العذابي بالدرامي، وأن يكون ذا مثل أعلى واضح، أو أن يركّز التراجيدي على الطبيعة النفسية أو ترتفع فيه النبرة الغنائية، وكثيراً ما يحصل ذلك عبر الاختلاط بين القيمتين. فليس هنالك قوانين أو قواعد ناظمة، تسمح بالاطمئنان إليها بشكل قطعي في الأدب والفنّ، ولا سيما على مستوى القيم الفنية والجمالية؛ فقد يلتبس الجميل بالسامي، والجليل بالمخيف، والقبيح بالتافه والهزْلي، وقد يلتبس التراجيدي بالعذابي، ويختلطان، كما نجد لدى بعض شعراء الحداثة؛ ولعلّ بلند الحيدري وخليل حاوي ونزيه أبو عفش من أكثر الشعراء تمثيلاً لذلك الالتباس أو الاختلاط. وهو ما لا نجده لدى يوسف الصائغ إلا في بداياته الشعرية. ولذلك فإنّ الجدول السابق ما هو إلا محاولة أولية لاستقراء الأطر العامة التي تنظم تينك القيمتين المتقاربتين في الانعكاس الشعوري والموقف الجمالي.
    بين التراجيدي والعذابي:
    وقبل الكلام على التراجيدي والعذابي، في تجربة الصائغ، في المرحلتين المذكورتين آنفاً، من المفيد أن نتوقّف عند بداياته الشعرية وعلاقتها بالحدس التراجيدي. ففي قصيدة “الساعة التي تدقّ دقات كثيرة” التي تعود إلى عام 1957، يقول الصائغ:
    كنتُ في داري وفي أهلي ولكن
    دون أهلٍ دون دارِ
    جائعاً أبتاع أرزاقي بعاري
    كنتُ دلواً فاغر اللهفة في البئر الكبيره
    كنتُ شيئاً تافهاً، يا ليلُ: أسمالاً حقيره/ 443.
    ويقول في قصيدة “الخوف..” التي تعود إلى عام 1960:
    فقد مللتُ طعمَ الدارْ
    ووقعَ مقلتيكِ يا أمّاه فوق مقلتيّْ
    مللتُ ،يا أحبابُ، خوفَها عليّْ
    شحوبَ عينيها الحزينتينْ
    تناشدانني، إذا خرجتُ: أين يا بنيَّ أينْ ؟
    الخوف عند بابنا وفي ثيابنا/ 447.
    ربما نستطيع التوكيد أنّ الحدس التراجيدي قد رافق الشاعر، منذ بداياته الأولى؛ فليس بين أيدينا من شعره الذي اعتمده في مجموعته الشعرية الكاملة إلا ما ينضح بذلك الحدس “وظلّ يرافقني حدْسي”. فالشعور بالتشيّؤ والتفاهة والانسحاق والخوف هو المهيمن على نصوصه الأولى التي يختلط فيها التراجيدي بالعذابي أو يتبادلان الموقع؛ ففي قصيدة “الساعة التي تدقّ دقات كثيرة” المؤلفة من عشرة مقاطع، تصوير للذات المعذّبة الخائفة التي لا ترى في نفسها إلا شيئاً تافهاً، وتصويرا لواقع الاستلاب العام متمثّلاً بالفساد والعهر واللصوصية، وكذلك تصويرا للبلاد المكبّلة بالاستبداد والاستلاب والمجاعة. فالقصيدة تتجوّل في مختلف مناحي الذات والمجتمع لرصد الفجيعة في الواقع المعيش؛ وهو ما تفعله أيضاً قصيدة “الخوف..” فترصد الخوف المقيم في الأمهات بمجرد أن يتخطّى أولادهنّ عتبة الباب، مثلما ترصد الخوف الذي استوطن في أولادهنّ مما يقبع وراء الباب؛ فما من أحد إلا وهو موشوم بالخوف أو العذاب الخاصّ والعام على السواء.
    لا يصعب على المتلقي أن يتبيّن أبعاد الفجيعة في القصيدتين اللتين لا تبخلان عليه بالدموع الرومانتيكية، فهما عند التدقيق أشبه بالمرثية الرومانتيكية للذات وللمجتمع معاً؛ ولأنهما كذلك يختلط فيهما الذاتي بالموضوعي، وتختلط نبرة الإدانة الفردية للمجتمع بنبرة الشفقة عليه والتعاطف معه. فالمجتمع مدان ومشفَق عليه معاً. فهو مدان لأنّ الفرد فيه عاجز ومنتهَك ومغترب حتى في داره وبين أهله “فقد مللتُ طعم الدار”؛ وهو مشفَق عليه لأنه منتهَك هو الآخر، ولا يستطيع أن يحمي أفراده من الخوف والانتهاك “لم تنم ضيعتنا السمراء، شدّوا مقلتيها بجذوع الجسر، كم جسراً أقاموه عليها”/ 444. وفي هذا تحديداً يكمن الاختلاط بين العذابي والتراجيدي، وتكمن أيضاً الروحية الرومانتيكية التي تنهض أساساً من التعارض الحادّ بين النزعة الفردية والمجتمع. فمع أنّ الذات الفردية في القصيدتين تعي جيداً محنة المجتمع، فإنها تميّز نفسها بالمحنة وترمي المجتمع بالاتهام بوصفه “الآخر” الذي يستبيحها ويجعلها مجرّد شيء تافه أو مجرّد أسمالٍ حقيرة !
    تتلاشى الروحية الرومانتيكية، في مرحلة الخطاب التراجيدي، وتتلاشى أيضاً نبرة الإدانة الفردية للمجتمع، لتتصدّر الإدانة الثورية للاستبداد السياسي خاصة، ولكن عبر مرثية جماعية للواقع العربي عموماً. وقد تبدّى ذلك في المجموعة الشعرية المعنونة بـ “اعترافات مالك بن الريب” التي يشي عنوانها بالمرثية عبر التناصّ مع قصيدة مالك بن الريب الشهيرة، والتي رثى بها نفسه قبل موته. مع الإشارة إلى أنّ مرثية ابن الريب واحدة من أهمّ النصوص التراجيدية في تراثنا الشعري.
    تكمن المادة الاجتماعية لقيمة التراجيدي لدى الصائغ، في الشخصية الثورية التي هي المادة الاجتماعية لقيمة البطولي أيضاً؛ أي أنّ تلك الشخصية تمثّل البطولي والتراجيدي معاً. فهي بطولية في صراعها من أجل إنجاز المثُل العليا الثورية على أرض الواقع؛ وهي تراجيدية في صراعها غير المتكافئ مع قوى الاستبداد والاستلاب، وهو ما يجعلها تسقط سقوطاً مروّعاً تحت عجلة الاغتيال أو الاعتقال السياسيين. ومع أنّ قيمة التراجيدي ذات مضمون سياسي يساري جهير، فإنّ خطابها الثقافي ذو حمولة اجتماعية عامة. وذلك أنّ الشاعر يحاول تعميم التراجيديا على المجتمع كلّه، متخلّصاً في ذلك من النزعة السياسوية والأيديولوجية الصرف. ولولا ذلك لما أنتج إلا خطاباً سياسوياً ودعوياً، وهو ما لم يحدث إلا قليلاً في بعض النصوص أو بعض المقاطع منها، كقصيدة “سفر الرؤيا” التي جاءت مرثية جمالية وسياسية لليسار العراقي واليسار السوداني خاصة، في مطلع السبعينيات من القرن العشرين، حيث تتوقف القصيدة عند مقتل عدّة شخصيات يسارية عراقية وسودانية، مثل هناء الشيباني وقيس محمد صالح الأعظمي، وعبد الخالق محجوب وأحمد الشفيع.
    وإذ ترتبط قيمة التراجيدي باليسار السياسي، ترتبط أيضاً بالقدس والقضية الفلسطينية عامة، من منظور النكسة. فمعظم نصوص “اعترافات مالك بن الريب” جاءت بعد نكسة حزيران 1967، والاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية بما فيها القدس؛ ومن المعلوم أنّ لتلك النكسة منعكساتها الحادّة في الوجدان العربي العام، وفي الأدب والشعر خاصة؛ حتى أنه يصحّ الكلام على ظاهرة “الأدب الحزيراني” بخصائصه الفنية وخطابه الجمالي- التراجيدي والعذابي أيضاً. وهو ما نجد صداه واضحاً في نصوص “اعترافات مالك بن الريب” التي جاء التراجيدي فيها ذا بعد اجتماعي يساري، وذا بعد قومي عربي. وهما بعدان متداخلان عموماً في تجربة الصائغ التراجيدية. حيث يتقاطع فيها الانكسار القومي والانكسار اليساري، لنحصل على مرثية جماعية تمتدّ على مساحة الوطن كلّه:
    * أَبرِقْ للأردنِ.. أَبرِقْ للمغربِ.. أَبرِقْ للسودانْ
    * أَبرِقْ ثانيةً لمطاراتِ حزيرانْ
    لا شيء سوى وطنٍ يتعذّب بين الثورة والردة والنسيان/ 127- 128.
    * أيها الحاملون عذاباتكم
    إنني وطن المتعبين الذين
    يحسّون وحشة هذا الزمان/ 70.
    إنّ وحشة هذا الزمان هي التراجيديا الاجتماعية نفسها، وقد انعكست فجيعةً في الأنفس والعلاقات والمثل العليا، فجيعةً يبدو معها حتى الزمان وكأنه بذاته موحش ومفجع، ويطبع كلّ شيء بطابعه الأليم؛ فلا غرابة إذاً أن يكون الثوري- البطولي أوضح ضحاياه، لا من خلال السقوط التراجيدي فحسب، وإنما من خلال وقوعه، قبل ذلك، في اليأس مما يسعى إليه، وفي التشكيك بما لديه من قدرات وأحلام. إذ “إنّ يأس الفوارس جدُّ مريب”/ 63، أو كما يقول مالك بن الريب في اعترافاته:
    أَقيما على “مالكٍ” ليلةً
    فإني رأيتُ غراباً على منكبَيْ فرسي، رأيتُ دماً
    فعلامَ اضطربتُ وفزَّ القطا في دمائي ؟
    أبعدَ الذي كان، يوحش كالذئبِ وجهي
    وأُفردُ مغترباً بين أهلي ؟
    سلاماً إذن أيها الفارس العربيّ،
    لقد أنبتوا حَسَكاً في قِرابةِ روحكَ، واحتفروا موضعاً للشكوكِ،
    فبين جناحَيْ غرابٍ حدودُك يا بلدي/ 55.
    يلتقط الصائغ، في تعميمه الجمالي، عدّة نصوص من التراث الشعري العربي، ومن نصوص العهد القديم، ليبني عليها خطابه الشعري- التراجيدي، مما يوسّع أفق التراجيديا ويعمّقه في وجدان المتلقي؛ إذ يجول به عبر المساحتين المكانية والزمانية اللتين يغطيهما كلٌّ من النصّ الحديث والنصّ القديم، لبيان الفجيعة العامة بمنعكساتها الشعورية. وكأنّ وظيفة التناصّ تكمن في إمداد النصّ بما يحتاجه من موادّ ومشاعر بطولية- تراجيدية ذات عمق تاريخي وإنساني. فقد قام التناصّ مع مرثية مالك بن الريب بوظيفة مهمّة في بلورة مفهوم الفارس أو البطولي في الشخصية الثورية، مثلما قام بوظيفة مهمّة أيضاً في بلورة السقوط التراجيدي وتعميق الإحساس بالفجيعة، وكذلك فقد قام التناصّ في قصيدة “رياح بني مازن”، مع قصيدة قُريط بن أُنيف التميمي: “لو كنتُ من مازن” بالوظيفتين معاً. فقد تمّت بلورة الخطيئة التراجيدية متمثّلة بالاستلاب والاستبداد، في النظام السياسي العربي الذي أدى إلى نكسة حزيران؛ وتمّت أيضاً بلورة الأجواء التراجيدية التي تحيط بالثوري- البطولي، حيث الحديد والنار، فتدفع به إلى السقوط أو الخيبة، في الوقت الذي يندحر فيه صاحب الحديد والنار في أول مواجهة مع الأعداء:
    فأوّاه لو كنتَ من مازنِ
    وما كان عظْمُكَ بالواهنِ
    وما كنتَ فظّاً غليظ الحلوم على الأقربين
    خفيفاً على الغادر الخائنِ/ 79.
    ويأتي التناصّ مع نشيد الأنشاد، في قصيدة “انتظريني عند تخوم البحر”، من خلال البحث عن الحبيب المفقود سجناً أو قتلاً، ليؤكّد أنّ الاستبداد لم يترك حقاً من حقوق الإنسان إلا وانتهكه بالخطف أو السجن أو القتل أو الجوع أو الاغتصاب. فبدلاً من أنّ تستعرض العاشقة جمالات الحبيب، وهي تخاطب صويحباتها “بنات أورشليم” في نشيد الأنشاد؛ نجد العاشقة في القصيدة تستعرض عذابات الحبيب، وهي تخاطب في بحثها عنه، بنات البصرة وأهل البصرة وصيّاديها وحرّاسها والجند والعرّاف والنجوم فيها جميعاً:
    أستحلفكنّ نساءَ البصرةِ
    لا تحقرْنَ خروجي الليلةَ عاريةً
    إنّ حبيبي يبكي، تأتيه الدمعة بين أصابعهِ، ويجيء الموتْ
    … تأتيه الساعةُ بين أصابعه باردةً، فيدقّ جدارَ النعش/ 98- 99.
    إنّ ما يزيد في تراجيدية هذا النصّ أنّ العاشقة تبحث عن وجه حبيبها حتى في وجوه الجند الذين يغتصبونها، وتتمنى أن تراه ولو بين مغتصبيها ! غير أنّ الحبيب لا أثر له، والحبيبة مغتصبة ! وبهذا ترتفع المشاعر التراجيدية إلى أقصاها في النصّ، حيث الألم والخوف والشفقة والحزن والكآبة في ذروتها، سواء أكان ذلك نحو الحبيب المفقود بعذاباته القاهرة أم كان نحو الحبيبة المغتصبة بآنائها المختلفة، بدءاً بلوعة الفقد، مروراً بالجنون والخروج عارية، وانتهاء بالاغتصاب. وإذا افترضنا أنّ الحبيب يمثّل الثوري- البطولي، والعاشعة الجميلة تمثّل الذات الاجتماعية، فنحن أمام تراجيديا البطولي وتراجيديا الجميل في الوقت نفسه، أي أمام التراجيديا بكلّ أبعادها الاجتماعية والسياسية. وحتى لو لم يكن ذلك الافتراض صحيحاً أو ممكناً بالنسبة إلى العاشقة تحديداً، فإنّ تراجيدية النصّ تحيل على الفجيعة الكيانية العامة والخاصة معاً، أو ما يعبّر عنه الشاعر بقوله في نصّ آخر:
    جرّبي النصلَ، لو تعلمين
    تجيء الدموع من القدمين/ 168.
    إنّ مجيء الدموع من القدمين تعبير عن تلك الفجيعة الكيانية، ولكنه أيضاً تعبير شعري ناجم من خبرة شخصية بالاعتقال والتعذيب اللذين عاناهما الشاعر نفسه.
    ومما يزيد في قسوة تلك الفجيعة أنها تتمدّد على مساحة النصّ الشعريّ كله، فلا يكاد النصّ يتحرّك أو يتنفّس خارجها، فمن المطلع إلى الخاتمة متواليات تراجيدية تتكشّف معها أبعاد الفجيعة على مختلف المستويات. ومع أنّ النموذج التراجيدي ذو الطبيعة البطولية يفترض آناء عاطفية حماسية تستظهر القوة والشجاعة والنبالة والجمال أو الجلال فيه، تعزيزاً للمثل العليا التي يعتنقها ويدافع عنها، وهو ما يجعل النصّ يتنفّس خارج المأساة أو الفجيعة من خلال ذلك الاستظهار؛ إلا أنّ الصائغ يبدأ النصّ باللحظة التراجيدية وينتهي بها من دون انقطاع. بل بمتوالية تراجيدية تتسع وتتعمّق في إيلامها إلى حدّ مجيء الدموع من القدمين. أما السبب الفنيّ في ذلك فهو أنّ البطولي لا يُرى في النصّ إلا وقد حلّت عليه اللعنة أو العقوبة بالسجن أو القتل أو الخطف، فليس هنالك سمات بطولية حاضرة بمعزل عن الفجيعة، وكأنها تحضر كي يحتمل التراجيدي بها عذاباته المتوالية. هذا ما تقوله نصوص ابن الريب ورياح بني مازن وسفر الرؤيا وانتظريني عند تخوم البحر… إلخ.
    لا يُشترط بتجربة التراجيدي، كما قد يُظنّ للوهلة الأولى، أن تشتمل بالضرورة على مشاهد مؤلمة أو مفزعة، في استعراضها للفجيعة؛ فقد تخلو تلك التجربة من أيّ مشهد مؤلم أو مفزع، ومع ذلك يمكن أن تثير المشاعر التراجيدية على نحو عال جداً. فسقوط البطولي أو شقاء الجميل هو في ذاته مؤلم ومخيف، من دون الحاجة إلى تعزيزه بالمشاهد الواقعية أو الفانتازية المفزعة؛ غير أنّ الصائغ في ميله إلى تلك المشاهد، تعبيراً عن حدسه الذي يلاحقه، يريد أن يستحضر موجبات الألم كافة، في صياغة نماذجه وصوره التراجيدية:
    * جسدٌ عارٍ، مقطوع الرأسِ
    أصابعه متشبّثة ببقايا شَعر أسودَ
    يومض فيه خاتمُ عرسٍ ذهبيّ
    وعلى العنق المقطوع بقايا قُبَلٍ متعجّلةٍ
    توشك أن تتيبّس/ 400.
    * وتخطّينا جثثاً تعرفني
    كانت إذ أعبر تجذب أذيالي، تستوقفني
    تتبسّم لي أحياناً فأشيح ويأكلني الذعرْ
    حتى أوفى الروح إلى أرضٍ ناشزةٍ كالصدر،
    وأعطاني رفشاً، قال الربُّ: احفرْ
    … الرفش يجرّح صدر الأرض، فأسمع أنّات الموتى،
    عالقةً بالرفش تنقّعه عرَقاً/ 120- 121
    إنّ الصور المؤلمة أو المفزعة من أكثر الصور دوراناً، في هذه التجربة، بمنحييها التراجيدي والعذابي؛ ولعلّها بدرجاتها المختلفة تكون سمة التصوير الفني عامة لدى الصائغ. فهي إما أن تحضر بقوة عبر المشاهد الكلّية، كالمشهدين السابقين مثلاً، وإما أن تحضر عرضياً بصور جزئية متفرّقة. ولكنها في مجمل الأحوال دالة على عمق الحدس التراجيدي، وعلى فداحة الواقع المعيش في الآن نفسه. وإذا ما أعدنا التذكير بأنّ المادة الاجتماعية للتراجيدي تكمن في الشخصية الثورية التي غالباً ما تتعرّض للاعتقال أو الاغتيال السياسيين، فإنّ تلك الصور بأجوائها ودلالاتها المؤلمة تغدو مسوّغة سياقياً وجمالياً. فمالك بن الريب ينتهي بالموت، وتنتهي الذات الشعرية، في رياح بني مازن، بالسجن، وتنتهي العاشقة وحبيبها بالاغتصاب والقتل على التوالي، وفي سفر الرؤيا تنتهي أربع شخصيات ثورية بالقتل أو الاغتيال السياسي، أما الذات الشعرية فيها فتنتهي بما يشبه الهلوسة، وفي قصيدة “ما بين جلدي وقلبي” نجد السجن والقتل معاً، وكذا هي الحال في “المعلّم”، أما في “يساراً حتى جبل الزيتون” فنجد مجازر تلّ الزعتر بكلّ وحشيتها ومشاهدها المفزعة.
    ولكن بالرغم من تلك الصور والمشاهد، فإننا لا نعدم المتعة الجمالية، ولا نقصد المتعة الفنية الناجمة من التشكيل الأسلوبي والبناء الشعري فحسب، وإنما نقصد أيضاً متعة الكشف والفضول المعرفي، ومتعة التفاعل النفسي، بالإضافة إلى متعة “التعاطف مع ما هو نبيل وإيجابي وجوهري في شقاء من يكابد العذاب.”(7). وفي هذه المتعة خاصة يبرز البعد الأخلاقي في التراجيديا. حيث نتعاطف حتى مع من نختلف معهم في شقائهم أو عذابهم المأساوي، بشرط أن لا يكونوا من الحقراء والأوغاد، فليس لهؤلاء أن يوحوا لنا بالشفقة أو التعاطف، بتعبير هيغل.
    صحيح أنّ التراجيدي يرتبط أساساً بالمشاعر المؤلمة، ولكن صحيح أيضاً أنّ فيه جانباً إيجابياً على مستوى المشاعر وعلى مستوى المتعة أيضاً؛ فلا غرابة إذاً أن يذهب جيروم ستولنيتز إلى “أنّ التجربة التراجيدية تبعث الألم واللذة معاً.”(8). إنها إذ تفعل ذلك لا تؤكّد الشقاء فيمن يقع عليهم الشقاء فقط، وإنما تؤكّده أيضاً فيمن يتعاطف معهم فنياً، غير أنّ شقاء هؤلاء شقاء مغلّف بالمتعة الجمالية. إنه شقاء الفن الممتع والنبيل !
    نصل إلى أنّ قيمة التراجيدي، لدى الصائغ، تقوم على الشخصية الثورية في صراعها البطولي وانكسارها الأليم؛ وترتبط ارتباطاً وثيقاً بالاستبداد السياسي بوصفه الخطيئة التراجيدية الكبرى؛ وترتبط أيضاً بالقضية الفلسطينية من منظور الفجيعة والخيبة، إضافة إلى ارتباطها الوثيق بأشكال الشقاء المختلفة كالحرب والمجاعة.
    فهذه القيمة إذاً ذات طبيعة سياسية وأخلاقية في المقام الأول، وليس هنالك ما يشير إلى أيّ بُعدٍ وجودي أو حضاري أو فلسفي أو ديني فيها، على كثرة ما تبدّت في النصوص. فقد التزم الشاعر بمضمون خطابه الاجتماعي- التراجيدي، من دون أن يعطيه أبعاداً إضافية، كأن يرتفع بالتراجيديا إلى مستوى الوجود مثلاً، فيرى أنّ الوجود بذاته تراجيديا، أو أن يربطها بطبيعة العادات والتقاليد الموروثة، أو أن يرى في الموت التراجيدي خلاصاً من “دار الشقاء” بالمعنى الديني، فمع أنّ الموت عنصر أساسي في الكينونة التراجيدية لديه، فإنه لم ينظر إليه على أنه مشكلة في ذاته، وإنما على أنه مشكلة في سياق الصراع غير المتكافئ؛ فالموت بهذا المعنى ذو مضمون اجتماعي سياسي لا مضمون وجودي أو ديني. ولذلك فإنه كثيراً ما يأخذ شكل القتل أو الاغتيال أو التنكيل أو الخطف أو الاعتقال، إنه يأخذ الشكل السياسي- الأمنيّ حصراً وتحديداً. ففي بلاد الخطيئة التراجيدية الكبرى يبدو “أنّ الذين يحبّون لا يملكون دليلاً على حبّهم غير أن يُسجنوا أو يموتوا” !/ 170.
    إذا كان التراجيدي قد تمدّد على مكانين أساسيين اثنين، وهما القبر والسجن، فإنّ العذابي سوف يتمدّد على مكان أساسي واحد، وهو القبر. ما يعني أنّ الموت هو الجامع بين التراجيدي والعذابي، غير أنّ موت التراجيدي هو ابن الصراع والصِّدام، أما موت العذابي فهو ابن الانسحاب والانكفاء. فموت الأول اختيار، لكونه قائماً على الوعي والإرادة؛ في حين أنّ موت الثاني قسري وقهري، لارتباطه بالعجز الذاتي غالباً، فقبر العذابي في ذاته، وإن تكن حجارته من أرض الواقع. ولكن مع هذا فإنّ مضمون الموت العذابي لم يخرج عن الخطاب الاجتماعي، وإنما تغيّر منحاه من السياسي- الأمني إلى الاجتماعي العام، وذلك بحسب الأشكال التي اتخذها العذابي، وهو ما نتوقف عنده تالياً.
    من البدهيّ أن يكون الموت، في تجربة التراجيدي، أكثر إيلاماً وفجائعية، منه في تجربة العذابي، لارتباطه بالمثل الأعلى الاجتماعي والصراع الدموي؛ وهو ما لا نجد مثيلاً له في موت الفرد العذابي الذي يبدو محزناً ومؤسفاً، بوصفه ذاتاً إنسانية تتعرّض للشقاء أو تعيشه اجتماعياً أو نفسياً. وكما يؤكّد هيغل فإنّ مرأى الشقاء لا بدّ أن يمزّق أفئدتنا تمزيقاً، ولكنه لا يكون من النوع التراجيدي إلا إذا وقع على الأفراد الفاعلين ذوي الأعمال المشروعة بذاتها، والآثمة في الوقت نفسه بسبب المنازعات أو الصراعات التي تثيرها أعمالهم(9). وبالمختصر فإنّ الموت الذي لا يكون نتيجة الصراع المباشر وغير المتكافئ، ولا يتّصل بقيمة اجتماعية إيجابية عامة، لا يمكن اعتباره موتاً تراجيدياً.
    أشرنا آنفاً إلى أنّ قبر العذابي في ذاته، وإن تكن حجارته من الواقع، وكنا نقصد أنّ هذا العذابي يعيش هاجس الموت بوصفه هاجساً حيوياً يملأ عليه وجوده الشخصي كلّه؛ فلا يكاد يرى العالم إلا من خلاله، فما من شيء أو معنى إلا وهو مغمّس بالموت عاجلاً أو آجلاً، وعلى نحو مباشر أو غير مباشر. ومع أنّ لهذا العذابي عدّة أشكال أو تبديات، فإنها جميعاً تشترك في رؤية العالم من هذا المنظور. وكأن لا رائحة تملأ الأمكنة والأشياء إلا رائحة الموت بمختلف معانيه ومدلولاته الحسية والنفسية والروحية كافة.
    هنالك ثلاثة أشكال اتخذها العذابي، في هذه التجربة، وهي الشكل النفسي والشكل الاغترابي والشكل القهري. أما الأول فأساسه الاصطراعات النفسية المتعلّقة بالموت، موت الحبيب خاصة، ومنعكساتها السلوكية أو الحركية؛ في حين يكمن أساس الثاني في العزلة والقطيعة والاغتراب بمنعكساتها الشعورية التي تتمحور حول الكآبة خاصة؛ ويكمن الشكل القهري في الإحساس الحادّ بالعجز الذاتي أمام الفجيعة العامة، بما ينعكس قهراً نفسياً وروحياً. ولا شكّ في أنّ التقاطع أو التداخل بين تلك الأشكال، أمر وارد جداً، ولا يمكن الزعم أنّ لكلّ شكل منها كينونته الخاصة والمستقلّة تماماً عن سواه، فنحن نتحدّث عن نموذج جمالي كلّي ومنسجم في خصائصه العامة، لكنّ هذا لا ينفي أن تتصدر هذه الخصيصة أو تتراجع تلك، بحسب الآناء المختلفة التي يعانيها العذابي. فقد يبرز الشكل القهري مثلاً إلى الصدارة، في نصّ يتمحور حول مشاهد الفظاعة، من دون أن تغيب بعض خصائص الشكلين الآخرين كالاصطراع النفسي أو الشعور بالاغتراب؛ فالأشكال الثلاثة ذات صلة وثيقة بالطبيعة النفسية للفرد العذابي.
    يتصدّر الشكل العذابي- النفسي في النصوص ذات الصلة بالمرأة “الغائبة” أو “النائمة”، نقصد المرأة التي اختطفها الموت، وما تخلّفه في الذات من اصطراعات نفسية في الحلم واليقظة على السواء؛ فهي حاضرة وغائبة معاً، ولا تعترف الذات العذابية نفسياً بغيابها أو موتها، بالرغم من اعترافها به عقلياً. إنها في مناجاة وخطاب مستمرّين مع المرأة الغائبة بوصفها حاضرة، وذلك بما يشبه الوسواس القهري الذي نعرف مصادره وأسبابه وعوارضه، ولكننا لا نفلح بالتخلّص منه نفسياً، فيهيمن على أفكارنا وسلوكنا اليومي، فنكون أشبه بالأسرى له(10)؛ أي أنّ إشكالية هذا الشكل العذابي هي إشكالية نفسية ترتبط بموضوعة الموت، ولكن ليس الموت بإطلاقه، وإنما موت الحبيبة تحديداً، إذ تتراجع إشكالية العلاقة بين الذات الفردية والمجتمع، لتحضر إشكالية الفرد مع هواجسه النفسية، فالعذابي، في هذا الشكل، هو الأنا وهو الآخر في الوقت نفسه:
    * اليومَ، جمعة الأمواتِ، سوف يخرج الناس إلى القبورْ
    قُومي معي… نبكي على قبرك يا حبيبتي
    وحينما يُتعبُنا البكاءُ،
    نترك عند القبر إكليلاً من الزهور/ 186.
    * الليلةَ.. في الأحلامْ
    مرّ على وجهي صوتُ تنفّسها فأفقتُ..
    رأيتُ الجثّةَ فوق سريري نائمةً
    قمتُ.. وأشعلتُ الضوءَ، ففتّحتِ الجثّةُ عينيها
    سألتني إن كان الليل على أوّلهِ، قلتُ: أجلْ..
    قالت: ما تأتي لتنامْ ؟!/ 210.
    بالرغم من أنه لا أثر للمشاعر الحادّة والاصطراعات النفسية، في ذينك النصّين، على مستوى اللغة الشعرية والصور الجزئية والكلية، فإنّ تلك المشاعر والاصطراعات حاضرة بقوة، في الحالة النفسية التي يعبّران عنها. إن معايشة الذات للمرأة الغائبة على هذا النحو من الاعتياد اليومي يدلّل على عمق الشعور بفجيعة الفقد التي تأبى الذات أن تعترف بها نفسياً. وهو ما يطرح علينا السؤال التالي: هل المرأة غائبة والذات حاضرة حقاً، أو أنّ كلتيهما غائبة وحاضرة في الوقت نفسه ؟ نعتقد أنّ المرأة الغائبة هي الأكثر حضوراً وفاعلية في مساحة النصّ ومساحة الذات على السواء؛ فهي تنضح بالحياة بخلاف الذات المهجوسة بالموت، والغائبة من حيث الفاعلية. وهذا طبيعي بالنسبة إلى الموسوس قهرياً، إذ يغيب هو ويحضر موضوع وسواسه في مساحة الشعور والتفكير والسلوك.
    لكن لا بدّ من الاحتراز من أننا لا نتحدّث عن شخصية الشاعر، وإنما عن الذات النصّية العذابية حصراً؛ وهي ذات مختلفة، عن شخصية الشاعر بدرجة تسمح لنا بالتمييز بينهما، حتى في الشعر الغنائي الصرف؛ ليس من باب موت المؤلّف، بل من منظور أنّ الذوات النصّية ليست تمثيلاً حرفياً للذات الإبداعية التي لا يظهر منها إلا ما يثيره موضوعها الجمالي بحسب الموقف الانفعالي المتعيّن هنا/والآن، وكذلك لا يظهر منها إلا ما يعيد توليفَه تشكيلُها الفني بأسلوبه الخاصّ والمخاتل غالباً؛ ومع ذلك فهي تتقاطع معه، لكنها لا تتطابق بالضرورة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنّ حديثنا عن الطبيعة النفسية المأزومة في هذا الشكل العذابي، يهدف إلى بيان الحساسية الجمالية فيه، من خلال الحدس التراجيدي، لا إلى بيان الأزمة النفسية لديه. فالعذابي- النفسي ليس مجرّد مريض يحتاج علاجاً نفسياً، وإن كنا لا ننفي عوارض الأزمة النفسية عنه، وإنما هو بالنسبة إلينا على الأقلّ نموذج جمالي عذابي، يشكّل الحدس التراجيدي أساس الشعور بالفقد لديه، فيرى كلّ شيء مرهوناً به:
    ومن بعد موتي، نظرتُ إلى جسدي وبكيتُ..
    أرى جثّة امرأةٍ رافقتني ثلاثين عاماً
    أرى منزلاً عشتُ فيه يموتُ،
    وما زال مني به دميةٌ للطفولة،
    ثوبُ مراهقةٍ، قطّةٌ، وردةٌ في كتابٍ
    رسائلُ حبّ مخبّأةٌ
    بعد موتي تطلّعتُ في جثّتي وحزنتُ
    رأيتُ على شفتي كلْمةً لم تتمّ..
    انحنيتُ، مددتُ يدي،
    ومسحتُ على شفتي ومضيتُ/ 215- 216.
    ما قلناه حول حضور المرأة الغائبة وغياب الذات الحاضرة يظهر جلياً في هذا النصّ، ولكنه يظهر من خلال ترنيمة الموت التي تشمل لا المرأة والأشياء كلها فقط، وإنما الذات العذابية أولاً. فقد ارتفع الشعور بالموت حتى بات هو الوجود نفسه. إنه يعيش موته ويحياه ! فمن البدهيّ إذاً أن يكون انعدام الفاعلية سمة ضاغطة في العذابي، على مختلف المستويات الخاصة والعامة، مع الإشارة إلى أنّ انعدام الفاعلية من أوضح سمات العذابي بإطلاق، لا العذابي- النفسي فقط، إذ إنّ انسحابه من الواقع هو نوع من الاعتراف بانعدام فاعليته فيه. وإذا كان الانسحاب في الشكل النفسي مقروناً بالهواجس والاصطراعات، فإنه في الشكل الاغترابي مقرون بالشعور بالعزلة والقطيعة، وبالإدانة أيضاً:
    كنتُ مستلقياً في سريري،
    وإلى جانبي امرأةٌ عاريهْ
    فجأةً.. فُتح البابُ.. جاء رجالٌ ثلاثهْ
    أخذوا امرأتي، وخلّوا إلى جانبي امرأةً ثانيهْ
    عندما أخذوها.. تبقّتْ أصابعها في يدي !!/ 373.
    إنّ انعدام الفاعلية في هذا الشكل العذابي أوضح من أن يشار إليه، فثمة انسحاق تامّ أمام رموز الجور أو القباحة، بما لا يجعله عديم الفاعلية وفي ذروة الاغتراب وحسب. بل يجعله يحسّ أيضاً بالعدمية والتشيّؤ؛ فهو مجرّد شيء لا قيمة له، يمكن لأيّ كان أن ينتهك وجوده أو خصوصيته الشخصية. ولكنه بذلك الإحساس يقدّم إدانة جمالية وثقافية لرموز القباحة تلك، والتي هي أصل الاغتراب والعذاب فيه وفي الواقع معاً. ولعلّ الوظيفة الجمالية لهذا الشكل العذابي تنهض من تلك الإدانة تحديداً. فهو شهادة ضدّ الاستلاب الاجتماعي أولاً.
    كرسيٌّ خشبيٌّ منسيٌّ عند البابْ
    مفتوحُ الكفّينْ
    يتطلّع للعالم باستغرابْ
    مرّت سنتانْ
    والكرسيُّ الخشبيّ لدى البابْ
    مشلول الكفّينْ
    مكسور القدمينْ
    أوّلَ أمسْ
    أغمض عينيه الكرسيُّ وماتْ/ 382
    لو بقينا في ظاهر النصّ فقط، لقرأنا الانتظار والاستغراب والإحباط، التي عاشها الكرسيّ في وحدته القاتلة، وهو يمدّ يديه للآخرين دونما جدوى، حتى أكل الزمن أطرافه شيئاً فشيئاً، ثمّ مات. ولن تبتعد تأويلات النصّ عن ذلك، فالفرد العذابي الذي يطحنه الاغتراب، مع انتفاء لأيّ شكل من أشكال الحبّ أو الألفة أو التفاعل مع الآخرين سوف يموت وحيداً مثلما عاش وحيداً؛ وكذلك فالأمّ أو الأب الذي ينتظر أبناءه عند الباب، لعلّهم يعودون سالمين من الحرب أو الهجرة، ولكن دونما جدوى، سوف يأكله الزمن حتى يموت. فهل كان على الكرسيّ أن لا ينتظر، وهل كان بإمكانه أن يفعل، وقد خسر أحبابه جميعاً ؟!
    غرفةٌ أُغلقت منذ بضع سنينْ
    وقفنا على بابها حائرينْ:
    الستائر مسدلةٌ، والظلام قديمْ
    وثمة في الزاويهْ
    سريرٌ..وفي الجهة الثانيهْ
    غرابٌ صغير.. تململَ لمّا رآنا وطارْ
    وصار غبارْ/ 380.
    لن يختلف الإيحاء كثيراً، فيما إذا اعتبرنا الغرفة غرفة فعلية مهجورة، أو اعتبرناها تمثيلاً لحالة المغترب المهجور؛ فالخواء والظلام والنعيب والغبار المتراكم، دلالات عذابية اغترابية تؤكّد الانسحاب من الواقع، مثلما تؤكّد الشعور بالإهمال والإحباط والحزن المقيم.
    أما الشكل القهري من العذابيّ فترتبط معاناته بما يتعرّض له ويشاهده من آلام ووقائع قاهرة، يصعب احتمالها أو التخلّص من آثارها النفسية والروحية؛ أي أنّ هذا العذابي ذو صلة وثيقة بالقمع أو القهر العام. وهو إذ يعيش المعاناة العامة يعيشها بكلّ مشاعره وأعصابه؛ الأمر الذي يجعله رهين حدسه التراجيدي، فلا يرى إلا الفظائع والآلام حوله، في اليقظة والحلم، والبيت والشارع:
    الليلةَ كان الكابوسْ
    مختصراً جداً
    مائدةٌ.. وزجاجةُ خمرٍ..
    وثلاثُ كؤوسْ
    وثلاثةُ أشخاصٍ، من دون رؤوسْ../383.
    ينعكس الحدس التراجيدي لدى هذا الشكل من العذابي اصطراعاً نفسياً حاداً أو كوابيس مفزعة؛ إنه يحسّ بالقباحة أكثر مما يحسّ بالجمال، ولعلّه لا يرى أنّ ثمة جمالاً في الأصل. فالإحساس بالقباحة أو الفظاعة في غياب شبه تام للإحساس بالجمال واقعاً أو حلماً أو مثلاً أعلى هو الذي يزيد في عذابات العذابي عامة. فبالرغم من فظاعة المشهد المعروض، في النصّ السابق، فإنّ البؤرة الدلالية العذابية فيه تكمن في “الليلة كان الكابوس مختصراً جداً”. فلياليه كلّها كوابيس مفزعة، موسّعة حيناً ومختصرة حيناً آخر. وبما أنّ مادة هذه الكوابيس واقعية جداً، لا مجرّد تخيّلات أو تهيؤات نفسية مرضية- إذ الواقع يمدّنا للأسف بما هو أفظع من تلك الكوابيس- فمن البدهي أن يكون هاجس الموت مهيمناً على علاقة العذابي بما حوله، وكيف لا، وكلّ ما يحبّه يموت11، أو يكون تحت سقف القهر والإدانة:
    * أنا لا أنظر من ثقب الباب إلى وطني
    لكن أنظر من قلب مثقوبْ/ 265.

    * لا بأس على الأعمى، لا بأس على الأطرشْ
    كلُّ البأس على رجلٍ مثلكَ أبكمْ
    ينظرُ, يسمعُ، لكن.. لا يتكلّمْ/ 281.
    ليس بوسع العذابي إلا أن يكون بقلب مثقوب، لما يشاهده من قباحات وفظائع، ولما يراه بحدسه التراجيدي من وقائع محتملة أكثر قباحة وفظاعة. ولذلك فإن هذا الشكل من العذابي كثيراً ما يلتبس بالبطل التراجيدي، فيمدّ برأسه في النصوص ذات الطبيعة التراجيدية، من خلال الإسهاب في التصوير الفجائعي، مما توقفنا عند بعض مشاهده سابقاً. بل إنه يظهر حتى في تلك النصوص التي تتعرض للحرب العراقية – الإيرانية، أو التي يظهر فيها صدام حسين “قائداً منتصراً”، من مثل:
    قططٌ من ظلامٍ تفتّش عن ولدٍ ميّت، لتأكله..
    وكلابٌ تشمُّ العجينْ
    والرياحُ محيّرةٌ، والجنينُ حزينْ
    أجّلي من مخاضكِ، لا تلدي. إنّ هذا المساءْ
    يفتّش عن سببٍ للبكاءْ/ 396.
    وهكذا نلحظ أنّ النموذج العذابي يتبلور من خلال الحساسية المفرطة بالقباحة، والانسحاب من الواقع، والشعور الحادّ بالكآبة. غير أنّ كلّ ذلك مرهون بالخطيئة التراجيدية التي تتمثّل غالباً بالاستلاب والاستبداد، وتنعكس على المستوى الجمالي- الأخلاقي، مواجهة بطولية أو انسحاباً عذابياً؛ وهو ما يعني أنّ هذا النموذج هو ابن الخطيئة التراجيدية، في الواقع، كالبطل التراجيدي تماماً، غير أنه الابن الذي يبكي لمقتل أخيه، وهو قابع في الركن المظلم والقصيّ:
    صامُوتٌ لامُوتْ.. تحكي فتموتْ !!
    أش.. ش
    ممنوعٌ أن تضحك يا ولدي
    ممنوعٌ أن تحكي.. أو تبكي
    إنّ الدركي
    مرسومٌ فوق البابْ ! / 404- 405.
    جمالية المكان:
    إنّ تجربة جمالية يتناوب عليها كلٌّ من التراجيدي والعذابي، مع غياب شبه تام للجمال أو الجلال، لن تكون الأمكنة فيها بمنأى عن ذلك التناوب الأليم. إنها أمكنة محكومة بالقبح من جهة، وبالألم من جهة أخرى. وكما رأينا من قبل، فإنّ مكانين أساسيين قد تمدّدا في تجربة التراجيدي، وهما السجن والقبر، في حين غاب السجن عن تجربة العذابي، ليتمدّد فيها القبر بمختلف مفاتيحه الدلالية. وعلى الرغم من الاختلاف الواضح بين هاتين القيمتين جمالياً وثقافياً، فإنهما تتقاطعان بقوة على مستوى النفور من القباحة، وعلى مستوى الشفقة أو التعاطف النبيل، وعلى مستوى الأمكنة أيضاً. ولذلك فسوف نتحدّث عن جمالية المكان بصرف النظر عن التمييز بين القيمتين، إذ إنّ الأمكنة المؤلمة هي القاسم المشترك بينهما.
    إنّ المكان المعادي هو المكان الوحيد الذي تتحرك فيه هذه التجربة؛ سواء أكان فضاء واسعاً أم حيّزاً ضيّقاً، وسواء أكان شارعاً أم غرفة أم سريراً. فليس ثمة إلا الأمكنة المعادية التي يجد فيها الفرد نفسه محاصَراً أو مطارَداً، فحتى الأمكنة التي من المفترض أن تكون مصدر ألفة واطمئنان، كالغرفة والسرير، تغدو في هذه التجربة أشبه بالسجن أو القبر، فلا أهمية للبحث في الخصائص الفيزيائية للمكان المعادي، من حيث الاتساع أو الضيق، أو الانفتاح أو الانغلاق أو الارتفاع أو الانخفاض؛ فالإحساس بضيق المكان، وإن لم يكن ضيّقاً بالفعل، هو الذي يجعله مكاناً معادياً، ويجعل الجماليه فيه مبنية على إثارة الشعور بالألم، والشعور بالنفور. فهو مؤلم ومنفّر معاً، غير أنّ هذا لا يفترض أنّ تكون الصفات المادية للمكان قبيحة أو منفّرة بذاتها بالضرورة؛ فقد لا تكون كذلك إلا من خلال العلاقة غير الودية معها وحسب:
    خيطٌ من نملٍ أحمرْ
    يتحرّك بين سريري والبابْ
    أنهض من نومي، أسحقُ خيط النمل بأقدامي
    وأعود.. وإذ أستيقظ ثانيةً
    ألقى بين سريري والبابْ
    خيطاً آخر.. أكبرْ/ 384.
    ليس في الغرفة ما يستدعي أن تكون مكاناً معادياً، حتى بوجود خيط النمل الأحمر، لكن العلاقة غير الودية بالخيط تجعل الغرفة مصدراً للهواجس والمخاوف. فالخيط يكبر كلما سُحق، وكلما اتسع الخيط أو أصبح أكبر ضاقت الغرفة أكثر، واستوحشت الذات. وبما أنّ المشهد المكاني يتألّف من سرير وباب وخيط، فلنا أن نتخيّل الضيق في المكان. فهل نحن أمام غرفة في المنزل أو أمام زنزانة في السجن ؟ ليس هنالك ما يشي بهذه أو بتلك، ولكن المكان ضيّق جداً، حتى لكأنه التابوت. وما الذي يمنعنا من أن نتخيّل المشهد عبارة عن قبر، حيث السرير/ التابوت، والنمل/ الحشرات والقوارض، والباب/ فتحة القبر ! وإذ نحن أمام حيّ/ ميت، يتحرّك في ظلمة الليل بمكان لا يتسع إلا للجثّة، قبراً كان أو زنزانة أو غرفة:
    رجلٌ برباطٍ أسودْ
    يجلس في حفلة عُرسٍ منفردا
    لم يعرفه أحدٌ بين المدعوّين، ولم يعرف أحدا
    حين ابتدأ العرسُ رأينا امرأة حسناءْ
    بثيابٍ بيضاءْ
    ورأينا رجلين يسيران إليها بثيابٍ سودْ
    ورباطٍ أسودْ/ 214.
    أن تتحوّل صالة العرس إلى أن تكون مكاناً معادياً يرشح منه الموت، فتصبح الصالة نفسها، وفي لحظة العرس نفسها، صالة للمأتم والعزاء، فهذا هو الحدس التراجيدي في أقصى تجلياته المكانية؛ وكأنه ليس هنالك مكان لا يمكن أن يكون معادياً، إذ يكفي أن يظهر عنصر واحد غريب أو مقلِق، في المكان الأليف، حتى ينقلب معادياً. فالرجل ذو الرباط الأسود، والذي لا يعرف أحداً ولا يعرفه أحد بين المدعوّين، والذي هو الموت مشخّصاً، استطاع وحده أن يقلب العرس مأتماً، والمكان الأليف معادياً. وبدلة العرس السوداء بدلة الحداد !
    فإذا كانت الأمكنة التي من المفترض أن تكون مصدر ألفة واطمئنان، يمكن أن تكون أمكنة معادية، فما بالنا بالأمكنة المعادية بذاتها كأمكنة الحرب أو السجن أو المجاعة، كما مرّ بنا سابقاً في بعض المقاطع الشعرية، من مثل قطط الظلام التي تفتّش عن ولد ميّت لتأكله، أو من مثل الحفر في أرض الجثث، أو كما نجد في المشهدين التاليين:
    * قمرٌ صامتٌ وقتيلٌ وذيبْ
    وطفلٌ يكشّ الذباب عن الجسد المستريبْ
    وظلُّ صليبْ/ 405.

    * الهزيع ثقيلٌ والمدى ريبةٌ
    غضبٌ ورصاصٌ ونارْ
    وسيدةٌ تحتمي بالجدارْ/ 301.
    ما يلفت النظر في جمالية المكان، في هذه التجربة، هو ضآلة حضور الأمكنة الطبيعية الخضراء أو الأمكنة الريفية المفتوحة، مع حضور ضاغط للأمكنة المدينية من جهة، والأمكنة الليلية المظلمة من جهة أخرى. أما الأمكنة المفتوحة التي تحضر، بين الحين والآخر، فهي الأمكنة الموحشة كالبراري والصحاري والعراء، وهي غالباً ما تحضر عبر التناصّ مع التراث الشعري خاصة، كما في اعترافات مالك بن الريب، ورياح بني مازن. ومع ذلك فإنّ الأمكنة المدينية هي الأبرز حضوراً؛ ولا شكّ في أنّ هذا ينسجم تماماً والبيئة التي يتحرّك فيها كلّ من التراجيدي- الثوري، والعذابي- المغترب؛ فكلاهما ابن البيئة المدينية، وكلاهما يدفع ضريبة العذاب فيها مواجهة أو انسحاباً. لكن هذا لا صلة له بالموقف السلبي من المدينة، والذي شاع في الخمسينيات والستينيات، من القرن العشرين، في شعر الحداثة، لدى عدد من الشعراء كأحمد عبد المعطي حجازي وصلاح عبد الصبور مثلاً. فنحن أمام تجربة جمالية مدينية، في نماذجها وأمكنتها وخطابها الثقافي والسياسي جميعاً، من دون أن يكون هنالك أيّ مفاضلة أو مقابلة بين المدينة والريف؛ كأن يكون الريف رمزاً للبراءة والعفوية، وتكون المدينة رمزاً للخبث والجشع مثلاً. وإذا ما ظهرت المدينة فيها مكاناً معادياً، فلا يعود ذلك إلى أنّ المدينة بذاتها معادية، وإنما يعود إلى الاستلاب والاستبداد المتحكّمين فيها، واللذين يحوّلانها، مثلما يحوّلان الريف أيضاً، إلى أمكنة خاوية على عروشها.
    غالباً ما تكون الأمكنة المعادية، في هذه التجربة، مظلمة أو موشّحة بالظلام، تعزيزاً للشعور بالغموض والرهبة والوحشة. فمعظم نصوص الصائغ ليلية الأجواء والأمكنة، فــ” المسا دائماً، المساءُ السجينُ، المساءُ الطويلُ، المساءُ الحزينُ، المساءُ القتيلُ المساءُ..” 175. وهو ما يتكامل مع الحدس التراجيدي والشعور بالفجيعة والكآبة، وليس ثمة أكثر من الظلمة والظلام تعبيراً عن ذلك، في التراث الديني والموروث الشعبي على السواء؛ إذ تعتبر الأمكنة المظلمة أمكنة نموذجية لكلّ ما هو غامض ومخيف وموحش، فهي موطن الجنّ والأشباح والأرواح والخطيئة والجريمة والخيانة… إلخ. بمعنى أنّ اللاوعي الجمعي حاضر في صياغة الأمكنة المعادية، في هذه التجربة التي تتحرّك نماذجها الجمالية – التراجيدي والعذابي- في حقل ألغام تحت سقف الظلام، لا تدري متى تجد نفسها في عالم الأموات. وقد لا تدري كم مرّة سوف تموت حتى تجد الراحة في مكانها الأليف “القبر” ! هذا ما تقوله قصيدة ” فاكهة المرأة النائمة” حيث تتوسّد المرأة قبرها، ولا تعرف متى تنتهي من مراسيم الدفن، وذهاب المعزّين عنها، كي تنام هانئة بالموت، لكن قبل هذا ” أحسّت نعاساً من الحزن، يملأ تابوتها وشيئاً من الجوع، مدّت أصابعها إلى باقة الورد، قرب مخدّتها، أكلت وردتين ونامت” 213. أما في قصيدة ” الجثّة والسيدة والحقيبة اليدوية”، فنجد المرأة جثّة هامدة في البرية، لكنها تنهض من جثّتها وتمسك بحقيبتها اليدوية متوجّهة صوب الحدود، لعلّها تتخلّص نهائياً من أمكنة القتل والاغتصاب، غير أنّ للظلام مفاجآته، فيمرّ لصّ الجبال بها نائمة، فيتركها مرة أخرى جثّة هامدة:
    حين أقبلَ الفجر ألقى على جسد السيّدهْ
    نظرةً باردهْ
    فلم يكُ ما بينها والحدود سوى نجمة واحدهْ/ 202.
    لسنا أمام ميتتين فحسب. بل أمام اغتصابين أيضاً، في مكانين معاديين مُظلمين: البرية والجبال. حيث يُنتهك الجمال فيهما جسداً وروحاً.
    فالمكان المعادي إذاً هو المكان الوحيد الذي يتمدّد في هذه التجربة، وهو مكان ضيّق وموحش ومظلم ومغلق، بصرف النظر عن خصائصه المكانية. فليس ثمة فرق، في هذه التجربة، بين القبر والغرفة، وبين السجن والشارع، وبين السرير والتابوت… إلخ؛ فكلّها أمكنة معادية ترشح بالموت والعذاب. وليس للفرد فيها إلا أن يكون مسجّى أو مدمّى. ومع أننا ذهبنا إلى أن ثمة مكانين أساسيين اثنين، وهما السجن والقبر، فإنّ مفردة القبر هي المفتاح الدلالي المكاني الذي يستوعب الأمكنة المعادية كافة. فالمنزل والغرفة والكرسيّ والطاولة والسرير والفراش والباب والجدار والسور والسجن والشارع والحديقة والفندق والقطار والبرية والعراء والوطن… كلها يمكن أن تأخذ دلالة القبر؛ فهي جميعاً تضخّ الموت بأشكاله ومستوياته التي لا تكاد تحصى، بدءاً بالعزلة والكآبة وانتهاء بالقتل والاغتصاب. وقد يبدو أنّ ثمة نوعاً من المبالغة فيما نقوله، فلا يُعقل حقاً أن تخلو نصوص الديوان من أيّ ملمح إلى المكان الأليف أو المواتي، وأن يكون القبر هو مفتاح الأمكنة كلّها، في تجربة جمالية مديدة. ومع ذلك فإنّ تلك النصوص لا تقول غير ما ذهبنا إليه، ما خلا نصّين اثنين، سنشير إليهما تالياً، خرجا على تلك الدلالة القارّة في الأمكنة كافة. وواقع الحال أنّ القبر ليس هو المفتاح الدلالي المكاني فحسب، وإنما هو أيضاً الحقل الدلالي الأعلى حضوراً من بين الحقول الدلالية التي استوعبت تلك التجربة.
    ومع أنّ هذه الفقرة لا تسمح بالوقوف عند تلك الحقول، فلا بأس من القول إنّ القبر بمرادفاته ومتعلقاته اللغوية يتمدّد في النصوص جميعاً، دونما استثناء. أما تلك المرادفات والمتعلّقات فنذكر منها، على سبيل التمثيل: التابوت والنعش والكفن والدفن والجنازة والمثوى، والاحتضار والمنية والموت والقتل والذبح والشهادة والاغتصاب والانتهاك والاختناق، والنوح والندب والرثاء والبكاء والحداد والمأتم واليتم…، بكلّ مشتقاتها اللغوية ودلالالتها الحسية والنفسية والروحية، بما فيها الدلالة المكانية. فالحدس التراجيدي الذي صاغ قيمتَي التراجيدي والعذابي صاغ أيضاً جمالية المكان المعادي والحقول الدلالية- الشعرية.
    هنالك نصّان اثنان فقط لا غير، يخرج المكان فيهما على دلالة القبر، وترتبط جماليته بالأُنس والطمأنينة والألفة. جاء الأول منهما بعنوان “استرخاء” وهو مؤلّف من ثماني عشرة مفردة، وجاء الثاني مؤلفاً من تسع عشرة مفردة، وعنوانه “بلل”:
    * الدنيا غائمةٌ.. وحبيبة قلبي نائمةٌ
    والقهوة فوق النارْ
    يختلط الآنَ شميمُ الحبّ
    بعطرة القهوةِ، وهي تفورُ، ورائحةُ الأمطارْ/ 365.

    * أمطرتْ.. والقمرْ
    وحده يتململ تحت المطرْ
    أرتدي معطفاً واقياً
    وأخرج.. كلّ الشوارع مقفرةٌ
    وأنتِ إلى جانبي، وروحي مبلّلة بالمطرْ/ 366.
    إنّ ذينك النصّين يغرّدان خارج سرب الديوان كلّه، لا من حيث المكان فحسب. بل من حيث القيمة والشعور الجمالي أيضاً. فالمكان المواتي أو الأليف هو الحاضن للحالة العاطفية فيهما، وهو الذي يرسم مشهد الجمال في المنزل والشارع اللذين يغتسلان بماء المطر والحبّ. فلا أثر للحدس التراجيدي، ولا للشعور بالعزلة والكآبة. ولا صلة لجمالية المكان فيهما بخصائص المكان المعادي، إلا ما يتعلّق منه بالوقت ، وهو الليل، ولكن شتان ما بين ليل وليل !
    في التشكيل الجمالي:
    إذا ما استثنيا مرحلة البدايات الأولى، ليوسف الصائغ، والتي انطبعت بطابع غنائي رومانتيكي، من حيث الخطاب والشكل والأسلوب؛ فإنه يصحّ القول إنّ التراسل الأجناسي هو الناظم الأساسي للتشكيل الجمالي، في مجمل تجربته الشعرية، بمرحلتيها التراجيدية والعذابية على السواء. فقد تراسل النصّ الشعري فيها مع الشكل السردي- الحكائي، ومع الشكل الدرامي- المسرحي. بل تراسل جمالياً أيضاً مع كلّ من فنّ الرسم وفنّ السينما؛ وهو ما دفع إلى تخميد النزعة الغنائية في النصوص الشعرية، فغالباً ما تتمّ المزاوجة بين السرد والحوار، والمونولوج والخطاب، والمشهد البصري والمونتاج، والراوي والجوقة والنموذج الفني أو القناع. ومع أنّ ذات الشاعر حاضرة بـ “أناها” الغنائية، ولا تكاد تغيب عن النصّ، وهي تصوغ حدسها التراجيدي عبر المشاهد الحكائية والدرامية والسينمائية، فإنها تجيد التخفّي في تلك المشاهد، وفي الشخصيات التي تعتمدها نماذج فنية كمالك بن الريب مثلاً، وكتلك السيدة بحقيبتها اليدوية، أو تلك المرأة العاشقة التي تبحث عن حبيبها المفقود.
    إنّ حضور السرد الحكائي أو الحوار الدرامي بقوة، في النصّ الشعري، لا يؤدي به إلى الخروج من شعريته الغنائية، وإن تخفّف منها جداً أو خمّدها في ميله إلى التراسل الأجناسي، فالتراسل يتمّ من خلال الموقع الغنائي في الشعر، لا من خلال نفي الغنائية عنه نفياً تاماً، واستبدالها بهذا الجنس الأدبي أو ذاك. وقد حدث مثل هذا في نصّ “خواطر رجل عادي جداً” 137- 159، الذي جاء بشكل مسرحي شعري، لا بشكل شعري- درامي. فقد قام أساساً على الشخصيات المسرحية المتعدّدة والحوار الدرامي فيما بينها، إضافة إلى توجيهات المؤلف بما يتعلّق بالمكان والأحداث والشخصيات؛ وليس فيه من الشعر الغنائي إلا شكله اللغوي المجازي وبنيته الإيقاعية. فالنصّ المسرحي، بهذه الحالة، هو الذي تراسل مع الشعر الغنائي، من خلال اللغة والصورة والإيقاع وليس العكس؛ في حين نجد أنّ نصّ “ما بين جلدي وقلبي” 160- 179، الذي تراسل على نحو مفرط جداً مع النصّ المسرحي بحواريته المطوّلة، بقي في حدود النصّ الشعري الغنائي، بالرغم من ذلك الإفراط الدرامي، من مثل الموقف الحواري التالي:
    – أخائفةٌ أنتِ ؟ / – لا / سنسير إلى آخر الدربِ / لا بأسَ / – أو.. فاسمعي. إذا شئتِ يمكن أن نهرب الآنَ / – واخجلتاه. أتهربُ ؟ / – يحتمل الحبُّ حتى الهزيمةَ / -لكنني جئتُ أشهد ساعة موتكَ / – خائنةٌ ! / – لا وحقِّكَ. أخشى عليكَ الهزيمة، والجندُ إذ يسألون عن اسمك ماذا تقولُ ؟ / – سأكذب./ – تُنكرني ؟ / – لا / – إذن. فَتَشي للمحقّق باسمي وتفضحني ؟ 174- 175.
    موقف حواري درامي مفرط، في نصّ شعري غنائي الشكل، يتبادل فيه الحبيبان الهاربان من الاعتقال، الاتهامَ والتشكيكَ، كلٌّ في الآخر، حوار لا تتعدّد فيه الأصوات، وإنما يبقى في حدود الحوار الثنائي الذي يبلور كلتا الشخصيتين التراجيديتين في مخاوفهما “الأمنية” من الاعتقال أو القتل، ومن الخيانة بينهما أيضاً؛ غير أنّ هذا الحوار الثنائي يمكن أن يُستقبل قرائياً على أنه مونولوج أو شبيه به؛ فقد يكون الحبيب الهارب في حالة هلع، تدفعه إلى التشكيك حتى بمحبوبته التي قد يلجأ إليها، فيتخيّل احتمال الخيانة عبر الحوار الداخلي، المونولوج، وإن جاء حواراً ثنائياً. وهذا الاحتمال القرائي لا يتنافى والنصّ الذي ينتقل من المونولوج إلى الديالوج أو الحوار الثنائي، في عدّة مواضع منه، بما يشي أن الحوار الثنائي يجيء عبر الاسترجاع تحديداً، فهو ليس حواراً راهناً يقوم بين شخصيتين متواجهتين مباشرة، كما يُفترض بالحوار المسرحي، وإنما هو حوار سابق منقول من خلال الذات المتحدّثة- ذات الحبيب- التي تسترجع الكثير من المواقف والحوارات.
    إنّ استرجاع المواقف والحوارات، في هذا النصّ، يحيل على أنّ النصّ لم يتراسل مع الشكل الدرامي فحسب. بل إنه يتراسل كذلك مع الشكل السردي- وإن يكن على نحو محدود- من خلال بعض الأفعال والأحداث والمواقف التي مرّت بالذات الشعرية المتحدّثة، ومن خلال استرجاع تلك الحوارات أيضاً:
    على السور مستوحشاً كالمصابيح في آخر الليلِ،
    منفرداً بهموم المحبّين تسقط فوق مخاوفه القبَّراتُ
    وفي شَعره قمرٌ أحمرُ الخُصُلاتِ
    – انتبه أيها الرجلُ المستريب/ 172- 173.
    إذا كان هذا النصّ قد تراسل مع الشكل الدرامي على نحو مفرط، ومع الشكل السردي على نحو محدود، فإنّ نصّ “رياح بني مازن” 71- 90 فعل العكس تماماً؛ فقد جاء الحوار فيه بالحدّ الأدنى بخلاف السرد الذي ساد النصّ بتقنياته المتعدّدة. فهنالك السرد الذاتي والسرد الموضوعي، والاسترجاع والاستباق، وهنالك أيضاً بعض التقنيات التي حدّدها جيرار جينيت بمصطلح الحركات السردية، وهي الحذف والوقفة الوصفية والمشهد والمجمل12. غير أنّ هذا كلّه محمول على التعبير الذاتي- الغنائي. ولو لم يكن الأمر كذلك، لكان النصّ عبارة عن قصة قصيرة بلغة شعرية، تماماً كما رأينا في نصّ “خواطر رجل عادي جداً”.
    يبدأ النصّ بداية غنائية ممزوجة بالسرد الذاتي الذي تتخلّله وقفة وصفية وحوار ذاتي خاطف، تتوضح فيه الأجواء التراجيدية والانفعالات الذاتية الحادّة التي سوف تشمل النصّ كلّه، ويتوضح أيضاً الميل الكبير إلى التراسل مع السرد الحكائي:
    رياح بني مازنٍ أيقظتني، على موهنٍ فزّ روحي لها: ( ها أنا…)
    واختنقتُ، وأخجلني سورُ سجني، وأوجعني موضع القلب منّي
    وموجعةٌ لهفتي لا عشير لها غير ريحٍ، يعذّبني
    تعصف الريح.. تعوي، هي اللبوة الأمّ تعوي، فوا خجلتاه لصمتي
    رأيتُ المواكب تزحف دوني
    صرختُ فلم يسمع الركبُ صوتي/ 71.
    ففي هذا المقبوس ستة عشر ضميراً عائداً إلى المفرد المتكلّم، وثلاث عشرة جملة فعلية، وهما رقمان كبيران لافتان للنظر، في مقبوس قصير كهذا. غير أنهما يدلّلان على الحضور الكبير للغنائية من جهة، وللسرد الذاتي من جهة أخرى. وفي المقبوس أيضاً حوار ذاتي متركّز بشكل مباشر في ثلاث جمل: ( ها أنا… واختنقتُ، فوا خجلتاه)، وبشكل غير مباشر، في جملتي: (رأيت، صرخت)؛ أما الوقفة الوصفية فتظهر في: ( وموجعة لهفتي لا عشير لها غير ريح) و( تعصف الريح تعوي، هي اللبوة الأُمّ تعوي). ففيهما يتوقّف التركيز على الذات المتكلّمة أو الساردة، ليتوجّه إلى وصف اللهفة ووصف الريح.
    ثمّ ينتقل النصّ إلى تخييل استباقي خاطف، لما تتمناه الذات أن يكون من بني العم الذين من المفترض بهم أن يحملوا عنها بعضاً مما يقضّ مضجعها:
    تعرّق للروع قلبي، كما الأُمّ عند المخاض،
    وقد سجر الحيّ للخبز قبل الرحيل،
    قلتُ العوافي بني العمّ ما تخبزون
    وصُبّوا على النار زيتي. خذوني فروحي يئنّ من الماء/ 72.
    فثمة استباق تتخيّل فيه الذات موقفاً مع بني العمّ، تلتقيهم وتحادثهم وتطلب مشاركتهم الوجدانية معها على الأقلّ، لعلّها تتخفّف من الشعور بالخيبة والخذلان، الذي أصابها جرّاء النكسة، نكسة حزيران 1967؛ ثمّ ينتقل النصّ، عبر الاسترجاع، إلى مرحلة الطفولة الأولى للذات- البطل التراجيدي، والبيئة الاجتماعية التي نشأ فيها:
    وقد كنتُ لوّحني الصيفُ عامين، طفلاً على حضن أمي
    فخلّتْ -عن العين- فيروزةً في جبيني
    وباركني كاهن الحيّ بالماء والريح، واكتمل النذرُ/ 72.
    ثمّ يتابع النصّ شعريته عبر مختلف العناصر والتقنيات السردية، منتقلاً من استرجاع إلى استباق، ومن سرد ذاتي إلى سرد موضوعي، ومن وصف إلى مونولوج إلى ديالوج. ولكنه مثلما بدأ بداية غنائية متمحورة حول الذات، ينتهي كذلك بخطاب ذي طابع غنائي جهير:
    سُدّوا المنافذ، ولتنظروا في الوجوه،
    وجسّوا الجلودَ، وجسّوا العيونَ، وجسّوا الوجيبَ،
    وجسّوا وجسّوا عسيراً ولا تغفروا.
    آذنَ الصبرُ للمنتهى !!!/ 90.
    وفي نصّ “الجثّة والسيدة والحقيبة اليدوية” الذي مرّ بنا سابقاً، يغيب التعبير الذاتي- الغنائي تماماً، ويحضر السرد الحكائي، من خلال شخصية السارد العليم الذي ينبئنا بكلّ ما حدث للسيدة التي أصبحت جثّة، وما سوف يحدث لها بعد أن نهضت من جثّتها متوجهة صوب الحدود، غير أنّ الظلام سوف يداهمها، مثلما يداهمها التعب فتخلع حذاءها، وتنام عارية تحت السماء، لتكون فرصة سانحة للصّ الجبال:
    في الهزيع الأخير
    مرّ لصُّ الجبال بسيدة نائمهْ
    إلى جنبها قطّة جاثمهْ
    وفي يدها ما تزال حقيبتها اليدويهْ
    تأمّلها برهةً، ثمّ سار إلى موضع في البلاد القصيّهْ/ 201- 202.
    ومع أنّ النصّ يسير وفق وتيرة سردية متصاعدة نحو النهاية التراجيدية الثانية للسيدة، من غير استرجاع أو استباق أو وقفات وصفية أو مشاهد حوارية، كما يبدو من ظاهر النصّ، فإنّ النصّ كلّه يمكن أن يكون استرجاعاً، ويمكن أن يكون استباقاً كذلك. أما الاحتمال الأول فيكمن في تقنية الفلاش باك السينمائية، حيث يتمّ الخطف خلفاً بعد اللحظة التي سكن فيها الموت جسد السيدة، وخلّفها في البرية جثة هامدة؛ فيكون ما حدث للسيدة بعد نهوضها من جسمها، كان قد حصل لها من قبل، وهو الذي أدى إلى موتها. وفي هذا الاحتمال نكون أمام مِيتة تراجيدية واحدة، غير أنها مِيتة مسرودة فنيّاً مرّتين؛ أما الاحتمال الثاني فيكون الموت الأول استباقاً للموت الثاني، وذلك أنه جاء إيذاناً به، أي أنّ الجثة الهامدة في البرية هي جثّة الروح المنتهكة، والتي تغلّب فيها الجسد على أوجاعه النفسية والروحية، محاولاً الهرب دونما جدوى، ليقع في الانتهاك مرّة أخرى. فما حدث تالياً للجسد مسبوق بما حدث للروح من قبل. فانتهاك الروح أسبق من انتهاك الجسد، في عمليات الاغتصاب. وفي هذه الحالة ثمة ميتتان اثنتان مسرودتان مرّتين أيضاً.
    إنّ ضمير المفرد الغائب هو الضمير الأوحد في النصّ، ما خلا مرة واحدة، ظهر فيها ضمير المفرد المتكلّم والعائد إلى السارد “رأيتُ القتيلة تنهض من جسمها”. فالسرد الموضوعي هو الذي يدير الحدث طوال النصّ. وهو سرد خارجي لا يدخل إلى نفسية السيدة أو ذهنيتها، وإنما يكتفي بالمراقبة الخارجية، وقد انعكس ذلك في النصّ أفعالاً يطغى عليها المستوى الحركي، من مثل: ألقى، تنهض، تسوّي، تتلفّت، سالت، مضت، مشت، حلّ، تخلع، تجلس، يمرّ، أقبل.. إلخ، ولكن مع طغيان تلك الأفعال استطاع السارد أن يلتقط مشاعر السيدة القتيلة عبر رصد الحركة في العيون والدموع، إذ “رنت باكتئاب إلى الجثّة الميّتهْ/ وسالت على خدّها دمعة صامتهْ”. علماً أنّ مفردة “اكتئاب” هي معجمياً المفردة الشعورية الوحيدة في النص، أما ما سواها من الدلالات الشعورية فينجم من التراكيب الوصفية ذات الصلة بالمشاعر كالجثّة الهامدة، والدمعة الصامتة.
    ولكن ما هو موقع السارد العليم من السيدة القتيلة حتى يلاحقها من بُعد، ويسرد قصّتها بالتفصيل بين ميتتين ؟ لا يوضّح النصّ ذلك الموقع، ولا العلاقة بينه وبينها، فهو يقول منذ البداية: “رأيت القتيلة”، وهذا قول موضوعي وحيادي أيضاً، ويؤكّده السرد الموضوعي الخارجي الذي اهتمّ أساساً بالحركات لا بالمشاعر. غير أنّ السارد فجأة يقول: “عند منتصف الليل، صار جبين الحبيبة أخضرْ/ تعبتْ. إنها تجلس الآن”. فهل السيدة هي الحبيبة حقاً، أو أنّ تعاطف السارد مع مأساتها جعله يصفها بالحبيبة، من دون أن يكون لهذا الوصف أيّ دلالة فعلية أو حقيقية ؟ إنّ تعاطف السارد مؤكّد، لمجرّد أن يسرد قصة امرأة اغتُصبت وقُتلت مرّتين. أما استخدامه لمفردة القتيلة أولاً، ولمفردة الحبيبة ثانياً، فهو من باب إقرار وقوع الجريمة، ثمّ التعاطف مع الضحية. فإذا كانت السيدة هي الشخصية التراجيدية في النصّ، فإنّ السارد هو الشخصية العذابية فيه. إنه يرى ويراقب ويتعاطف ويتألم، ولا يستطيع أن يفعل شيئاً آخر. إنه الشاهد العذابي على الموقف التراجيدي. وفي هذا موقعه من السيدة القتيلة بوصفه سارداً، ولعلّه بموقعه هذا استطاع أن يصوغ الحدس التراجيدي بمنحييه التراجيدي والعذابي بالشكل الجمالي الأكثر إيلاماً وإمتاعاً في الوقت نفسه.
    إنّ التراسل الأجناسي الذي ظهر في النصوص الشعرية الطويلة، معطياً إياها أبعاداً درامية أو سردية واضحة الملامح، يظهر أيضاً في النصوص القصيرة، ولكن ممزوجاً، في بعض الأحيان، بالتراسل مع فنّ الرسم أو فنّ السينما. فثمة عدد من النصوص هي أشبه باللوحة التشكيلية أو اللقطة السينمائية، وقد مرّ بنا بعضها من قبل، من مثل: الكرسيّ الخشبيّ، والغرفة المغلقة منذ سنين، والكابوس المختصر الذي نتوقّف عنده ثانية:
    الليلةَ كان الكابوسْ
    مختصراً جداً
    مائدةٌ.. وزجاجةُ خمرٍ..
    وثلاثُ كؤوسْ
    وثلاثةُ أشخاصٍ، من دون رؤوسْ../383.
    ثمة لوحة بصرية مرسومة بريشة رسّام، عناصرها محدودة بأربعة أشياء حسية بصرية: المائدة والزجاجة والكؤوس الثلاث والأشخاص الثلاثة، وليس فيها أيّ عنصر من معطيات الحواسّ الأخرى. وهي جميعاً في حيّز ضيق واحد، تشكّل مشهداً “ساكناً”، ليس فيه أيّ فعل أو حركة أو أي مفردة دالة على المشاعر أو الانفعالات. فالعناصر البصرية بذاتها فقط تؤلف اللوحة التراجيدية أو الكابوسية. وقد توزّعت العناصر الثلاثة الأولى في اللوحة بحسب أحجامها من المائدة إلى الزجاجة إلى الكؤوس، أما الأشخاص فإنهم بحجومهم التي تقابل حجم المائدة وتتحلّق حولها، ينتصبون شاقولياً بموازاة الزجاجة والكؤوس، وأفقياً بموازاة المائدة. هذا من جانب، ومن جانب آخر هنالك مائدة واحدة وزجاجة واحدة، وهنالك أيضاً ثلاث كؤوس وثلاثة أشخاص؛ ومع أنّ اللوحة لا تشتمل على ذكر الألوان، فإنها ذات ألوان غامقة، حمراء وسوداء، ليس بسبب ورود مفردة الليلة أو مفردة الكابوس في النصّ، وإنما بسبب ارتباط الشرب بالأجواء الليلية من جهة، وبسبب قطع الرؤوس من جهة أخرى. فكلّ شيء مرسوم بدقة كي تتوازن اللوحة بصرياً، لكن اللوحة مختلّة إنسانياً وفجائعية أيضاً، فقد شطبت الريشة الرؤوس أو لم ترسمها أصلاً، فتحوّل المشهد جذرياً في خطابه الجمالي، من خطاب الألفة والمتعة إلى خطاب الفجيعة. والشيء نفسه نجده في نصّ “النخلة القتيل” الذي يرصد مشهدين متناقضين لبيت واحد، عبرته الحرب. أما المشهد الأول فهو:
    بيتٌ ونافذتان جنوبيّتان، وبابٌ كبيرْ
    وعلى بُعدِ عشر خطىً نخلةٌ ما تزال مراهقةً
    ذاتُ عينين واسعتين وشَعرٍ حرير/ 342.
    وها هو ذا البيت بعد أن تعرّض للقصف:
    بيت يراه الذي يقصد الفاو محترقاً..
    ونافذتان ممزّقتان، وبابٌ بدون رتاجٍ
    وخصلةُ شَعرٍ حرير، معلّقة في السياج/ 343.
    لوحتان مرسومتان بدقة عالية أيضاً، تشعّ الأولى بالجمال والغبطة، وتمتلئ الثانية بالفجيعة. وبصرف النظر عن المقارنة بينهما من حيث الإيحاء الشعوري والجمالي، فإنّ اللوحتين لم يشتملا إلا على العناصر الحسية البصرية نفسها، مع تغيير طفيف في التشكيل، لكنه تغيير خطير جداً. ففي اللوحة الأولى: بيت بنافذتين وباب كبير، تقف أمامه فتاة مراهقة ممشوقة القامة “نخلة” بعينين واسعتين وشَعر حريري. وقد وزّعت العناصر فيها توزيعاً متوازناً، فالبيت بنافذتيه وبابه الكبير، تقابله الفتاة الممشوقة بعينيها الواسعتين وشعرها الحريري، ولكن على بُعد طفيف منه يسمح لعناصر اللوحة أن تتنفّس، وتتوضّح ملامحها جيداً . أما في اللوحة الثانية فالبيت محروق والنافذتان ممزقتان والباب مخلّع أو بدون رتاج، ولكن ليس هنالك فتاة ولا عينان واسعتان ولا شعر حريري. ثمة فقط خصلة منه على السياج الذي لم يكن موجوداً أو ظاهراً في اللوحة الأولى لبروز النخلة الممشوقة قربه والتي شدّت الانتباه إليها دونه. ولعلّ السياج لم يظهر في هذه اللوحة إلا ليحمل الخصلة الممزّقة، ويقابل البيت المحروق بنافذتيه الممزّقتين أيضاً؛ أما لونياً فيهمن الأسود والرمادي على اللوحة التي كانت من قبل ذات ألوان نهارية مشرقة؛ وبذلك تكتمل اللوحة من حيث التشكيل والفجيعة. مع ملاحظة أنّ اللوحتين لا تشتملان على أيّ فعل أو حركة أو مفردة دالة على المشاعر والانفعالات، تماماً كلوحة الكابوس. غير أنّهما ممتلئتان بالمشاعر والانفعالات الحادّة والمتناقضة. ولو عُرضت اللوحتان رسماً في معرض تشكيلي، لكانتا من أكثر الإدانات الجمالية صراحة ضدّ الحرب.
    إنّ مثل تلك اللوحات- النصوص يكمن خطابها الثقافي- الجمالي في تشكيلها الفني نفسه، ولا حاجة بها إلى تعزيز الخطاب بأيّ إشارة معنوية إلى الموقف السياسي أو الأخلاقي الذي تستند إليه في ذلك التشكيل. بل لعلّ أيّ إشارة من ذلك النوع سوف تخرج التشكيل عن منحاه الجمالي. وهو ما لم يقع فيه الصائغ إلا نادراً، على كثرة النصوص والصور الكلية التي اعتمد فيها هذا النوع من التراسل الفني، أو تلك التي اعتمد فيها التراسل مع فنّ السينما.
    هنالك أيضاً كثرة من النصوص، تبرز فيها تقنية المونتاج السينمائي، إذ يتمّ ربط المشاهد المتدرجة مكانياً أو زمانياً أو نفسياً، لتؤدي خطابها الجمالي- الثقافي، ولكن من دون أيّ تعليق لغوي شارح، فتتوالى المشاهد تماماً كما تتوالى اللقطات السينمائية؛ نجد ذلك واضحاً في مجموعتَي “سيدة التفاحات الأربع” و”من قصائد البلبل الأسود” خاصة. ونتوقف عند واحد من تلك النصوص، وعنوانه “بغتة”:
    يدُها في يدي، شعرُها فوق كتْفي
    الطريق يمرّ بنا مسرعاً مسرعا..
    *
    يدُها في يدي، رأسها فوق صدري
    أقبّلها، وأصابعها تتلمّسني إصبعاً إصبعا
    *
    ما نزال معا…
    ما يزال الطريق يمرّ بنا مسرعا
    *
    بغتةً يتوقّف وحش الطريق عن العدْوِ
    لا شيء غيرُ سفينتنا المفزَعهْ
    تدور على نفسها، وندورُ معا
    *
    لحظةً…
    شعرُها، رأسُها، جسمُها، يدُها
    أصابعُها تودّعني إصبعاً إصبعا/ 208- 209.
    خمسة مشاهد بصرية وحركية مركّبة تركيباً تصاعدياً كثّفت حدثاً مفصلياً، وهو موت الحبيبة بحادث سير، من دون أي تعليق شارح للمشاهد التي توالت ببطء حتى لحظة الحادث المباغتة. إذ كان كلّ شيء يشي بالطمأنينة والمتعة. فالحبيبان متحاضنان والطريق مسرع في سيره، والأصابع والشفاه تلهو بالملامسة والقُبل، حتى انتفض وحش الطريق، فدارت المركبة عدّة دورات، ثم همدت، وهمد جسد الحبيبة عضواً فعضواً بين أحضان الحبيب المنكوب.
    تنتقل الكاميرا في المشهد الأول من اليدين والشعر على الكتف إلى الطريق، لترصد حالة الهدوء والطمانينة داخل المركبة، والحركة السريعة السلسة للطريق، ثمّ تنتقل في المشهد الثاني لترصد حالة الاسترخاء العاطفي في الرأس والشفاه، مع حركة يدوية خفيفة في الأصابع، ثمّ تتركّز عدسة الكاميرا في المشهد الثالث على الحركة السريعة في الطريق، لتتركّز العدسة بعد ذلك على المركبة وهي تدور حول نفسها بحركة مفاجئة وخاطفة، ثمّ تتركّز العدسة على الجسد الذي ينبض نبضاته الأخيرة باختلاج الأصابع.
    نلحظ أنّ المشاهد كلّها تحدث وتتوالى الآن، إنها تحدث في لحظة تسليط العدسة على المشهد. وتتوالى آنيّاً تحت العدسة حتى مجيء لحظة الموت التي تحدث الآن أيضاً، ولو أعدنا القراءة مرة أخرى لعادت المشاهد إلى الحدوث الآن، وكأننا أمام فيلم سينمائي لا يحدث إلا الآن مهما كررناه وأعدناه. وقد ساعد على ذلك التصويرُ المشهدي المتقطّع داخلياً وخارجياً، من خلال عين الكاميرا، لا من خلال الذات الشعرية بانفعالاتها أو تعليقاتها أو منظورها، بالرغم من حضور تلك الذات في المشاهد كلّها؛ وكان لارتفاع نسبة الجمل الاسمية، واستخدام الأفعال المضارعة حصراً، إضافة إلى استخدام العناصر الحسية البصرية فقط، فاعلية ملموسة في صياغة المشهد سينمائياً. فليس في النصّ مثلاً أيّ عنصر غير حسيّ. بل ليس فيه أيّ عنصر غير بصري ايضاً. أما المشاعر والانفعالات فقد تُرك التعبير عنها للعدسة التي راحت ترصد الحالة بكلّ موضوعية من جهة، وبكلّ لطافة وخشونة من جهة أخرى.
    ولنتأمل التصوير المشهدي السينمائي التالي، الذي يخلو من التعبيرات اللغوية العاطفية أو الانفعالية، ويخلو كذلك من التعبيرات الشعرية المفارقة أو المنزاحة دلالياً وتركيبياً؛ إذ ما ثمة إلا العدسة ترصد بالكلمات !
    تنطفئ الأضواءْ
    يتبادل بعضُ المدعوّين أماكنهم
    ……
    لحظات.. ثمّ تُضاء القاعهْ
    ينظر كلُّ المدعوّين إلى الساعهْ
    تضحك سيدةٌ… تضحك ثانيةً
    يُسمع في ناحيةٍ ما صوتُ بكاءْ/ 414.
    وهكذا نلاحظ أنّ التراسل مع الأجناس والفنون قد أسهم في تشكيل النصّ الشعري جمالياً وأسلوبياً، على النحو الذي جعله يستوعب عدداً من الظواهر والقضايا التي لا تدخل عادة في مدارات الشعر الغنائي. فبالتراسل مع الشكل السردي الحكائي تمّ للنصّ تسليط الضوء على قطاع واسع من الحياة المجتمعية بمختلف شخصياتها وعلاقاتها وصراعاتها السياسية؛ وبالتراسل مع الشكل الدرامي استطاع النصّ أن يدلف إلى دواخل الشخصيات المختلفة أو المتصارعة، عبر استظهارها واستظهار مواقفها بالحوار؛ وبالتراسل مع فنّ الرسم تمكّن النصّ من التقاط المفارقة المؤلمة من خلال الأشياء المحسوسة وطبيعة العلاقة فيما بينها؛ أما بالتراسل مع فنّ السينما فقد استطاع النصّ أن يرصد المواقف والأحداث في آنائها المختلفة والمتدرجة زمانياً ومكانياً ونفسياً، عبر التصوير السينمائي والمونتاج.
    لم يؤثّر التراسل الجمالي مع الأجناس والفنون في تشكيل النصّ الشعري، لدى الصائغ، أسلوبياً وجمالياً فحسب. بل أثّر في اللغة الشعرية والصورة الفنية والبنية الإيقاعية أيضاً. ومع أنّ طبيعة التأثير محكومة بنوعية التراسل ومستواه من حيث القوّة والضعف، فإنه يمكن التوكيد أنّ اللغة الشعرية، كما هو واضح في الكثير من النصوص التي مرّت بنا، تميل إلى اللغة الطبيعية، أو درجة الصفر في الكتابة، ولا سيما في النصوص القصيرة منها؛ فتكثر التراكيب النحوية النموذجية، والدلالات اللغوية المعهودة أو المتعارف عليها، ويتراجع الانزياح الدلالي والتركيبي بشكل لافت للنظر؛ ولكن مع ذلك ثمة طاقة إيحائية وانفعالية عالية المستوى فيها. وكأنّ الصائغ يعتمد “انزياح الحالة” أكثر مما يعتمد انزياح الدلالة. فهو يركّز على المفارقة في الظواهر والأشياء والمواقف، أكثر مما يركّز على المفارقات اللغوية عبر الانزياح أو المجاز، ولذلك تبدو لغته سردية ونثرية، في تعبيرها عن المفارقة الحياتية المؤلمة:
    في هذي الساعة من أمسية السبتْ
    حيث امرأةٌ نائمة قربي، والغرفةُ غارقةٌ في الصمتْ
    أتوقّع أن يحدث شيءٌ ما
    أن يقرع بابي شرطيٌّ مثلاً، يسألُ عن رجلٍ مجهولْ
    أو أنظر تحت سريري، فأرى ثمةَ إنساناً مقتولْ
    أتوقّع أن يحدث شيءٌ ما
    لكن تمضي الساعاتُ ولا شيءَ سوى أمسيةِ السبتْ
    تتفرّس بي من نافذة البيتْ
    أتعبُ من قلقي.. وأنامْ../ 371- 372.
    ليس في النصّ سوى ثلاثة مواضع تستند إلى الانزياح. موضعان اثنان تقليديان وشائعان جداً، حتى كأنهما من اللغة الطبيعية، وهما “الغرفة الغارقة في الصمت”، و”تمضي الساعات”، فلا تخلو اللغة الطبيعية ، كما هو معلوم، من الانزياحات اللغوية أو الاستعارات والكنايات والمجاز عموماً، غير أنها استعارات من النوع المستهلك الذي لا يلفت الانتباه إليه بوصفه انزياحاً لغوياً، وذلك لدلالته المحدّدة والشائعة. أما التركيب الثالث فهو “أمسية السبت تتفرّس بي من نافذة البيت”. وهو من نوع الاستعارة المكنية. أما ما سوى تلك المواضع فمجرّد لغة سردية ونثرية؛ لكنها تحيل على حالة انفعالية جمالية، أساسها الانزياح أو المفارقة في الموقف النفسي- المأزوم؛ إذ يشعر النموذج العذابي فيه بالانتهاك المحتمل في أيّ لحظة من لحظات حياته، ولو في يوم العطلة الأسبوعية.
    فمن المفترض بالنموذج، والمرأة تنام قربه، أن يكون في غاية الغبطة والمتعة، غير أنه في غاية القلق والخوف. إنه يتوقّع الانتهاك ووقوع الفجيعة حتى داخل غرفته، وتحت سريره، وفي يوم العطلة أيضاً. وحين لا يحدث شيء مما يتخوّف منه، لا يعود إليه اطمئنانه، فما تزال أمسية السبت تتفرّس فيه، أي ما تزال تهدّده وتضخّ القلق في ملامحه. فالحالة المرصودة هي الغريبة أو المفارِقة، وليس التعبير اللغوي عنها، الذي جاء تعبيراً في درجة الصفر من حيث الدلالات المعهودة والتراكيب النحوية النموذجية.
    وكأنّ ثمة تجربة جمالية تقوم أساساً على ما يمكن الاصطلاح عليه بتخميد التعبير الشعري، وتحفيز التفكير الجمالي. بمعنى أنّ الصائغ يلتقط بتفكيره الجمالي أشدّ المواقف إثارة ومفارقة، لكنه يتخيّر لها أبسط تعبير شعري ممكن، فتبدو الحالة المرصودة هي الكناية بذاتها. إنها كناية عن حالات إنسانية مأزومة في واقع مأزوم هو الآخر؛ وبما أنّ عين الشاعر لا تلتقط، عبر الحدس التراجيدي، إلا ما يثير ويؤلم في ذاته، من دون الحاجة إلى تعزيزه بالانزياحات والمجازات اللغوية، فإنه يعتمد شعرية تقوم على تحفيز التفكير الجمالي، بتعبيرات شعرية بسيطة أو مخمَّدة من حيث الانزياح والمجاز:
    أجملُ عُريِك في القدمين
    أجملُ عُريك فوق فراشِ حبيبٍ مقتولْ/ 125.
    ليس في هذه الصورة المشهدية أيّ تعبير مجازي أو أيّ انزياح تركيبي أو دلالي، ولكن فيها مفارقة شعورية انفعالية صاعقة، تجعل التعبير يبدو غريباً، وما هو كذلك دلالياً أو تركيبياً أو نحوياً. إنّ الغريب الصاعق أن يكون أجمل العرْي هو العرْي فوق فراش الحبيب المقتول !
    ويظهر التخميد أيضاً في الإيقاعات الشعرية للنصوص القصيرة خاصة، فلا تكاد تلك الإيقاعات تتبين أو تتوضح وتعلن عن نفسها، بالرغم من حضورها الدائم في تلك النصوص. فقد يخيّل للمتلقي أحياناً أنه يتلقى قصيدة نثر لا قصيدة تفعيلية، لكثرة التخميد الإيقاعي الذي يظهر أحياناً في تلاشي القافية وأحرف الروي، مثلما يظهر أحياناً في الخروج عن الإيقاع، أو التنويع بين تفعيلتين، من غير ناظم محدّد. وكلاهما، أي الخروج والتنويع، ينعكس نوعاً من النثرية في النصّ:
    كنتُ مستلقياً في سريري
    وإلى جانبي امرأة عاريهْ
    فجأةً فُتح البابُ.. جاء رجالٌ ثلاثهْ
    أخذوا امرأتي.. وخلّوا إلى جانبي امرأة ثانيهْ
    عندما أخذوها.. تبقّت أصابعها في يدي/ 373.
    فالنصّ يقوم إيقاعياً على تفعيلة “فاعلن” لكنه يخرج عنها، مرّتين بإضافة سبب خفيف ( /0) إلى التفعيلة الأخيرة من السطر الأول، وإلى التفعيلة الأخيرة من السطر الثالث، فتتحوّل “فاعلن” إلى “فاعلاتن”، في المرّتين. وليس ثمة تدوير إيقاعي حتى نتابع التفعيلة في السطر التالي لكلّ منهما؛ ولو فعلنا لكان الاختلال أكثر وضوحاً، حيث نحصل في المرّتين على “مستعلن”. وليس هذا فحسب. بل إنّ النصّ يشتمل على تنويع إيقاعي بين “فاعلن” و”فعولن”. يظهر ذلك في الجملة الثانية من السطر الرابع الذي جاءت جملته الأولى على “فاعلن”، في حين جاءت الثانية ( وخلّوا إلى جانبي امرأة ثانيهْ) على “فعولن”. فهنالك ثلاث تفعيلات في نصّ قصير جداً، وهي فاعلن وفاعلاتن وفعولن، أو فاعلن ومستعلن وفعولن. وهو ما يخمّد التطريب الإيقاعي إلى حدّ التلاشي، مثلما هي الحال في تخميد المجاز اللغوي الذي لم يظهر إلا مرّة واحدة، في الجملة الأخيرة من النصّ “تبقّت أصابعها في يدي”، والتي يمكن اعتبارها مجازاً، كما يمكن اعتبارها حقيقة، وهو الأشدّ فداحة وإيلاماً. ففي اعتبارها مجازاً يكون الذي تبقّى في اليد هو رائحة الأصابع، أما في اعتبارها حقيقة فيكون المتبقي في اليد مجرّد أصابع مبتورة !
    كثيراً ما يتمّ التداخل بين تفعليتي “فاعلن” و”فعولن”، لدى الصائغ، كأن يبدأ بهذه التفعيلة وينتهي بتلك، أو يُجري نوعاً من التناوب بينهما عبر النصّ، إضافة إلى الإفادة من الجوازات المختلفة فيهما، وهو ما يخمّد الإيقاع بشكل واضح، ولاسيما أنّ ذلك التخميد يتساوق مع غياب القافية وأحرف الروي غالباً، ويتساوق كذلك مع تخميد المجاز اللغوي، بما يرفع من نسبة النثرية في اللغة الشعرية:
    عادةً أنتِ تستيقظين مبكّرةً
    وحين تقومين عاريةً من فراشكِ
    أحدسُ في حُلُمي: أنه الفجرُ، أفتحُ عينيّ
    تأتي إلى يقظتي نكهة الماء والبللُ الأنثوي الجميل/ 224.
    فقد جاءت الجملة الأولى، وهي جملة المطلع، على “فاعلن/ فاعلن/ فاعلن/ فعِلن/ فعِلن”، ثم انتظم المقطع كلّه على “فعولن” و”فعول”، وكذلك جاء المقطع الثاني منتظماً على “فعولن” بجوازاتها، لكن المقطع الثالث، وهو بسع مفردات فقط، جاء على النحو التالي:
    وكنّا ننامُ سويّهْ
    مرّةً: نمتِ قبلي… لماذا ؟
    إذ انتظم السطر الأول على: “فعولن فعول فعولن”، في حين انتظم الثاني على “فاعلن فاعلن فاعلاتن” أي بإضافة تفعيلة جديدة، لم تُعتمد من قبل، مما يرفع عدد التفعيلات المختلفة إلى ثلاث تفعيلات في نصّ قصير لا يتجاوز خمساً وأربعين مفردة. صحيح أنّ الإيقاع لم يختلّ تماماً بإضافة تفعيلة جديدة، ولا سيما أنها جاءت خاتمة للإيقاع، ولكن الصحيح أيضاً أنه إيقاع مخمّد، ولا يكاد يعلن عن نفسه، ليس عبر التنويع والتعدّد في التفعيلات وحسب. بل عبر الغياب التام للقافية وأحرف الروي، والغياب شبه التام للمجاز والانزياح الدلالي والتركيبي.
    وهكذا نلاحظ أنّ تخميد الغنائية في هذه التجربة من خلال التراسل الجمالي مع الأجناس والفنون، قد انعكس أشكالاً عدّة من التخميد، على مستوى اللغة الشعرية والبنية الإيقاعية والصورة الفنية جميعاً. وقد أسهم ذلك التخميد في التركيز على الأجواء التراجيدية والعذابية، وتعميقها في الوجدان القرائي، إذ جاءت بأبسط تعبير لغوي ممكن، ولكن بأكثر الحالات والمواقف الجمالية إثارة وتعقيداً. وقد كان لكل ذلك إسهامه في صياغة تجربة شعرية، لها خصائصها الفنية المميّزة، وصوتها الجمالي الجهير.

    المصادر والمراجع:
    1- جينيت، جيرار: خطاب الحكاية- بحث في المنهج. تر: محمد معتصم وآخران. المجلس الأعلى للثقافة. القاهرة- ط:2- 1997.
    2- ستولنيتز، جيروم: النقد الفني- دراسات جمالية وفلسفية. تر: فؤاد زكريا. المؤسسة العربية للدراسات والنشر. بيروت- ط1- 1981.
    3- سيلامي، نوبير: المعجم الموسوعي في علم النفس. ج: 6. تر: وجيه أسعد. وزارة الثقافة. دمشق- 2001.
    4- السياب، بدر شاكر: ديوانه. م:1. دار العودة. بيروت- 1971.
    5- الصائغ، يوسف: قصائد. دار الشؤون الثقافية العامة. بغداد- 1992.
    6- العلاق، علي جعفر: شعرية الخوف. قراءة في شعر يوسف الصائغ. مجلّة نزوى. عُمان. العدد 53 يناير 2008.
    7- مبارك، محمد: قراءة في شعر الصائغ. في مقدمة ديوان الصائغ “قصائد”.
    8- هيغل: فنّ الشعر. ج: 2. تر: جورج طرابيشي. دار الطليعة. بيروت- 1981.

    1 – الصائغ، يوسف: قصائد. دار الشؤون الثقافية العامة. بغداد- 1992. ص: 45. (من مقدمة الديوان وعنوانها: قراءة في شعر يوسف الصائغ).
    2 – العلاق، علي جعفر: شعرية الخوف. قراءة في شعر يوسف الصائغ. مجلّة نزوى. عُمان. العدد 53 يناير 2008. ص: 34.
    3 – المرجع السابق. ص: 35.
    4 – الحدس التراجيدي مصطلح استخدمه هيغل في معرض حديثه عن المسرح التراجيدي مشيراً به إلى أنّ سائر الفنون موسومة بذلك الحدس، وإن يكن بدرجة أقلّ من المسرح. را: هيغل: فنّ الشعر. ج: 2. تر: جورج طرابيشي. دار الطليعة. بيروت- 1981. ص: 338.
    5 – الصائغ، يوسف: قصائد. ص: 129. ( سوف نكتفي فيما بعد بالإحالة على أرقام الصفحات من هذا الديوان، في المتن مباشرة.).
    6 – جاءت مجموعة “سيدة التفاحات الأربع” بعد فقْد الشاعر لزوجته بحادث سير. حيث توفيت بين يديه، في تركيا.
    7 – هيغل: المرجع السابق. ص: 337.
    8 – ستولنيتز، جيروم: النقد الفني- دراسات جمالية وفلسفية. تر: فؤاد زكريا. المؤسسة العربية للدراسات والنشر. بيروت- ط1- 1981. ص: 423.
    9 – هيغل: المرجع السابق. را: ص: 337.
    10 – راجع في الوسواس القهري: سيلامي، نوبير: المعجم الموسوعي في علم النفس. ج: 6. تر: وجيه أسعد. وزارة الثقافة. دمشق- 2001. ص: 2745- 2746.
    11 – ” وكلّ ما نحبّه يموت” جملة شعرية لبدر شاكر السياب. را: ديوانه. م:1. دار العودة. بيروت- 1971. ص: 467.
    12 – جينيت، جيرار: خطاب الحكاية- بحث في المنهج. تر: محمد معتصم وآخران.



يعمل...
X