لماذا نجح فوكو وفشل الجابري وأركون من بعده

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • لماذا نجح فوكو وفشل الجابري وأركون من بعده

    لماذا نجح فوكو وفشل الجابري وأركون من بعده




    يوسف امجيدة




    الجابري وأركون عادا إلى التراث على خطى فوكو


    محاولات كثيرة للخروج بالعقل العربي إلى فضاء الحداثة وما بعدها باءت كلها بالفشل، نظرا إلى هيمنة التراث والذي تحول إلى وسيلة كبح للعقل ونصوص غير قابلة للنقاش، ما أدى إلى حالة من النكوص الفكري بعد المشروع النهضوي الذي كان من الممكن أن يغير جذريا المجتمعات العربية. فما هو سبب فشل الفكر النهضوي وما تلاه؟


    يعود فشل حركة النهضة العربية بشكل مباشر للصراع الذي قام بين دعاة التجديد ودعاة الأصولية، مما أدى في الأخير إلى انتصار الأصوليين الذين ظلوا متشبثين بالتراث في مقابل رفضهم لكل ما له علاقة بالحداثة والتجديد؛ ما دعا مجموعة من المفكرين العرب إلى التساؤل حول التراث وعلاقته بالحداثة؛ لأنهم أدركوا أن فشل المشروع النهضوي يرجع بالأساس إلى سيطرة التراث على العقل العربي، الشيء الذي أجبر كلا من عبدالله العروي ومحمد عابد الجابري ومحمد أركون وغيرهم، للعودة إلى التراث بنزعة نقدية جديدة، معتمدين على مناهج ومفاهيم غربية ومحلية، مما أظهر لبعض الدارسين أن معظم هؤلاء التراثيين الجدد قد وظفوا مجموعة من المفاهيم والمناهج التي سبق وأن وظفها مفكرون غربيون، أثناء عودتهم إلى نقد تراثهم وتفكيكه، ونخص بالذكر الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي ميشال فوكو، خصوصا في عودتهم إلى البحث عن حقيقة التراث ونقد تلك المعارف التي يعتبرها أغلبية الناس حقائق راسخة ولا يمكننا زحزحتها. وبما أن السياق العربي الإسلامي يختلف عن السياق الغربي، سنحاول أن نبين كيف تم توظيف فوكو من قبل المفكرين العرب في دراستهم لتراثهم. وهذا من خلال إجابتنا على بعض الإشكالات الأساسية وهي كالتالي: ما هي الدوافع التي جعلت كلا من الجابري وأركون يعودان إلى مسألة التراث؟ وما العلاقة التي تجمع بينهما وبين ميشال فوكو؟ هل هي علاقة مفاهيمية أم علاقة منهجية؟ وإلى أي حد استطاع كلّ من الجابري وأركون توظيف الفكر الفوكوي في دراستهما للفكر العربي المعاصر؟ وهل نجحا في ذلك؟
    بعد ما قطع النهضويون أشواطا كبيرة في جلب قيم الحداثة الغربية من أجل النهوض بالفكر العربي، والتي كان لها أثرا كبيرا على مشارعهم الفكرية، مما جعل دعاة الفكر النهضوي (رفاعة رافع الطهطاوي ومحمد عبده وخيرالدين التونسي والأفغاني …)، في مواجهة وصراع مع التيار المحافظ الذي يدعو إلى الأصالة والتشبث بالتراث، حيث انتهى هذا الصراع بفشل الحركة النهضوية للمرة الثانية أمام هيمنة التراث على العقل العربي والإسلامي، حيث كانت الأولى مع الفلاسفة المسلمين في العصر الوسيط، والثانية مع زعماء النهضة، الشيء الذي دعا وبشدة إلى طرح سؤال التراث. إذ أرجع عبدالإله بالقزيز السبب الرئيس في طرحنا لسؤال التراث، للانتصار الذي حققته “فكرة الأصالة التي جاءت مغردة بالعودة إلى الموروث القديم وإعادة نشره وتعميمه على أوسع نطاق، ونهج سياسة الانغلاق ورفض أي نوع من أنواع الانفتاح” (بلقزيز2009، ص 54)، والتي جاءت على يدها الضربة الموجعة للفكر النهضوي أو ما يسمى بنكبة 1967 التي كانت صدمت لكل جيل الثورة، الذين ظنوا أنهم أسسوا لبداية نهضة جديدة، في المقابل أغفالهم للجانب الثقافي الذي كان قد تشبّع بروح الثقافة الغربية، الأمر الذي زاد الطين بلة، وزاد من محنة ثقافتنا التي وجدت نفسها في حالة من الضيق والتراجع؛ بسبب القيم التي تشبعت بها في الأمس القريب.


    فكرة العودة إلى التراث من أجل فهم الحاضر مستمدة بالأساس من السياق الغربي الذي عرف نزعة تاريخية خلال القرن 19



    لهذا نجد الجابري قد أرجع السبب الذي جعله يعود إلى التراث، هو الوضع الذي أصبحت عليه الثقافة العربية، أي وضع سجين آليات تكرارية، تعتمد على إعادة الماضي وتغض النظر عن الحاضر والمستقبل، لهذا كان أول ما قام به الجابري هو نقد القراءات التراثية للتراث، عبر نقده للعقل العربي والدعوة إلى التحرر من آثار القراءات السائدة؛ إذ سيُعرف الحداثة على أنها “لا تعني رفض التراث ولا القطيعة معه بقدر ما تعني الارتفاع بطريقة التعامل مع التراث إلى مستوى ما نسميه بالمعاصرة؛ أعني مواكبة التقدم الحاصل على الصعيد العالمي” ( الجابري،1991، ص 15 ـ 16)، واستئناف النظر في معطيات الثقافة العربية والإسلامية دون التقيد بوجهات النظر السائدة، وذلك من أجل الكشف عن النظم المعرفية التي تتحكم في الثقافة العربية، والفصل بين الأيديولوجي والإبستيمولوجي، وبين العقلاني واللاعقلاني (بغورة ،2001 ص 63)، من أجل الاحتفاظ بما هو عقلاني وإبستيمولوجي، والتخلص مما هو لاعقلاني.
    إن فكرة العودة للتراث من أجل فهم الحاضر، هي فكرة مستمدة بالأساس من السياق الغربي، الذي عرف نزعة تاريخية خلال القرن 19، والتي تمحورت حول التساؤل عن سبب الأزمات والمشاكل التي واجهها الفكر الغربي، مما دفع مجموعة من المفكرين والفلاسفة الغربيين للاهتمام بهذا المجال، وإبداع مناهج ومفاهيم جديدة ساعدتهم على نقد الأسس التي تقوم عليها المعرفة التاريخية، وهدم النسق التاريخي المحتوم (اللامفكر فيه). ومن أبرز هؤلاء الفلاسفة الذين قاموا بهذه الثورة، الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي ميشال فوكو، الذي يعتبر من أهم المؤرخين الذين خلفهم تيار ما بعد الحداثة، والذي شكل امتدادا لمدرسة الحوليات الفرنسية، إذ أبدع بدوره مفاهيم ومنهجا جديدا في تحليل الخطاب ونقد المعرفة التاريخية، لم يكن قد سبقه أحد إليها من قبل، حيث نال اعتراف مجموعة من الفلاسفة والمؤرخين أبرزهم، المؤرخ الفرنسي بول فين الذي ألف كتابا عن ثورة فوكو في المنهج، حيث يقول واصافا فوكو “بالحدث الفكري الأكثر أهمية في قرننا، وكذلك بأنه أحدث ثورة كبرى في كتابة التاريخ” (فين، 1993 ص 45)، وذلك راجع لأنه سلط الضوء على عدة جوانب من التاريخ لم يكن قد التفت إليها سابقوه، وهو ما أسماه بالتاريخ اللامفكر فيه أو تاريخ المنسي الذي يطبع الثقافة الشعبية.







    ورغم ذلك يظل فوكو من المفكرين الذين يصعب تصنيفهم، نظرا لتنوع اهتماماته الفكرية وإنتاجاته المتنوعة، ولكنه حين سُئل عن نوع العمل الذي يقوم به، كان جوابه هو “إنني أحاول الكشف داخل تاريخ العلم وتاريخ المعارف والمعرفة الإنسانية عن شيء ما يكون بمثابة اللاوعي” (بيت الحكمة، 1986، ص21)، وهذا ما جعل منه فيلسوفا ومؤرخا في الوقت نفسه، وهذا راجع إلى تأثره بعدة فلاسفة ومؤرخين، أهمهم الفيلسوف الألماني نيتشه الذي اتخذ من نفسه طبيبا للفلسفة، إثر عودته إلى نقد كل معرفة تدّعي أنها حقيقة مطلقة، مما شكل مرحلة فاصلة في السياق الغربي، إذ قام بنزعة تاريخية تهديمية لجل الحقائق المزيفة التي بُني عليها الفكر الحديث، بغاية أخذ ما يصلح لنا وترك ما لا ينفعنا في حل أزماتنا الحديثة.
    ومن جهة تأثر فوكو بسارتر وبعض البنيويين مثل رولان بارت؛ ما جعل مجموعة من الدارسين لفوكو يقحمونه ضمن المدرسة البنيوية، رغم أن فوكو ذاته ينكر أنه بنيوي، حين قال “لا يمكن لي أن أكون بنيويا… وذلك لأني لا أهتم لا بالمعنى ولا بالشروط التي تُظهر المعنى، ولكن بشروط تحول أو توقف المعنى، الشروط التي ينتفي فيها المعنى ليظهر شيء جديد” (بغورة، ص 27)، لأن ما يهم فوكو هو كيف يشتغل خطاب معين في مرحلة تاريخية معينة، وليس معنى الخطاب كما هو عند البنيويين.
    وما يميز فوكو كذلك هو انفتاحه على الثقافات الأخرى مثل الثقافة العربية، ما يظهر من خلال مواقفه الفكرية ودراساته التي أبان من خلالها عن مدى احتكاكه بالوطن العربي، كما “أنه درّس في تونس وشارك في الاحتجاجات مع المهاجرين المغاربة في فرنسا” (بغورة، ص 28)، وقد يكون هذا من الأسباب التي دفعت مجموعة من المفكرين العرب للعودة إلى فوكو ومنهجه، من أجل توظيفه في دراستهم لتراثهم العربي الإسلامي.
    ولكن حين نعود إلى مشروع الجابري على وجه الخصوص، نجد أنه لم يظهر تأثره بفيلسوف معين، بقدر ما نجده قد وظف مجموعة من المفاهيم المختلفة التي تعود لعدة مفكرين غربين وعربيين، ولكن ما يظهر تأثره بميشال فوكو هو المفاهيم التي استعملها أثناء نقده للعقل العربي، مثل مفهوم الخطاب، والسلطة، والمعرفة. بينما نجد محمد أركون أثناء نقده للعقل الإسلامي، يظهر بشكل واضح مدى تأثره بالمنهج الفوكوي في نقده للمعرفة التاريخية والفهم الموضوعي للتراث بكل تجلياته وأبعاده، وكذلك توظيفه لبعض المفاهيم مثل الثقافة الشعبية، واللامفكر فيه (l’impense’)، التي تعتبر مفاهيم فوكاوية خالصة، ولكن الإشكال الذي سنحاول الإجابة عنه هو: أين تتجلى بوادر تأثر كلّ من الجابري وأركون بفوكو؟ وهل أحسنوا توظيفه داخل سياقنا العربي؟
    العلاقة بين فوكو والجابري علاقة مفاهيمية








    يبدأ الجابري كتابه العقل السياسي العربي، بمقدمة طويلة يناقش فيها إشكالية المفاهيم التي سيعتمدها في دراسته للعقل السياسي العربي، حيث يعترف منذ البداية قائلا:
    إن الجهاز المفاهيمي الذي سنوظفه في هذه الدراسة يتألف من صنفين من المفاهيم: صنف نستعيره من الفكر العلمي الاجتماعي والسياسي المعاصر، وصنف نستمده من تراثنا العربي الإسلامي، والمزاوجة بين توظيف هذين النوعين من المفاهيم ليست بالعملية السهلة، ونحن أول من يدرك الأخطار التي تنطوي عليها. ولذلك حرصنا، من جهة، على تبيئة الأولى مع موضوعنا فلم نتقيد حرفيا بالمضمون الذي تحمله في مجالات استعمالها في حقول الثقافة الغربية، بل عملنا على جعلها تتسع، دون تشويه (الجابري،2000 ص 8).
    من هنا يتضح أن الجابري حاول الجمع بين مفاهيم تعود أصولها لسياق غربي ومفاهيم تعود إلى تراثنا الفكري، بغاية إنتاج مفاهيم جديدة، تحاكي نظيرتها في الغرب، ولكنها تختلف عنها من حيث الجوهر، مثل مفهومي الخطاب والسلطة والمعرفة، إذ هناك اختلاف كبير بينما هي عليه عند الجابري وما تحمله من معنى عند ميشال فوكو.
    إن ما نستطيع قوله هو أن الجابري حاول أن يجمع بين هذه المفاهيم لخلق مفاهيم خاصة به، تتماشى وطبيعة الموضوع والثقافة، حيث نجده على سبيل المثال حين يعرف الخطاب فهو يعرفه بتلك العلاقة التي تجمع بين القارئ والنص، لهذا فالخطاب عنده هو “مجموعة من النصوص” (الجابري، 1982، ص 10)، وحتى أنه لما يعود لتحليل الخطاب فهو لم يخرج عن التراث المكتوب، ويقصد هنا “الخطاب الصادر عن مفكرين عرب بلغة عربية وفكروا فيه في أفق عربي” (بغورة،ص 51)، وهذا يشكل نقطة ضعف داخل الدراسات التي قام بها الجابري، لأن استبعاد كل ما قدمه المفكرون العرب الذين كتبوا ونظروا من خارج سياقنا العربي، هو في حد ذاته خسارة كبيرة لموروثنا الثقافي، حتى عندما ننظر اليوم إلى أهم الدراسات التي أجريت حول تراثنا، في الغالب ما نجد أن من قام بها هم مفكرون غربيون ومستشرقون، حتى أننا أصبحنا لما نريد أن نفهم تراثنا نعود إلى مفكرين خارج سياقنا العربي، وهذا ما يمكن اعتباره بمثابة تقنين وتضييق لمعنى الخطاب، وهذا ما جعل الجابري يؤسس لأصولية جديدة، عكس فوكو الذي تجاوز حدود الخطاب المكتوب، وذهب للبحث في تاريخ الأفكار الهامشية أو التاريخ اللامفكر فيه، الذي يتجدر في اللاوعي البشري، والذي يسيطر على الثقافة الشعبية.


    أركون انتفض كما الجابري ضد النزعة التراثية التي مجدت التراث وجعلته شيئا مقدسا ولا يمكن إخضاعه للنقد أو التشكيك



    بينما في المقابل نجد الجابري يربط مفهوم اللاشعور بالمجال السياسي الذي “هو عبارة عن بنية قوامها علاقات مادية جمعية تمارس على الأفراد والجماعات ضغطا لا يقاوم، مثل العلاقات القبيلة والعشائرية” (الجابري، 2000 ص 13)، فلفهم هذا اللاشعور الناتج عن العقل السياسي، ذهب الجابري إلى نقد العقل ومكوناته، مقتصرا على التاريخ المكتوب، بينما التاريخ المكتوب في الغالب ما يكون ناقصا ومتحيزا، وهذا ما يعيب مشروع الجابري الذي يهدف إلى فهم مكونات الفكر العربي، لأنه تجاهل التراث الشعبي الذي يعتبر جزءا لا يتجزأ من العقل العربي، وقد يكون فهم هذا التراث الشعبي ومعرفة عوائده التاريخية، بمثابة النقطة الأساس في فهم تشكيلة العقل العربي، وهذه هي النقطة التي يركز عليها فوكو في دراسته.
    يجعل الجابري مهمة الخطاب تكمن في تجاوز ما يسميه بتناقضات الخطاب الفلسفي العربي المعاصر، وخاصة النظرة اللاعقلانية أو السحرية (بغورة، ص 51)، عبر الانتقال من القراءة الاستنساخية للنصوص التاريخية إلى مستوى التأويل والتشخيص، وهذا ما قاد الجابري إلى نقد العقل العربي، الذي تطبعه اللاعقلانية السحرية المتجذرة في تراثنا العربي، والتي ترسخها سلطة معرفية تعمل دائما على تأسيس التفكير وتوجهه داخل ثقافتنا العربية، رغم أن مفهوم السلطة عند الجابري يتمثل بالأساس في الخطاب السياسي، وبهذا فهي تقوم على الإقناع وليس إنتاج المعرفة، عكس ما نجده عند فوكو الذي جعل مفهوم السلطة لا ينحصر في مجال معين بقدر ما نجدها تحتكر جل المجالات، وهو ما أسماه بـ”ميكروفيزياء السلطة”؛ لأنها تتعدى تلك العلاقة العمودية التي تقوم على الآمر والمأمور، حيث أنه لا يفصل السلطة عن المعرفة بقدر ما يجعل السلطة والمعرفة شيء واحد، إذ يوضح ذلك قائلا “إن السلطة تنتج نوعا من المعرفة، وتؤدي إلى تراكم المعلومات، واستخدام كل ذلك من أجل المزيد من ممارسات السلطة، وبالمقابل، فإن المعرفة هي بحد ذاتها، سلطة” (بغورة، ص61).
    قد نقول إن ما يميز فوكو عن الجابري أثناء تحديدهما لوظيفة المفاهيم المشتركة بينهما، هو أن فوكو حين يدرس مفهوما ما أو يوظفه داخل فلسفته، فهو يجعله غير مشروط أو منعزل عن باقي المفاهيم، عكس الجابري الذي يجعل تلك المفاهيم تسبح في نفق ضيق ومحدود، وفي الغالب ما يفصل بينها، عكس فوكو الذي لا يفصل بين الخطاب والمعرفة والسلطة، بل يستعملها كآليات مترابطة في بحثه التاريخي.
    يمكننا أن نقول إن المفاهيم حين تنتقل من سياقها الفكري والاجتماعي والثقافي، تفقد معناها وقد تفقد دورها الذي كانت تقوم به في سياقها الأصلي، وهذا راجع لطبيعة الباحث الذي ينقل هذه المفاهيم ومدى قدرته على توظيفها داخل دراسته التي يحكمها سياق مختلف، ولكن ليس من الضروري أن يتقيد الباحث بمفاهيم فيلسوف معين دون تطويرها، فمعظم الفلاسفة لم تكن المفاهيم التي يشتغلون بها في فلسفتهم، نابعة عن ذواتهم. حيث آن ما قام به الجابري أثناء نقله لهذه المفاهيم، كان ناتجا عن وعي تام بأخطارها، أما بالنسبة إلى استخدامه لها لم يكن إلا مجرد أليات مساعدة على فهم مكونات العقل العربي ونقده، وقد يكون
    هذا الاستعمال الضيق لهذه المفاهيم ناتج عن أسباب تتعلق بالتراث ذاته ومدى سيطرته على عقل الإنسان العربي، وهذا ما أسقط الجابري في نزعة شوفينية قومية، عكس ما نجده عند فوكو. فهذا على المستوى المفاهيمي أما على المستوى المنهجي نجد محمد أركون هو من كان أكثر تأثرا بالمنهج الفوكوي عكس الجابري.
    المنهج الفوكوي في فكر محمد أركون













    انتفض أركون كما الجابري ضد النزعة التراثية التي مجدت التراث وجعلته شيئا مقدسا ولا يمكن إخضاعه للنقد أو التشكيك، بل حاول أن يؤسس منهجا جديدا لدراسة التراث بطريقة نقدية تسعى لمعرفة حقيقته التاريخية، عبر اختراق وتجاوز ما هو سائد، حيث اهتم أركون بنقد العقل الإسلامي عبر دراسة التراث ونقده للحداثة، معتبرا نقده هذا بمثابة المدخل الأساسي لتحديث المجتمعات الإسلامية والعربية.
    ومن الدوافع التي جعلت أركون يهتم بنقد العقل الإسلامي هو الغياب التام للنقد العملي والتحليل التفكيكي للعقل الإسلامي واتساع دائرة اللامفكر فيه (أحمد بوعود، 2010، ص37)، مما دفع أركون لإعطاء معنى جديد للعقل، يختلف عمّا هو سائد في موروثنا الفكري والثقافي، إذ سيُعرفُ العقل على أنه “تلك القوة المتطورة المتغيرة بتغير البيئات والثقافة والأيديولوجية، والقوة الخاضعة للتاريخية” (بغورة، 2001 ـ ص71)، وهذا ما يُظهر لنا أن أركون أراد أن ينزع صفة الثبات عن العقل الإسلامي، وكذلك الكشف عن الأسباب التي جعلت العقل الإسلامي يزدهر تارة وينتكس تارة أخرى


    الجابري يؤسس لأصولية جديدة عكس فوكو الذي تجاوز حدود الخطاب المكتوب وبحث في تاريخ الأفكار الهامشية واللامفكر فيه



    لقد تأثر أركون بمجموعة من المفكرين الغربيين الذين كرسوا تفكيرهم لنقد المعرفة التاريخية، إذ نجد أنه يقترب في دراسته للتراث من منهج ميشال فوكو ونيتشه، وهذا ما يظهر من خلال الحوار الذي دار بينه وبين هاشم صالح، حين سأل هذا الأخير أركون، هل تعتقد أنه لكي يتقدم المسلمون ينبغي عليهم أن يعيدوا النظر في العلاقة القديمة بين الإنسان والله؟ فكان جواب أركون بالطبع “ينبغي أن نفعل ما فعله نيتشه في منهجيته الجنيالوجية عندما كشف عن الأخلاق المسيحية، فلكي تتحرر من شيء ما ينبغي أن تكشف عن أصله أو جذره الأول” (أركون، 2000 ص 279 – 280)، ويقصد أركون أنه إذا كنا نطمح أن ندخل في سياق الحداثة يجب علينا أن نخضع ذاك الجانب المستحيل التشكيك أو التفكير فيه للنقد، ويقصد هنا العقل الإسلامي الذي “دائما ما يخفي تاريخانيته، ويتصرف كأنه كان دائما موجودا على ما هو عليه اليوم منذ الأزل، وأنه سوف يظل على حاله إلى الأبد، فهذا ما يجب نقده والحفر في أصله من أجل تحرير العقل الحديث الذي يعيش في وهم الماضي الذي سيطرت عليه الأسطورة واللاهوت”(أركون، 2000، ص 280)، والدليل على أن هذا العقل لا يقوم على أسس رصينة، نجده دائما ما يصدّ كل من حاول نقده، وخاصة عندما يتقدم أحد في عملية الحفر أكثر فأكثر ويقترب من منطقة الحقيقة، فإنه يجد كل القوى المحافظة والتقليدية تنهض في وجهه دفعة واحدة، وذلك لكي تمنعه من الوصول إلى هدفه” (أركون، 2000 ص 280)، فهذا ما يُظهر لنا أن أركون أثناء نقده للتراث وظف منهجا قد نقول محاكيا للمنهج الذي استعمله فوكو إثر نقده للمعرفة التاريخية في السياق الغربي، وهذا ما يميز أركون كذلك عن الجابري، لأنه كان أكثر جرأة أثناء نقده للتراث، بدل الجابري الذي ظل متحفظا وجعل نقده للعقل العربي يدور في نفق ضيق، عكس أركون الذي جعل من نقده للعقل الإسلامي يتجاوز حدود التراث العربي المكتوب.
    وهذا ما يتبين من خلال عودته النقدية للتراث وارتكازه على النص القرآني بوصفه جزءا أساسيا من التراث العربي الإسلامي، نظرا لسيطرته على العقل العربي، لهذا جعل من النص القرآني موضوعا لدراسته التأويلية والألسنية والنقدية التاريخية، محاولاً الكشف عن مظاهر التعقل فيه، إذ سيثبت بعد دراسة معمقة للنص القرآني، أن القرآن يخلو من كلمة العقل، ولكنه يحتوي على الكثير من الآيات التي تدعوا للتعقل، واستخدام العقل.







    ولهذا ميز أركون بين نوعين من العقل: عقل مستقل وهو الذي يخلق بكل سيادة وهيبة أفعال المعرفة ويرفض الاشتغال داخل نطاق المعرفة الجاهزة أو المحددة سالفا، وهذا هو العقل الفلسفي، والعقل الديني الذي يشتغل داخل إطار المعرفة الجاهزة ويستخرج المعرفة الصحيحة استنادا إلى العبارات النصية للكتابات المقدسة، ولدا فهو عقل تابع، لأنه لا يطرح مشكلة أصل الوحي ولا مشروعية الانتقال من مرحلة الوحي إلى مرحلة المعارف المنجزة (بغورة، ص 72).
    وهذا ما دعا أركون لنقد العقل الديني الذي دائما ما يقف كحاجز أمام العقل الفلسفي؛ الذي يرفض كل الحقائق المسلمة. فالخطاب الديني مارس سلطة مطلقة على العقل العربي الإسلامي عبر جل المراحل التاريخية، مما جعل العقل الفلسفي عاطلا وغير قادر على الاشتغال. لهذا حاول أركون أن يعود إلى الجدور التاريخية التي ينبني عليها هذا الخطاب، وكأنه يريد أن ينزع عنه قدسيته التي جعلته تراثا من المستحيل التفكير فيه أو إخضاعه للتأويل والنقد، وهذه النظرة للخطاب التاريخي نفسها نجدها عند فوكو حين يعرف الخطاب على أنه “ليس شكلاً مثالياً، ولا زمانياً، له بالإضافة إلى ذلك التاريخ. ولا يكمن جوهر المشكل في التساؤل عن أسباب انبثاقه وظهوره في هذه اللحظة المعينة من الزمن أو تلك، فهو تاريخي، من جهة إلى أخرى وجزء من الزمن، وحدة وانفصال في التاريخ ذاته” (فوكو، 1987، ص108)، ولهذا فأركون يضع أمله في العقل الفلسفي كعقل نقدي وموضوعي قادر على إخضاع النص الديني الذي يعتبر كحقيقة مطلقة إلى التحليل الأركيولوجي”، وهو الذي يطرح استمرار صلاحية أو عدم صلاحية الشروط النظرية لخطاب ما، وهو القادر على تقديم تحليل عقلاني لمسألة التاريخ مع تشخيص نقدي لمشكلات الحداثة وتحدياتها” (بغورة، ص 87)، لهذا دعا أركون لتغيير نظرتنا وتعريفنا لمفهوم الحقيقة ذاته، لأن الحقيقة بالنسبة إلى أركون “ليست جوهرا أو شيئا معطى بشكل جاهز ونهائي، وإنما هي تركيب ناتج عن تركيب لفضي أو معنوي، قد ينهار لاحقا لكي يحل محله تركيب جديد، فالحقائق تنهار وتموت بحسب التصور الإبيستمولوجي الحديث، وليست أبدية وخالدة كما كان يتصور اللاهوت القديم “(أركون، 2000، ص166)
    إن الدراسات التي قام بها أركون أثناء عودته لنقد التراث ومساءلته، كشفت عن مجموعة من القضايا المهمة داخل تراثنا، والتي كان من المستحيل التفكير فيها، حيث فتح المجال أمام مجموعة من المفكرين لإعادة النظر في هذا الجانب من التراث الذي سيطر على العقل العربي الإسلامي طيلة المراحل التاريخية، مما جعله تابعا ومقلدا، لا ينتج ولا يبتكر، عقل يعيد نفسه داخل حلقة مغلقة.
    ولكن الخطأ الذي سقط فيه أركون هو أنه نظر إلى النص القرآني كأيّ نص مكتوب يجوز نقده ومحاكمته، مع العلم أن النص القرآني يحتوي على حقائق يعجز العقل عن إدراكها، وبهذا تختلف الحقيقة القرآنية عن الحقيقة الفلسفية من حيث المبدأ ومن حيث المنتهى. فلما نحاول نقد المعرفة القرآنية بشكل عقلاني يجب ألا ننكر الحقائق الإيمانية أو الروحية، وألا نجهل أن النص القرآني ليس كباقي النصوص التاريخية الأخرى، وهذا ما أدخل أركون في صراع مع التراث اللامفكر فيه، عكس الجابري الذي لم يزعم على الدخول في مثل هذا الصراع؛ لأنه كان واعيا بما يحمله التراث من سلطة. حيث نجد أنه حاول أن يقرأ التراث قراءة أيديولوجية واعية.
    خاتمة








    إن مسألة التراث لازالت تطرح نفسها كإشكالية داخل سياقنا الفكري المعاصر، خاصة وأننا مازلنا نبحث عن منهج ومفاهيم نستطيع من خلالها أن نفكك تراثنا بشكل كامل وليس بشكل جزئي، بطرق عقلية لا تطبعها النزعة الحنينية للتراث ولا النزعة الثورية عليه، فإذا كان الجابري حين عودته لنقد التراث كانت غايته هي جعل هذا التراث معاصرا لنا، في مقابل دفاعه عن وحدة العقل العربي، الذي ترجع بنيته لنفس السياق التاريخي، فهذا ما أسقطه في نوع من القومية التي تعتبر بحد ذاتها أيديولوجيا. أما في المقابل نجد أركون الذي كان أكثر جرأة أثناء نقده للتراث، حين سلط الضوء على جانب من التراث لم يكن أحد من النقاد استطاع التفكير فيه، وبما أن هذا النوع من التراث يتجذر في بنية العقل الإسلامي، كان من الصعب نقده أو التأثير فيه، وخاصة حين جعل من النص القرآني نصا تراثيا، الشيء الذي أدى إلى استبعاده عن ساحة الفكر العربي الإسلامي، حتى أصبح أركون ذاته من التراث اللامفكر فيه، وهذا راجع لأنه وظف مناهج غربية من الصعب تطبيقها على تراثنا العربي، قد يكون نجاح المنهج الفوكوي في السياق الغربي راجع لخصوصية التراث والثقافة الغربية بحد ذاتها، وهو الذي جعل مفكرينا متحمسين لتطبيقه على تراثنا، رغم أن الجابري كان واعيا منذ البداية بمخاطر تلك النقلة المباشرة للمفاهيم والمناهج الغربية. فلهذا يمكننا القول إن ما نحتاجه لدراسة تراثنا، هو أن نبدع مفاهيم ومناهج خاصة بنا، ولا نغفل الاستفادة من المناهج الغربية في الوقت ذاته، وأن نعي بأن مسألة التراث تختلف حسب بنية العقل والثقافة التي تنبني عليه، لهذا يتطلب الأمر التصرف مع هذه المناهج والمفاهيم بحذر وعقلانية، كي لا نسقط في الأيديولوجيا الغربية التي قد تشوه نظرتنا للتراث، لأن هذا الأخير ليس كل ما يحمله مناف للتقدم والازدهار، بل يجب أن نعود لتراثنا بنزعة تصحيحية، وأن نكون قادرين على التمييز بين ما هو تراث وما هو خارج عن التراث.
    ينشر بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الثقافية



    يوسف امجيدة
    باحث من المغرب











    لماذا نجح فوكو وفشل الجابري وأركون من بعده




    يوسف امجيدة




    الجابري وأركون عادا إلى التراث على خطى فوكو


    محاولات كثيرة للخروج بالعقل العربي إلى فضاء الحداثة وما بعدها باءت كلها بالفشل، نظرا إلى هيمنة التراث والذي تحول إلى وسيلة كبح للعقل ونصوص غير قابلة للنقاش، ما أدى إلى حالة من النكوص الفكري بعد المشروع النهضوي الذي كان من الممكن أن يغير جذريا المجتمعات العربية. فما هو سبب فشل الفكر النهضوي وما تلاه؟


    يعود فشل حركة النهضة العربية بشكل مباشر للصراع الذي قام بين دعاة التجديد ودعاة الأصولية، مما أدى في الأخير إلى انتصار الأصوليين الذين ظلوا متشبثين بالتراث في مقابل رفضهم لكل ما له علاقة بالحداثة والتجديد؛ ما دعا مجموعة من المفكرين العرب إلى التساؤل حول التراث وعلاقته بالحداثة؛ لأنهم أدركوا أن فشل المشروع النهضوي يرجع بالأساس إلى سيطرة التراث على العقل العربي، الشيء الذي أجبر كلا من عبدالله العروي ومحمد عابد الجابري ومحمد أركون وغيرهم، للعودة إلى التراث بنزعة نقدية جديدة، معتمدين على مناهج ومفاهيم غربية ومحلية، مما أظهر لبعض الدارسين أن معظم هؤلاء التراثيين الجدد قد وظفوا مجموعة من المفاهيم والمناهج التي سبق وأن وظفها مفكرون غربيون، أثناء عودتهم إلى نقد تراثهم وتفكيكه، ونخص بالذكر الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي ميشال فوكو، خصوصا في عودتهم إلى البحث عن حقيقة التراث ونقد تلك المعارف التي يعتبرها أغلبية الناس حقائق راسخة ولا يمكننا زحزحتها. وبما أن السياق العربي الإسلامي يختلف عن السياق الغربي، سنحاول أن نبين كيف تم توظيف فوكو من قبل المفكرين العرب في دراستهم لتراثهم. وهذا من خلال إجابتنا على بعض الإشكالات الأساسية وهي كالتالي: ما هي الدوافع التي جعلت كلا من الجابري وأركون يعودان إلى مسألة التراث؟ وما العلاقة التي تجمع بينهما وبين ميشال فوكو؟ هل هي علاقة مفاهيمية أم علاقة منهجية؟ وإلى أي حد استطاع كلّ من الجابري وأركون توظيف الفكر الفوكوي في دراستهما للفكر العربي المعاصر؟ وهل نجحا في ذلك؟
    بعد ما قطع النهضويون أشواطا كبيرة في جلب قيم الحداثة الغربية من أجل النهوض بالفكر العربي، والتي كان لها أثرا كبيرا على مشارعهم الفكرية، مما جعل دعاة الفكر النهضوي (رفاعة رافع الطهطاوي ومحمد عبده وخيرالدين التونسي والأفغاني …)، في مواجهة وصراع مع التيار المحافظ الذي يدعو إلى الأصالة والتشبث بالتراث، حيث انتهى هذا الصراع بفشل الحركة النهضوية للمرة الثانية أمام هيمنة التراث على العقل العربي والإسلامي، حيث كانت الأولى مع الفلاسفة المسلمين في العصر الوسيط، والثانية مع زعماء النهضة، الشيء الذي دعا وبشدة إلى طرح سؤال التراث. إذ أرجع عبدالإله بالقزيز السبب الرئيس في طرحنا لسؤال التراث، للانتصار الذي حققته “فكرة الأصالة التي جاءت مغردة بالعودة إلى الموروث القديم وإعادة نشره وتعميمه على أوسع نطاق، ونهج سياسة الانغلاق ورفض أي نوع من أنواع الانفتاح” (بلقزيز2009، ص 54)، والتي جاءت على يدها الضربة الموجعة للفكر النهضوي أو ما يسمى بنكبة 1967 التي كانت صدمت لكل جيل الثورة، الذين ظنوا أنهم أسسوا لبداية نهضة جديدة، في المقابل أغفالهم للجانب الثقافي الذي كان قد تشبّع بروح الثقافة الغربية، الأمر الذي زاد الطين بلة، وزاد من محنة ثقافتنا التي وجدت نفسها في حالة من الضيق والتراجع؛ بسبب القيم التي تشبعت بها في الأمس القريب.


    فكرة العودة إلى التراث من أجل فهم الحاضر مستمدة بالأساس من السياق الغربي الذي عرف نزعة تاريخية خلال القرن 19



    لهذا نجد الجابري قد أرجع السبب الذي جعله يعود إلى التراث، هو الوضع الذي أصبحت عليه الثقافة العربية، أي وضع سجين آليات تكرارية، تعتمد على إعادة الماضي وتغض النظر عن الحاضر والمستقبل، لهذا كان أول ما قام به الجابري هو نقد القراءات التراثية للتراث، عبر نقده للعقل العربي والدعوة إلى التحرر من آثار القراءات السائدة؛ إذ سيُعرف الحداثة على أنها “لا تعني رفض التراث ولا القطيعة معه بقدر ما تعني الارتفاع بطريقة التعامل مع التراث إلى مستوى ما نسميه بالمعاصرة؛ أعني مواكبة التقدم الحاصل على الصعيد العالمي” ( الجابري،1991، ص 15 ـ 16)، واستئناف النظر في معطيات الثقافة العربية والإسلامية دون التقيد بوجهات النظر السائدة، وذلك من أجل الكشف عن النظم المعرفية التي تتحكم في الثقافة العربية، والفصل بين الأيديولوجي والإبستيمولوجي، وبين العقلاني واللاعقلاني (بغورة ،2001 ص 63)، من أجل الاحتفاظ بما هو عقلاني وإبستيمولوجي، والتخلص مما هو لاعقلاني.
    إن فكرة العودة للتراث من أجل فهم الحاضر، هي فكرة مستمدة بالأساس من السياق الغربي، الذي عرف نزعة تاريخية خلال القرن 19، والتي تمحورت حول التساؤل عن سبب الأزمات والمشاكل التي واجهها الفكر الغربي، مما دفع مجموعة من المفكرين والفلاسفة الغربيين للاهتمام بهذا المجال، وإبداع مناهج ومفاهيم جديدة ساعدتهم على نقد الأسس التي تقوم عليها المعرفة التاريخية، وهدم النسق التاريخي المحتوم (اللامفكر فيه). ومن أبرز هؤلاء الفلاسفة الذين قاموا بهذه الثورة، الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي ميشال فوكو، الذي يعتبر من أهم المؤرخين الذين خلفهم تيار ما بعد الحداثة، والذي شكل امتدادا لمدرسة الحوليات الفرنسية، إذ أبدع بدوره مفاهيم ومنهجا جديدا في تحليل الخطاب ونقد المعرفة التاريخية، لم يكن قد سبقه أحد إليها من قبل، حيث نال اعتراف مجموعة من الفلاسفة والمؤرخين أبرزهم، المؤرخ الفرنسي بول فين الذي ألف كتابا عن ثورة فوكو في المنهج، حيث يقول واصافا فوكو “بالحدث الفكري الأكثر أهمية في قرننا، وكذلك بأنه أحدث ثورة كبرى في كتابة التاريخ” (فين، 1993 ص 45)، وذلك راجع لأنه سلط الضوء على عدة جوانب من التاريخ لم يكن قد التفت إليها سابقوه، وهو ما أسماه بالتاريخ اللامفكر فيه أو تاريخ المنسي الذي يطبع الثقافة الشعبية.







    ورغم ذلك يظل فوكو من المفكرين الذين يصعب تصنيفهم، نظرا لتنوع اهتماماته الفكرية وإنتاجاته المتنوعة، ولكنه حين سُئل عن نوع العمل الذي يقوم به، كان جوابه هو “إنني أحاول الكشف داخل تاريخ العلم وتاريخ المعارف والمعرفة الإنسانية عن شيء ما يكون بمثابة اللاوعي” (بيت الحكمة، 1986، ص21)، وهذا ما جعل منه فيلسوفا ومؤرخا في الوقت نفسه، وهذا راجع إلى تأثره بعدة فلاسفة ومؤرخين، أهمهم الفيلسوف الألماني نيتشه الذي اتخذ من نفسه طبيبا للفلسفة، إثر عودته إلى نقد كل معرفة تدّعي أنها حقيقة مطلقة، مما شكل مرحلة فاصلة في السياق الغربي، إذ قام بنزعة تاريخية تهديمية لجل الحقائق المزيفة التي بُني عليها الفكر الحديث، بغاية أخذ ما يصلح لنا وترك ما لا ينفعنا في حل أزماتنا الحديثة.
    ومن جهة تأثر فوكو بسارتر وبعض البنيويين مثل رولان بارت؛ ما جعل مجموعة من الدارسين لفوكو يقحمونه ضمن المدرسة البنيوية، رغم أن فوكو ذاته ينكر أنه بنيوي، حين قال “لا يمكن لي أن أكون بنيويا… وذلك لأني لا أهتم لا بالمعنى ولا بالشروط التي تُظهر المعنى، ولكن بشروط تحول أو توقف المعنى، الشروط التي ينتفي فيها المعنى ليظهر شيء جديد” (بغورة، ص 27)، لأن ما يهم فوكو هو كيف يشتغل خطاب معين في مرحلة تاريخية معينة، وليس معنى الخطاب كما هو عند البنيويين.
    وما يميز فوكو كذلك هو انفتاحه على الثقافات الأخرى مثل الثقافة العربية، ما يظهر من خلال مواقفه الفكرية ودراساته التي أبان من خلالها عن مدى احتكاكه بالوطن العربي، كما “أنه درّس في تونس وشارك في الاحتجاجات مع المهاجرين المغاربة في فرنسا” (بغورة، ص 28)، وقد يكون هذا من الأسباب التي دفعت مجموعة من المفكرين العرب للعودة إلى فوكو ومنهجه، من أجل توظيفه في دراستهم لتراثهم العربي الإسلامي.
    ولكن حين نعود إلى مشروع الجابري على وجه الخصوص، نجد أنه لم يظهر تأثره بفيلسوف معين، بقدر ما نجده قد وظف مجموعة من المفاهيم المختلفة التي تعود لعدة مفكرين غربين وعربيين، ولكن ما يظهر تأثره بميشال فوكو هو المفاهيم التي استعملها أثناء نقده للعقل العربي، مثل مفهوم الخطاب، والسلطة، والمعرفة. بينما نجد محمد أركون أثناء نقده للعقل الإسلامي، يظهر بشكل واضح مدى تأثره بالمنهج الفوكوي في نقده للمعرفة التاريخية والفهم الموضوعي للتراث بكل تجلياته وأبعاده، وكذلك توظيفه لبعض المفاهيم مثل الثقافة الشعبية، واللامفكر فيه (l’impense’)، التي تعتبر مفاهيم فوكاوية خالصة، ولكن الإشكال الذي سنحاول الإجابة عنه هو: أين تتجلى بوادر تأثر كلّ من الجابري وأركون بفوكو؟ وهل أحسنوا توظيفه داخل سياقنا العربي؟
    العلاقة بين فوكو والجابري علاقة مفاهيمية








    يبدأ الجابري كتابه العقل السياسي العربي، بمقدمة طويلة يناقش فيها إشكالية المفاهيم التي سيعتمدها في دراسته للعقل السياسي العربي، حيث يعترف منذ البداية قائلا:
    إن الجهاز المفاهيمي الذي سنوظفه في هذه الدراسة يتألف من صنفين من المفاهيم: صنف نستعيره من الفكر العلمي الاجتماعي والسياسي المعاصر، وصنف نستمده من تراثنا العربي الإسلامي، والمزاوجة بين توظيف هذين النوعين من المفاهيم ليست بالعملية السهلة، ونحن أول من يدرك الأخطار التي تنطوي عليها. ولذلك حرصنا، من جهة، على تبيئة الأولى مع موضوعنا فلم نتقيد حرفيا بالمضمون الذي تحمله في مجالات استعمالها في حقول الثقافة الغربية، بل عملنا على جعلها تتسع، دون تشويه (الجابري،2000 ص 8).
    من هنا يتضح أن الجابري حاول الجمع بين مفاهيم تعود أصولها لسياق غربي ومفاهيم تعود إلى تراثنا الفكري، بغاية إنتاج مفاهيم جديدة، تحاكي نظيرتها في الغرب، ولكنها تختلف عنها من حيث الجوهر، مثل مفهومي الخطاب والسلطة والمعرفة، إذ هناك اختلاف كبير بينما هي عليه عند الجابري وما تحمله من معنى عند ميشال فوكو.
    إن ما نستطيع قوله هو أن الجابري حاول أن يجمع بين هذه المفاهيم لخلق مفاهيم خاصة به، تتماشى وطبيعة الموضوع والثقافة، حيث نجده على سبيل المثال حين يعرف الخطاب فهو يعرفه بتلك العلاقة التي تجمع بين القارئ والنص، لهذا فالخطاب عنده هو “مجموعة من النصوص” (الجابري، 1982، ص 10)، وحتى أنه لما يعود لتحليل الخطاب فهو لم يخرج عن التراث المكتوب، ويقصد هنا “الخطاب الصادر عن مفكرين عرب بلغة عربية وفكروا فيه في أفق عربي” (بغورة،ص 51)، وهذا يشكل نقطة ضعف داخل الدراسات التي قام بها الجابري، لأن استبعاد كل ما قدمه المفكرون العرب الذين كتبوا ونظروا من خارج سياقنا العربي، هو في حد ذاته خسارة كبيرة لموروثنا الثقافي، حتى عندما ننظر اليوم إلى أهم الدراسات التي أجريت حول تراثنا، في الغالب ما نجد أن من قام بها هم مفكرون غربيون ومستشرقون، حتى أننا أصبحنا لما نريد أن نفهم تراثنا نعود إلى مفكرين خارج سياقنا العربي، وهذا ما يمكن اعتباره بمثابة تقنين وتضييق لمعنى الخطاب، وهذا ما جعل الجابري يؤسس لأصولية جديدة، عكس فوكو الذي تجاوز حدود الخطاب المكتوب، وذهب للبحث في تاريخ الأفكار الهامشية أو التاريخ اللامفكر فيه، الذي يتجدر في اللاوعي البشري، والذي يسيطر على الثقافة الشعبية.


    أركون انتفض كما الجابري ضد النزعة التراثية التي مجدت التراث وجعلته شيئا مقدسا ولا يمكن إخضاعه للنقد أو التشكيك



    بينما في المقابل نجد الجابري يربط مفهوم اللاشعور بالمجال السياسي الذي “هو عبارة عن بنية قوامها علاقات مادية جمعية تمارس على الأفراد والجماعات ضغطا لا يقاوم، مثل العلاقات القبيلة والعشائرية” (الجابري، 2000 ص 13)، فلفهم هذا اللاشعور الناتج عن العقل السياسي، ذهب الجابري إلى نقد العقل ومكوناته، مقتصرا على التاريخ المكتوب، بينما التاريخ المكتوب في الغالب ما يكون ناقصا ومتحيزا، وهذا ما يعيب مشروع الجابري الذي يهدف إلى فهم مكونات الفكر العربي، لأنه تجاهل التراث الشعبي الذي يعتبر جزءا لا يتجزأ من العقل العربي، وقد يكون فهم هذا التراث الشعبي ومعرفة عوائده التاريخية، بمثابة النقطة الأساس في فهم تشكيلة العقل العربي، وهذه هي النقطة التي يركز عليها فوكو في دراسته.
    يجعل الجابري مهمة الخطاب تكمن في تجاوز ما يسميه بتناقضات الخطاب الفلسفي العربي المعاصر، وخاصة النظرة اللاعقلانية أو السحرية (بغورة، ص 51)، عبر الانتقال من القراءة الاستنساخية للنصوص التاريخية إلى مستوى التأويل والتشخيص، وهذا ما قاد الجابري إلى نقد العقل العربي، الذي تطبعه اللاعقلانية السحرية المتجذرة في تراثنا العربي، والتي ترسخها سلطة معرفية تعمل دائما على تأسيس التفكير وتوجهه داخل ثقافتنا العربية، رغم أن مفهوم السلطة عند الجابري يتمثل بالأساس في الخطاب السياسي، وبهذا فهي تقوم على الإقناع وليس إنتاج المعرفة، عكس ما نجده عند فوكو الذي جعل مفهوم السلطة لا ينحصر في مجال معين بقدر ما نجدها تحتكر جل المجالات، وهو ما أسماه بـ”ميكروفيزياء السلطة”؛ لأنها تتعدى تلك العلاقة العمودية التي تقوم على الآمر والمأمور، حيث أنه لا يفصل السلطة عن المعرفة بقدر ما يجعل السلطة والمعرفة شيء واحد، إذ يوضح ذلك قائلا “إن السلطة تنتج نوعا من المعرفة، وتؤدي إلى تراكم المعلومات، واستخدام كل ذلك من أجل المزيد من ممارسات السلطة، وبالمقابل، فإن المعرفة هي بحد ذاتها، سلطة” (بغورة، ص61).
    قد نقول إن ما يميز فوكو عن الجابري أثناء تحديدهما لوظيفة المفاهيم المشتركة بينهما، هو أن فوكو حين يدرس مفهوما ما أو يوظفه داخل فلسفته، فهو يجعله غير مشروط أو منعزل عن باقي المفاهيم، عكس الجابري الذي يجعل تلك المفاهيم تسبح في نفق ضيق ومحدود، وفي الغالب ما يفصل بينها، عكس فوكو الذي لا يفصل بين الخطاب والمعرفة والسلطة، بل يستعملها كآليات مترابطة في بحثه التاريخي.
    يمكننا أن نقول إن المفاهيم حين تنتقل من سياقها الفكري والاجتماعي والثقافي، تفقد معناها وقد تفقد دورها الذي كانت تقوم به في سياقها الأصلي، وهذا راجع لطبيعة الباحث الذي ينقل هذه المفاهيم ومدى قدرته على توظيفها داخل دراسته التي يحكمها سياق مختلف، ولكن ليس من الضروري أن يتقيد الباحث بمفاهيم فيلسوف معين دون تطويرها، فمعظم الفلاسفة لم تكن المفاهيم التي يشتغلون بها في فلسفتهم، نابعة عن ذواتهم. حيث آن ما قام به الجابري أثناء نقله لهذه المفاهيم، كان ناتجا عن وعي تام بأخطارها، أما بالنسبة إلى استخدامه لها لم يكن إلا مجرد أليات مساعدة على فهم مكونات العقل العربي ونقده، وقد يكون
    هذا الاستعمال الضيق لهذه المفاهيم ناتج عن أسباب تتعلق بالتراث ذاته ومدى سيطرته على عقل الإنسان العربي، وهذا ما أسقط الجابري في نزعة شوفينية قومية، عكس ما نجده عند فوكو. فهذا على المستوى المفاهيمي أما على المستوى المنهجي نجد محمد أركون هو من كان أكثر تأثرا بالمنهج الفوكوي عكس الجابري.
    المنهج الفوكوي في فكر محمد أركون













    انتفض أركون كما الجابري ضد النزعة التراثية التي مجدت التراث وجعلته شيئا مقدسا ولا يمكن إخضاعه للنقد أو التشكيك، بل حاول أن يؤسس منهجا جديدا لدراسة التراث بطريقة نقدية تسعى لمعرفة حقيقته التاريخية، عبر اختراق وتجاوز ما هو سائد، حيث اهتم أركون بنقد العقل الإسلامي عبر دراسة التراث ونقده للحداثة، معتبرا نقده هذا بمثابة المدخل الأساسي لتحديث المجتمعات الإسلامية والعربية.
    ومن الدوافع التي جعلت أركون يهتم بنقد العقل الإسلامي هو الغياب التام للنقد العملي والتحليل التفكيكي للعقل الإسلامي واتساع دائرة اللامفكر فيه (أحمد بوعود، 2010، ص37)، مما دفع أركون لإعطاء معنى جديد للعقل، يختلف عمّا هو سائد في موروثنا الفكري والثقافي، إذ سيُعرفُ العقل على أنه “تلك القوة المتطورة المتغيرة بتغير البيئات والثقافة والأيديولوجية، والقوة الخاضعة للتاريخية” (بغورة، 2001 ـ ص71)، وهذا ما يُظهر لنا أن أركون أراد أن ينزع صفة الثبات عن العقل الإسلامي، وكذلك الكشف عن الأسباب التي جعلت العقل الإسلامي يزدهر تارة وينتكس تارة أخرى


    الجابري يؤسس لأصولية جديدة عكس فوكو الذي تجاوز حدود الخطاب المكتوب وبحث في تاريخ الأفكار الهامشية واللامفكر فيه



    لقد تأثر أركون بمجموعة من المفكرين الغربيين الذين كرسوا تفكيرهم لنقد المعرفة التاريخية، إذ نجد أنه يقترب في دراسته للتراث من منهج ميشال فوكو ونيتشه، وهذا ما يظهر من خلال الحوار الذي دار بينه وبين هاشم صالح، حين سأل هذا الأخير أركون، هل تعتقد أنه لكي يتقدم المسلمون ينبغي عليهم أن يعيدوا النظر في العلاقة القديمة بين الإنسان والله؟ فكان جواب أركون بالطبع “ينبغي أن نفعل ما فعله نيتشه في منهجيته الجنيالوجية عندما كشف عن الأخلاق المسيحية، فلكي تتحرر من شيء ما ينبغي أن تكشف عن أصله أو جذره الأول” (أركون، 2000 ص 279 – 280)، ويقصد أركون أنه إذا كنا نطمح أن ندخل في سياق الحداثة يجب علينا أن نخضع ذاك الجانب المستحيل التشكيك أو التفكير فيه للنقد، ويقصد هنا العقل الإسلامي الذي “دائما ما يخفي تاريخانيته، ويتصرف كأنه كان دائما موجودا على ما هو عليه اليوم منذ الأزل، وأنه سوف يظل على حاله إلى الأبد، فهذا ما يجب نقده والحفر في أصله من أجل تحرير العقل الحديث الذي يعيش في وهم الماضي الذي سيطرت عليه الأسطورة واللاهوت”(أركون، 2000، ص 280)، والدليل على أن هذا العقل لا يقوم على أسس رصينة، نجده دائما ما يصدّ كل من حاول نقده، وخاصة عندما يتقدم أحد في عملية الحفر أكثر فأكثر ويقترب من منطقة الحقيقة، فإنه يجد كل القوى المحافظة والتقليدية تنهض في وجهه دفعة واحدة، وذلك لكي تمنعه من الوصول إلى هدفه” (أركون، 2000 ص 280)، فهذا ما يُظهر لنا أن أركون أثناء نقده للتراث وظف منهجا قد نقول محاكيا للمنهج الذي استعمله فوكو إثر نقده للمعرفة التاريخية في السياق الغربي، وهذا ما يميز أركون كذلك عن الجابري، لأنه كان أكثر جرأة أثناء نقده للتراث، بدل الجابري الذي ظل متحفظا وجعل نقده للعقل العربي يدور في نفق ضيق، عكس أركون الذي جعل من نقده للعقل الإسلامي يتجاوز حدود التراث العربي المكتوب.
    وهذا ما يتبين من خلال عودته النقدية للتراث وارتكازه على النص القرآني بوصفه جزءا أساسيا من التراث العربي الإسلامي، نظرا لسيطرته على العقل العربي، لهذا جعل من النص القرآني موضوعا لدراسته التأويلية والألسنية والنقدية التاريخية، محاولاً الكشف عن مظاهر التعقل فيه، إذ سيثبت بعد دراسة معمقة للنص القرآني، أن القرآن يخلو من كلمة العقل، ولكنه يحتوي على الكثير من الآيات التي تدعوا للتعقل، واستخدام العقل.







    ولهذا ميز أركون بين نوعين من العقل: عقل مستقل وهو الذي يخلق بكل سيادة وهيبة أفعال المعرفة ويرفض الاشتغال داخل نطاق المعرفة الجاهزة أو المحددة سالفا، وهذا هو العقل الفلسفي، والعقل الديني الذي يشتغل داخل إطار المعرفة الجاهزة ويستخرج المعرفة الصحيحة استنادا إلى العبارات النصية للكتابات المقدسة، ولدا فهو عقل تابع، لأنه لا يطرح مشكلة أصل الوحي ولا مشروعية الانتقال من مرحلة الوحي إلى مرحلة المعارف المنجزة (بغورة، ص 72).
    وهذا ما دعا أركون لنقد العقل الديني الذي دائما ما يقف كحاجز أمام العقل الفلسفي؛ الذي يرفض كل الحقائق المسلمة. فالخطاب الديني مارس سلطة مطلقة على العقل العربي الإسلامي عبر جل المراحل التاريخية، مما جعل العقل الفلسفي عاطلا وغير قادر على الاشتغال. لهذا حاول أركون أن يعود إلى الجدور التاريخية التي ينبني عليها هذا الخطاب، وكأنه يريد أن ينزع عنه قدسيته التي جعلته تراثا من المستحيل التفكير فيه أو إخضاعه للتأويل والنقد، وهذه النظرة للخطاب التاريخي نفسها نجدها عند فوكو حين يعرف الخطاب على أنه “ليس شكلاً مثالياً، ولا زمانياً، له بالإضافة إلى ذلك التاريخ. ولا يكمن جوهر المشكل في التساؤل عن أسباب انبثاقه وظهوره في هذه اللحظة المعينة من الزمن أو تلك، فهو تاريخي، من جهة إلى أخرى وجزء من الزمن، وحدة وانفصال في التاريخ ذاته” (فوكو، 1987، ص108)، ولهذا فأركون يضع أمله في العقل الفلسفي كعقل نقدي وموضوعي قادر على إخضاع النص الديني الذي يعتبر كحقيقة مطلقة إلى التحليل الأركيولوجي”، وهو الذي يطرح استمرار صلاحية أو عدم صلاحية الشروط النظرية لخطاب ما، وهو القادر على تقديم تحليل عقلاني لمسألة التاريخ مع تشخيص نقدي لمشكلات الحداثة وتحدياتها” (بغورة، ص 87)، لهذا دعا أركون لتغيير نظرتنا وتعريفنا لمفهوم الحقيقة ذاته، لأن الحقيقة بالنسبة إلى أركون “ليست جوهرا أو شيئا معطى بشكل جاهز ونهائي، وإنما هي تركيب ناتج عن تركيب لفضي أو معنوي، قد ينهار لاحقا لكي يحل محله تركيب جديد، فالحقائق تنهار وتموت بحسب التصور الإبيستمولوجي الحديث، وليست أبدية وخالدة كما كان يتصور اللاهوت القديم “(أركون، 2000، ص166)
    إن الدراسات التي قام بها أركون أثناء عودته لنقد التراث ومساءلته، كشفت عن مجموعة من القضايا المهمة داخل تراثنا، والتي كان من المستحيل التفكير فيها، حيث فتح المجال أمام مجموعة من المفكرين لإعادة النظر في هذا الجانب من التراث الذي سيطر على العقل العربي الإسلامي طيلة المراحل التاريخية، مما جعله تابعا ومقلدا، لا ينتج ولا يبتكر، عقل يعيد نفسه داخل حلقة مغلقة.
    ولكن الخطأ الذي سقط فيه أركون هو أنه نظر إلى النص القرآني كأيّ نص مكتوب يجوز نقده ومحاكمته، مع العلم أن النص القرآني يحتوي على حقائق يعجز العقل عن إدراكها، وبهذا تختلف الحقيقة القرآنية عن الحقيقة الفلسفية من حيث المبدأ ومن حيث المنتهى. فلما نحاول نقد المعرفة القرآنية بشكل عقلاني يجب ألا ننكر الحقائق الإيمانية أو الروحية، وألا نجهل أن النص القرآني ليس كباقي النصوص التاريخية الأخرى، وهذا ما أدخل أركون في صراع مع التراث اللامفكر فيه، عكس الجابري الذي لم يزعم على الدخول في مثل هذا الصراع؛ لأنه كان واعيا بما يحمله التراث من سلطة. حيث نجد أنه حاول أن يقرأ التراث قراءة أيديولوجية واعية.
    خاتمة








    إن مسألة التراث لازالت تطرح نفسها كإشكالية داخل سياقنا الفكري المعاصر، خاصة وأننا مازلنا نبحث عن منهج ومفاهيم نستطيع من خلالها أن نفكك تراثنا بشكل كامل وليس بشكل جزئي، بطرق عقلية لا تطبعها النزعة الحنينية للتراث ولا النزعة الثورية عليه، فإذا كان الجابري حين عودته لنقد التراث كانت غايته هي جعل هذا التراث معاصرا لنا، في مقابل دفاعه عن وحدة العقل العربي، الذي ترجع بنيته لنفس السياق التاريخي، فهذا ما أسقطه في نوع من القومية التي تعتبر بحد ذاتها أيديولوجيا. أما في المقابل نجد أركون الذي كان أكثر جرأة أثناء نقده للتراث، حين سلط الضوء على جانب من التراث لم يكن أحد من النقاد استطاع التفكير فيه، وبما أن هذا النوع من التراث يتجذر في بنية العقل الإسلامي، كان من الصعب نقده أو التأثير فيه، وخاصة حين جعل من النص القرآني نصا تراثيا، الشيء الذي أدى إلى استبعاده عن ساحة الفكر العربي الإسلامي، حتى أصبح أركون ذاته من التراث اللامفكر فيه، وهذا راجع لأنه وظف مناهج غربية من الصعب تطبيقها على تراثنا العربي، قد يكون نجاح المنهج الفوكوي في السياق الغربي راجع لخصوصية التراث والثقافة الغربية بحد ذاتها، وهو الذي جعل مفكرينا متحمسين لتطبيقه على تراثنا، رغم أن الجابري كان واعيا منذ البداية بمخاطر تلك النقلة المباشرة للمفاهيم والمناهج الغربية. فلهذا يمكننا القول إن ما نحتاجه لدراسة تراثنا، هو أن نبدع مفاهيم ومناهج خاصة بنا، ولا نغفل الاستفادة من المناهج الغربية في الوقت ذاته، وأن نعي بأن مسألة التراث تختلف حسب بنية العقل والثقافة التي تنبني عليه، لهذا يتطلب الأمر التصرف مع هذه المناهج والمفاهيم بحذر وعقلانية، كي لا نسقط في الأيديولوجيا الغربية التي قد تشوه نظرتنا للتراث، لأن هذا الأخير ليس كل ما يحمله مناف للتقدم والازدهار، بل يجب أن نعود لتراثنا بنزعة تصحيحية، وأن نكون قادرين على التمييز بين ما هو تراث وما هو خارج عن التراث.
    ينشر بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الثقافية اللندنية








    يوسف امجيدة
    باحث من المغرب





















يعمل...
X