السخرية بوصفها تكنيكًا ملاحظات أولية في قصصه الساخرة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • السخرية بوصفها تكنيكًا ملاحظات أولية في قصصه الساخرة

    • السخرية بوصفها تكنيكًا ملاحظات أولية في قصصه الساخرة



    غالب المطلبي
    «الآن ابتعدوا بأنفسكم ، شاهدوا الحياة مثل متفرج لا مبالٍ، الكثير من المآسي يتحول في النهاية إلى كوميديا»
    هنري برغسون

    عُنيت مجموعات الراحل عبدالعزيز الفارسي القصصية الثلاث (رجل الشرفة) المنشورة عام 2017، و(الصندوق الرمادي) المنشورة عام 2012 و(وأخيرا استيقظ الدبّ) المنشورة عام 2008 بإظهار موضوعة (السخرية) بوصفها ضربًا من التكنيك الذي يساعد على البناء السردي للقصة، يوفر له قبل كل شيء بوصفه السارد أن يتحدد بالنظر من الخارج إلى ما يجري وبلا مبالاة تقريبا؛ وأن تكون مهمته الرئيسة محصورة بأن يسجل حركة الشخوص وأفعالهم بكثير من الحياد الذي يسمح للقارئ تلمس المفارقة بين دواخلهم وخارجهم، في الوقت نفسه الذي يشعر فيه -أعني القارئ- بحيويتهم، وبأنهم ينتمون إلى عالم يعرفه ويحبه.
    تبدو شخوص عبدالعزيز الفارسي من الخارج عادة أناسًا بسطاء ذوي طبيعة اجتماعية سمحة، متقبلين للعيش في بيئتهم التي تظهر لنا هادئة أكثر مما ينبغي، بل من الممكن لنا وصفهم بأنهم كانوا مرحين بطريقة مّا، ومشتملين على آمال عريضة ، وأحلام كبرى، غير أنهم -وعلى الرغم من تلك البساطة الظاهرة- يبدون لمن ينعم النظر مرتبكين، مفعمين بـِحـَيرة غامضة وقلق غير مسوغ وعدم قدرة على التصرف تجاه أمور تقرر مصائرهم وتنتظم صلتهم بمن حولهم، وأن ثمة ضغطـًا غامضًا يعتمل في دواخلهم، يدفع بهم إلى ارتكاب أفعال خرقاء (أعني خرقاء بالنسبة لنا)؛ لتنقلب تلك الأفعال بعد حين إلى أحداث كبرى في حيواتهم، في مفارقة يمسك بها الفارسي مركز كتابته الساخرة: هناك شيء يبدو هادئا من الخارج لكنه عاصف تمامًا من الداخل، وهو جانب تصوره التراجيديا عادة ، لكن الفارسي اختار من هذه الثيمة الكبرى مقطعًا محددًا، ليكتب عنه : أن يرى كيف يتصرف شخوص بسطاء لا يملكون صفة المواجهة إن قدّر لهم أن يدخلوا هذا المسرح العاصف، أن يرى كيف تفاجئهم أفعالهم ، ثم كيف ينتهي بهم الحال نصف كوميديين نصف تراجيديين وبخسائر غير محسوبة وجروح عميقة في دواخلهم، هذه هي المفارقة التي تلخص جهد عبدالعزيز الفارسي في أعماله القصصية موضع الحديث، وهو ما سنلاحظه بعد حين بكثير من الوضوح والجمال الأدبي في قصته الرائعة جدًا المسماة (المستثمر)، أو في قصته الأخرى(سعيد الخياط)، أو في قصته التي تمتزج فيها الرومانسية بالسخرية الحادة بالخرافة الطريفة (رمانة).
    وقبل تلمس ثيمة السخرية بوصفها تكنيكًا في قصصه، أودّ الإشارة إلى أن مصطلح (السخرية) نفسه يحتاج منّا إلى تأمل قليل ، بسبب أنه مصطلح مضلل بدرجة ما، يعاني كثيرا من سوء الفهم، فقد شاع عند كثيرين أنه يعني إمكان الإضحاك، أو إمكان إشاعة المرح أو الاستهزاء، أو إظهار شخوص ساذجين يكون في ميسورهم أن يثيروا فينا نمطا من الاستخفاف بما يجري من أفعالهم أو ضجيجهم، أو ما يقع في خواطرهم من أفكار هائمة وما يعتمل في نفوسهم من أمانيَّ خرقاء.
    ما يهمنا أيضًا ربط ثيمة السخرية بمفهوم آخر هم مفهوم (اللامبالاة) الذي هو في تقديري الخصيصة التي تمنح السخرية قدرتها إلى أن تتحول إلى (تقنية) في الكتابة لا أن تكون موضوعًا لها، وفي الحق أن بعض كتابات النقد أظهرت ذلك على أنه كان مرادفًا لمفهوم السخرية، لكن إنعام النظر يدفع بنا إلى عدّه مفهوما تقنيا مرادفا لطريقة تعامل الكاتب مع بيئة ما تقع فيها الأحداث، وشرطًا في أن ينفصل الكاتب عن حركة شخوصه وأقدارهم انفصالًا كاملا، إن عليه أن يخفي تأسيه أو تعاطفه، بل أن يظهر شيئًا من الخفّة واللامبالاة، وفي الحق إن مبدأ اللامبالاة هو الذي يدفعنا نحن القراء إلى النظر إلى ما يجري من غير أن نقع تحت طائلة الانفعال، لامبالاة الكاتب تمنحنا هدوءًا مطلوبًا في مراقبة حركة الشخوص في العمل السردي، وتكشفهم أمامنا من غير أن يـُجبرنا على شيء من ذلك، ولعل المتأمل سيجد أن الكاتب الذي يظهر براعة في هذا المجال يقترب بسخريته إلى درجة من السوداوية، أو إلى حد يستطيع معه تفجير حالة من الحزن الصوفي الشفاف غير المفهوم عند القارئ، وكأنه بذلك يعبر ذلك الخط الفاصل غير المرئي بين الهزل والمأساة، وإلى درجة من الممكن معها أن يتفجر الألم في وجه القارئ في لحظة مّا وسط كل تلك السخرية، هي لعبة قديمة، لكنها غاية في الصعوبة، رأيناها في قصة جوجول المسماة “المعطف”؛ إذ إن السطح البارد الساخر الذي يثير فينا نوعا من الاستهزاء ببطل القصة “أكاكي أكاكافتش” يدفعنا فجأة -في مكان مّا من القصة- إلى الألم وسط السخرية، كانت تقنية جوجول بسيطة جدًا، هي أن يضع وسط كل تلك السخرية نصا قصيرا، ليس جزءًا من الأحداث -وإن كان من داخلها- ولا صلة له بالبناء، لكنه كان مهما جدا ليجتاز حبل السخرية الضيق بسلام من غير أن يقع، كانت مهمته أن يجعل من موضوعة السخرية نفسها فنا أخلاقيا رفيعا، في ذلك المقطع القصير لا يدخل جوجول إلى داخل النص لكنه يـُلبسنا فيها شخصية شاب كان يسخر في داخل تلك القصة من أكاكافيتش يتحول فجأة من السخرية الطاغية إلى لحظة ألم يصل تأثيره إلى القارئ وقد لاحظ أوكنور في (الصوت المنفرد) أنه لا يمكن لتلك القصة أن تكون بذلك المستوى لو لم تكن تلك الكلمات جزءا منها، كانت تلك الكلمات: “فقط عندما كانت السخريات أكبر بكثير من أن تحتمل، عندما كانوا يجذبون ذراعه ويمنعونه من الاستمرار في عمله، كان يعرب عن ألمه قائلا: دعوني وشأني! لماذا تهينوني؟ وكان ثمة شيء غريب في تلك الكلمات، وفي النغمة التي تقال فيها، كانت فيها رنة تثير الرحمة، حتى أن شابا حديث العهد بالعمل، كان قد سمح لنفسه أن يسخر منه مقلدا الآخرين توقف فجأة كما لو كان قد طعن في قلبه، ومنذ ذلك اليوم بدا كل شيء له وكأنه يتغير ويظهر في ضوء جديد… وفي لحظات بهجته الكبرى كان ينتصب أمامه شبح النساخ……”.
    تقود تقنية السخرية إلى أن تكون الشخوص المسرودة أكثر واقعية في حركتها النفسية الداخلية؛ لأنها قائمة أساسا عند الكاتب الساخر على افتراض النقص لا على افتراض الكمال، (على الضد مما تفعل التراجيديا)، وقد أشار برغسون في هذا الصدد إلى أن السخرية تظهر وحدانية الشخصية، وتدفع بها إلى أن تكون غير قابلة للتقعيد، لتظهر أمام القارئ أن لا شبيه لها غير نفسها، وهي في ذلك على النقيض من الشخصية في العمل التراجيدي؛ إذ هي شخصية قابلة للتقعيد، وإلى إمكان إظهارها على أنها أمثولة بطولية، بعبارة أخرى يتميز النص السردي الذي تنسجه ثيمة السخرية بأنه يملك القدرة على أن يدفع القارئ إلى عدم الاندماج بشخصية (البطل)، وإلى أن يضع بينه وبين ذلك البطل مسافة تسمح له بالتأمل الإنساني، وهو انفصال يوفر للبطل بدرجة مّا واقعيته أيضًا.
    ونحن إن بدأنا بهذه الفكرة -أعني الانعزال الذي يصنعه السارد لنفسه في قصص الفارسي- سنلاحظ أن السخرية تختفي حين تندمج شخصية البطل بشخصية السارد (الذي هو وجه مفترض للمؤلف) على نحو ما نجد في قصة “طفلة الظلام” المفعمة بالسوداوية أو “القصة والنادلة” التي تعبر عن عجز السارد في تحريك أحداث القصة داخل القصة، وفي الحق أن كل القصص التي تضمنتها مجموعة (رجل الشرفة) وكان البطل فيها السارد نفسه، يحل فيها محل السخرية نوع من السرد الرومانسي الهادئ أو الاستدعاء الهادئ للذكريات، أو التأمل المصحوب بمعاناة صارخة أو الهلع الممزوج بخجل شديد، وهو ما يظهر في قصته المتميزة جدا والمهمة جدا في تقديري (طفلة الظلام) من مجموعة (رجل الشرفة)، وهي تـُروى على لسان المتكلم في أنه إذ كان يقود سيارته على الطريق الخارجي ليلا ظهرت على جانب من الطريق طفلة في الثالثة من عمرها، كانت مدماة ممزقة الثياب بدت بحركاتها الساذجة طالبةً لنجدة مّا، فيصيبه هلع شديد في خاطر نزل عليه مرة واحدة في أن الطفلة ليست سوى جنية تحاول أن تغريه بالوقوف لأمر مّا؛ فيبتعد تحت وطأة ضغط الخرافة التي صارت جزءًا من ثقافة حياته الاجتماعية، يمنحنا السارد في تلك اللحظات تأمل حالته في عبارات نشم منها غضبا شديدًا على نفسه مختلطا بالعجز عن فعل أي شيء: “كنت أعيش أقصى درجات الخوف فلم أقوَ على التوقف لحظتئذٍ، واصلت السير وأنا أتأملها عبر المرآة الجانبية، استدارت وبدأت بالركض خلفي رغم تناقص سرعة سيارتي، لم تملك هي القوة اللازمة للحاق بي، تعثرت وسقطت على الرمل، لم تنهض، تباطئتُ حتى توقفت تماما، لم أزح عيني عن المرآة الخلفية، رفعت يدها، وبدا أنها فعلا غير قادرة على القيام، وكنتُ غير قادر على الحركة”، لكنه يسترد روعه بعد حين، ويعود لإنقاذها، ليكتشف بينه وبين نفسه أن ظلامًا وهميًا وغير أخلاقي قد استقر في داخله، وتنتهي القصة بفعل مجازي يتلخص في أن يشتري مصباحًا كشافًا يمكـّنه من أن يرى نفسه المظلمة باستعارة فكرة الفيلسوف القديم ديوجين الكلبي في بحثه نهارًا عن الإنسان عن طريق فانوس.
    وإذا كان لي أن أقول شيئا في هذا الصدد فمن الممكن أن أقول إن ثيمة السخرية في قصصه الساخرة كانت ضربًا من استعارة مّا لهذا المصباح الكشّاف.
    في قصة ساخرة واحدة يظهر السارد بصفته أحد شخوصها وهو (الملاك الحارس)، لكننا نلاحظ أن ذلك السارد ليس سوى معلق داخلي، أو قل هو شاهد على ما يجرى وحسب، وأكبر الظن أنه كان نوعًا من تقنية سردية أيضًا، أريد منه أن يكون شاهدا فقط عما جرى لبطل القصة الصامت، أو النابح؛ إذ لم يكن سوى كلب غير مؤذٍ ، لكنه كان ساخرًا بطريقته الخاصة أو قـُلْ بنباحه، وكان ذلك سببًا في أن يتم إعدامه في مشهد تراجيدي.
    يكشف لنا تأمل شخوص الفارسي أنهم يشتملون على اعتبار عالٍ لأنفسهم، على نحو ما نجد (المعلم) في قصة (سعيد الخياط) أو(خليل) في (المستثمر) أو(الشيخ الشمسوني) في القصة التي تحمل اسمه، أو(خليف بن قويسم) في (المطوّع)، ويظهر للمتأمل أن ذلك الاعتداد كان جزءًا جوهريا في سيرورة الحبكة، واتخاذ الشخوص موقفا مّا من أمر مّا، وأكبر الظن أن ذلك المتأمل سيجد أيضًا أن أولئك الشخوص يحملون في دواخلهم قلقًا مجهولًا حائرًا، يحاول الكاتب جهده أن يدور حوله من دون أن يلج إليه، أن يسوّره كما يريد صاحبه، ليصل إلينا على هيئة تلميحات نقوم نحن بتفسيرها، من ذلك ما نجد في (ما سمعت أذان الملائكة) في طريقة عرض ثرثرة (خميس) و(جمعة) المفعمة بالندم على ما فعلاه في حياتهما؛ حين ذهب بهما الظن إلى أن القيامة قد بدأت، ولعلنا نصادف في قصصه أيضا وسط سخرية مكبوتة محايدة نوعا مّا من “هاملت”، وهو ما يظهر عليه (خليل) في (المستثمر) أثناء مراقبته السرية -التي لا سبب حقيقيٌ لها- للتاجر الهندي، وقد تلبسه قلق سريّ لا يريد لأحد أن يعرف عنه … قلق مميت ،غير مسوغ من أن التاجر الهندي سيهرب بماله بعيدا.
    وهكذا يمكن لنا أن نرى أن هذه التقنية، أعني ثيمة السخرية في قصصه تسمح لنا بسبر أغوار أحوال النفس البشرية من غير أن نتدخل بأنفسنا -أعني المؤلف وقارئيه معًا- تدخلا سافرا في وسواسها أو في مجرى الأحداث التي تقع لها، لأن تلك التقنية تدفع بنا أن نكون على مسافة من كل ما يجري، كأن ثمة عقدا بيننا نحن القراء المُجدّين- وبين المؤلف أن نرى الأحداث الكبرى في حياة أولئك الشخوص على حقيقتها بالحياد نفسه بأنها ليست سوى أحداث عابرة غاية في الألفة والاعتياد، ويمكن لها أن تقع لأي كان، بيد أن أولئك الشخوص قابلوها بسوء فهم أو بعدم قدرة على استيعابها ثم تعاملوا معها على أن مجابهتها ستهبهم ضربا من بطولة مّا قد تكون غير مفهومة وغير مسوغة، لكنها تمثل مصيرهم.
    ويمكن القول إن هدف الكتابة عند عبدالعزيز يظهر كأنه محاولة للكشف عن هواجس أولئك الشخوص وأحوالهم الداخلية في أثناء سيرورتها وفي أثناء مجابهتهم لأحداثها اليومية العادية، تلك التي يمكن أن تقع في كل دقيقة، أحداث تشبه (العطسة) التي صنعت (موت موظف) لتشيخوف، أو(سرقة معطف) على نحو ما جرى في قصة (المعطف) لجوجول التي سلف ذكرها. فهو في (حبل الخلاص) مثلًا يحدثنا كيف تتحول ثلاجة سبيل إلى كابوس ضاغط على (عويش) ووسوستها المتصلة بالنظافة عوضًا عن أن تكون حلًا لكوابيسها الليلية، وفي (المطوّع) تتحول فكرة عابرة عن إمكانية أن يكون متقاعد بسيط إمامًا يصلي بالناس في المسجد، تتحول تلك الرغبة إلى شيء يعصر روحه وينقلب به إلى أن يكون ذلك غاية وجوده، وفي قصة (ما سمعت أذان الملائكة) يكشف لنا حدث خسوف عابر للشمس عما يعتمل في داخل سكِّيرَين يتنادمان، إذ يتصوران أنه علامة القيامة؛ فيأخذهما شعور شديد بالندم لما فعلا من معاصٍ، وتأخذ أحدهما مرارة صادقة وألم عميق؛ لأنه لم يساعد أباه على نحو مرضٍ في الحياة الدنيا.
    ثم تقوم تلك القصص على بناء ضرب من المفارقة الساخرة بين ما أشرنا إليه من أحداث وما يتبعها بعد ذلك، أوما يمكن أن يكون حلّا لما انتجته تلك الأحداث، ففي (المطوع) تصطدم رغبته الشديدة في أن يكون إمامًا للمصلين في المسجد بجهله الفاضح بأمور الدين، وفي (سبيل الخلاص) تكون المفارقة قائمة على محاولة عويش إشاعة ثلاجة سبيل للناس في الوقت نفسه الذي تتمنى ألّا يشربوا منها بسبب من وسوستها فقط، وفي قصة (ما سمعت أذان الملائكة) تقوم المفارقة بين توبة السكِّيرين عن إثمهما وبين عودتهما السريعة إلى ما كانا عليه من إثمٍ بعد أن اكتشفا أن ما حدث لم يكن سوى خسوف عابر للشمس وليس أمرًا متصلا بيوم القيامة، وفي (سعيد الخياط) تقوم المفارقة بين محاولته التخلص من القرض الربوي وما ينتهي إليه من مزيد من ذلك الاقتراض الربوي، وفي (أبو عيون) يحاول شيخ المسجد ومن معه التخلص من طاقة الحسد في (الحشمير) بإقامة صلاة الجنازة عليه وهو نائم، بيد أن عين الحشمير تقع عليه فيقع في دائرة الحسد، وينتهي الأمر بأن يطلبوا من الحشمير أن يبول على الشيخ؛ ليتخلص مما أصابه من حسد، وفي (رمانة) يستعيد (خميسوه) فتاة حبه الأول، ويجري معها أحاديث غرامية ذات طبيعة خرافية تلهب قلبه عبر الهاتف، متناسيًا أن الزمن قد فعل فعله في كل شيء إلى أن تصدمه رؤيتها ويكتشف أنهما خارج زمن ذلك الحب المزيف، وفـي (النقطة) يتحول الكاتب إلى مفارقة شكلية، إذ إن أحداث القصة تظهر على هيئة نقطة، فيضطر الكاتب إلى أن يتحول إلى هامش الصفحة؛ ليسرد علينا حلم يقظة طويلًا لشخص اسمه (خليفة مبارك العبري) في إشارة إلى داخل وخارج غيرمتقابلين أو في إشارة إلى التقابل بين اللاشيء وأضغاث الأحلام.
    المفارقة واللامبالاة، وحركة الشخوص بتراجيديتها المرتبكة، ولعبة الكاتب في السماح لها بارتكاب حماقاتها، واهتمامه بكشف الخارج وكتم الداخل، فضلا عن قدرته على صنع حوار بهذه البساطة الآسرة الذي يستثمر فيه تلك البلاغة الجميلة التي تشتمل عليها اللهجة العامية -وهي صنعة لا تتوافر لأي كان- كلها كانت عناصر أساسية في تعميق ثيمة السخرية في أدب عبدالعزيز، وفي تقرير مصيره الأدبي الجميل.
    ولعل لي قبل أن اختتم هذه الورقة المتواضعة أن أنوه مرة أخرى بقصته المسماة (المستثمر)، وأن أشير إلى أنها تمثل في أعلى ظني نصًا راقيًا جدا لهذا النمط من القصة القصيرة، أعني النمط الذي ينقلب بثيمة السخرية إلى أن تكون “مصباحًا كاشفًا “لحياتنا الحقيقية، ودواخلنا المدماة، أي أن تكون ضربًا من تقنية في طريقة الكتابة لا موضوعًا لها، لكي يكون لتلك الكتابة أن تصل إلى ألمنا الداخلي الخفي على الرغم من كل هدوء خارجي… قصة (المستثمر) تمثل عندي اكتشافًا لمدى رقي أدب القصة عند عبدالعزيز الفارسي.
    مرة قال إيليا إيرنبورغ عن تشيخوف : لوكان قد امتد به العمر إلى السبعين فأية روائع كان من الممكن أن يكتب؟ …. ولي أن أعيد االكلمات نفسها وأنا استذكر عبدالعزيز الأديب والإنسان والطبيب الذي رحل عنا باكرًا…. باكرًا جدًا.





يعمل...
X