محمد الزواوي .. المتفرِّد بين قرنـين

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • محمد الزواوي .. المتفرِّد بين قرنـين

    • يحيلُ النَّص بريشتِه لكتل بشريَّة وجَمادات محمد الزواوي .. المتفرِّد بين قرنـين






    فاطمة غندور
    كاتبة وباحثة ليبية

    نظرتُ للوحات مبدع فن الكاريكاتير محمد الزواوي، بأنها ليست لوحة تشكيلية ساخرة ماتعة وفقط، مع دراستي الجامعية للمسرح، مفتتح تسعينيات القرن الماضي، فكانت ضمن ثلاثة مقترحات قدمتُها مشروعا للتخرج: مسرَحَة لوحات الزواوي، ونظرية الدراما في مسرحيات الكاتب البوصيري عبدالله، والمرأة والأصوات (عن مسألة التمكين وحقوق النساء في نماذج نصوص مسرحية)، ورسا نُصح وتوجيه مشرف قسمنا وإن أبهرتهُ لوحات الزواوي -إلى قضية المرأة في المسرح-، وبالفعل كان مشروعا تطبيقيا كعرض ركْحِيٍّ، وبحثيا كسؤال، وعُرض لمرتين في الكلية، وبمسرح الكشاف بطرابلس.
    لكني في مقترح التخرج، وفي خطوط عريضة قدمتها لمشرفنا، وما أتذكره دفاعي عن لوحات مختارة للزواوي، وفرضية البحث التي تنشغل بالحكاية الدرامية على مسرح اللوحة، تراجيديا سوداء أم كوميديا ساخرة فيها الحدث الرئيس والفرعي، والزمان والمكان، والإيقاع الذي يحقق الضبط والتوازن، كما التشكيل الحركي “ميزانسين”(1)، والسينوغرافيا(2) بعناصرها، هنا إضاءة، هناك إظلام، وظلال بين بين، لوحاته على ركحها أبطال، يتقدمون بمواجهتنا كمتفرجين، صارخين معاتبين أو هادئين مستمتعين، وكما من لهم الأدوار الأولى، هناك حولهم ممثلون بأدوار مساعدة، بل و”سنيدة”، كما الكومبارس، الذي يتخفى في آخر اللوحة، وبهندسة أو جغرافيا المسرح الزواوي كما المخرج له رؤيته الإخراجية، بريشته يكتب نصا ويُخرجه بمدارس متعددة، ليست الكلاسيكية الأرسطية وحدها فقط عند مبتدأ رسوماته، بل هناك العبث واللامعقول، والتعبيري الرمزي.
    هذه المقاربة عن مسرحة لوحات صاحب المدرسة الساخرة، كانت تعِنُّ لي “طالبة” بالمسرح، أن تخيلت كيف رتب الزواوي شخوصه، وكُتله، وكل تفاصيل بانوراما الحدث (الفكرة /الموضوع)، الذي في ظني يكتبه، أو يُمنطقهُ ذهنيا، ويتدبره بمخيلته، ذلك النص الذي يُحيله بريشته إلى كتل بشرية وجمادات(3)، قد يقول قائل مذكرا بفارق بين حيوية الركح، وثبات اللوحة، بين فن الكاريكاتير وفن المسرح، وبأن المسرح كائن حي ينبض (سمعي/بصري في آن) إزاء متفرجه، هذا صحيح، لكن فن الكاريكاتير وعند الزواوي ينقشع بوقعه أمام عيوننا، ويلتمع حيا لحظة تمركزنا على مكونات كادره الضاجة بما تٌفصح عنه، تخترقنا عجولين أو متأملين، لوحاته تأخذ بمجاميع حواسنا وتجعلنا نندمج معها، وإذ تلامس ذنوبنا وخروقاتنا كأننا في داخلها «ال نحن»، أو كأنها مرآتنا العاكسة لعيوبنا مهما زُوقت تظل تُلاحقنا، تلعلع في لوحاته بلا رتوش أو أقنعة.

    الفرح الساخر الجواني
    محمد الزواوي الاسم، والعلم، المُتفرد، وبين قرنين(4)، الفاعل في محترف التشكيل الكاريكاتيري الليبي والعالمي، حضر صيف 2007م بكلية الفنون والإعلام. جامعة طرابلس، في قسم المسرح، وبقاعة مناقشة مشاريع التخرج، تلك أول مرة شاهدتُه مباشرة، لساعات، استضافته إدارة الكلية، بلا معرض له، ولا جلسة رفقة طلبة “ستة” أقسام للفنون التشكيلية!، وقد أجريتُ لقاءً قصيرًا معه كمحتفى به. محمد الزواوي بهدوئه ورصانته الظاهرين، في الصورة الفوتوغرافية التي جمعتنا معا بعد تسجيل المقابلة، أبدو واقفة بمواجهته، وبيني وبينه باقة ورد كبيرة أُهديت له، مسكها بيديه الاثنتين، عيني في الكاميرا، وعينه علي، وذاك معتاد ممن لا تفارقه عين التشكيلي البصيرة المعجونة بفنه الخاص، هي عين المتمعن ومثله من يرسم يتأمل الوجوه.
    سنة تكريمه كنت محاضرة متعاونة في قسم الفنون المسرحية، وجئت أسلم درجات امتحان طلابي، وحدث أن رأيتُ جمعا من الأساتذة، أصواتهم عالية، يتوجهون إلى قاعة مسرح بذات القسم الذي كنتُ به ساعتها، قادني الفضول لأتكشف الأمر، ظانة أنه بدء مناقشة مشروع تخرج لطالب ما، تقدمت باتجاه الممر فلمحتهُ، بخطوات وئيدة، ربما متثاقلة قليلا، ووجهه خجل من فرط جمل الترحاب التي أحاطته، ومفردة “تفضل… تفضل”، وبهدوء جلس بالصف الأول، رفقة الحاضرين، كنت أتقدم خطوة خطوة خلفهم، وجلست بالصف المقابل له، بكرسي أتاح لي أن آراه بوضوح، ظلت ابتسامة عابرة ارتسمت على أساريره تعبر عن التحية والتقدير، بدت لي وكأنها تصارع ثقل حزن أو وجعا دفينا، إلى أن حانت لحظة تكريمه، وفي مبتدأ مقابلتي له سرب جُملة دون أن أسأله: قد لا يظهر الفرح علي لكن فرحي جواني!.

    حُلم نفي
    كنت شاهدت الزواوي في مقابلة بمحطة التلفزيون الوحيدة، ونادرة المقابلات معه، لكنه بقي في ذاكرتي أنه منشغل في جلسته يرسم لوحة، ثم يجيب عن أسئلة مدير الحوار، وعين الكادر تبرز أنه بمرسمه مع علب الألوان وستاند يقابل طاولة عليها مجموعة من الفُرش، ما أتذكره أن البرنامج من إعداد قاص الكبار والصغار الاستاذ يوسف الشريف، وتقديم الإعلامي بشير بلاعو. وقبلها وكصحفية شرعت طريقي، وقد نشرتُ بمجلة “لا”(5) متابعة لأطروحة جامعية، وعولت على متابعة نشري صفحة عن أطروحات تبحث في قضايانا الاجتماعية، يغشاها الغبار فور إجازتها وصفِّها بين أرفف مخازن المكتبات الجامعية، حين وصل الى أسماعي أن المجلة صودرت بسبب لوحة بواجهتها رسمها الزواوي، فمع قرب ذكرى انقلاب سبتمبر، أظهر بريشته طرابلس عجوزًا يجري ترقيع وترميم بشرة وجهها الذابلة، حيث صاحب الطلاء يصعد سلما رافعا بفرشاته ما تدلى من تلك التجاعيد!، وكانت المدينة تشهد أعمال تنظيف وزينة فقط، متى ما حانت تلك المناسبة، وكان للزواوي قراءته الفاضحة لواقع الحال وإلى أبعد من ذلك، وعند تلك اللوحة وقع وأد المجلة التي حملت أول عددها عنوان: حلم، نفي، إبداع!.
    في وداع مرسَمِه
    حين ودعتُ روح الزواوي!، وقد ترافقت مع زميلات صحافيات لتقديم واجب العزاء في رحيله المفاجئ لعائلته بسكنه بحي الاندلس، يونيو 2011م، وطرابلس تمور وتغلي بحصار نظام ديكتاتوري بعد مظاهرات بأغلب أحيائها منتصف فبراير 2011، وقبلها خرجت مدن كبرى في ثورة ضده، كانت بنغازي حيث منابته وجذوره(6) قد تحررت من سلطة القذافي في أيام الثورة الاولى. لم يكن البيت مزدحما بالسيدات مع ظهيرة دخولنا، وقد اهتمت بنا زوجة ابنه، وأخذتنا إلى مرسمه لحظة قررنا المغادرة، دخلنا غرفة فرفعت ستارة وقالت: هنا جلس صباحا بين لوحاته، كعادته تناول أفطاره، ولم يكن يشتكي صحيا من شيء، سمعنا صوت سقطة كرسي، فهرعنا نجري باعتقادنا أن الأطفال يلعبون ويتشاكسون… كان كرسي الزواوي بمرسمه.
    لم يكن بالمتسع أو من المناسب أن نخوض معها بأسئلة تحركت بأذهاننا، ونحن نقارب باب البيت، همست مقتربة منا، وقالت: كان على التواصل بناسنا ببنغازي، وكانت معنويات مرتفعة، ولمحتُ انفراجة بوجهها، وعلى شفتيها كما من أراد أن يبتسم ابتسامة رضا، وكأني بقلب الزواوي لم يحتمل فيض فرحته بما حلم وانتظر، وليرتاح من ثقل!.

    الزواوي علّم نفسَه
    لا يمكن الحديث عن تجربة إبداعية دون التطرق لمرجعياتها، التي تمثل الزوادة الأولى للخيال والوعي الجمالي والمعرفي، كانت بيئته الريفية، وكتاب الطبيعة ، الزواوي الموهوب منذ طفولته، العصامي، من علم نفسه بنفسه، مُذ اختلى راعيا بوادي القطارة متفاعلا مع الطبيعة، حكى كيف أنه اتخذ من الصخور أرضية لرسوماته، ثم انتقى أعشابا بعينها ودقها مكتشفا عصارة اللون وأخلاطه، تلك الممهدات بانت لعين داعمه ومشجعه، معلمه محمد الهنيد (7)، فمن سياحته بالطبيعة منفردا، سيُدمجهُ بجلسات زوايا التصوف، هناك تأمل، المشاهد المزدحمة المتتالية مع من يأخذهم الوجد، فتصير حركاتهم متباينة على وقع الايقاعات، الزواوي يهتم بالحركة في كتله على اللوحة، من يجري، من يدفع بشيء، من يقفز بغير توقع، بل حتى جمادته لايتركها مصمتةً (سخان الشاي، الأحذية، الحيوانات الأليفة، أسماك البحر….) بل تتخذ مواقعها بلوحاته، بهندسة تتعمد إدهاشنا، وبث التعجب الضاحك، كيف تأتى له أن يُؤنسنها فنتخيلها غاضبة، أوهاربة من يد لا تحبها، أوعارضة لنا موقفها، فننحاز لها!.
    عُمدة الكاريكاتير الصحفي
    نقلة الزواوي الوظيفية مثلت ضربة حظ مواتية، لما اختاره وانحاز له، أن يصير الرسام بدربة وتجربة، إذ عمل في مقر إعلامي إشهاري (المركز السمعي البصري للنقطة الخامسة الأمريكية 1958-1961م)، ترد إلى مكتب إعلام المكان، أشهر المجلات المصورة الإيطالية والأمريكية، ومنها تشكلت لديه ثقافة الفرجة، بل ومن أثرها ذهب لفن البورتريه، متسلطا بريشته على رفاقه بالعمل، بورتريه شخصي ساخر قرَّب منه ومن فنه أولئك الصحاب.
    وسيتعمق فنهُ ككاريكاتيري في العمل الصحفي، ليصير له ركن لازم، يواكب من خلاله الحاصل المحلي، ودور وموقف السلطة في ليبيا من التجاذبات الدولية، غزارة منتجه ما جعله -بما بدا انتقائيا فيه السياسي والاجتماعي- يضم عقدا في مجلد أول من الستينيات وحتى السبعينيات(8) ، وبطباعة فاخرة، في كثير من تلك اللوحات شخص أحوال وراهن تلك السنوات، ما يجعلها كما عين على المرحلة ومتغيراتها الاجتماعي، وهي ليست عينا تؤرخ، وفرجة طريفة ممتعة وفقط، بل ولسانا يُشهر نقده ويصدح برسالته، وعلى الأخص سجل لوحاته الاجتماعية، وللناظر المتفحص في مئات من لوحاته (بلا مبالغة)، سينتبهُ (في مجلده الأول الوجه الآخر والثاني أنتم) إلى ملمح طاغٍ لعناصر من الثقافة الشعبية (مادية) مظهرا، و(شفاهية) قولا، وبنوعيها، تُبرزها تلك الأزياء والإكسسوارات للمرأة والرجل، (الجرد والحولي، خيمة المناسبات وملحقاتها)، والطفل ذكرا وأنثى (الحجابات والرقية، وتحليقة الشعر البدوية، القماط التقليدي للرُضع، ضفيرة البنات بتنويعاتها)، والطقوس الشعبية المُجسدة (كلوحات الزردة أوان الربيع، أو الاصطياف على البحر، ويوم عيد الاضحى، وطقس زج الصوف، واليوم الدراسي،…). أما ما دُوِّن كتعليق في أسفل اللوحة، أو مضمنا في الحوار على لسان الشخوص، فمنها مفردات زمنها، وبعضها انقرض، ومنها ما نال اعتمادا، وصار تكرارا كدلالة للتعبير الشعبي عن مشكل ما، وليس لنا أن ننكر ما شكل شعبيته، بأن لديه وعيا شديدا بمقاربة الملفوظ الشعبي في تحولاته عكس بصدق ملامح وهوية الواقع الثقافي والاجتماعي الليبي.
    وسيلتفت الزواوي إلى معوقات حراك المرأة، وما له علاقة بمفاهيم التغير الاجتماعي، وهو المخرج الفني الأول -سنة صدورها- لمجلة “المرأة”(9) برئاسة الرائدة النسوية التحررية خديجة الجهمي، وعلى ذلك قارب نهضة النساء الليبيات بمفتتح أعدادها ،وقد أبان عن وعي بدور المرأة بكونه ابن بيئة بدوية، المرأة فيها لها كيانها وحضورها في الحياة اليومية، سيدة بيتها من جهة، وتنفسها الحر خارجه، في لوحاته يحتج عن المتخفيات بزي “الفراشية”(10)، والمصور أمامهن كما لو أنه يلتقط صورة مبهمة متسترة، لا نعرف صاحباتها، فلا وجه لهن يبين!، و من ذلك أيضا تجسيده إقصاءهن في مشهدية الخروج للفسحة بغابات البر، أو عند البحر، حين يصر الرجل على حجبهن، من لحظة تموضعهن خلفًا، بالسيارة المفتوحة، أو إجلاسهن داخل الخيمة مغلقة الجهات، أو متواريات وراء ستار عريض يحيط بقعدتهن بحفرة وسط رمال البحر!، منتقدا عين الآخر المتلصص، في قنص حاذق لسلوك معيب، وأن من يحجبها هو ذاته من يتلصص!.
    وحين عمرت الصحافة الليبية بلوحاته الأسبوعية، والشهرية، على الأغلفة وبين الصفحات،تنقَّل الزواوي بين ثلاثة، لوازم، أيقونات، “شهود العيان”، انتصبوا بوضعية المراقبين، يقاسمون الناس مشاغلهم وأحداثا من حياتهم، بدأها أولا بشخصية سبتيموس سيفيروس(11)، وثانيها القنفذ(12)، حين عمل بجريدة الصدى الرياضية، وله تفسيره في ذلك، لكائن اعتبره يتكور، فيشهر شوكه معارضا، وسيكون ثالثها توقيعهُ، الذي لو قلبناه بوضعية بروفيل (عموديا)، لبانت خطوط لوجه، يمثلها حروف لقبه زواوي.

    بحثا عن الزواوي
    ليس لنا أن نغيب بالتأكيد ما تناثر من كتابات عنه، سطرها كُتاب عنوا بفنه، في دوريات محلية وعربية (جرائد ومجلات)، ومن أكثر من جيل، كتبوا عنه في حياته، أو لحظة مغادرته المفارقة في موعدها، بعضهم عرفهُ عن قرب، وتقاسم معه لحظات حياة وعمل، وبعضهم مثلت رسوماته الساخرة، عينهُ على واقعه، أو ما استشرفه الزواوي، من زاوية القضايا العامة المحلية، نقدا ورسائل إصلاح مجتمعي، أو موقفا من القضايا العربية والدولية.
    وقد كتب الروائي ابراهيم الكوني قراءة معمقة لعلها الوحيدة في سبرها أغوار شخصية الزواوي ولوحاته، نشرها في سلسلة حلقات بجريدة ميادين الليبية(13) إحياء لذكراه السنوية، ثم ضمنها بسيرته الذاتية “عُدُوس السُّرَى”(14)، وقد عرفهُ في رفقة مهنة الصحافة، وفي السفر “نبيلًا، خجولًا، منكفئًا على نفسه، حاملًا في صمت محرابه المسكون بالموت والتراجيديا”(عُدُوس السُّرَى ص 99)، مستذكرا حكاية فقده لابنه، في جريمة غدر بشعة، ارتكبها النظام، قتل جماعي لمئات السجناء، سميت مذبحة أبو سليم، طرابلس، عام 1996م. وأيضا حادثة سجنه في تونس، حين ورطته مخابرات القذافي بحمل شحنة متفجرات في حقيبة، اعتقد أنها كُتب!.
    الكوني أعتبرهُ عزف سيمفونيته الاحترافية باقتدار، ليس لكونه أوّل من قرع أبواب الاحتراف في ذلك الزمن المبكّر في محيط واقعنا الثقافي باعتماده كاركتر الليبي “النموذج”، بل لأنه كان أوّل مبدع رصد الواقع الاجتماعي بروح الشاعر، ما يمكن وسمهُ، شعريّة السخرية.
    ويذهب إلى دراسة فلسفة “الحذاء المنخور” في لوحاته، يصفه بالذائع الصيت، المثقوب من أسفل بالضرورة، ما رأى فيه دليل البرهان على المثابرة، البرهان على بطولة، وفي رأيه أنها لا تقارن إلّا ببطولة الفلاّح، التي بثّها فان غوخ في صورة الحذاء المتهالك، ما استفزّ إمام فلسفة القرن هايدغر، فسطّر بشأنه الأساطير في دراسته المرجعيّة الذائعة الصيت.
    غير أني وفي تفرغي متأملة متقصية، ما تجاوز المائة لوحة للزواوي بين مجلداته، وما توافر بالشبكة العنكبوتية مؤخرا، وجدت فقط الجورب المثقوب ما تنفلت منه الأصابع، وفي ظني أن “الكوني” جازف باعتماد أنها حالة هوس وهاجس، حد أن جعلها عند الزواوي كتيمة “الحذاء المنخور”، وكمسألة فلسفية فنية، وبما يحاذي مسألة اللوحة المشهورة “حذاء فان غوخ” المتهالك، فالزواوي في مبتدأ رسومه اعتنى وأكد لمشهد الحذاء التقليدي الشعبي( البَلغَة ) للرجل و( التليك) للمرأة، بل رسم لوحة كاريكاتيرية مجسدة لذلك وهو يتوسط والده ووالدته كما تخيلهما، ثم رصد النقلة النفطية لاحقا، إذ صار الحذاء مستوردا حاضرا بجمالياته، حتى إني في لوحة واحدة من لوحاته ،يجسد فيها طابور رجال، وقوفا على باب مسؤول يتقربون إليه بأعطيات ورِشى، لفتني أن الأحذية مختلفة عن بعضها البعض في تصاميمها، ما يجعلنا نذهب إلى ثراء مشاهداته، وقنص عينه وذاكرته، المعبر عنها في التنوع والتعدد لذات التيمة (الحذاء) حسب سياقها التاريخي.
    محمد الزواوي صاحب مدرسة في الفن الساخر (الكاريكاتير)، مُغيب في منحى الدراسة والبحث، وفي استعادة الذاكرة الوطنية الليبية ما أقصيت عقودا، في الاعتراف والإبانة عن رموزها وروادها الفاعلين في مسارب عدة، وفي يومنا هذا وقد انتفت ظروف الأقصاء، والمنع السياسي الأمني مع متغير ليبيا عام 2011، نأمُل أن نقدم لذكراه بيننا تحية وعرفانا بجهده المُبرز في مجال الفن الساخر، ما وصل به مصاف العالمية. وقد غُبن حقه وإحياء أثره من بعده بغياب دراسات(15) تقرأ وتفكك إرثه كصاحب رسالة ودور ثقافي مجتمعي، وأنه مُخلصًا لما أبدع فيه، ودع مرسمه، فتوفي صباحا وهو بركنه يباشر فنه الذي نذر حياته له، والذي لم يُتقن غيره.
    إرث الزواوي

    لعل الفنان محمد الزواوي إذ حفظ ووثق لتاريخه في فن الكاريكاتير بمجلدات ثلاثة جامعة لعقود اشتغاله، وبطباعة متقنة، وقبلها بأرشيف الدوريات محلية وعربية، ما ساهم في رواجه اسمًا ليبيًا، أحبه الناس وله شعبيته، وأقاموا معه علاقة اعتراف، حتى وهو يوخزهم ويفضح معايبهم. ومازالت لوحاته إلى يومنا هذا، تلامس في كثيرها وضعية مُستعادة، لخلل بنية الأنظمة الشمولية (الدولة الريعية، الفساد، غياب الرقابة والمحاسبة، وضعية المرأة، والشباب، فوضى البيئة…)، وماتخلفهُ وراءها من إرث، يحتاج زمنا، لزلزلته وكشطه من مسلكيات وثقافة الناس، مع غلبة الأعراف والتقاليد، وهيمنة الأيديولوجيا المتطرفة التي تناور على المقدس الديني وتُحرفه حسب أهوائها. الزواوي بنى نقدا، واستشرف مستقبلا في لوحاته، عبر عن كل ذلك بفنه البصري، طامحا وآملا بلدًا يُشابه بلدانا تقدمت بجهد وإرادة إنسانها.
يعمل...
X