الشك عند ابي العلاء المعري

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الشك عند ابي العلاء المعري


    ]

    الشك عند ابي العلاء المعري
    ترك أبو العلاء المعري أكثرَ من نجمٍ ساطعٍ بهيّ في سماء الثقافة العربية، من تلك النجوم واحدٌ يستحقُّ التوقفَ عنده، هو شكُّه المتقد، وقد سبق أبو العلاء إلى هذا الأمر المعياري الهام الفرنسي رنييه ديكارت بقرون! أقول منذ البداية: عندما نتكلم عن الشك عند أبي العلاء، فليس الأمر متجهًا إلى المقدَّسات، ومخصصًا بها، لكنه شكٌّ ذو صفة شمولية يطول كلَّ ما رآه شيخ المعرة، وما عرفه. ومعنى الشك أن لا يقف العقل موقفًا تسليميًا من مجمل المفاهيم المتوارثة والمعروفة، بل يعمد إلى الشك في صحتها، والتدقيقِ في جدواها ونفعِها، فإذا ثبتت إيجابيتُها أخذ بها، وإلا قام برميها في مقبرة الأفكار الميتة. هذه القضية الكبيرة المعيارية عند أبي العلاء سأتحدث عنها في نقاط سريعة:
    * كان المعري عقلًا كبيرًا، ومن صفات العقل الكبير السؤال، والتقصي، وعدمُ النوم في أحضان المفاهيم الشائعة، حتى وإنْ رفعَها الناس عاليًا، وعدُّوها عظيمةً، وأخذوا جيلًا بعد جيل يربُّون عليها أطفالهم.
    * الأباطيل وأشباه الأباطيل التي جعلها الناس بمنزلة اليقينيات، لا تثمر فكرًا، بل رضوخًا، وقد تكون إحدى أكبر مصائب الفكر العربي في تخلِّيه عن مواجهة الأباطيل مواجهةً حقيقية حتى استفحلتْ، وانهزمت الحقيقة. يقول المعري:
    في كل جيلٍ أباطيلٌ يُدانُ بها/
    فهل تفرَّدَ يومًا بالهدى جيلُ؟
    * يستطيع الفيلسوف ورجلُ الفكر الشامخ عمومًا أن يختار لنفسه نقطةَ نظرٍ خارج اليقينيات تلك، ويراها من هناك كما ترى البيتَ رؤيةً كُلِّيةً من خارجه بعد أن عرفتَ داخله. المسافةُ بيننا وبين اليقينيات المذكورة أو مُنتَجات الفكر السابقة هي مسافةُ تأمُّل، وهناك كان أبو العلاء.
    * الشكُّ نوعان:
    1- شكٌّ سلبي: أساسه الهوى، وأحيانًا سوءُ الظن بكل شيء، وهذه الحالة قريبةٌ من المرض النفسي.
    2- شكٌّ إيجابي: أساسه الشغفُ بالمعرفة، والرغبةُ في بلوغ الحقيقة، لذا يقوم صاحبه باستقراء معروضات الواقع من الأفكار، والعادات، والقيم، والعقائد لتمحيصها، فهو أداةُ استبصار، واكتشاف، وعِلم، ومن هذا النوع كان الشك العلائي.
    * لعل تميُّزَ هذا الشاعر الفيلسوف في هذه الناحية يعود إلى قوة ملكته العقلية، وإلى مصابه الكبير في جسمه/ عينيه بالتحديد، وإلى موقع المعرة الجغرافي، فهي ممر قوافل وممر أفكار، وموقعها في شمال سوريا، وشمال الدولة العربية الإسلامية يومئذٍ يعطيها موقعَ الرأس، والرأس يجب أن يفكر.
    * كان لأبي العلاء شعاعان، نظرَ من خلالهما إلى الأشياء والكونِ من حوله، هما: شعاعُ عقله، وشعاعُ شاعريته التي يقف من خلفها قلبٌ رهيف، وهكذا بثنائية النُّور هذه.. نورِ عقله النافذ، ونورِ قلبه الوضيء استطاع أن يتخطَّى قشــورَ الأشياء إلى جوهرها.
    * شكَّ أبو العلاء في كل النُّظم السائدة، حتى عند البشرية جمعاء، ورفضَ كلَّ ما يتصل بالقسوة، والظلم، والعَداء، والأنانية رفضًا قاطعًا، وترجمَ شكَّه ورفضَه إلى موقف صريح هو اعتزال الناس.
    * اعترضَ على المألوف الراسخ حتى في الطعام، فحرَّمَ على نفسه أكلَ الحيوان، واكتفى بالنبات، وانسجامًا مع ذلك استفظع الصيد من البحر والبر:
    ولا تأكلَنْ ما أخرجَ البحرُ ظالمًا/
    ولا تبغِ قوتًا من غريض الذبائحِ
    ولا تفجعنَّ الطيرَ، وهي غوافلٌ/
    بما وضعتْ، فالظلمُ شرُّ القبائحِ
    * اعترضَ على الحكام، وفضحَ طواياهم العامرةَ بالفساد:
    وأميركمْ نال الإمارةَ بالخنا/
    وتقيُّكمْ بصلاته يتصيَّدُ
    * اعترضَ على العبادات المزيفة: الشطر الثاني من البيت السابق: (وتقيُّكمْ بصلاته يتصيَّدُ)، وأطلقَ صيحةً مدوية ضد المنابر التي تتاجر بالدَّجل:
    كَذِبٌ يقال على المنابر دائمًا/
    أفلا يميدُ بما يقالُ المنبرُ؟!
    ودعا إلى عدم الاستماع لمن تلاعبوا بالمقدَّس، وجعلوه بابًا لاصطياد الدراهم:
    فلا تطيعَنَّ قومًا ما ديانتُهم/
    إلا احتيالٌ على أخذِ الأتاواتِ
    * اعترضَ حتى على الإنجاب، وعدَّهُ جنايةً في زمان نخرتْ فيه الأمراض جسدَ الحياة، وفسدَ دمُها، وكلُّ ما فيها:
    هذا جناهُ أبي عليَّ/
    وما جنيتُ على أحدْ
    * اشتدَّ رفضه للمفاسد المستشرية بعد أن سبقَ له الشك فيها رغم ظاهرها الذي قد يكون برَّاقًا، ثم يئس من الناس يأسًا حادًا، فتمنى أن يُبعثَ يوم القيامة وحدَهُ لا بينهم!
    * آلمَهُ كثيرًا مرور البشر بمحنتين كبيرتين مروِّعتين هما: محنةُ الحياة المترعة حتى حافتها بالمرارات، والتي تنتهي بتجربة الموت المفزعة، ومحنةُ البعث والحساب، فرأى أن الإنسان بدلًا من تقريع الإرادة العليا له يستحقُّ الإشفاقَ عليه، فهو بالعدم أسعد حالًا، وهو في غنى عن هذه وتلك:
    ونهيتَ عن قتلِ النفوسِ تعمُّدًا/
    وبعثتَ أنتَ لقتلها مَلَكينِ!
    وأشرتَ أنَّ لها معادًا ثانيًا/
    ما كان أغناها عن الحالينِ
    * رأى المعري -وهذا رأيٌ صار يتبناه العلم حديثًا- أنَّ آدم الذي نتحدث عنه باعتباره أبَ البشر قد لا يكون واحدًا، فهناك أوادمُ متعددون:
    وما آدمٌ في مذهب العقلِ واحدٌ/
    ولكنه عند القياسِ أوادمُ
    * النبوَّةُ عنده يستحقها العقل أيضًا: أيها الغرُّ قد رُزقتَ بعقلٍ/ فاستشره، فكلُّ عقلٍ نبيُّ
    * صعد أبو العلاء مرةً جبلَ الزاوية -وهذا مجرد خبرٍ غيرِ مؤكد- وبعد الصعود أخذ ينادي ربَّه طالبًا منه أن يكلِّمه كما كان يكلِّم موسى، لكنه لم يظفر بما أراد، ووجد السماءَ تجيبه بالصمت.
    * يرى المعري أنَّ تعدد الديانات والتفاوتَ في عدد من أشكالها ومناسكها قد يبعث قدرًا من الحيرة لدى الناظر:
    في اللاذقيةِ ضجةٌ/
    ما بين أحمدَ والمسيحْ
    هذا بناقوسٍ يدقُّ/
    وذا بمئذنةٍ يصيحْ
    * من خلال الحروب الدينية، وصراعاتِ الطوائف الأفظعِ من فظيعة، وكان ذلك ماثلًا في زمنه كما بدأ يظهر من جديد في زمننا، رأى أبو العلاء أنَّ الديانات -أو على الأدق فهمَ الناس السيئ لها- غذاءٌ للأحقاد في كثير من الأوقات، وثمة ممارساتٌ جرت باسمها تتنافى مع الإنسانية، بل إنه -بعد طغيان التوظيف الانتهازي الفاسد لها في معظم الأزمنة- رآها تفقد جوهرها السامي لتصبح مكرًا وخداعًا، وتتوجب الصحوةُ أمام ذلك.
    * رغم اعتزال شاعرنا للبشر من حوله، فقد كان شديدَ الحب لهم، فهو لا يكرههم، لكنه يكره مفاسدَهم الراسخة، ومن منطق الحب لا يرضى أيَّ خير لنفسه مالم يَطلهم جميعًا:
    ولو أني حُبيتُ الخلدَ فردًا/
    لما أحببتُ بالخلد انفرادا
    فلا هطلتْ عليَّ، ولا بأرضي/
    سحائبُ ليس تنتظمُ البلادا
    * إنَّ معظم منتقدي أبي العلاء من الباحثين والمؤرخين قديمًا وحديثًا حملوا عليه حملةَ الوحش على غزال جميل، وأكثرهم رفضَهُ جملةً وتفصيلًا باستثناء مقدراته اللغوية، وطاقتِهِ في نظم الشِّعر، وفي الحقيقة هؤلاء جميعًا -لو وُضِعوا في الميزان- لا يساوون إصبعَ الرجل، ولا ظفرَهُ، فهم من إمَّعات الفكر، بينما المعري من المفكرين الأحرار في تاريخنا، وما أقلَّهم!
    * حديثنا عن الشك عند أبي العلاء قد يجعل كثيرين يخافون على ذخيرتهم الإيمانية، وأقول: إعجابُنا بالمعري أو حبُّنا لفكره ليس من الضروري أن يفضي بالمؤمنين إلى إفساد عقيدتهم، لكنه يدفعهم -إن كانوا من النبهاء- إلى بناء معمار لها على أساس من العقل، واستبعادِ السفاسف الكثيرة التي علقتْ بها.
    * قد نختلف مع الرجل في كثيرٍ أو قليلٍ من الموضوعات التي شكَّ فيها، وفي النتائج التي توصل إليها بعد حملة شكوكه، لكنْ لا يجوز -من وجهة نظري- أن نهمل أو نزدري الشكَّ نفسَهُ كمنظار إلى الأفكار والمفاهيم والنُّظم المكدَّسة في مستودعات الشعوب لنميِّز بين غثها وثمينها.
    * قد نتألم لحال الرجل أو نتألم منه، وقد يزعم بعضنا أنه مؤسس مدرسة السوداوية والتشاؤم وعبثية الوجود، تلك التي راجت في الأعصر اللاحقة، وتحديدًا خلال وبعد الحروب العالمية في القرن العشرين، وأُطلِقَ عليها اسم النزعة العدمية، غيرَ أننا بحال من الأحوال لا ينبغي لنا أن نطمس الجانب الساطع في حياته، وهو سعيه بكل وسيلة للوصول إلى أميرة عظيمة فاتنة، اسمها: الحقيقة.
    * هناك من الباحثين مَنْ يصرف همَّهُ في أكثر الأحيان لإثبات إيمان أبي العلاء أو عدم إيمانه، وأرى أنَّ هذا مركبٌ صعب شائك، لأنه يتعلَّقُ بباطن شخصية إشكالية كثيرةِ الألوان والخيوط، فقد يكون الرجل مؤمنًا عن طريق التصوف العقلي، وقد يكون ربوبيًا (يؤمن بالرب فقط) دون الأديان، ككثيرٍ من الفلاسفة والمفكرين، وربما هذه المسألة برمَّتها ظلت موضعَ نقاش بينه وبين نفسه، ولم يتوصل فيها إلى رأي أخير قاطع، وفي الحالات كلها قلب المعري مُلكٌ له، وتكثيفُ العمل في هذه النقطة جهدٌ ضائع يصرف النظرَ عن الجواهر الهامة الكثيرة التي يملكها هذا الرجل.
    * مما يُـؤسَـف له أنَّ كثيرين من العرب والمسلمين ما يزالون على ضفة الخمول راضين بما قسمَ الجهل والتخلف لهم من حياةٍ بائسة، لا يتساءلون عن حيثياتها وأسبابها، وهم يرفضون وديعةَ أبي العلاء عندنا وهي الشك.. الشك الذي أسمِّيه رسولَ الحقيقة واليقين، هؤلاء يعادون الرجلَ وفكرَهُ قبل أن يتدبَّروه، وكثرتُهم لا تُعبِّر إلا عن حقيقة مؤلمة واحدة هي: استمرار حالة التسطح العقلي في أمتنا، وغلبةُ الرعاع الفكري الذين يلتهمون أعشابَ الموروث كالخراف، ثم يطلقون ثغاءً طويلًا بعد ذلك!
    * أرى أنَّ تململ المعري من غلبة التفسير الرديء لتشريعات الأديان على معظم الأزمنة، والمساسِ المتواصل بنقائها، ومعاناةِ الناس من ذلك أقسى معاناة، أرى أنَّ ذلك التململ كأنه إرهاصٌ مبكِّر بالتطلع نحو تشريعاتٍ مدنية يضبطها العقلاء بعيدًا عن سيطرة رجال الدين، وأهوائهم التي لا تنتهي.
    * يُطلَقُ في عصرنا على بعض المبدعين الكبار صفة: (مفكر كوني) أو (شاعر كوني) إذا كان هذا أو ذاك صاحبَ رؤية إنسانية شاملة، وأعتقد أن المعري يستحقُّ هذه الصفة منذ أكثر من عشرة قرون، فقد سبح بفكره في كل بحر، ونهر، وساقية، وساءَلَ الأزمنةَ، وأهلَها، وهشَّمَ المسلَّمات، وطوى صفحاتٍ، وفتحَ غيرَها، وكان الإنسان العام العابر للعصور من أهم شواغله، وليس الإنسان في زمانه فقط، والشكُّ الذي تحدثنا عنه كان من أبرز أدواته، وحبُّه الشاسع لبني البشر كان ربَّانَه النشيط الجميل.
    * الخلاصة: إنَّ الاهتمام بشك بأبي العلاء هو اهتمامٌ بأحد أسس العقل، وهو الشك وما يفضي إليه من أسئلة، واستفزازٍ للعقول الخاملة، ونحن في النهاية لا يهمنا نفيُ الشك عند الرجل، فنكسب من وراء ذلك شيخًا، أو درويشًا، يهمنا أن نثبته، كما تقول الوقائع لنكسب فيلسوفًا ورجلَ فكر.
    لقد أرسى لنا المعري منهجًا للتفكير ثلاثي الأطراف: شك، حرية للعقل، جرأة تفكير وتدبُّر.. أي كأنه يقول: أيقظ عقلك من سُباته، واستخدم مصباحَ الشك في تأمل في كل قول وفكرة، ثم كَوِّنِ النتائجَ بحرية وجرأة تجد في آخر الطريق حمامةً بيضاءَ تطير نحوك هي الحقيقة.


    نجيب كيَّالي

    -





يعمل...
X