الخزف الأرمني في القدس.. مئوية مزدانة بالتاريخ
المصدر:
- رام الله - محمـد الرنتيسي
التاريخ:
19 أغسطس 2022
ت +ت -الحجم الطبيعي
على مقربة من باب العامود، أحد أشهر معالم القدس القديمة، يتربع مصنع الخزف الفلسطيني منذ أن شيده الأرمني نيشان باليان العام 1922، تلبية لطلب البريطانيين آنذاك، بمهمة المساهمة في ترميم الجدران الخارجية لقبة الصخرة، ومنذ ذلك الحين، ظلت عائلة باليان في القدس، لتبدأ مشوارها مع حرفة الخزف، التي باتت إحدى أهم سمات القدس القديمة.
مئة عام مرت، وعائلة باليان متمسكة بأقدم مشاغل الخزف والسيراميك في القدس، والذي يضم اليوم مشغلاً ومتجراً لبيع القطع، ومتحفاً للمشغولات النادرة، تشكل مزيجاً من التراث الأرمني التركي الإسلامي، حسب مؤرخين لا علاقة لأرمينا به، إذ يعود سبب التسمية لتطور هذه الصناعة على يد حرفيين أرمن سكنوا القدس، وتوارثها عنهم الأبناء والأحفاد.
في مشغل الخزف الأرمني، ثمة رسومات بألوان زاهية، ترسم وتلون باليد، نقوش وزخارف تجسد جماليات العمارة الأرمنية عبر الأوان الصافية، ما يضفي على المشغولات التراثية بهاءً فريداً، خطوط مشغولة يدوياً تتجانس في تناغم عجيب، وتكون لوحة بديعة، تسر النفس، وتطرب لها العين.
تفوح رائحة التاريخ، من جدران المشغل العتيقة، وتعكس نوافذه الخزفية المحاطة بالسيراميك تعاقد السنين والعقود على هذه الصناعة، التي لا يسمح أبناء عائلة باليان بأن تقترب منها معاول الانكماش أو النسيان، إذ يكرس أبناء العائلة كل أوقاتهم لخدمة الزبائن، وغالبيتهم من السياح الأجانب، وقبل الحديث إليهم عن أسعار القطع المعروضة، لا بد من الإشارة إلى قيمتها التاريخية والفنية.
يشرح نيشان باليان (الحفيد) الذي يدير المشغل حالياً، أن حكاية الخزف الأرمني في القدس، نهضت بدءاً من العام 1918، عندما استقطبت حكومة الانتداب البريطاني صانعين مهرة من مدينة كوتها التركية، التي كانت تعد مهد الخزف الإسلامي بين القرنين الـ17 والـ19، بهدف ترميم بلاط الحرم القدسي، وقبة الصخرة، موضحاً أن أجداده أبدعوا في عملية الترميم عطفاً على خبرتهم الكبيرة في ترميم السيراميك ذي الأصول التركية.
يوالي مستذكراً: «غالبية الصانعين، رحلوا بعد انتهاء مهمتهم، لكن جدي نيشان باليان فضل البقاء في القدس، خصوصاً وأن جاليات عدة كانت تؤم المدينة المقدسة في تلك الفترة، لأسباب تتراوح ما بين الحج إلى الحرم القدسي، أو التجارة، ومع مرور الوقت تشكلت عائلة باليان في القدس، وأسست العام 1922 مصنع الخزف الأرمني، الذي ظل صامداً حتى يومنا هذا».
وحسب نيشان، فقد تميز الخزف الأرمني عن التركي بإضافة عناصر من البيئة الفلسطينية، مثل الغزلان، وشجرة الحياة المستوحاة من قصر هشام بن عبد الملك الأثري الشهير في مدينة أريحا، وفي حين تمحور الخزف التركي الإسلامي حول الأشكال الهندسية والنباتات، نزع الخزف الأرمني باتجاه البيئة، لا سيما الأرضيات السيراميكية التي اشتهرت بها منازل الفلسطينيين القديمة.
يؤكد إصرار عائلته على الاستمرار في إنتاج هذا اللون من الخزف والسيراميك، لما يحمله من تاريخ وقيمة فنية، وما يمثله من حفاظ على التراث الفلسطيني، مفاخراً: «الخزف الأرمني الفلسطيني له رونقه الخاص، وكل قطعة منه مجبولة بالعرق، ومن صنع أيدينا، بعيداً عن المصانع الآلية، وقد أصبح مزاراً للسياح من مختلف دول العالم، وحلقة وصلهم مع عبق التاريخ».
«لن أغادر المتجر، ولن أترك صناعة الخزف حتى آخر يوم في حياتي، وبدأت بتهيئة أولادي في سن مبكرة، لمواصلة المشوار، وسيظل (سر المهنة) محفوظاً لدى أبناء العائلة، يتوارثونه جيلاً بعد جيل» يختم نيشان.