الروائي حسن داوود: لم أكن لأكتب لولا صدمة العالم من حولي
حاورته: ضحى عبدالرؤوف المل
يبحث الروائي والصحافي «حسن داوود» عن المعنى الاجتماعي والروحي للحياة، سواء في رواياته التي تتميز بالسهولة الممتنعة، أو بالصعب الذي يحتاج إلى الربط، واستخراج المفاهيم المتغلغلة في عيش الحياة اليومية. ذاك ما يخلّده في رواية هي لكل الأزمنة التي عشناها من الماضي الى الحاضر، وربما تعيد نفسها في المستقبل. إنه يمسك بالتغيرات العميقة التي تحدث في عالمنا من الصحافة، مهنته التي قادته إلى الفن الروائي، وصولا إلى العزلة الحالية بسبب فيروس كورونا الذي أصيب به أيضا والتوترات السياسية الحاصلة، متقنا استخراج الحدث من الحدث نفسه، ليكون بمثابة الضوء لجيل جديد ترك له إرثًا روائيا يمتد من «بناية ماتيلد» وما قبلها من كتابات على صفحات الجرائد والمجلات، مرورًا بروايات وأعمال قصصية وصولا إلى روايته الجديدة التي ستبصر النور كما يقول في شهر أكتوبر- تشرين الأول وهي بعنوان «فرصة لعشق أخير».
هو من مواليد بيروت عام 1950، عمل في الصحافة محرّرا لصفحات وملاحق ثقافية في عدد من الصحف. في رصيده أكثر من ثلاث عشرة رواية وثلاث مجموعات من القصص القصيرة الغنية بالكثير من الذكريات والحنين لاستحضار بيئة غادرها في الماضي ويعيشها في حاضر متحوّل على الدوام .
هذا الحوار أُعدَّ للقارئ الشغوف لمعرفة أعماق «حسن داوود» ورؤاه المستخلصة من الحياة التي عاشها في واقع حوّله روائيا، مقدّما لنا شخصيات لا تنسى.
الصحافي الروائي هو في العادة روائي صحافي.. ماذا أعطت الصحافة لرواياتك؟
– حتى حين كان يستغرق عملي في الصحافة أكثر يومي كنت أقول بأنني روائي. ذاك أن للرواية الجانب الأكثر عمقا وخفاء من السريرة. في المقال الصحافي نسمح لأنفسنا أن ننساق مع تدفّق الأفكار في جريانها السريع. هذا ما لن نحظى به في كتابة الرواية. حين أكتب المقال للجريدة يكون هناك آخرون حاضرون، قريبون مني كأنهم يتلقون الكلمة من فور كتابتها. أثناء كتابة الرواية لا أحد هنا بقربي. أنا بمفردي. إن رأيت أن فكرة انبثقت أجمل أو أعمق مما كنت أنتظر، أحتفل بها وحدي. لن أتلقّى عنها تهنئة من أحد. ليس في صباح اليوم التالي على الأقل، على غرار ما يحدث حين يُنشر المقال.
هناك جانب استعراضي في كتابة المقال للجريدة، فيما كتابة الرواية انغلاقية. كأنك، مع هذه الأخيرة، تكتب لنفسك. في السابق، أقصد في سنوات الكتابة الأولى، لم أكن أطيق تأخّر معرفة الآخرين بما كتبته. كنت أنتظر طلوع الصباح حتى أتصل بالصديق الأقرب وأقرأ له ثلاثة سطور أو أربعة مما كتبت. الآن لم يعد الحال كذلك. صرت أميل إلى أن تُنجز الرواية في الخفاء، لا أخبر أحدا عن شيء منها. ولا أستعجل صدورها. قلت لمحرّرة دار النشر حين أبلغتني بأنها ستؤجّل نشر روايتي الأخيرة حتى تشرين الأول ليتزامن ظهورها مع معرض الكتاب: لا بأس. قبل ذلك، في سنوات الكتابة الأولى، لم يكن لمثل ذلك أن يحصل.
لكن مع ذلك أقول بأن عملي في الصحافة هو من حرّضني على كتابة الرواية. بل إنني أستطيع أن أعيّن، بعد انقضاء ذلك الزمن الطويل على أيام البدايات تلك، أيّ النصوص المنشورة في الجريدة هي التي ساقتني إلى الكتابة الأدبية. أصلا كان نشر تلك النصوص في الجريدة تجاوزا لما ينشر فيها عادة، حيث ينبغي أن يُعلّق المقال على شيء حدث في الأمس. أما ما كنت أنشره فكان أقرب إلى تجريب أدبي. لكن هناك من أتى ليقول لي إن هذا الذي أكتبه، أو بعضه، هو أدب حقيقي، مشجّعا إيّاي على أن أنقل قلمي من الورق الأسمر الذي هو قصاصات من (رولوات) الجريدة إلى ورق a4 أشتريه من المكتبة.
كيف ترى الرواية اللبنانية الناهضة في أزمنة الحروب؟
– أقدّر أن سنوات الثمانينيات أطلقت في لبنان ما شهدناه فيه من إقبال على كتابة الرواية. كانت سنوات الحرب، التي بدأت في 1975، كافية لتأسيس وعي بها، بما هي وبما غيّرته في نظرة اللبنانيين إلى بلدهم وإلى أنفسهم. «بناية ماتيلد»، روايتي الأولى، وكانت قد صدرت في 1983، كانت احتجاجا على ما آل إليه الزمن. كانت احتفالا بالماضي الذي انقضى مع تشتّت أهله، وهجاءً للحاضر. لا أعرف إن كنت سأكتب أصلا لولا صدمة تغيّر العالم من حولي. قبل الحرب، وقبل كتابتي عنها، كنت دائم التساؤل عن ماذا يُكتب في بلد مثل هذا الذي أعيش فيه. كنت أظنه، لصغره وخلّوه مما يفاجىء، غير مولّد لموضوع روائي.
روايات أخرى، لكتّاب آخرين، صدرت في لبنان حملت إحباط الحرب ورهابها. بدا منها أيضا أن لا شيء يمكن الكتابة عنه سوى الحرب. هذا أيضا انتقل إلى بلدان أخرى مجاورة بعد اندلاع حروبها.
الرواية في عهد ما بعد الحداثة أو بالأحرى الزمن الانقلابي على كل المعايير السابقة الانضباطية -إن صح القول- فهل من انفلات روائي تتوقعه؟
– أحسب أن الانفلات الروائي الذي تشيرين إليه قد حدث. نحن الآن في إبّانه. تلك الوفرة في الكتابة، التي كان مرتجىً حدوثها، لم يُتح لها أن تأتي متخلّصة من السريع والمرتجَل وغير الناضج كفاية. بات الحال كما لو أن هناك روايات أكثر مما يجب، أو أكثر مما يمكن جمعه حتى في تيارات كتابية. كأننا في مخاض كبير يأتي حاملا كل شيء. ربما كان الحال ألطف حين كان أحدنا قادرا على تصوّر هرم بنائي لما كانته الرواية العربية، كأن يعيّن أسماء لكتّاب يصعب أن يزيد عددهم أو ينقص. الآن نحن في خضمّ الفيض العارم حيث -سنة بعد سنة- يظل يفاجىء عددُ ما يصدر من روايات في دور النشر العربية. ورغم ذلك يظلّ شخص مثلي يقضي أكثر وقته في قراءة الروايات وتناولها بالكتابة، غير ملمّ إلا بنحو جزئي وقليل مما تصدره دور النشر العربية. أسباب ذلك كثيرة، بينها، إضافة إلى كمّ الإصدارات، تفرّق النشر العربي حتى صار لكل دولة نشرها الخاص، وهذا أدّى إلى أن القارئ في لبنان مثلا لم يعد قادرا على معرفة ما يصدر خارجه، وكذلك القارئ في العراق، أو المغرب، أو سواهما. سابقا كان يمكن لواحدنا أن يعدّد أسماء الروائيين جامعا إياهم من بلدان عدة: نجيب محفوظ من مصر، الطيب صالح من السودان، كاتب ياسين من الجزائر …إلخ. الآن نجد أن تلك المعرفة آخذة بالتضاؤل والانحصار في حيِّزات (من حيِّز) محلية. ربما بات من الصعب العودة إلى العبارات القديمة الجامعة، التي منها «الرواية العربية» أو «الشعر العربي»..
الكاتب حسن داوود بين المقالة والقصة والرواية، أين هو من السيناريو؟ ولماذا تغيب أعمالنا الروائية عن الدراما حاليا؟
– أظن أن السؤال المتعلّق بانفصال الرواية عن الأعمال التصويرية (سينما أو تلفزيون أو سواهما) ينبغي أن يُطرح على مخرجي الأعمال الدرامية ومنتجيها. لا أعرف، أو لا أذكر، أن أعمالا روائية نقلت إلى السينما باستثناء بعض روايات نجيب محفوظ وفتحي غانم وغيرهما القليل. ربما يفضّل القيّمون على الدراما أعمالا جاهزة للتصوير الفوري (سيناريوهات)، فذلك يكفيهم مشقّة تحويل النص الروائي أو إعادة كتابته. إلى الآن يقبع كل من السيناريو والرواية في عالمين منفصل أحدهما عن الآخر. أن يبدأ الجمع بينهما يقتضي وجود كتّاب من نوع ثالث، أو مخرجين سينمائيين شغوفين بتحويل الإبداع الروائي إلى إبداع سينمائي.
كتبتُ، إلى جانب الرواية، ما اتفق على تسميته بالقصة، فيما أنا أرى أن ما فعلته في هذا المجال (القصة) هو إضفاء مسحة سردية على نصّ تفكيري تأملي، لكن فنّ القصّ يحتمل ذلك لكونه دائم الخروج عن التعريفات التي تحدّده كفنّ. أما المقالة فلم أتوقّف طيلة حياتي عن كتابتها، وذلك لعملي في الصحافة ما يزيد على الثلاثين سنة. الأرجح ربما أن ما كان منوطا به نقلي إلى كتابة السيناريو هو الصحافة وليس الرواية، فهذه الأخيرة، بالنظر إلى ديناميكيتها وتنوّع مجالاتها وعوالمها تتيح مرونة الانتقال منها إلى سواها. أما الرواية فهي بغنى عن ذلك الانتقال إذ لطالما يظنّ الروائيّ أن الدراما موجودة أصلا في نصّه، وإن كان عليه أن يُرى، أو يُقرأ، بصريّا فهذه مهمة من اختصاص كاتب آخر.
كنت أحب طبعا أن تنقل أعمال لي إلى السينما، وليس إلى التلفزيون. ولا أخفي عليكِ يا عزيزتي ضحى أنني أجريت في ذهني مرّات كثيرة تحويلات من هذا النوع، لروايتي الأولى -بناية ماتيلد على الأخصّ- متخيّلا بعض مشاهدها في مقاطع سينمائية. حرّضني على ذلك سينمائيون أعلنوا عن حماستهم لتحويلها إلى فيلم قبل أن تحول صعوبات، مادّية ربما، أو فنيّة، دون ذلك.
ربما عليّ أن أذكر أنني ساعدت في إنجاز فيلم وثائقي (هو «كلنا للوطن» لمارون بغدادي) لكن من دون أن أكتب شيئا من ذلك على ورقة، كما أقدمت على كتابة سيناريو لفيلم، للمخرج الصديق نفسه، لم يُستكمل ولم يجرِ تصوير ما كُتب منه بسبب الرحيل المفاجئ والمأساوي لمارون، لكن جزء السيناريو المكتوب تولّى الصديق نجا الأشقر في «نادي السينما» إصداره في كتاب. ربما عليّ أن أذكر هنا أني لم أجد نفسي في موضعي وأنا أكتب عملا معلومةٌ مآلات شخصياته مسبقا.
ما الذي تغير برأيك في الأدب الروائي منذ حرب 1975 حتى الآن؟ وهل الرواية اللبنانية تحتاج لتربة خصبة أفضل؟ وهل من عمل جديد لك؟
– مثلما أجبت عن سؤال أعلاه أقول إن هذه الوفرة الكاسحة في إصدار الروايات تعيق، أو تشوّش على الأقل، بناء أي تصوّر جامع، أو مفرّق، لها. أولا لأن قراءة هذا الكم من الكتب متعذّر إن لم يكن محالا. وأنا أتساءل دائما كيف يمكن للجان تحكيم الجوائز أن يقرأوا، في سنة واحدة، ما ينوف على مئات الروايات ليختاروا تلك الفائزة من بينها. سأكون متسرّعا، بل واعتباطيا، إن قلت أنني أستطيع أن أحدد ملامح عامة لما تبدّل في كتابة الرواية منذ 1975، حتى في ما يتعلّق بالرواية اللبنانية خصوصا، وهو ما يعيّنُه تحديدكِ البدء بتلك السنة (سنة بداية حرب لبنان). ما يستطيع قوله المتتبّع لتلك الإصدارات هو ملاحظات متفرّقة عن روايات قرأها، من دون أن يضمها إلى سياق كتابة عام. لكن يستطيع واحدنا أن يسأل نفسه إن كانت هذه العقود الأخيرة قد تعدت تلك الوفرة إلى تأسيس خصوصية ما للرواية العربية، أو إن كانت تبرز من بين ما كان قُرئ في تلك السنوات الأخيرة من أعمال لا تزال حاضرة بقوة في الذهن. أحيانا تفاجئني انتباهات من نوع: لماذا، في النصوص التقديمية السريعة التي يضعها الكاتب في الصفحة الأولى من روايته، تلك التي لا تتعدى السطرين أو الثلاثة، لماذا هي دائما لكاتب أجنبي غير عربي؟ أو لماذا حين يرجع متحدّثان إلى استذكار تاريخ الرواية وكتّابها، مثلما يتحدّث محبّو السينما عن نجماتهم ونجومهم الأثيرين، لا يجدان مكانا فيها للعربية منها. هل لأن لا شيء مما نشر وينشر عربيا لم يلقَ قارئين معجبين أو مؤيدين؟ هل ما زالت الرواية عندنا متعلقة بمصدر خارجي؟ هل تاريخ الرواية قائم، ومتسلسل هناك فقط، فيما لا يتعدى عمر الرواية الصادرة هنا، فترة الاحتفال بصدورها.
أحيانا أقرأ عن ترجمة جديدة لرواية أو لعمل قصصي أجنبي لأكتشف أن ذلك إصدار جديد للرواية نفسها التي سبق أن صدرت، بلغتها، قبل ما يزيد على الأربعين عاما. هناك طلب عليها، يقول الناشرون أو أصحاب المكتبات…
وحول إن كان سيصدر لي عمل جديد: بلى، هناك رواية أجّلت نشرها إلى تشرين الأول المقبل، عنوانها «فرصة لعشق أخير».
الشخصيات الشهيرة من النساء أين هي في أعمال حسن داوود وما الذي تبحث عنه في المرأة روائيا؟
– ذكرني سؤالكِ بالرواية التي كتبها العظيم ستيفن سفايج عن ماري أنطوانيت. لم تستطع عبقريته أن تأتي من القرّاء إلا بالقول أنه متحيّز للإمبراطورة، مخالفا بذلك ما هو شائع بين الناس عن الهبل في قولها: «لا خبز، إذن فليأكلوا البسكويت»، ذلك بالرغم من متعة قراءة تلك الرواية ومن مزج المعرفة بالمخيّلة لدى سفايج. للأسف، يضعك المشهورون أمام أحد الأمرين، إما أنت معهم أو أنت ضدّهم. كما أن كاتبهم لن يفلح إلا في إعادة سرد ما كان قد سُرِد أصلا، وهذا ما يعمد قارئ عمله إلى مقارنة ما يقرأه بما كان يعرفه.
أرى أن عمل الروائي يجب أن يقوم على اختراع نساء يجعلهنّ شهيرات، لا عمن تحقّقت لهن الشهرة أصلا. أن يكتب عن نساء مجهولات، أو عن رجال لم يخطر للتاريخ ولا حتى للأدب، أن كشف من قبل عن وجودهم، ولا عن حملهم لمشكلات، اجتماعية أو نفسية، تفردهم عن سواهم. هذا الاستثناء عن العام هو ما يتيح للرواية أن توسع العالم الذي أمعن الميل الساحق إلى النمذجة في تضييقه. أقصد بذلك نمذجة البطولة، أو نمذجة الخيانة، أو الغرام، أو الفقر والغنى، أو أفكارنا العامة عن الصحيح والفاسد. متأخّرين ندرك كم ضيّقت النمذجة علينا الخناق. بدأ ذلك مع كتبنا المدرسية ومع ما يوصينا به أهلنا. الرواية ينبغي أن تقول لنا أن هناك -على الدوام- نساء ورجالا يختلفون عمن عرفناهم من النساء والرجال، وأن الأزمات التي يضعهم فيها العالم يمكن لها أن تكون جديدة على علمنا بالأزمات وأنواعها. لو كنت من الدعاة، لحرّضت على اكتساب الوعي الروائي بالعالم، ذاك الذي لا يقف عند حدود طالما أن هناك روائيين يكتبون.
أجل كتبت عن نساء، أمي مثلا، وقد كتبت عنها «لعب حيّ البيَّاض»، وهي فيما أحسب أقلّ النساء شهرة في العالم، وأقلّ قوّة. الرواية تقول «إن ربّنا، سبحانه وتعالى، أعطى لكل مخلوق شيئا يحمي به نفسه، إلا أنا». كتبت أيضا «ماكياج خفيف لهذه الليلة» عن امرأة لا أعرفها أصابتها الحرب وشوّهتها وهي تحاول، من دون أن يقع ذلك في باب النضال أو المقاومة، أن تعود إلى العيش. كما أن مجموعتي «تحت شرفة آنجي» و«نزهة الملاك» يغلب عليهما حضور النساء الفاتنات، وإن كن لسن في عمر الفتنة ولا في أوصافهنّ الدارجة.
يقال:«يستخلص الصحفيون والسياسيون الأكاذيب من الحقيقة.. على الروائيين أن يفعلوا العكس» ما رأيك؟
– تلك البراعة في تطويع اللغة وجعلها قابلة للتصديق فيما هي تكذب هي من أمضّ ما يجري في نهاراتنا التي تملأها نشرات الأخبار والبوستات التي تظهر على هواتفنا الجوّالة على مدار الساعة. هناك حقيقتان أو أكثر في التصريح عن شيء واحد. كأن هناك قاضيين متساويي الكفاءة أحدهما يقول إن حاكم البنك المركزي متهم يجب أن يدان والآخر يقول إنه ضحيةٌ تكالَبَ عليه المفترون. أتساءل أحيانا عن الجذب الذي يقع فيه السامع العادي، مرّة إلى هنا ومرة إلى هناك، ليصير «سلامة»، مثلا، هو الحقيقتين معا، أو الكذبتين معا، في ذهنه. وهذا ما يحصل لي في أحيان، وقت ما يقنعني التصريح بصحّة منطقه ولغته. «أنت لا تفهم في السياسة» تقول لي زوجتي، وأنا ربما كنت كذلك، لكنني أعلّل جهلي بالقول، بيني وبين نفسي، كيف أستطيع أن أفهم السياسة فيما أنا لست في داخلها، أي لست في حدَثِها، ذاك الذي يلزم أن أكون قد عشته قبل أن يتداوله كلام السياسيين. أما «كلّن يعني كلّن»، وهو الشعار الذي رفعه منتفضو 17 تشرين، فأؤيّده لأنه يعفيني من التقصّي عمّن هو الكاذب ومن هو غير الكاذب. أقول: «كلّن يعني كلّن»، وأنا أعلم أن تبنّي الشعار-وإن على طريقتي- يضعني، لا خارج السياسة فقط، بل خارج ما ينشغل فيه الناس أكثر ساعات يومهم.
أما الروائي، لكي ينجو من الكذب، فليس له إلا أن يولي المزيد من الثقة لحدسه، كما ليقينه بأن كل ما يجري على مسرح السياسة، والحياة غالبا، كذب بكذب.
الرواية هي ذاكرة وهذا تشهد عليه الدراما حاليًا من خلال ما نراه من أعمال روائية على شاشة نتفليكس؟ أين نحن عربيًا من هذا المجد الروائي؟ وهل الصحافة العربية تتقهقر حاليا؟
– في ما يتعلّق باستعادة أحداث من الماضي، أجدني مفضّلا السيرة على الرواية. ذاك لأن هذه الأخيرة تطمح إلى أن تكون حاضرا دائما وليس سجلًّا لما جرى أو كان. بقولي هذا أكون أدّعي أن ما تسجّله الأفلام، والمسلسلات خصوصا، عن بطولات ووقائع تاريخية، ليس وثيق الصلة بالرواية. إنه تأليف الماضي بعد جمع مادّته، أما الرواية فشيء آخر. هذا مع العلم أنني أقرأ بمتعة كل ما يذكّر بأن هناك ما يحكي عن الماضي. حتى تلك النبذ الصغيرة التي تنشر على الفيس بوك عن شخصيات سابقة أُسرع إلى قراءته.
سؤالكِ حول الصحافة العربية إن كانت تتقهقر حاليا يرجعني مشتاقا إلى زمن عملي في جرائدها. كانت تلك أياما جميلة أعرف أنها لن تستعاد طالما أن كل تلك الصحف، تلك التي عملت فيها، قد أقفلت. ذلك الزمن لا يُستعاد، ليس فقط في ما يخصّ حنيني إليه، بل بما يخصّ وجوده ذاته. الآن صارت الجرائد كأنها لزوم ما لا يلزم، إذ طغت عليها وسائل الإعلام والاتصال الجديدة. تعرف الجرائد، الجرائد الورقية، أنها الآن حاضرة في غير زمانها.