في رواية “ريحون” للروائية اسمهان الزعيم
يقلم الدكتورة بشرى الصفارتطالعنا رواية “ريحون” للروائية والأديبة اسمهان الزعيم بشكل أنيق يومئ برمزية خفية تشاكس وعي المتلقي بدءا بالعنوان “ريحون” الذي قد يحيل على صفة أواسم علم أواسم مكان أو…ثم لوحة تشكيلية تثير برموزها فضول المتلقي وتستدعيه لخوض غمار فك شفراتها التي جاءت على شكل خطوط هندسية بديعة وحروف مبعثرة متعددة الألوان، وقد سطر على الغلاف مصطلح “رواية” فيما يشبه العقد المبرم بين الروائية والمتلقي حيث تم تحديد الجنس الأدبي للعمل الإبداعي ضمن الجنس الروائي بخصائصه ومكوناته وبنياته السردية واللغوية والتخييلية المتعددة.
وكما هو معروف الرواية ديوان العصر الحديث استطاعت احتواء احداث الأوطان وصراعاتها وايديولوجياتها وتعددياتها، وقد استطاعت الرواية احتضان هذا التعدد الذي ناسب تعدد مكوناتها وميكانزماتها ووسط هذا التنوع الوظيفي لعناصر الرواية ارتأيت دراسة رواية “ريحون” من زاويتي الواقعي والخيالي، فكل عمل إبداعي( فني، تشكيلي، شعري ، قصصي……) هو عمل متخيل حيث تعتبر مخيلة المبدع هي القناة الرئيسية لتجسيد العمل الإبداعي وإخراجه إلى حيز الوجود إما على شكل خطوط وألوان كما في الفن التشكيلي أو أشكال هندسية ومنحوتات فريدة كما في فن النحت أو تدخل في علاقة تفاعلية مع مجموعة من الشخصيات كما في الفن القصصي أو الروائي .
وقد حظي المتخيل بدراسات وأبحاث عديدة منذ زمن بعيد سواء الدراسات الفلسفية الإغريقية ( أرسطووأفلاطون…) أو التنظيرات النقدية والبلاغية العربية (ابن رشد، الجرجاني….) أو الدراسات الحديثة فكما يقول r.ledrut:” كل معرفة هي عقلانية في بنيتها والخيالي ليس إلا وسيلة لتحيين actualisation القوة المعرفية، لهذا فالعقلاني والخيالي لا يمكن لأي منهما ان ينتج معرفة دون الآخر ولا يمكن تقديم أي معرفة عن الواقع دون مخيلة هذا الفن المختبئ في أعماق الروح الإنسانية كما يقول كانت kant”(1)
وبفضل هذه الدراسات استعادت المخيلة قيمتها وقدراتها و بدات الرواية تغتني وتتطور بتقنياتها مستعيرة أشكالها وعناصرها من الواقع كمجال للانتقاء لتمارس بعد ذلك طقوس التخييل على عدة مستويات فتغدو الرواية عالما شعريا خاصا تحكمه علاقات معقدة ينسجها الروائي وفق منطقه الخاص ونقلا عن واقعه الآخر.
وبانتقالنا لرواية “ريحون” للروائية اسمهان الزعيم نلاحظ حضور المتخيل على عدة مستويات أهمها:
حضور المتخيل عبر الحلم: يعتبر الحلم أخصب مجال لتفتق المتخيل الذي يتحرر من رقابة البيئة والمجتمع وقد أكد العديد من الباحثين على مدى أهمية حضور هذا المكون كعنصر بنائي في الرواية الحديثة وكأنسب تقنية لطرح أضخم القضايا وأعقدها دون الانفصال عن ذاكرة الفرد وتقاليده وتاريخه البعيد وقد آمن بهذه التقنية عدة مبدعين وروائيين فنجد مثلا ميلان كونديرا يقول :”أنا مثل نوفاليس وكافكا أود أن أدخل الحلم والمخيلة الخاصة بالحلم في الرواية وطريقتي ليست خلطا بين الحلم والواقع لكنها مواجهة متعددة اللغات والمحكي الحلمي هو أحد خطوط التقاطع” (2)هذا التقاطع هو ما يسجله المتلقي بدهشة بين السرد التسلسلي للحدث واستيهامات وأحلام وأحلام يقظة شخصيات رواية “ريحون”ليحتل المتخيل( الحلم) مساحة هامة ضمن أحداث الرواية يدعو المتلقي لتتبع التسلسل الزمني للحدث ونقاطعاته التخييلية الواعية واللاواعية فيكون بذلك المكون التخييلي اما مكملا للحدث أو ممهدا له أو مفسرا :”ولعن ريحون في سره الشرق والغرب وتفل عن شماله كما ليستعيد من خبث شيطان أوعبث جان، وأمسكت أصابعه جهاز التحكم فخرس الصوت واندثرت الصورة وأخذته غفوة ووطأت قدماه دون أن يدري بهوا مغلقا وقد غلفت سقفه غمامة سوداء من أدخنة الأراجيل…..حتى في المنام يا صديقي كنت نزقا وقد تركتني متولها لمعرفة تلك المفاجأة التي تعد لي وأراد عقلي الباطن أن يكشفها في كواليس المنام لكنك كنت مراوغا ومدلسا …”الرواية ص 81 هنا نحس أن بطل الرواية ريحون جد واع بلعبة الواقع والحلم فيجعل هذا الأخير وسيلة لفك رموز استعصى عليها التعامل المباشر الواعي فانتظر النبوءة “الحلم” التي استعصت هي الأخرى.
حضور المتخيل عبر الذاكرة: تقوم الذاكرة التخييلية بدور فعال في السرد وسير أحداث الرواية من خلال ذكريات الشخصيات وتداعيات أفكارها بكل ما تحمله من رموز ودلالات ووقائع بإمكانها إغناء النسيج السردي وتخصيبه، هكذا يمكن رصد علاقة بعض شخصيات رواية “ريحون” بالذاكرة كالتالي:
أبرز تيمة استحضرتها ذاكرة “ريحون” بطل الرواية باشمئزاز وتفزز هي تيمة الانحراف الأخلاقي والشذوذ الجنسي الذي أبت ذاكرته إلا أن تستحضره بمرارة وألم عند رؤيته لدنييل رفقة شاب يافع صدفة في الحديقة:”غادر الحديقة في ذلك المساء بعد أن أغرقه طوفان الذكرى، وأفحمته ذاكرته الرعناء في أحداث مضت تمنى لو أن الذاكرة اللئيمة تلطفت وتكرمت بمحوها من أرشيف ذكرياته المعتمة وسار ينفض من دواخله غبار الشجا ورماد الخيبة وهو يحث الخطى نحو مرآب السيارات” الرواية ص55 هكذا تدخل شخصيات الرواية في صراعات داخلية وتجاذبات ساهمت تقنية الاسترجاع بشكل كبير في إضاءتها وإطلاع المتلقي على جوانب مظلمة من حياة شخصيات الرواية، كما يمكن رصد اشتغال الذاكرة التخييلية في عدة مواضع من الرواية كما هو الشأن مع شخصية “رقية” التي تحولت إلى سارد في أحد فصول الرواية فهي تلك الطالبة النجيبة الحاصلة على شهادة الإجازة التي لاتمنح حاملها اية قيمة مضافة خاصة في بلداننا العربية حيث البطالة تضرب أطنابها ،فبدلا من أن تتمتع هذه الشخصية بذاكرة علمية نافعة أصبحت ذاكرة تتنكر لكل ماهو جامعي ثقافي:”وتنكرت ذاكرتي لكل ما درسته في مدرجات الجامعة حتى ماعدت أفقه شيئا من تلك العلوم التي تعنكبت في خلايا دماغي….”الرواية ص 185 بهذا كان اشتغال المتخيل من خلال ذاكرة الشخصيات الروائية وسيلة لتجديد التحديات الراهنة أو تصحيحها أو تغييرها للأفضل.415
حضور المتخيل عبر المرآة: تزامن حضور المرآة في رواية “ريحون” مع حضور شخصية الدرويش ولا يخفى على المتلقي العربي رمزية الدرويش في الأعمال السردية أو الدراماتورجية، إنه ذاك الأحمق ، الأبله ،المعتوه…..ألقاب وصفات تصب كلها في نعت شخص بالفرادة والغرابة في الفكر والتصرف إنه ذاك الإنسان الذي فقد عقله لينير عقول الآخرين فهو ذو رؤيا وحكمة صوفي نذر نفسه ليكون ربانيا زاهدا في الدنيا وملذاتها لا يكاد يخلو منه زقاق خاصة في بلداننا العربية يتعامل معه الأهالي بشيء من الاحترام والقدسية والفكاهة أحيانا يحل معاني رؤيوية . هكذا كان درويش رواية” ريحون” يجيب عن أسئلة المارة وهي أسئلة شائكة حارقة وجودية أحيانا بحكمة وترو تفحم السائل وتجعله مشدوها لرجاحة عقل هذا الإنسان البسيط الذي يتربع على عرش المخيال الشعبي، فكان توظيف شخصية الدرويش موفقا في رواية “ريحون” منحها شحنة عاطفية وإثارة فريدة استدرجت المتلقي لتتبع تفاصيل المحكي السردي خاصة عند استحضار تيمة المرآة.
تشكل المرآة مرحلة هامة ومفصلية في تكوين العقدة الخياليةle nœud imaginaire للإنسان منذ الثمانية أشهر الأولى من ولادته كما تساهم في تكون الأنا الذي يأتي على مراحل لإن” هذا التكون لا يأتي بشكل فجائي، وإنما يستلزم عملية إرسال الصورة الجسد (في المرآة) حيث يدخل الخيالي و الرمزي في حوار أساسي”(3) وهو الحوار الذي سجل بين الدرويش ومرآته المتأكلة حين انتصب أمامها بكل شموخ وكبرياء وبدأ يعد النعم التي ينعم بها ليصل إلى خلاصة مفادها” أنا أغنى من ثري هذه البلدة الذي تعرض لحادث رهيب ففقد على إثره إحدى يديه ورجليه فأضحى عاجزا تماما، يتحرك على كرسي أوتوماتيكي وفي عينيه تسكن الدنيا التي لم يستطع أن يسكنها بسنابك الذهب التي يحتفظ بها ضمن مدخراته الثمينة…” الرواية ص345 . فهذا الدويش أبرم عقد صلح مع ذاته ومع المجتمع منذ زمن بعيد عبر تيمة المراة، فحضور هذه الأخيرة ليس اعتباطيا ولا زائدا وإنما هو حضور يؤكد على قيمة الفرد العليا التي لاينبغي أن ينال منها الفقر أو التهميش أوالقهر فهي قطعة ألماس تزداد لمعانا كلما تقدمت السنين، لهذا أجد أن حضور تيمة المرآة وإرفاقها بشخصية الدرويش أغنى فعلا المحكي السردي، كما جاء ليبرز قيمة الشبكة الرمزية التي تلف طقوس المعاملات بين الفرد وبيئته من جهة وبين الفرد وذاكرته التاريخية والأنتروبولوجية الضاربة في أعماقه السوسيولوجية والدينية والعرقية من جهة ثانية.
أما عن حضور الواقعي في رواية “ريحون” فالملاحظ أنه يحتل مساحة أوسع بكثير من الخيالي الذي ظل محتفظا بجذوره الواقعية ولم يصل حد الخيال الجامح الذي ينأى عن المنطق والمعقول، حيث أبت الروائية اسمهان الزعيم أن تنأى عن قضايا العصر وجعلت المشروع الروائي مرآة عاكسة للقضايا التي تؤرق الفرد والجماعة على حد سواء عكس بعض الروائيين الحداثيين الذين التزموا الحياد تجاه واقعهم بدعوى الالتزام بالوظيفة الفنية والشعرية في حين أن هذا الحياد يحمل بين طياته أبعادا أخرى”إن هذا المرض الذي أصاب الرواية على يد الروائيين الجدد ليس سوى انعكاس واضح للإزمة الفكرية في واقع اجتماعي متأزم بدوره”(4)
هكذا رصدت الروائية اسمهان الزعيم الواقع المجتمعي الذي تجسد من خلال البنية الأسرية لبطل الرواية “ريحون” أو “كمال “أسرة تعيش واقعا مزريا حيث الفقر والتفكك الأسري والصراع والصخب الذي تعج به الحارة ثم الواقع السياسي والاقتصادي الذي أفرز مجتمعا طبقيا يفتقد التوازن الهيكلي مما يحرم فئات واسعة من الكرامة الإنسانية، كما يمكن رصد عدد من القضايا الآنية التي تفرض وجودها على المستوى العربي والعالمي كقضية التحرش الجنسي والمثلية والانحلال الخلقي والبطالة والقضية الفلسطينية وقضية الربيع العربي وتداعياته والأزمة الصحية التي عصفت بالعالم أجمع في الآونة الأخيرة دون أن تتغافل الروائية على إثارة قضية الإسفاف والضعف الذي أصاب الأغنية العربية عموما والمغربية على وجه الخصوص.
والملاحظ أن الروائية تؤمن إيمانا قويا بحضور الواقعي وقوته فتجسد بقوة من خلال بوليفونية فكرية وعقائدية وتاريخية ولغوية،فلا وجود لأحادية الموقف أو الفكر أو اللغة فنجد المؤمن والملحد والمتأرجح بينهما كما نجد المعتدل واليساري والمنحرف والأبله والسوي هذا إضافة إلى بوليفونية لغوية حيث نجد اللغة العربية الفصحى واللهجة المغربية واللغة الفرنسية، مما أكسب النص الروائي تعددا وكثافة وانفتاحا على روافد المجتمع والدين والتاريخ والثقافة والفكر،كثافة فكرية تكشف عن متخيل إنساني جماعي يندرج في بوثقة واحدة على الرغم من تعدده. مما جعل من رواية”ريحون” ديوانا حقيقيا أرخ لحقبة تاريخية وأحداث واقعية ضمن متن حكائي سردي لذيذ ومغري يستدرج المتلقي من حيث لا يدري إلى عوالمه الرائعة النابضة بالمتعة والأسرار والمفاجآت.المراجع:
_ “ريحون” اسمهان الزعيم الطبعة الأولى 2022 مطبعة كوثر برانت
(1) R.ledrut situation de l imaginaire dans dialectique du rationnel et de l irrationnei
In cahier de l imaginaire tolouse 1988 n 1 p43_44
(2) Milan kundera « l art du roman » edition gallumard janvier 1995 paris p 101
(3) Jean michel palmier »LACAN » editins univercitaires +France1972 p39
(4) حميد الحميداني:”الرواية المغربية ورؤية الواقع الاجتماعي” دراسة بنيوية تكوينية ،دار الثقافة، الطبعة الأولى 1985 الدار البيضاء ص
٧٥