العقل ومعضلة التحيز التأكيدي
مصعب قاسم عزاوي
د. مصعب قاسم عزاويتعريب فريق دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع لملخص محاضرة قدمها الطبيب مصعب قاسم عزاوي باللغة الإنجليزية في مركز دار الأكاديمية الثقافي في لندن.أدمغتنا مبرمجة بيولوجيا للبحث عن الأنماط والارتباطات بين الظواهر واستنباطها أو إيجادها فعلياً. إن أدمغتنا فعالة للغاية في اكتشاف هذه الأنماط لدرجة أننا غالباً ما نخطئ في جانب رؤية المعنى في شيء جوهري سرمدي ألا هو، في الواقع، الضوضاء العشوائية في حركية الظواهر الطبيعية وعلائق الحياة. ما لا نجيده حقاً هو إدراك وقياس الضوضاء العشوائية أي حساب احتمالات حدوث النمط الملاحظ بالصدفة فقط. علاوة على ذلك، نحن مستعدون لتقييم معتقداتنا من خلال البحث عن أدلة تؤكدها بدلاً من عدم تأكيدها أي دحضها وإثبات بطلانها. وهذا ما يسمى بالتحيز التأكيدي. وهذه الحقيقة هي التي تدحض الأسطورة القائلة بأننا نزن كل الأدلة بالتساوي ونبني النظريات الشخصية فقط بعد النظر في البيانات الموضوعية، وهو ما لا نفعله في الغالبية شبه المطلقة من الأحايين.موضوعة التحيز التأكيدينحن بارعون في التعرف على الحالات التي تتكرر فيها الظواهر و الأحداث في البيئة دون الميل لاعتبارها من قبيل الصدف. نحن لا نجيد معرفة مدى احتمالية حدوث تلك الصدف في عالم تحكمه الفوضى. نحن لا نأخذ في الاعتبار المعدلات الأساسية، أو الاحتمال الأولي لحدث ما دون تدخل خارجي.
إذا كنا عقلانيين تماماً بشأن المعتقدات التي نتمسك بها والاستنتاجات التي توصلنا إليها، فسنتبع دائماً رؤية توماس بايز، والذي أشار أنه لفهم احتمالية حدوث موقف معين، نحتاج إلى مراعاة المعدلات الأساسية لاحتمال حدوثه بالصدفة المحضة. لكن لا يبدو أن أدمغتنا مبتناة عصبياً بهذه الطريقة. يبدو أنه من الطبيعي، والغريزي أكثر، أن نصل إلى أدلة تؤكد بسهولة المعتقدات التي شكلناها بالفعل أو التي تدعم أي استنتاجات نجدها أكثر «منطقية».
من المنطقي أن ينتقي الناس نوع الأدلة التي يأخذونها في الاعتبار عند تقييم المعتقدات المفضلة التي لديهم الدافع للحفاظ عليها. الأشخاص الذين يريدون الإيمان بوجود قوة أعلى، على سبيل المثال، والذين يرون المعجزات كدليل على وجود مثل هذا قد يكون لديهم الدافع للبحث عن دليل على حدوث معجزة بدلاً من التفكير في الأدلة التي تدعم تفسيراً أبسط من قبيل أن حركية الطبيعة تقتضي ظهور بعض الظواهر الطبيعية بالصدفة التي قد تبدو كما لو أنها معجزة بينما ليست كذلك.
تطورت أدمغتنا لتجد معنى في عالمنا. نحن نبحث عن الأدلة التي تؤكد معتقداتنا. ونضعها في سياق يساعدنا على فهم الفوضى وتفادي الاعتقاد المخيف بأن الكون عشوائي.
التحيز التأكيدي يجسد حقيقة أن معتقداتك وآرائك تستند إلى بيانات منتقاة بعناية: سنوات أو حتى عقود من المواقف التي شد انتباهك فيها الدليل الذي يؤكدها، بينما تم تجاهل الأدلة غير المؤكدة لها.
التحيز التأكيدي منتشر بشكل خاص في المناقشات السياسية، حيث يختار المرشحون نقاط البيانات بعناية لدعم سياساتهم، بدلاً من إنشاء سياسات تستند إلى جميع البيانات. سوف يدخل النقاش حول المناخ في التاريخ كمثال رئيسي عن التحيز التأكيدي. لكل دراسة جديدة توضح العلاقة بين النشاط البشري وتغير المناخ، يشير المنكرون إلى بينات انتقائية لإظهار أن أجزاء من الأرض أصبحت الآن أكثر برودة مما كانت عليه في الماضي، وهذا مثال واضح عن التحيز التأكيدي، دون الالتفات إلى حقيقة أن تسخن كوكب الأرض يأخذ معدل الحرارة في جميع أجزاء الكوكب و ليس في مناطق محددة منه.
في الواقع، حتى عندما لا تكون الفرضية المراد اختبارها مشروعاً منطقياً، لا يزال الناس يميلون إلى البحث عن أدلة مؤكدة بدلاً من الأدلة الداحضة لتلك الفرضية. لماذا؟
يأتي جزء من الإجابة من العمل الذي يوضح أننا لسنا جيدين جداً في حساب الاحتمالات أو التفكير فيها. العالم شاسع، وهناك الكثير مما يحدث في أي لحظة. لذا، فإن الصدف شائعة. ومع ذلك، لدينا ميل داخلي لإيجاد ربط سببي أو حتى استنتاجه عندما يحدث شيئان في وقت متزامن أو متقارب. أو عندما نسمع قصة عن موضوع نعتقد أنه نادر جداً، ولكن دون ان نلتفت إلى نسياننا حقيقة أن العالم شاسع وأن عدد الأشخاص فيه مذهل، فإننا ننسب هالة خاصة إلى شيء أكثر اعتيادية مما قد يبدو عليه.
يمكن أن يكون هذا النوع من السببية المستنبطة والتحيز التأكيدي واضحاً بسهولة في بعض التخصصات التي تبدو علمية، ولكنها في الحقيقة علم زائف: الادعاءات التي يبدو أنها تستند إلى المنهج العلمي، ولكنها في الواقع ليست كذلك.
إذا أجريت قياسات كافية وقمت بالتلاعب بها بالطريقة الصحيحة تماماً، فستجد أرقاماً تتوافق مع كل ما تريد تصديقه. الطرق المختلفة التي يمكننا من خلالها تفسير الأرقام واللعب بها لا حصر لها. وهي نقطة يجب الارتكاز عليها حينما نسمع أخباراً عن بعض نتائج الأبحاث التي تبدو ناشزة عن نسق الاتفاق العلمي في حقلها.
وهذه مشكلة عميقة في علم الأعصاب. إنها منتشرة بشكل خاص في التصوير العصبي، حيث تلعب الإحصائيات دوراً رئيسياً. تقوم العديد من الدراسات على فرضية أن أجزاء مختلفة من الدماغ مسؤولة عن وظائف مختلفة. لذلك، من خلال تتبع نشاط الدماغ أثناء قيام الشخص بوظيفة معينة ومقارنته بما هو نشط عندما يقوم بكل شيء بخلاف تلك الوظيفة يمكننا أن نرى مناطق الدماغ الأكثر مشاركة في الوظيفة التي نحاول عزلها.
لكنك تستخدم دماغك بالكامل معظم الوقت، إن لم يكن كله. لذلك، من خلال تحديد عتبة إحصائية منخفضة إلى حد ما وعدم تصحيح مقارنات متعددة، يمكنك العثور على التنشيط في أي جزء من الدماغ أثناء أي مهمة. إذا كنت تبحث عن تأكيد فرضية، فلديك منجم ذهب من البيانات للاختيار من بينها. لكن هذه ليست الطريقة التي من المفترض أن يعمل بها العلم بالطبع. حتى علماء الأعصاب، الذين يعرفون أفضل، ينجذبون إلى التحيز التأكيدي.الجوانب الإيجابية والسلبية للتحيز التأكيديهل التحيز التأكيدي هو خلل في دماغنا يمكننا الاستغناء عنه؟ لا، لأنه جزء من عملية اكتشاف الأنماط التي تمنحنا أيضاً بعض التجارب الرائعة حقاً مثل تقدير الموسيقى. يوجد التكرار في الموسيقى عبر الثقافات والأنواع، وهناك العديد من التكرارات في الموسيقى أكثر من الكلام العادي.
تطورت أدمغتنا لتصبح كاشفات أنماط فعالة. نحن نبحث عن المعنى حتى في أكثر الأشياء غموضاً، لأنه قد يكون من التكيف بالنسبة لنا أن نخطئ في اعتبار الأوراق نمراً بدلاً من الفشل في ملاحظة وجود حيوان مفترس. يفسر هذا الاتجاه سبب رؤيتك للوجوه في كثير من الأحيان في السحب أو المنحدرات أو غيرها من الأشياء الغامضة. لقد تكيفنا مع الخطأ في فعل رؤية نمط قد لا يكون فيه صدقية لما نتصوره موجوداً فيه، حتى لا نفوت أي إشارات مهمة في محيطنا البيئي والحيوي يمكن أن تكون وسيلتنا للحفاظ على حيواتنا.
ونستمتع بإيجاد هذه الأنماط. نحن نحب حل هذه الألغاز الصغيرة؛ مما يجعل الحياة أكثر قابلية للتنبؤ بها. عندما نكتشف نمطاً جديداً، نحصل في الواقع على زيادة طفيفة من المتعة: في التصوير العصبي، نرى زيادة في ناقل عصبي يسمى الدوبامين، والذي يشارك في تجربتنا للمتعة.
أدمغتنا مصممة للبحث عن الأنماط، لذا فإن بحثنا عن الأنماط – عن المعنى – في الصور والموسيقى والأحداث يكون تلقائياً وممتعاً في كثير من الأحيان. يرى بعض الناس أن المعنى هو ما يجعل الحياة تستحق العيش. نحن نتمسك بشدة بضرورة التواصل مع عالمنا وبعضنا البعض.
لذلك، فإننا نميل إلى البحث عن أدلة تؤكد معتقداتنا وأفكارنا ومشاعرنا الحالية. حتى عندما نختبر فكرة ما، غالباً ما نستسلم لإغراء البحث عن تأكيد بدلاً من دليل يثبت أننا مخطئون.
نرى هذا التحيز عبر العديد من المجالات والتخصصات المختلفة، ويمكن أن يكون له آثار سلبية. يمكن أن يؤدي إلى معتقدات خرافية، يمكن أن يكون بعضها ضاراً. يمكن أن يسبب جنون العظمة ويطيل من الاكتئاب، و هو ما يمكن بائعي زيت الأفعى وغيرهم من مسوقي المعلومات المضللة استغلال تحيزنا للتأكيد واستخدامه لخداعنا، و الأهم من ذلك أنه يمكن أن يديم القوالب النمطية والعداء بين مجموعات مختلفة من الناس.
هذا التأثير السلبي الأخير للتحيز التأكيدي – يتمثل في أنه يمكن أن يفصل الناس عن بعضهم البعض في معسكرات «نحن ضد هؤلاء» – تم توضيحه في عدد من الدراسات. أحد أشهر هذه الدراسات كان في عام 1979 من قبل تشارلز لورد، ولي روس، ومارك ليبر، الذين كانوا مهتمين بفهم كيف يمكن أن يساهم التحيز التأكيدي في استقطاب المواقف، وزيادة الخلاف بين مجموعتين من البشر عند تقديم المزيد من الأدلة لهم.
نرى هذا التأثير عندما يتعلق الأمر بقضايا مثيرة عاطفياً، عادةً تلك التي تميل إلى أن تكون ذات طبيعة سياسية، مثل السيطرة على الأسلحة، وحقوق المثليين، وعقوبة الإعدام.
تماشياً مع التحيز التأكيدي، وجد لورد وروس وليبر أنه عندما أُعطي الناس دراسات تحقق في عقوبة الإعدام، أفاد الناس أن الدراسات التي قرأوها والتي كانت متوافقة مع آرائهم الأصلية حول عقوبة الإعدام كانت أكثر إقناعاً من الدراسات التي قرأوها والتي لا تتماشى مع رأيهم في هذه القضية.
قالوا إن الدراسات التي كانت تتماشى مع رأيهم الأصلي بها عيوب أقل وبها أساليب أفضل، باختصار، كان العلم فيها أكثر صحة. وتمسكوا بموقفهم بقوة أكبر في نهاية التجربة، على الرغم من أنه قد قدم لهم الأدلة المؤيدة والمعارضة لموقفهم.
ما هي فوائد الانحياز التأكيدي؟ تكمن الإجابة على هذا السؤال في حقيقة أن المعتقدات تجمع الناس إلى حد كبير؛ يمكن أن تكون بمثابة صمغ اجتماعي، وبالتالي فهي جوانب مهمة في المجتمع.
بالطبع، لم نعد نعيش في أجمات السافانا بعد الآن، فمع تغير مجتمعنا، نرى الآن كيف يمكن للمعتقدات أن تخلق بالفعل انقسامات و صدوعات كبيرة في المجتمعات المعاصرة. لكن أدمغتنا لم تتطور لاختبار النظريات العلمية. لقد تطورت لمساعدتنا على البقاء على قيد الحياة في البيئات القاسية التي واجهتنا كجنس حيواني خلال مسيرتنا التطورية التي امتدت على سبعة ملايين من السنين.
والعديد من هذه المعتقدات غير قابل للدحض، فهي كبيرة ومعقدة للغاية بحيث لا يمكن اعتبارها غير صحيحة من خلال اختبار بسيط. لذلك، ربما في هذه الحالات، لا يجدي نبذ فكرة جيدة على أساس مؤشر مضاد واحد لها.
إذا كنت تعتقد أن الناس طيبون في الأساس ثم ارتكب شخص ما خطأ وأضر بمشاعرك، فلن يفيدك نبذ افتراض أن معظم الناس، أو حتى هذا الشخص، هم في الواقع أصدقاء وليسوا أعداء. هذا الاعتقاد الأساسي هو ما يمنحك القوة للتسامح وإصلاح الأمور. وإيجاد معنى في عالم فوضوي يمكن أن يثري حياتك. لكنه يجعل الموضوعية مهمة عقلية مضنية عليك العمل عليها، وليس شيئاً يأتي بشكل طبيعي، وهنا يكمن لب عملية الاجتهاد العقلي والتفكير المدقق العقلاني الرشيد والمتمعن والساعي إلى أقصى درجات الموضوعية كطريق وحيد لا سواه لتفادي مهاوي التحيز التأكيدي في حيواتنا ومجتمعاتنا المعاصرة، ومخاطره المهولة في الكثير من الأحايين، من قبيل التمترس في قلاع الأخطاء الفكرية والمعرفية، والإيغال في رفض أولئك المصنفين بقوة التحيز التأكيدي بأنهم في معسكر « الآخرين الأغيار» بينما هم في الحقيقة عكس ذلك، و قد يستقيم اعتبارهم أولياء حميمين.