- أعمال حسين عبيد.. أثر مفتوح
لماذا علينا أن نبحث في أعالي «سماء» جبال «الأطلس» وفي أقاصي «صحاري» الشرق والغرب، وفي أغاوير «بحار العرب»، عن «زاوية» هنا وهناك حيث يجتمع مجموعة من المتصوفة ليغوصوا ويتساموا في ثنائية الاتصال/والانفصال.. الجسد/والروح.. متعالين على الذات وشهواتها.. مرتفعين إلى سماء الرؤيا/الرؤية والحس والتذوق.. إلى الانسلاخ من الجسد إلى «الروح».. لماذا إذن كلّ هذا السبر/ الرحيل/ السفر/ الابتعاد، ونحن نملك بقوة التلقي/المشاهدة، كل حق القوة في النظر/السمو إلى اللون المسكوب والذائب في المربع الأيقوني للوحة التشكيلية، المربع الدائم الحضور شكلا للوحة، عند الفنان التشكيلي حسين عبيد.. فلماذا إذن..؟
حسين عبيد متصوف هو باللون.. وفنان بفطرة الصباغة.. والقادم من مدارس الفن العليا.. ومبدع داخل حقل التجريب «الحداثي» في بعده التشكيلي..
السماء.. الصحراء.. البحر.. التصوف.. التشكيل.. اللون.. الروح.. الحداثة.. مفاهيم لا يسعفنا تسريح اللغة في شرحها ولا الخوض فيها.. غير أن النظر إلى اللوحة وصياغاتها عند هذا الفنان.. يكفيك لإدراكها تلقائيا.. بدون الحاجة لمعاجم عافٍى عليها الزمن لتحديد دلاليات اللون والشكل والرمز.. كما اللصق والكولاج والمحو والحذف.. والإخفاء/والإبداء.. هذه الثُنائيات والتَعَدّدِيات.. باديةِ الوضوحِ في معالِم ورتوشات اللون داخل عمل حسين عبيد.. فنان هو متعدد المهارات كما الاشتغال.. والقادم من محاذاة البحر.. بحر العرب كما التشكيل هو.. لا تكفيه التيمة الواحدة أو الأسلوب المُنفرد..
إنك وأنت تتوغل في تعرجات اللون وتكسراته، وماسكٌ أنت بقوة النظر بالمترابطات داخل العمل الواحد لديه.. تجد نفسك أنت المتلقي، أمام عمل متكامل متعدد الدلالات والاشتغال.. عبر تلاعب باذخ وماكر بآليات الإبداع، من قبل صديقنا الفنان.. المكر هنا شبيه بادعاء الموت عند الذئاب.. وأليس موت الفنان/الكاتب/المبدع.. عرسٌ للقارئ/المشاهد/المتلقي.. كما استوحى ذات وحي شعري صديقنا الشاعر عبدالله زريقة.. الموت هنا انتهاء من اللوحة والمُنجز.. أما المكر والهروب من الموت.. فهو عبر جعل كل لوحة عنده، تمهيداً لما يمكن أن تتلقاه في لوحة تليها.. وسيلته الداهية والفنية، للارتباط الدائم مع الآخر.. الخارج عن ذات الفنان.. وهو كذلك دائم الحصول..
اللوحة عند حسين عبيد قصيدة نثر باردة وغاصة في اليومي وتراتبياته.. قصيدة من زمن الحساسية الجديدة.. لا هي «مع» ولا «ضد».. إنها هي هي.. ولا شيء غير الصباغة.. وطفلٍ ما لا يكبر داخلها..
التصوف هو إذن؟
لا شيء غير ذلك..
قد يتبادر إليك، في غير تمعنِ وإدراك.. سؤال: ما دخل التصوف هنا؟ سؤال لا براءة له.. فما عليك سوى النظر (كَمْ أعدنا تكرار هذه الكلمة، هنا، غير أنها صلة الوصل بين المُنجز والمتلقي).. النظر إلى اللون الأزرق. ذلك اللون الرامز إلى السمو والتعالي والعلو والارتفاع بالروح خروجا من الجسد الكابس لها.. الخروج نحو التحرر في الرؤية. ومن التجسيد/ التحديد المسبق إلى «استحالة التحديد».. إلى الهلامي والفوضوي الصعب اللمس والأسر.. وهنا تكمن تلك السلطة التي يملكها الفنان.. السلطة المتيحة له العبور من المعاصر إلى الحداثي ومنه إلى ما بعد الحداثي.. عبور يحتاج لحسن اشتغال وتطلع ركيز في متجددات وأفق الفعل التشكيلي..
« إن ما نقوم به عادة من تمييز بين الفن «الحديث» والفن «المعاصر» يظل مثار غموض. فأين يبدأ الفن الحديث؟ هل يبدأ مع الانطباعية؟ أم مع التجريدية؟ وأي تجريدية نعني؟ يقال بأن الفن المعاصر قد انبثق في الخمسينيات بعد حرب بالغة الضراوة، باعتباره بالتأكيد نظرة جديدة على عالم منهار ويعاني من التقلبات. إن هذا التقطيع التاريخي أمر لا يقبل النكران؛ بيد أنه بتمركزه حول التجربة الأوروبية والأمريكية الشمالية، لا يقدم نظرة مكتملة عن ابتكار الحداثة والمستقبل في دوائر حضارية أخرى. إن هذا يعني بأننا نسعى إلى التفكير في الزمن والفضاء في أبعادهما المتعددة المركز، أي في تاريخهما وجغرافيتهما وفنهما متداخلةً ومجتمعةً. فبعد أن تكون الخصائص الكبرى لحضارة معينة قد مُنحت قيمتها الحقة، آنذاك يمكننا مقارنتها بحضارات أخرى، وإبراز القيمة المتبادلة للحضارات الفاعلة في مسألة الفن، وتماثلاتها وأصالتها، وحوارها أيضا. فالمقارنة تأتي بالتمييز. تلك هي مقاربتنا في هذا البحث.
حين استعلن «الفن العربي الإسلامي» في الحداثة كان قد اكتسب، من زمن، مهارات وموروثا غدت كلاسيكية. وإذا كان لنا أن نحّدد الخصائص المميزة لهذا الفن الكلاسيكي، فإننا سنجد أنه موسوم بالمزيّات التالية: استقلال اللون، وصفاء الأشكال، وهندسة «مطلقة» (حسب عبارة مفعمة بالإعجاب للوكوربيزييه)، وقوة الزّخرفي سواءً في العمارة أو التوريق أو الزِّواقة، أو المنمنمات والخط والفنون والحرف الاستعمالية بتنوع موادها، من حجر ومعادن ونحاس وجلد وورق وحرير… الخ. إنها فضاءات عديدة للنظر والمعاينة، يعاد نسخها من قرن لآخر تبعاً لصيغ تتميز بهذا القدر أو ذاك من الثبات والتغير. ومن ثمة، فهي وفرة من العلامة والتآليف لا ينقصها الجمال ولا تخلو من قوة غامضة محيرة.» (الناقد عبد الكريم الخطيبي- الفن العربي المعاصر)..
التنوع من حيث الاشتغال وأدواته ومواده هو الفعل الطاغي على العمل/الفعل التشكيلي عند حسن عبيد.. إنك لتلمس مواد الأرض السطحية منها والعميقة الصعب الوصول إليها، (التراب.. الحجر.. النحاس.. المعدن) داخل المنجز الواحد، في فنية بليغة الحس ومزهرة الإنتاج..
اشتغال واشتعال منتِجٌ، هو، للوحات تتناسل في خيمة الحداثة لتلد رموزا، دلالات، صباغات، منجزات فنية وأشكال تلوذ، عبر ثنائية القطيعة/والاتصال، إلى برج الما بعد الحداثة.. ذلك البرج العتيد والهش في آن.. الذي جعل لنفسه أسواراً عالية.. من مفاهيم تبتعد وتتقاطع مع الماضي.. في تجاذبات غامضة.. يoiصعب إدراكها إلا من خلال بحثٍ وفهمٍ ركيز..
الحداثة… ما بعد الحداثة:
رومانسية/ رمزية… باتافيزيقا/ دادية.
غرض… تلاعب.
توليف… نقيض
مركزية… تشتيت.
حضور… غياب.
بناء هرمي… فوضى.
(….).
مفاهيم وغيرها سبق وحُدّدَت من قبل في كتب عدة – ما بعد الحداثة-، نحن، هنا، لا نسعى لإعادة كتابتها.. لكنها مفاهيم تفرض نفسها فرض النظر والوجود في أعمال حسين عبيد.. ذلك الفنان القادم من فيافي عُمان.. على ظهر هودج الحداثة/ والما بعد الحداثة.
غير أنه الما بعد الحداثة هي حداثة ثانية، إنها استمرارية وصيرورة.. تحوّل.. وتحويل.. وارتباط أيضا، مع الماضي: (الحداثة.. المعاصرة.. التجديد.. النهضة).. فإن كانت تعني في ركن واسع منها القطيعة.. من جهة.. فهي تحويل وتلوين (وكم يهمنا اللون هنا) وإدماج للماضي (المنجز لا الفعل والطريقة) في مخاضها المتجدد.. وفي صيرورتها الدائمة..
عودةً لفناننا، حسين عبيد.. الذي اختار لفضاء/ مكان «السرد» داخل/ في تَنيات اللوحة أن يكون هو البحر.. ولا شيء غير ذلك.. كما الجدار في أعماله الأخيرة.. «السرد» هنا رسائل الفنان في اللوحة.
البحر أم الجدار..؟
أيهما أكثر اتساعا في الأفق..؟
لا هذا ولا ذاك.. لا أفق هنا إلا أفق الاشتغال عند الفنان.. أما البحر فله أن يكون منبع حياوات عدة داخل اللوحة.. حياوات تأخذ أشكال «نساء»/ «جسد» تارة و»طيور» تارة أخرى.. كأنه راغب في التحليق عاليا.. خارج دواليب والجب المظلم للجسد الإنساني المحدود القوى والأفق.. إنه تحليق حر.. كنسر يصعب ترويضه..
أما الجدار فله أن يأخذ اللون الأصفر للنحاس.. واللون الأزرق للسماء.. السماء أفق التحليق..
أو متخذا هو – أي الجدار- اللون الأسود، ذلك اللون الدائم الحضور في جل أعماله.. لنتساءل ما الغاية منه؟ لتجيبنا أجوبة ما بعد الحداثة.. لا غاية من اللون أو شكل إلا ما أنت ناظر أليه..
الجدار.. السند الأول لأول عملية التعبير عرفها الكائن (الكهوف).. الجدار.. الحد/ الفاصل بين طرف وآخر.. (جدار برلين.. جدار القدس).. الجدار.. اللوحة الضخمة التي تَنقش عليها الحضارة وجودها الدائم (الحضارات البابلية.. الإسلامية.. الآشورية.. المايا.. الفرعونية…).. الجدار كتاب تاريخ عمومي ومجاني.. صلة وصل أبدية بين الماضي والحاضر والمستقبل.. بوابة زمن للقاء الأجداد.. وذاكرة صلبة لتخزين جمالياتنا والذاكرتنا الحضارية.. الجدار.. الوثيقة الأولى التي كُتبها عليها أول قانون (حمورابي).. الجدار الجريدة الأولى..
يقال عادة – دون دراية منا بأصل المصطلح – بأن بلادا ما يمتلك جدارا.. أي بمعنى امتلاكه خصوصية الفن التشكيلي..
الجدار السند الحامل للهوية الفنية للحضارة، إذن، وطرفٌ عاقلٌ في النزاعات السياسية.. ولوحة ضخمة ننقش عليها: وجودنا.. أفكارنا.. فلسفتنا.. آلهتنا.. تاريخنا..
إنه حضورنا الدائم في الحياة.. غير لا حياة له – أي الجدار- دونما تلك اللمسة الفنية.. إنه جماد لا حياة فيه.. بلا نفخةٍ من روح الفنان.. حسين عبيد الذي ينفخ ما شاء من فن ورموز وصباغات على جدارياته/ لوحاته القماشية.. ليهبها الحياة الدائمة في شرايين اللون.. فكما الجدار يختلف شكلاً وطولاً ونقشاً وجمالياتٍ ورموزاً.. من حضارة إلى أخرى (ولو كانت متجاورة ومتقاربة زمنيا)، أيضا لوحات هذا الفنان تختلف وتتنوع وتتمايز.. عن بعضها البعض.. في استعراض باذخِ التزويق واللون..
أما عن الجدار – تشكيلا- في الثقافة العربية والإسلامية فله بعدين أساسيين.. الأول في جماليات الخط العربي (المنقوش عليه).. انطلاقا من استعماله من قبل أصدقائنا التشكيليين العراقيين في أواسط القرن العشرين.. غير أن الترجيح الأدق يعود لقرون خلت، بعدما خط ذلك المتصوف القادم من بلاد الفرس، شيخ العارفين البسطامي، الذي جمع في كتابٍ له عن جماليات وتنوع الخط العربي والفارسي.. أما البعد الثاني فيتمثل عبر جماليات الواجهات المعمارية، للدور والقلاع العربية، وكذا الحصون.. فالمعمار والبنى الإسلامية زاخرة بالتنوع الجمالي، من حيث أشكال النباتات والزخرفة القرآنية على الجدران.. فنحالُ إذن، بشكل أو بآخر، للجدار الآشوري والبابلي والفينيقي… إلخ. كما جدران الكهوف.. وبالتالي تتشكل لنا تلك الرؤية الجمالية التي تربط كل الحضارات باختلاف أزمنتها وأمكنتها ومعتقداتها.. إنها الرؤية الفنية الإنسانية للحياة.. وهي كذلك..
فماذا عن ارتباط الفنان الشخصي بالجدار؟ عن هذا السؤال أجابنا حسين عبيد، ذات دردشة خفيفة الظل، بحب صائبا للب المعنى.. «ارتباطي الشخصي بالجدار أتاح لي المجال في تتبع الأثر وقراءته بشكل متعمق.. لاستفراغ الشحنات الداخلية على مساحة تستوعب كل القرائن والجماليات..».
لا جماليات هنا، إلا جماليات اللوحة لديه، لتصير بذلك « أثرا مفتوحا» إذن.. هي أعمال حسين عبيد..——————عزالدين بوركة