الحاجة إيجيريا رحالة تدوّن ثلاث سنوات ساحرة في الشرق
امرأة مثقفة وشجاعة خاضت رحلة استثنائية
تيسير خلف /ميريه الجراح
في عددها لشهر أغسطس قدمت مجلة الجديد ملفا هاما في أدب الرحلة بعنوان “شرق الغربيين – حجاج ومغامرون وفرسان صليبيون” وجاء في مئة وخمس صفحات، وهو يقع في شقين الأول غطى رحلات الحجاج الغربيين إلى بلاد الشام بهدف الوصول إلى بيت المقدس، وضمنا الملوك والفرسان الصليبيون، والشق الثاني، غطى جوانب من الترحال الغربي إن بمبادرات شخصية لمغامرين حالمين، أو بتشجيع ودعم من الجمعيات العلمية الاستعمارية، على غرار الجمعيتين البريطانيتين: الجمعية الأفريقية، والجمعية الجغرافية الملكية. وتغطي الرحلات القارتين الآسيوية والأفريقية. وقد اخترنا نشر واحدة من أكثر الرحلات إثارة والتي تعتبر أقدم النصوص في أدب الرحلة ألا وهي رحلة الحاجة إيجيريا.
لا يُعرف الكثير عن الحاجة الإسبانية إيجيريا، صاحبة أقدم نص رحلي إلى الأراضي المقدسة في الفترة ما بين عامي 381 و384 للميلاد. إذ؛ لم يسبقها من الحجاج الذين دونوا شيئاً عن رحلاتهم إلاَّ “حاج بوردو” عام 333 ميلاديا، ولكن؛ للأسف لم يصلنا من مخطوطته إلا أسماء محطات رحلته. ومن هنا تكتسب رحلة إيجيريا هذه الأهمية الاستثنائية التي تضعها في مقدمة المصادر الأصلية النادرة لهذا النوع من التأليف.
الحاجة التي كتبت رحلتها باليونانية لم تخبرنا الكثير عن نفسها ولكن يبدو أنها كانت سيدة شجاعة ومغامرة
لم تخبرنا الحاجة التي كتبت رحلتها باليونانية، الكثير عن نفسها، ولكن؛ لا بد وأنها كانت سيدة شجاعة ومغامرة حتى تقوم برحلة طويلة مضنية استمرت ثلاث سنوات من السفر في الشرق. وأيضاً لا بد وأنها سيدة ذات ثقافة رفيعة وذات ثراء، وهذا يؤكده اهتمامها الشديد بالجغرافيا والمعالم الأثرية، وليس فقط المأثورات الليتورجية المسيحية. وربما كانت إيجيريا على صلة مع البلاط الإمبراطوري في القسطنطينية؛ إذ كان الإمبراطور ثيودوسيوس الكبير من إسبانيا أيضاً، ووصل إلى القسطنطينية في الفترة ذاتها لوصول إيجيريا. علماً أن زوجة ثيودوسيوس، إيليا فلاسيلا، وابنة أخته سيرينا كانتا من المسيحيات المشهورات بعدائهن للوثنية. ويبدو أن الدوافع الكامنة وراء رحلاتها هي رغبتها في تعميق فهمها للكتاب المقدس؛ من خلال معاينة الأماكن ذاتها التي يفترض أنها كانت مسرحاً للأحداث الكتابية.
دوّنت الحاجة الإسبانية وقائع رحلتها وأرسلتها إلى أخواتها المؤمنات في وطنها، ومن الممكن أن المقصود بأخواتها مجموعة رهبانية نسائية مجهولة. حيث عثر على أجزاء من نص الرحلة في العام 1884 في مكتبة القديسة ماري في أريتسو بإيطاليا، وهي نسخة مخطوطة تعود إلى القرن الحادي عشر كتبها أحد رهبان دير مونتي كاسينو.
تضم الأجزاء المتبقية من رحلة إيجيريا وقائع زيارتها إلى سيناء، وعودتها إلى فلسطين عبر السويس، وزياراتها المختلفة إلى المواقع المذكورة في الكتاب المقدس في فلسطين، بما في ذلك الوصف التفصيلي للقدس، ثم زيارتها إلى أنطاكيا والرها ورحلة العودة إلى القسطنطينية.
جبل سيناء وأسقف العربية
الدوافع الكامنة وراء الرحلة هي رغبة إيجيريا في تعميق فهمها للكتاب المقدس بزيارة الأماكن الحقيقية للأحداث
يبدأ الجزء الذي وصَلنا من الرحلة في جبل سيناء، حيث ذهبت إيجيريا لترى ما تستطيع أن تراه مما ورد ذكره في كتاب العهد القديم. وهناك وجدت أدلاء ورهباناً وقساوسة أطلعوها على تفاصيل المكان، فصعدت إلى قمة الجبل المقدس حيث ظهر الرب لموسى، بحسب أسفار العهد القديم. ووجدت هناك كنيسة وديراً، أطلعها الرهبان المقيمون فيه على المكان الذي كان يُعتقد أن العجل الذهبي يقف فيه، كما أطلعوها على الأماكن التي شهدت جميع المعجزات المذكورة في الكتاب المقدس، بما في ذلك المكان الذي أنزل فيه المنّ والسلوى على بني إسرائيل، والوادي الذي تم الاحتفال فيه بعيد الفصح.
بعد جبل سيناء توجهت الحاجة إيجيريا إلى المكان المفترض لأرض جاسان في شرقي الدلتا المصرية حيث زارت مدينة رعمسيس المفترضة، ورأت فيها تمثالين كبيرين، قيل لها إنهما يخصان القديسين موسى وهارون. كما دلوها على شجرة الجميز التي يُقال إن الآباء قد زرعوها؛ حيث أن هذه الشجرة كانت قد تحولت إلى مزار مقدس كما أخبرها أسقف العربية حين التقته في مدينة رعمسيس. وقد وصفت هذا الأسقف بأنه “رجل مسن تقي حقاً منذ أن أصبح راهباُ، وكان لطيفاً في استقبال الحجاج، وعلى معرفة كبيرة بالكتاب المقدس. وبعد تكبد العناء للقائنا، أظهر لنا كل شيء هناك وأخبرنا عن التماثيل المذكورة أعلاه، وكذلك عن شجرة الجميز”.
وتضيف قائلة: “عشية عيد الغطاس المبارك، والوقفات الاحتفالية التي ستُقام في الكنيسة في نفس اليوم. أبقانا الأسقف هناك لمدة يومين. ومن هذا المكان، رافقنا جنود رومان، عبر مدينة العربية إلى طيبة ثم إلى بيلوسيوم، ومن هناك تابعنا رحلتنا باستمرار عبر أرض جاسان، بين الكروم التي تنتج النبيذ، والبساتين التي تنتج البلسم، والحدائق المزروعة لغاية المتعة، حيث يقع طريقنا بالكامل على طول ضفة نهر النيل. حيث لم أر قط بلداً أجمل من أرض جاسان. وهكذا سافرنا لمدة يومين من مدينة العربية إلى أن وصلنا إلى تنيس”.
امرأة مثقفة وشجاعة خاضت رحلة استثنائية
تيسير خلف /ميريه الجراح
في عددها لشهر أغسطس قدمت مجلة الجديد ملفا هاما في أدب الرحلة بعنوان “شرق الغربيين – حجاج ومغامرون وفرسان صليبيون” وجاء في مئة وخمس صفحات، وهو يقع في شقين الأول غطى رحلات الحجاج الغربيين إلى بلاد الشام بهدف الوصول إلى بيت المقدس، وضمنا الملوك والفرسان الصليبيون، والشق الثاني، غطى جوانب من الترحال الغربي إن بمبادرات شخصية لمغامرين حالمين، أو بتشجيع ودعم من الجمعيات العلمية الاستعمارية، على غرار الجمعيتين البريطانيتين: الجمعية الأفريقية، والجمعية الجغرافية الملكية. وتغطي الرحلات القارتين الآسيوية والأفريقية. وقد اخترنا نشر واحدة من أكثر الرحلات إثارة والتي تعتبر أقدم النصوص في أدب الرحلة ألا وهي رحلة الحاجة إيجيريا.
لا يُعرف الكثير عن الحاجة الإسبانية إيجيريا، صاحبة أقدم نص رحلي إلى الأراضي المقدسة في الفترة ما بين عامي 381 و384 للميلاد. إذ؛ لم يسبقها من الحجاج الذين دونوا شيئاً عن رحلاتهم إلاَّ “حاج بوردو” عام 333 ميلاديا، ولكن؛ للأسف لم يصلنا من مخطوطته إلا أسماء محطات رحلته. ومن هنا تكتسب رحلة إيجيريا هذه الأهمية الاستثنائية التي تضعها في مقدمة المصادر الأصلية النادرة لهذا النوع من التأليف.
الحاجة التي كتبت رحلتها باليونانية لم تخبرنا الكثير عن نفسها ولكن يبدو أنها كانت سيدة شجاعة ومغامرة
لم تخبرنا الحاجة التي كتبت رحلتها باليونانية، الكثير عن نفسها، ولكن؛ لا بد وأنها كانت سيدة شجاعة ومغامرة حتى تقوم برحلة طويلة مضنية استمرت ثلاث سنوات من السفر في الشرق. وأيضاً لا بد وأنها سيدة ذات ثقافة رفيعة وذات ثراء، وهذا يؤكده اهتمامها الشديد بالجغرافيا والمعالم الأثرية، وليس فقط المأثورات الليتورجية المسيحية. وربما كانت إيجيريا على صلة مع البلاط الإمبراطوري في القسطنطينية؛ إذ كان الإمبراطور ثيودوسيوس الكبير من إسبانيا أيضاً، ووصل إلى القسطنطينية في الفترة ذاتها لوصول إيجيريا. علماً أن زوجة ثيودوسيوس، إيليا فلاسيلا، وابنة أخته سيرينا كانتا من المسيحيات المشهورات بعدائهن للوثنية. ويبدو أن الدوافع الكامنة وراء رحلاتها هي رغبتها في تعميق فهمها للكتاب المقدس؛ من خلال معاينة الأماكن ذاتها التي يفترض أنها كانت مسرحاً للأحداث الكتابية.
دوّنت الحاجة الإسبانية وقائع رحلتها وأرسلتها إلى أخواتها المؤمنات في وطنها، ومن الممكن أن المقصود بأخواتها مجموعة رهبانية نسائية مجهولة. حيث عثر على أجزاء من نص الرحلة في العام 1884 في مكتبة القديسة ماري في أريتسو بإيطاليا، وهي نسخة مخطوطة تعود إلى القرن الحادي عشر كتبها أحد رهبان دير مونتي كاسينو.
تضم الأجزاء المتبقية من رحلة إيجيريا وقائع زيارتها إلى سيناء، وعودتها إلى فلسطين عبر السويس، وزياراتها المختلفة إلى المواقع المذكورة في الكتاب المقدس في فلسطين، بما في ذلك الوصف التفصيلي للقدس، ثم زيارتها إلى أنطاكيا والرها ورحلة العودة إلى القسطنطينية.
جبل سيناء وأسقف العربية
الدوافع الكامنة وراء الرحلة هي رغبة إيجيريا في تعميق فهمها للكتاب المقدس بزيارة الأماكن الحقيقية للأحداث
يبدأ الجزء الذي وصَلنا من الرحلة في جبل سيناء، حيث ذهبت إيجيريا لترى ما تستطيع أن تراه مما ورد ذكره في كتاب العهد القديم. وهناك وجدت أدلاء ورهباناً وقساوسة أطلعوها على تفاصيل المكان، فصعدت إلى قمة الجبل المقدس حيث ظهر الرب لموسى، بحسب أسفار العهد القديم. ووجدت هناك كنيسة وديراً، أطلعها الرهبان المقيمون فيه على المكان الذي كان يُعتقد أن العجل الذهبي يقف فيه، كما أطلعوها على الأماكن التي شهدت جميع المعجزات المذكورة في الكتاب المقدس، بما في ذلك المكان الذي أنزل فيه المنّ والسلوى على بني إسرائيل، والوادي الذي تم الاحتفال فيه بعيد الفصح.
بعد جبل سيناء توجهت الحاجة إيجيريا إلى المكان المفترض لأرض جاسان في شرقي الدلتا المصرية حيث زارت مدينة رعمسيس المفترضة، ورأت فيها تمثالين كبيرين، قيل لها إنهما يخصان القديسين موسى وهارون. كما دلوها على شجرة الجميز التي يُقال إن الآباء قد زرعوها؛ حيث أن هذه الشجرة كانت قد تحولت إلى مزار مقدس كما أخبرها أسقف العربية حين التقته في مدينة رعمسيس. وقد وصفت هذا الأسقف بأنه “رجل مسن تقي حقاً منذ أن أصبح راهباُ، وكان لطيفاً في استقبال الحجاج، وعلى معرفة كبيرة بالكتاب المقدس. وبعد تكبد العناء للقائنا، أظهر لنا كل شيء هناك وأخبرنا عن التماثيل المذكورة أعلاه، وكذلك عن شجرة الجميز”.
وتضيف قائلة: “عشية عيد الغطاس المبارك، والوقفات الاحتفالية التي ستُقام في الكنيسة في نفس اليوم. أبقانا الأسقف هناك لمدة يومين. ومن هذا المكان، رافقنا جنود رومان، عبر مدينة العربية إلى طيبة ثم إلى بيلوسيوم، ومن هناك تابعنا رحلتنا باستمرار عبر أرض جاسان، بين الكروم التي تنتج النبيذ، والبساتين التي تنتج البلسم، والحدائق المزروعة لغاية المتعة، حيث يقع طريقنا بالكامل على طول ضفة نهر النيل. حيث لم أر قط بلداً أجمل من أرض جاسان. وهكذا سافرنا لمدة يومين من مدينة العربية إلى أن وصلنا إلى تنيس”.