شنصنة” السرد الفكرة التي تزحزحت من هامش الكتابة إلى متنها بوعي مبكر

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • شنصنة” السرد الفكرة التي تزحزحت من هامش الكتابة إلى متنها بوعي مبكر

    • “شنصنة” السرد الفكرة التي تزحزحت من هامش الكتابة إلى متنها بوعي مبكر
    منى بنت حبراس السليمية
    سأجترح هذه المفردة، “شنصنة”، للتعبير عن الطريقة الفنيّة التي يعبّر بها الكاتب عن الموضوع الشناصي نسبة إلى “شناص”، إحدى ولايات محافظة شمال الباطنة بسلطنة عمان، مسقط رأس الكاتب العماني الراحل عبدالعزيز الفارسي (رحل في يوم الأحد 10 أبريل 2022). وبهذا المعنى تصبح “الشنصنة” تعبيرا خاصا عن إسباغ الحالة (الشناصية) على الكتابة السرديّة في مستوياتها المتعددة: الزمان، والمكان، والشخصيات، والأحداث، واللغة.
    وعلى ذلك فإن “الشنصنة” تعبير مخصوص، يرتبط لفظا بشناص وحدها. وفي وسعنا – إذا ما تأملنا الظاهرة لدى كتّاب آخرين ينتمون إلى مدن أخرى، وعمدوا إلى توظيف المكان في سردهم بالنحو الذي سنراه عند عبدالعزيز الفارسي -أن نقول “نزونة السرد” نسبة إلى مدينة نزوى، أو “مسقطة السرد” نسبة إلى مسقط، أو “سمألة” نسبة إلى سمائل، إلى آخر ما قد يغري بالبحث تحت هذا الإطار المكاني، ما لم يقف النحت اللفظي حائلا دون صياغته صياغة تستسيغها الذائقة.
    ويهمّنا أن نجيب عن سؤالين مركزيين: كيف حضرت شناص وشخصيّاتها في سرد عبدالعزيز الفارسي؟ وما سماتهما في كتاباته مما يمكن عدّه اختلافا في توظيف الأمكنة والشخصيّات عمّا قرأناه في آداب محليّة وعربيّة وغير عربيّة؟ هذان السؤالان يمهّدان طريقا أوليا لاستكشاف الرؤية الكاملة التي وَسَمَت كتابة الفارسي في مجاميعه القصصية السبع، وهي حسب تسلسل صدورها: (“جروح منفضة السجائر” 2003، “العابرون فوق شظاياهم” 2005، “مسامير” 2006، “لا يفل الحنين إلا الحنين” 2006، “وأخيرا استيقظ الدب” 2009، “الصندوق الرمادي” 2012، “رجل الشرفة؛ صياد السحب” 2016)، من دون أن نغفل أن المكان في روايته الأولى “تبكي الأرض يضحك زحل” الصادرة في 2007 (ووصلت القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية لعام 2008)، ليست سوى رسم ضمني لشناص كذلك وإن لم يأتِ ذكرُها صراحة، ولكنه مرسوم فيها وفق الرؤية التي بناها الفارسي للمكان في مجمل اشتغالاته السردية التي سبقت وتلت صدور هذه الرواية، وتتشابه شخصياتها كذلك مع الشخصيات الشناصية في قصصه كما سنبيّن بعد قليل. كما يمكن القول إن ظلال المكان الشناصي حضرت في بعض أجزاء الرواية المشتركة التي كتبها مع سليمان المعمري “شهادة وفاة كلب” الصادرة في 2016؛ على الرغم من أن المكان فيها متخيّلٌ جملة وتفصيلا.
    إذن، يلحظ قارئ قصص عبدالعزيز الفارسي على امتداد ثلاثة عشر عاما -منذ مجموعته القصصية الأولى في 2003 وحتى مجموعته السابعة في 2016 – اشتغالا مقصودا على المكان الشناصي وشخصياته مع تفاوت نسبي من مجموعة إلى أخرى، تبعا لتطور تجربته الإبداعية ودرجة نضجها الفني. وقد بات واضحا أن شناص منذ بواكير كتابته السردية كانت تلحّ عليه كمشروع سردي لا يخطئه القارئ، إذا ما نظر نظرة شمولية تستجلي مجمل إنتاجه. ونستطيع أن نصنف هذا الحضور إلى ثلاثة أشكال رئيسة كبرى:
    التوقيع: يحرص عبدالعزيز الفارسي -كحال معظم الكتّاب- على توقيع تاريخ الكتابة والمكان في نهاية كل قصة حرصا يبعث على الدهشة، وهي عادة لم تغب عن معظم قصص مجاميعه السبع1، ففي مجموعته القصصية الأولى “جروح منفضة السجائر” وقّع اسم شناص على خمس قصص من أصل 15 قصة ضمّتها المجموعة، فيما وقّع على القصص التسع الأخرى اسم مسقط، ووقّع قصة وحيدة بـ (شناص – مسقط)، وهي قصة “حيث انعطاف الذاكرة”.
    وإذا كان لنا أن نربط بين التوقيع ومضمون القصة، فسنجد أن هذه القصة، “حيث انعطاف الذاكرة”، ما هي في مضمونها إلا رحلة البطل في البحث عن صديقه سلطان ما بين صحار والبريمي مرورا بوادي الجزي، فجاء التوقيع أشبه بعبور هو الآخر ما بين شناص ومسقط. على الرغم من أن شناص لم ترد مكانا في هذه القصة أو في غيرها من قصص المجموعة، على خلاف مدن أخرى وردت صراحة كمسقط والبريمي وصحار ووادي الجزي ومسندم، فضلا عن “الخوض” التي خصها بقصة كاملة تحمل عنوان “خوض”. ولا يَخفى على القارئ البعد الدلالي للكلمة مجردة من أل التعريف. بيد أننا نعثر على شناص ضمنا في قصة “سرمدية العيد” من خلال كلمة “البلد” من دون إشارة صريحة إليها، كما جاء على لسان صديق البطل: “عيدنا هنا، في مسقط، على كل حال. لن نذهب إليهم في البلد. يحدث ذلك لأول مرة” (جروح منفضة السجائر، ص47). مع ملاحظة أن هذه القصة يطابق توقيعُها فضاءَها المكاني/ مسقط.
    وفي قصة “تلاشي الحنين .. اغتيال البنفسج”، نعثر على هذه الإشارة التي تربط المتن السردي بالتوقيع في آخرها (شناص 10-9-2001) عندما يقول السارد: “بعد أيام اتصلت بنفسج تطلب لقاءً عابرا لمدة عشر دقائق أمام مكتبة الفكر بالخوير. قطعتَ من أجلها مئات الكيلومترات مجيئا من قريتك لتصل في الموعد المحدد. بعد مضي الموعد بدقائق اتصلت لتعتذر” (جروح منفضة السجائر، ص32). بطبيعة الحال يمكن أن تكون القرية التي لم يسمّها، وتبعد عن مكتبة الفكر بالخوير مئات الكيلومترات، أية قرية من قرى عمان الكثيرة البعيدة، ولكن ما حاجة القارئ إلى تخمين احتمالات المكان بينما التوقيع مثبت في آخرها باسم شناص؟
    تهمّنا في هذا السياق ملاحظة أن عبدالعزيز الفارسي يقدّم شناص مكانا لميلاد بعض قصصه، من دون أن يذكرها في المتن السردي لهذه المجموعة، يقدمها توقيعا هامشيّا لا يقلّ أهميّة عن المتن نفسه؛ لأن القارئ بمجرد وصوله في القراءة إلى التوقيع، سيفتّش -على سبيل الاستعادة- عن القرينة المكانية المحرضة على كتابة النص السالف. سيستعيد تأثير المكان في الشخصيات والأحداث والفضاءات المكانية والزمانية وحتى اللغة، (مع الوضع في الاعتبار أن عوالم القصص الموقّعة باسم شناص ليست هي نفسها غالبا عوالم القصص الموقّعة باسم مسقط في مجموعة “جروح منفضة السجائر”).
    فإذن، يقدّم الفارسي شناص أول مرّة في مجموعته القصصية الأولى توقيعا مكانيا يتموضع ما بعد النص، بمثابة مفتاح يستقرئ ما يسبقه وفقا لمنظور شخصيات تنتمي إليه، أو وفقا لرؤية كاتبه المتحدر من المكان نفسه. في حين يصور مسقط -في النصوص الموقعة باسمها- مكانا مُرتَحَلا إليه لظروف العمل أو الدراسة. وفي هذا يمكن القول إن شناص في هذه المجموعة (قياسا إلى التوقيع وحده) تشكّل معادلا مكانيا لكل المدن البعيدة عن مسقط، التي يتخذ أبناؤها من العاصمة مكانا ثانيا لدوافع تتشابه أو تختلف.
    وفي المجموعات القصصية اللاحقة تزيد نسبة القصص الموقعة باسم شناص، فتصبح 12 قصة من أصل 15 في مجموعة “العابرون فوق شظاياهم”، ومعها يتحوّل حضور شناص المكاني من مجرد توقيع هامشي إلى حضور مركزي في المتن، لاسيما في مجاميعه القصصية: “وأخيرا استيقظ الدب”، و”الصندوق الرمادي”، وفي بعض قصص مجموعته “رجل الشرفة؛ صياد السحب”.
    على أن التوقيع ليس مجرد شاهد يساعد الكاتب على تذكر تاريخ الكتابة ومكان تشكّل نصوصه، ولكنه مرجعيّة مهمّة تفيد في تتبّع خطيّة الكتابة وسيرورتها، وتوثّق تطوّر تجربة الكاتب واكتشاف مؤثراتها، وتحيل القارئ إلى ممكنات النص الخارجية التي لا يفصح عنها منطوقه المحض. فمن خلال توقيعات عبدالعزيز الفارسي على قصص مجموعته الأولى، نكتشف الفكرة الأوليّة التي كانت تتبلور عن مستقبل مشروعه الكتابي، الفكرة التي تزحزحت مع الوقت من هامش الكتابة إلى متنها بوعي مبكر أصبح هاجسا ومنبعا لكل اشتغالاته اللاحقة كما سيأتي.
    كما تفيد تلك التوقيعات في أنها تجعل القارئ يفترض (وأقول يفترض) أن شخصيّات عبدالعزيز الفارسي لا تنفصل عن المكان الذي كُتبت فيه تلك القصص، وإن لم يرد ذكره صراحة في المتن كما هو الشأن في المجموعة الأولى (مع الانتباه إلى أن قصصا كثيرة في مجموعاته اللاحقة وُقعت في مدن غربية ولكن عوالمها كانت شناصية). وانطلاقا من النظرة الشمولية لأعماله السردية نستطيع الجزم أن جلّ شخصيّاته العمانية إنما هي شخصيّات شناصيّة بالدرجة الأساس ما لم يرد في النص شيء آخر بطبيعة الحال؛ لأن الكاتب لا يستطيع الانفصال عن مكانه الأول الذي يكتبه بوعي ودراية، حتى وهو يكتب عن شخصيّات أخرى في فضاءات مكانية جديدة عَرَفها أو لم يعرفها من قبل، فإنما يبنيها منطلقا من معرفته بمكانه الأول والشخصيّات التي عرفها فيه اختلافا أو اتفاقا. يقول الناقد التونسي محمد زرّوق: “الراوي في الخطاب السردي يحتل -في نظرنا- المركز الأساس، فهو مخرج الشخصيّات ومحدد درجة “المضمون السردي”” (أثر المؤلف في السرد، ص11)
    من الهامش إلى المتن: ابتداءً من مجموعته الثانية “العابرون فوق شظاياهم” يقدّم الفارسي شناص بؤرة مركزية تنهض عليها قصص المجموعة التي يصدّرها بنص أدبي، يمزج فيه بين الحقيقة الجغرافية والخيال التاريخي، يقول: “تقع شناص على الحدود بين سلطنة عمان ودولة الإمارات العربية المتحدة، وتطلّ على خليج عمان وبحر من الأحلام سليلة الأمنيات المسافرة. لم يشأ التاريخ لشناص أن تكون هنا، فقد اختار لها مكانا بين الجرح والفرح؛ يظللها غمام الحب والرغبات. ولكن ما حدث في الأيام الأولى من الزمان غيّر المسار كثيرا …
    روى لنا الثقات أن سيّدنا التاريخ في بداية الحياة، كان يطير حاملا كل المدن والقرى في صرّة كبيرة على ظهره، ليعبر الأرض سهولا وقفارا وجبالا وبحارا … وكلما مرّ على مكان أعجبه، ابتسم ثم هبط ليفتح الصرّة فأنزل مدينة أو قرية هناك، فصارت المدن والقرى كما هي عليه اليوم.
    وحُكي أن شناص سقطت سهوا من صرّة التاريخ، فهوت على هذه الأرض، فأوجعتْ وتوجعتْ ..
    وحيث إنه لا يلتفت إلى الوراء، ولا يصحح ما ارتكب من أخطاء، فإن سيدنا التاريخ تناسى شناص، وتناسته هي أيضا… ” (العابرون فوق شظاياهم، ص9)
    في هذا النص الفاتح لهذه المجموعة/ عتبة ولوج عوالمها القصصية، يضعنا عبدالعزيز الفارسي أمام خطوة متقدمة في مشروعه الذي أسميناه “شنصنة السرد”، يستهدف الكشف عن المنسي الجغرافي وإعادته إلى مركز العمليّة الكتابيّة، دون اعتماد على التاريخ الذي لم يلتفت ولن يفعل، بيد أن تاريخ الأمكنة تصنعه شخصيّاتها. وهذا ما عمد إليه الفارسي من خلال الفن السردي الذي اختار له شناص مكانا وشخصيات تسجّل تاريخها السردي الخاص، الذي لن تقوله كتب التاريخ أبدا.
    في المتن السردي تتعدد أشكال الحضور الشناصي كذلك، وسنبيّنها وفقا للمستويات السردية الآتية:
    الفضاء المكاني: يختار عبدالعزيز علامات مكانية مميزة تتكرر في أكثر قصصه على تعدد مجاميعه القصصية، وأولى تلك العلامات وأهمّها “مطعم ألطاف”، الذي تجاوز وجوده مكانا يقدّم الطعام والشراب، إلى ملتقى يجمع الشخصيّات الشناصية المختلفة، ومنه تنطلق الحكايات وإليه تعود. وليس ألطاف -الآسيوي صاحب المطعم- مجرد اسم عابر، ولكنه إحدى الشخصيّات التي يسند إليها الفارسي أدوارا ثانوية، التي رغم محدوديتها تُكسب النص نكهته المميّزة، كأن يقول السارد في قصة “صمام الشيخ”: “وأتى صوت جماعي من كل رواد المقهى: “أستغفر الله” متبوعا بصوت ألطاف: “أستجفر الله” (الصندوق الرمادي، ص67). وهذه الإشارة -على حيّزها الصغير- تحدث في السرد متعته المتأتية من التحولات اللفظية التي تضفيها شخصيّات مختلفة عن الشخصيّات السائدة، وتذكّر بالمتنوع والمختلف.
    ويتعدّى حضور ألطاف الموارب إلى حضور يُحدث الطرافة السردية، ففي قصة “الصندوق الرمادي” – بينما يزعم أبو الخصور أن صناديق الرادارات ما هي إلا سينما حكومية جُلبت إلى شناص تزامنا مع الاحتفالات بالعيد الوطني لتعرض صور مولانا- يلتفت أبو الخصور موجها كلامه لألطاف: “سامحنا ألطاف ما بنقدر نعزمك على السينما باكر.. تراها بس للمواطنين” (الصندوق الرمادي، ص45). ومبعث الطرافة في هذا الموقف أن عدم مواطنة ألطاف ليس مما يحتاج إلى تأكيد، ولكن ورود الجملة في سياق كهذا يدفع بالطرافة إلى مداها؛ إذ جعل الأفضلية المفترضة للمواطن على غيره مساوية لعدمها عندما يتعلق الأمر بمحض صناديق رمادية. وبمثل هذا المثال يمرر عبدالعزيز الفارسي الطرافة السردية التي تصنعها لغته وأسلوبه بلطف من دون أن يشعر المرء أنها مقصودة لذاتها، فتثير ابتسامة القارئ على الرغم من أنها في حكم الحقيقة المثبتة.
    ومن العلامات المكانية التي يحددها عبدالعزيز للمكان الشناصي، مسجد الشيخ الخصيبي بسور العبري، ومسجد “عبيد تويّر” اللذان شهدا أحداثا مثيرة لعدد من قصص مجموعاته القصصية، نذكر مثلا قصة “المطوّع”، وقصة “عيسى عدو الصليب” في مجموعة “الصندوق الرمادي”. وهناك مدرسة سعد بن أبي وقاص، وسوق شناص ودوّارها. ولأن قارئ هذه النصوص ليس مطالبا بالتأكد من وجود هذه العلامات المكانيّة على أرض الواقع في شناص، إلا أنها استطاعت تأثيث المكان في النص وفقا للإحداثيات التي أسقطها الفارسي في مخيّلة قرائه. تلك المخيّلة التي أعادت إنتاج المكان وتخيّلت أبعاده والمسافات التي تفصل بين علاماته من خلال اللغة التي بنى بها عالمه القصصي.
    الفضاء الزماني: لا يترك الفارسي الزمان في النص معطى عاما، بل يُمعن في إكسابه الصفة الشناصية بإصرار من يخشى أن ينسى القارئ أنه يقرأ نصا شناصيا مكتمل الأركان، كأن يحدد السارد زمن إصابة الجد ربيّع مثلا بالعمى في قصة “طقوس الصمت” بأنها حدثت قبل حريق شناص بأربع سنين (العابرون فوق شظاياهم، ص71). أو يصف الساردُ المغربَ بـ “المغرب الشناصي” كما في قصة “الصندوق الرمادي”. ويقول في موضع آخر من القصة نفسها مذكّرا القارئ: “تناول المغرب التالي فرشاته، وغمسها في إناء الصبغ الذي يحمله دائما، ثم لوّن بشغفه الطفولي سماء شناص باللون البرتقالي” (الصندوق الرمادي، ص45). لا يرمي الفارسي إلى افتعال زمن مغاير عن الزمن في الأماكن الأخرى العمانيّة أو غير العمانيّة، ولكنه يتّخذ من شناص مرجعا يُطلق به الجزء ويريد الكلّ. ويمكن أن نفهم هذه الآلية من خلال مثالين دالّين. فمثلا يقول السارد في قصة “رمانة” من مجموعة “الصندوق الرمادي” عن خميسوه -بعدما شاهد الحلقة الأولى من مسلسل ساهر الليل في أولى ليالي رمضان، فذكّرته لولوة بطلة المسلسل بحبيبته الأولى رمانة- يقول: “ظن بداية أنه من أوهام الشيطان، ثم حين تذكّر أن الشيطان مصفّد في الأغلال، ولن يفك الله أصفاده إلا بعد تسع وعشرين ليلة -على الأقل- في شناص، أو ثمان وعشرين ليلة في الكويت، تيقن قلبه أن هذا المسلسل رسالة خاصة موجّهة إليه وحده ليعود فيبحث عن رمانة بعد جدب الغياب” (الصندوق الرمادي، ص19). بطبيعة الحال ليس التقويم في شناص مختلفا عن التقويم في باقي عُمان، ولكنه يقدم شناص كوحدة صغيرة تعبّر عن النطاق الأوسع الذي تمثله عمان كلها. فها هو يقول بعد أسبوع من انقضاء رمضان: “كان قد مرّ أسبوع على تحرر الشياطين من أصفادها في شناص” (الصندوق الرمادي، ص21). بل إنه يتجاوز ذلك أحيانا ليجعلها تعبّر عن الكون برمته، عندما يقول السارد على لسان امرأة سليطة اللسان في قصة “عيسى عدو الصليب”: “من يوم الله صب شناص والحريم …” (الصندوق الرمادي، ص54). فالله لم يصبّ شناص وحدها دون باقي العالم والحياة والكون برمته، ولكنّ عبدالعزيز إنما يعمد إلى إزاحتها بواسطة هذه اللغة من الهامش الكبير -الذي أوقعها فيه التاريخ دون أن يلتفت أو يصحح خطأه- إلى المتن الكبير الذي يجعلها تعادل الكون كله، لتكون أولا وآخرا، مبتدأً ومُنطلقًا، تستأثر بالمنطوق الخاص لتعبّر عن الضمني العام.
    الشخصيات: أوردنا آنفا أن شخصيّات عبدالعزيز الفارسي شخصيّات شناصية، ولكنّ السؤال الذي يجدر طرحه: ما الذي يجعل شخصيّة ما في النص شخصيّة شناصية وشخصيّة أخرى غير ذلك؟ هل يكفي انتماؤها إلى المكان؟ أو تكفي معرفتها بأحداثه وتفاعلها معها؟ فهذا ألطاف ليس مواطنا، ولكن ألا يكون شناصيا بدخوله طرَفا في حكايات المكان وفاعلا فيه، بل وعارفا بحكايات أهله، وهو صاحب أهم معالمه “مطعم ألطاف”؟ والبانيان أليسوا شناصيين هم كذلك؟ ألا يقول عنهم حسن في قصة “المستثمر” من مجموعة “وأخيرا استيقظ الدب”: “البانيان في شناص من يوم إحنا صغار”(ص9). ويقول البانياني النوخذة لخليل بكامل ثقته: “نحن موجودين من زمان أبوك في شناص”(ص13). ويصفهم خليفوه بقوله: “هاذيلا عروقهم في شناص، ما يطلعوا منها لين يوم القيامة”. ويعقب حميدوه: “من يوم الله صبني والبانيان لشناص .. وشناص للبانيان” (ص20).
    سنفترض مبدئيا أن للشخصيّات الشناصية صفات ومحددات تسمها، وإلا خرجت عن كونها شناصية. ولتكن أولى تلك المحددات: الاشتراك في المكان والزمان، والحضور على الأحداث الواقعة فيهما مشاركة أو رؤية أو سماعا، (ولا يناقض هذا قولنا أن شخصيّات عبدالعزيز شناصية حتى من دون تصريح باسم المكان وزمانه وأحداثه الخاصة). ولكن قد ينقدح سؤال آخر: ألا يمكن أن تكون الشخصيّة ذاتها هنا، هي نفسها في مكان آخر؟ أليست شخصيّات عبدالعزيز قابلة للحياة في غير شناص وخارج زمانها أيضا، بل وتأتي بالأفعال نفسها وتجترح الحكايات ذاتها كذلك؟ ألا يشبه ألطاف شناص، أنور صميم في صحم2، أو موهن في سمائل3، أو جوبال في بهلا. ألا توجد لأبي الهويل نسخة أو أكثر في مكان ما هنا أو هناك؟ وأبو الخصور، وعيسى النكّاب، وعبيد بن راشد، وخميسوه، وخليف بن قويسم، وعلوان الشرنشح والآخرين؟ والبانيان، أليسوا هم ذاتهم البانيان في كل مكان بهاجسهم التجاري التوسعي، في مسقط كما في شناص وصحار وغيرها؟
    وإجابة عن هذه التساؤلات، سأقترح أن الشخصيّة الشناصية في النص ليست هي نفسها الشخصيّة الشناصية في الواقع بالضرورة، وإن كان عبدالعزيز الفارسي يمتح شخصيّاته أساسا من الواقع الشناصي الذي ينتمي إليه -كما صرّح غير مرة في حواراته الصحفيّة (راجع مثلا حواره مع سليمان المعمري في مجلة نزوى عدد أكتوبر 2008)- وذلك لأن الفن في محاكاته للواقع لا ينقله كما هو، وإنما يخضعه لشروطه الخاصة التي تُغيّر من طبيعة الأشياء وصفاتها، فتخلق منها منتجا مشابها لا مطابقا. وبذلك فإن الشخصيّة الشناصية في سرد عبدالعزيز الفارسي تنتمي إلى النص الذي تخلّقت فيه، وهي به ألصق من انتمائها إلى الواقع الحقيقي. وبناء عليه سنتخذ من النص مرجع انتماء الشخصيّات الأول، وإليه نحتكم عند بحثنا عن سمات الشخصيّة الشناصية؛ ومرد ذلك إلى أن هذه الشخصيّات نفسها ستختلف لو أن كاتبا آخر غير عبدالعزيز الفارسي هو من استلها من الواقع ليرسمها عبر الكتابة السردية، وإن كان منتميا إلى شناص هو الآخر. وسنكتشف مجددا سمات أخرى لشخصيّات يُفترض أنها تنتمي للمكان نفسه، وربما تملك حكايات مشابهة.
    وبناء على ما سبق، فإن ما يحدد الشخصيّة الشناصية في سرد عبدالعزيز الفارسي بالدرجة الأساس هو أسلوبه هو ولغته؛ لأنها صنيعتهما، ولا توجد خارجهما إلا بالقدر الذي مكّنه من التقاط صورتها الأولية الخام قبل أن يعيد تشكيلها وفقا لرؤيته وأسلوبه الخاصّين، ولهذا فهي لا تنفصل عن الفضاء الذي يخلقه عبر اللغة. فكيف بدت إذن الشخصيّات الشناصية عبر مرآة عبدالعزيز الفارسي؟ والإجابة عن هذا السؤال ستفترض قدرتنا على التعرف على شخصيّات الفارسي متى ما صادفتنا في نص سردي حتى لو لم يكن ممهورا باسمه. تلك هي البصمة السرديّة الخاصة التي أوجدها عبدالعزيز الفارسي في شخصيّاته الشناصية.
    يميز الشخصيّة الشناصية في سرد عبدالعزيز الفارسي قدرتها على صناعة النكتة من دون أن تقصدها لذاتها، وإتيانها الأفعال المخالفة للمنطق رغم مألوفيتها في الحياة، وامتلاكها لسرعة البديهة لا من أجل إقامة الحجة، وإنما لصنع المفارقة التي تنبش في اليومي لتخرجه على غير اعتياديته. وهي شخصيّات فضوليّة مدفوعة لممارسة الحياة الاجتماعية لتغذية فضولها أكثر مما يدفعها الواجب الاجتماعي، وساذجة إلى حد إدراكها لسذاجتها ولكن من دون رغبةٍ في أن تكون غير ما هي عليه، وخبيرة بعيوب غيرها ولكنها تقرّه بعيوبه وتمحضه المكانة التي يرى نفسه فيها، وجريئة بنحو صادم يتجاوز التلميح إلى أقصى ممكنات التصريح. وهي في كل ذلك شخصيّات طبيعية لا يفسد من طبيعيّتها شيء مما سبق، وحقيقيّة إلى الحد الذي يجعل القارئ يتساءل كيف تسللت بهذه الخفة إلى الأدب من دون أن تخدشها شفافية الصدق. ويميزها أخيرا: أنها شخصيّات تعرف كيف تسكن في ذاكرة القارئ فلا يصعب عليه أن يراها في الواقع. وما كان لهذه السمات مجتمعة أن توجد بمعزل عن أسلوب عبدالعزيز الفارسي ولغته، فبها تشكّلت من لحم ودم، ومنها بُنيت حكاياتها، وبأسلوبه الساخر كانت سخريتها من واقعها ومجرياته.
    اللغة والحوار: إذا كانت لغة عبدالعزيز الفارسي قد تخلّصت من حمولتها الشعرية بتقدم تجربته السرديّة، وتطوّرت صياغته للجملة البسيطة لاسيما في مجاميعه المتأخرة، فهو في الآن نفسه قد نحا بلغة الحوار إلى استعمال الدارج المحكي، موظفا لهجة أهل شناص وشمال الباطنة عموما. ونجد هذا الاستعمال بشكل جليّ في مجاميعه الثلاث المتأخرة: “وأخيرا استيقظ الدب”، و”الصندوق الرمادي”، و”رجل الشرفة؛ صياد السحب”. وهو ملمح أساس من ملامح مشروعه الذي أسميناه “شنصنة السرد”.
    في قصة “أبو عيون” مثلا من مجموعته “وأخيرا استيقظ الدب”، تطالعنا صفحات كاملة تسردها شخصيّات القصة بلهجتها الشناصية: شيخوه، والحشمير، والشيخ عبدالله. ولا يتدخل السارد فيها إلا بالقدر الذي يضبط إيقاع النقلات ويضيف بعض الإيضاحات التي لا بد منها لتماسك بناء النص. وتعكس هذه القصة أثر استخدام اللهجة الدراجة في توطين النص في المكان بما يجعله شناصيا. وحتى يتخيله المرء في مكان آخر يلزمه إعمال لهجة أخرى تخرجه من شناصيته.
    مثال آخر، في قصة “صمام الشيخ” من مجموعته “الصندوق الرمادي” -التي تشترك معظم شخصيّات القصة الكثيرة في حواراتها- يوظف المحكي الدارج فيرفع من درجة طرافة النص وخفّة ظله حتى تكاد تُسمع معها قهقهة القارئ. نقرأ عبيد بن راشد يصف سفره إلى ألمانيا مرافقا الشيخ في رحلة العلاج، يقول: “الله لو تشوفوا ألمانيا. كلها مرسيديسات. وين ما تشوف تلقى مرسيدس قدامك. والدنيا خضرا.. أما الحريم ما عليهن كلام.. شو البياض.. كأنهن قطن. والله العظيم أبيض عن القطن حتى. وطيبات.. ومرحبانيات… كل يوم تعزمني وحدة وتقول “تعال بنتهايل شوي”.. وأنا والله ما قدرت أترك الشيخ بروحه في المستشفى.. قلت لهن: “برجع لكن يوم بيصحّ الشيخ” … ويوم صحّ الشيخ ركبنا الطيّارة.. مستعجل الله يهديه.. ما يريدكم تظلوا بلا شيخ.. يخاف عليكم تتبهدلوا. لكن الشيخ وعدني نروح نزورهن كلهن وقت المراجعة بعد ست شهور.. وقال بيشلّ لهن رطب بعد” (الصندوق الرمادي، 65). في هذا النموذج لا يقدم الفارسي لهجة شناصية وحسب، ولكنه يقدم الشخصيّة بتكوينها النفسي والثقافي، روحها وحيويتها، كذبها وصدقها، يفعل ذلك في أسطر قليلة من غير حاجة إلى أن يقول في وصفها كلاما كثيرا.
    بالإضافة إلى ذلك، تنهض لغة السرد الفصيحة إلى جوار لهجة الحوار المحكية في انسجام تتناغم فيه روح القصة، فلا تنفصل فصاحة السارد عن طرافة حوار الشخصيّات، بل تلتقي كلها في مقام واحد محققا إحدى أهم السمات الأسلوبية التي تميّز كتابات عبدالعزيز الفارسي.
    المتن هامشا: رأينا كيف زحزح عبدالعزيز الفارسي شناص من الهامش الواقعي والجغرافي إلى المتن الكتابي، ولكنه إلى جوار ذلك يعمد أحيانا إلى إحلال المتن محل الهامش؛ ليس تراجعا، وإنما لأن الهامش في الكتابة لا يقل شأنا عن المتن، بل يفوقه أهمية؛ فمن دونه يصبح المتن ناقصا وغامضا، بل مشوبا بثغرات لا تُسد، ولا يتحقق له الاكتمال والوضوح إلا بتلك الإحالات في الهامش. ولكن الفارسي يتجاوز مجرد حاجة المتن إلى الإيضاحات؛ ليجعل من الهامش نصا قائما بذاته، عبر نسج حكايات مكتملة تؤدي دورا يبدو مستقلا في مساحة لا يتسع لها المتن، ولكنها في الواقع تشكل اللبنة المفقودة التي بدونها يتهاوى جدار السرد. مثال ذلك في مجموعتيه “الصندوق الرمادي”، و”رجل الشرفة؛ صياد السحب”، حيث نقرأ حكايات بعض الشخصيّات وقد كُتبت في الهامش؛ ففي قصة “الصندوق الرمادي” يورد حكاية أبو الخصور(ص38) وحكاية أبو الهويل (ص41) في هامشين كبيرين. فعل ذلك لأن خط تدفق السرد في المتن سيَفقد اتصاله لو أن السارد توقف ليسرد حكايات تبدو ثانوية. ولكن هل سيفقد السرد اتصاله حقا؟ وهل هي حكايات ثانوية بحيث لم تستحق مساحة في المتن؟ أليست حكاية أبو الخصور ودراجته، وزعمه الدراية بالهندسة إلى حدّ الاستعانة بخبرته لإصلاح طائرة تعطلت في الجو، ثم قراره العودة إلى مسقط قبل نزول الطائرة في تايلاند، وقد أصلحها، مما يصعب سرده في المتن؟ وأليست حكاية أبو الهويل، من الأهمية بحيث جرى استدعاؤها في قصة أخرى -قصة “صمام الشيخ”- بصفته (أي أبو الهويل) الوحيد القادر على قراءة تقرير علاج الشيخ في ألمانيا من بين الموجودين في مطعم ألطاف، وقد اكتسب قدرته هذه من مواظبته المخلصة على قراءة جميع أعداد جريدة عُمان منذ منتصف السبعينيات، وهي حكاية أخبرنا بها هامش في قصة سابقة، وهي قصة “الصندوق الرمادي”؟
    وتفسيرنا لذلك أن الكتابة السردية تستثمر موضوعات الهامش، ليس على مستوى المضمون وحسب، ولكن على مستوى الشكل الكتابي كذلك. بل إن موافقة المضمون للشكل الكتابي تعدّ واحدة من ضرورات العمليّة الإبداعيّة. وقد استثمر الفارسي في الشكل الكتابي ممكنات القول، ووزعها في مساحته الكتابية توزيعا جديدا يبادل بين المركز والهامش، ولكن برؤية تجعل الهامش لا يقل مركزية عن المتن، محققا بذلك وحدة الرؤية السردية في تخليق عوالمه الشناصية، فشخصيّاته المتكررة تنهض بمأمورية المساندة في حفظ توازن التوزيع. ولنا في قصة “النقطة”، ثاني قصص مجموعته الأخيرة “رجل الشرفة؛ صياد السحب” نموذج تجدر مناقشته على أكثر من صعيد:
    عنوان القصة مثل متنها: “النقطة”، لا غير. ثم ينفتح هامش طويل يمتد لأربع صفحات يسرد قصة خليفة مبارك العبري، الفتى الذي حلم أنه نال جائزة نوبل في الطب لاختراعه “كاميرا عمان” في سنة 2036، الكاميرا التي باستطاعتها أن تجري تحاليل الدم من دون أن تسيل نقطة دم واحدة. بدأت القصة بنقطة دم، وانتهت بها من غير أن يكون للحلم تحققٌ في الواقع. كان الحلم هامشا إزاء واقع نقطة الدم التي بقيت شاخصة في دشداشته مقاوِمةً كل مساحيق الغسيل، وأعادت الفتى من رحلة أحلامه بعدما سافرت به من سور العبري في شناص إلى مسقط ثم لندن ومنها إلى هيوستن، ثم إلى لندن ومسقط ليعود من حيث بدأ في سور العبري الشناصية.
    لا متن في هذا النص باستثناء نقطة صغيرة، ولكن القصة برمتها تسكن في الهامش الذي استأثر بمساحة الكتابة كلها هذه المرة/ صفحات كاملة، على خلاف المعروف بأن يكون موضع الهامش في أسفل الصفحة. وبقي الخط الفاصل بين المتن والهامش يسبح في أعلى الصفحة لا يفصل شيئا إلا بقدر ما يحفظ للمتن اسمه، وللهامش حدوده. ولكنه فاصل هش بلا قيمة، وأصبح باستمرار القراءة في حكم غير المرئي وقد تعطلت وظيفته، فاندغم الهامش في المتن وأصبحا شيئا واحدا في انتصار شكلي للهامش الذي غدا متنًا، ولكنه من الناحية المضمونية هو المتن نفسه ولا شيء سواه.
    ***
    إذن، ثلاثة أشكال وظّف بها عبدالعزيز الفارسي الحضور الشناصي في أعماله السردية: التوقيع، ومن الهامش إلى المتن، والمتن هامشا. وأدرجناها جميعا بتفصيلات معالجتنا لها تحت ما أسميناه “شنصنة السرد”. وحريّ بالقول إنها ليست أشكالا نهائية، لاسيّما أن الحالة الشناصية في السرد ارتبطت بالفارسي أكثر مما ارتبطت بكاتب آخر، سواء من شناص أو غيرها على مستوى الكتابة الإبداعية العمانية. وفي هذا مجال واسع لإعادة قراءة المشروع وفق رؤى مغايرة تستخلص السمات التي ميّزت سرد عبدالعزيز الفارسي ومنحته علامتها الميزة





يعمل...
X