الأدب الوجيز إرث أصيل أم خروج عن المألوف؟
14 أغسطس 2022
يثير مصطلح «الأدب الوجيز»، الذي عاد للظهور على الساحة الأدبية، الكثير من الجدل، بين مؤيد لهكذا نموذج، في عصر باتت السرعة واختصار الزمن سمته الأساس، وبين مشكك، يرى أن هذا المصطلح عائم في وصفه، عسير في تحديده. ويرى بعض النقاد أن «الأدب الوجيز» يُشكل اليوم إطاراً للكثير من الأنواع الأدبية معاً، تشمل أشكالاً عدة من القصة والقصيدة، وبالتالي، لا يمكن تجاهله في ظل ابتعاد الجمهور عن القراءة والسرديات، مقابل اتساع رقعة الإقبال على مواقع التواصل.
ويدافع المدافعون عن هذا الشكل الأدبي، بأن معظم الإصدارات الحديثة، سيما في الشعر باتت تنضوي تحت هذا التصنيف، الذي باتت له مؤسساته، ومساهمته في الاقتصاد الإبداعي. زد على ذلك، أنه يترك المجال واسعاً للقارئ لأن يكون شريكاً في كتابة النص، الذي يطرح بدوره الكثير من الأسئلة، ليُجيب عنها بصياغاتٍ مُختلفة.
«البيان» استطلعت آراء عدد من الأدباء والنقاد السوريين، المشتغلين بهذا الشكل الأدبي، فرأى مدير ومؤسس الملتقى السوري للأدب الوجيز، الكاتب علي الراعي، أن أهمية الأدب الوجيز ومساهمته في الاقتصاد الإبداعي ظاهرة ليس فقط في حجم إصداراته، بل في توسع نشاط مؤسساته، وانضواء عدد كبير من الكتاب فيها، فملتقى الأدب الوجيز له فروعه في بعض البلدان العربية، وهو يدرّس حالياً كمقرر أساسي في الجامعة اللبنانية ببيروت.
وعن المساحة التي باتت تحتلها الإصدارات التي تندرج تحت هذا المسمى، قال: «على الرغم من عدم وجود إحصاءات دقيقة، ولكنني أجزم بأن أكثر من 75 % مما ينشر من الإصدارات الجديدة، في مجال الشعر على وجه الخصوص، هو من الشعر الوجيز - بما فيه العمودي الوجيز. وهذا الرقم توصلت إليه من متابعة ما يصدر من مجموعات شعرية، في حين بات من يكتب المطولات في القصيدة لا يتجاوز الـ10 % على أكثر تقدير».
«بيت القصيد»
وتابع الراعي: «تخبرنا المدونات السردية، أن النصوص القصيرة قديمة قدم الكتابة نفسها، ففي زمن الإغريق كتب «إيسوب» أحد حكماء اليونان الكثير من القصص، التي نُطلق عليها اليوم مُصطلح (القصة القصيرة جداً)، كما كتبت الشاعرة الفينيقية «بلتيس» الكثير من النصوص الشعرية التي باتت تسمى «الومضة، الشذرة، التوقيعة». وغير ذلك..».
وأضاف: «لقد نادى الكثير من الكتّاب غرباً وشرقاً، منذ بداية القرن العشرين وحتى منتصفه بالتكثيف الشديد للنصوص لإنتاج وتقديم (بيت القصيد) دفعة واحدة.. وعندما تحدوا أرنست همنغواي أن يكتب لهم قصة من ست كلمات، كتب قصة (حذاء للبيع).. وبعدها أوصى بكتابة قصص من (25) كلمة.. أنطون تشيخوف بدوره نادى بكتابة قصص من (50) كلمة، وقصته (ثروة) مثال باهر لهكذا تكثيف.. جبران خليل جبران ومخائيل نعيمة كتبا عشرات النصوص القصيرة.. وصولاً لنجيب محفوظ، وزكريا تامر وأدونيس، ومن ثم كان أن تكرّس الأدب الوجيز كمصطلح أدبي له دوافعه الكثيرة وعلى غير مستوى..».
ابتكار
الأديبة نهلة السوسو، اعتبرت أن مصطلح «الأدب الوجيز» وقف منذ ظهوره في الفضاء الثقافي العربي بوجه حملة شرسة هاجمته بقساوة، واتهمته بأنه استباح الإبداع، وتجرأ على قداسة الأجناس التي أُنجزَت عبر عصور، وخُتمت بختمٍ لا يُفَضّ.
وتابعت: «لقد هاجم هؤلاء منتجات الأدب الوجيز من القصة القصيرة جداً، والومضة «الهايكو»، ولكن كأني بهؤلاء لم يقرؤوا بدائع التراث، وما تركه لنا أشخاص، مثل جلال الدين الرومي، عبر مؤلفه الأشهر الذي لم يشهد له الأدب مثيلاً، وأعني كتاب «المثنوي»، الذي يتسم بأعلى درجات البلاغة والإيجاز».
ورأت أن الأدب لا يفقد خواصّه وهو يستقبل الأدب الوجيز بجدّته وطرافته، والطرافة هنا هي الابتكار والحلاوة والملاحة. وقالت: تتداعى إليّ كأسراب القطا مقتطفات من فنون عرفناها في فن البلاغة منها: «آفةُ النفس الولَهُ بالدنيا»، «إنما الدّنيا شرَك وقع فيه من لا يعرفه»، «كان قميص يوسف بشرى الوصال حين ألقي على يعقوب»، «قد ينتهي طريقٌ عند بيت واحد، لكن ليس طريق العشق»، «العشق نهرٌ...اشرب منه».
وتابعت السوسو: «كلُّ نصٍّ لا يسحب قارئه أو سامعه من أرضٍ ثابتة إلى جزرٍ دوارة خلابة، لا قيمةَ له. والنصُّ يُقيَّم بتأثيره لا بطوله وعرضه وتعدد أركانه، وحتى الرواية والقصة والقصيدة المحمودة لدى منتقدي الأدب الوجيز، لا تستوي جميعُها إلا بعد التعرض للإيجاز بوسيلة ما، وإلا ما كنا تقبّلنا مقولة «بيت القصيد»، وهي الذروة التي تكثّف النص وتكّون «سلافتَه». وحتى الكلمة المفردة وحدها، نراها مشحونة بطاقات هائلة يمكن أن تحرك كل التيارات، مشيرة إلى أنه ليس من الضروري أن ينضوي كلُّ إبداعٍ جديد تحت معطفٍ مفصّلٍ على مقاسات عصره.
واقع
الشاعر والناقد لؤي سلمان قال: «لا يمكن تجاهل الأدب الوجيز في ظل التسارع الذي نشهده والإقبال العالمي والمحلي على مواقع التواصل، وفي الوقت ذاته إحجام المجتمع عن القراءة والابتعاد عن السرديات الطويلة، إن كانت شعراً، أم قصة، أم غير ذلك، حتى بات واقعاً وله أهميته، وهو أصلاً موجود في الآداب العالمية، والآسيوية، كالزن، والهايكو».
ورأى أن أهمية «الأدب الوجيز» تأتي من تحريض المخيلة على التفكير بعد ابتعاد المواطن العربي عن القراءة عموماً، وانتقاله إلى الصورة الجاهزة دون الحاجة إلى تحريك مخيلته.
وتابع سلمان الذي أطلق مجموعته الشعرية الأولى عام 2012 على شكل قصيدة «الهايكو»: «يمكن الجزم أن العتابا السورية هي نوع من الأدب الوجيز، ولا يمكن تهميشها، وهي قديمة جداً، وفيها من التكثيف ما يقاربها من قصيدة «الهايكو»، وفيها الصورة الشعرية، والمعنى، والقواعد التي تختلف من منطقة إلى أخرى».
تمرد
الصحفي والقاص سامر الشغري، قال: «إن «الأدب الوجيز» يتيح قدراً وافراً من الحرية والخروج عن المألوف، فهو يتمرد على الشكل العام والكلاسيكي الذي توقف عنده الأدب العربي منذ 500 سنة على الأقل. وبالتالي، يبقى محاولة جادة لبناء شكل مغاير لا نسقياً، وينسف إلى حد ما القوالب الأدبية القائمة».
واستدرك: «لكن لكي أكون منصفاً، فإن الأدب الوجيز ميال وبشدة للتجريب، وهذا ما يجعله أيضاً عائماً في وصفه، عسيراً في تحديده، ولكن بوسعنا أن نحدده إن قلنا إنه تقديم المضمون الأغنى بأقل عدد ممكن من العبارات، وأذكر في هذا الصدد، كتاب الحب لنزار قباني، الذي سعى من خلاله لتقديم ما صرنا نعرفه حالياً بالومضة الشعرية».
-
-
نهلة السوسو -
تشيخوف -
همنغواي -
علي الراعي
- 5
المصدر:
- (دمشق - جمال الصايغ)
التاريخ:
14 أغسطس 2022
يثير مصطلح «الأدب الوجيز»، الذي عاد للظهور على الساحة الأدبية، الكثير من الجدل، بين مؤيد لهكذا نموذج، في عصر باتت السرعة واختصار الزمن سمته الأساس، وبين مشكك، يرى أن هذا المصطلح عائم في وصفه، عسير في تحديده. ويرى بعض النقاد أن «الأدب الوجيز» يُشكل اليوم إطاراً للكثير من الأنواع الأدبية معاً، تشمل أشكالاً عدة من القصة والقصيدة، وبالتالي، لا يمكن تجاهله في ظل ابتعاد الجمهور عن القراءة والسرديات، مقابل اتساع رقعة الإقبال على مواقع التواصل.
ويدافع المدافعون عن هذا الشكل الأدبي، بأن معظم الإصدارات الحديثة، سيما في الشعر باتت تنضوي تحت هذا التصنيف، الذي باتت له مؤسساته، ومساهمته في الاقتصاد الإبداعي. زد على ذلك، أنه يترك المجال واسعاً للقارئ لأن يكون شريكاً في كتابة النص، الذي يطرح بدوره الكثير من الأسئلة، ليُجيب عنها بصياغاتٍ مُختلفة.
«البيان» استطلعت آراء عدد من الأدباء والنقاد السوريين، المشتغلين بهذا الشكل الأدبي، فرأى مدير ومؤسس الملتقى السوري للأدب الوجيز، الكاتب علي الراعي، أن أهمية الأدب الوجيز ومساهمته في الاقتصاد الإبداعي ظاهرة ليس فقط في حجم إصداراته، بل في توسع نشاط مؤسساته، وانضواء عدد كبير من الكتاب فيها، فملتقى الأدب الوجيز له فروعه في بعض البلدان العربية، وهو يدرّس حالياً كمقرر أساسي في الجامعة اللبنانية ببيروت.
وعن المساحة التي باتت تحتلها الإصدارات التي تندرج تحت هذا المسمى، قال: «على الرغم من عدم وجود إحصاءات دقيقة، ولكنني أجزم بأن أكثر من 75 % مما ينشر من الإصدارات الجديدة، في مجال الشعر على وجه الخصوص، هو من الشعر الوجيز - بما فيه العمودي الوجيز. وهذا الرقم توصلت إليه من متابعة ما يصدر من مجموعات شعرية، في حين بات من يكتب المطولات في القصيدة لا يتجاوز الـ10 % على أكثر تقدير».
«بيت القصيد»
وتابع الراعي: «تخبرنا المدونات السردية، أن النصوص القصيرة قديمة قدم الكتابة نفسها، ففي زمن الإغريق كتب «إيسوب» أحد حكماء اليونان الكثير من القصص، التي نُطلق عليها اليوم مُصطلح (القصة القصيرة جداً)، كما كتبت الشاعرة الفينيقية «بلتيس» الكثير من النصوص الشعرية التي باتت تسمى «الومضة، الشذرة، التوقيعة». وغير ذلك..».
وأضاف: «لقد نادى الكثير من الكتّاب غرباً وشرقاً، منذ بداية القرن العشرين وحتى منتصفه بالتكثيف الشديد للنصوص لإنتاج وتقديم (بيت القصيد) دفعة واحدة.. وعندما تحدوا أرنست همنغواي أن يكتب لهم قصة من ست كلمات، كتب قصة (حذاء للبيع).. وبعدها أوصى بكتابة قصص من (25) كلمة.. أنطون تشيخوف بدوره نادى بكتابة قصص من (50) كلمة، وقصته (ثروة) مثال باهر لهكذا تكثيف.. جبران خليل جبران ومخائيل نعيمة كتبا عشرات النصوص القصيرة.. وصولاً لنجيب محفوظ، وزكريا تامر وأدونيس، ومن ثم كان أن تكرّس الأدب الوجيز كمصطلح أدبي له دوافعه الكثيرة وعلى غير مستوى..».
ابتكار
الأديبة نهلة السوسو، اعتبرت أن مصطلح «الأدب الوجيز» وقف منذ ظهوره في الفضاء الثقافي العربي بوجه حملة شرسة هاجمته بقساوة، واتهمته بأنه استباح الإبداع، وتجرأ على قداسة الأجناس التي أُنجزَت عبر عصور، وخُتمت بختمٍ لا يُفَضّ.
وتابعت: «لقد هاجم هؤلاء منتجات الأدب الوجيز من القصة القصيرة جداً، والومضة «الهايكو»، ولكن كأني بهؤلاء لم يقرؤوا بدائع التراث، وما تركه لنا أشخاص، مثل جلال الدين الرومي، عبر مؤلفه الأشهر الذي لم يشهد له الأدب مثيلاً، وأعني كتاب «المثنوي»، الذي يتسم بأعلى درجات البلاغة والإيجاز».
ورأت أن الأدب لا يفقد خواصّه وهو يستقبل الأدب الوجيز بجدّته وطرافته، والطرافة هنا هي الابتكار والحلاوة والملاحة. وقالت: تتداعى إليّ كأسراب القطا مقتطفات من فنون عرفناها في فن البلاغة منها: «آفةُ النفس الولَهُ بالدنيا»، «إنما الدّنيا شرَك وقع فيه من لا يعرفه»، «كان قميص يوسف بشرى الوصال حين ألقي على يعقوب»، «قد ينتهي طريقٌ عند بيت واحد، لكن ليس طريق العشق»، «العشق نهرٌ...اشرب منه».
وتابعت السوسو: «كلُّ نصٍّ لا يسحب قارئه أو سامعه من أرضٍ ثابتة إلى جزرٍ دوارة خلابة، لا قيمةَ له. والنصُّ يُقيَّم بتأثيره لا بطوله وعرضه وتعدد أركانه، وحتى الرواية والقصة والقصيدة المحمودة لدى منتقدي الأدب الوجيز، لا تستوي جميعُها إلا بعد التعرض للإيجاز بوسيلة ما، وإلا ما كنا تقبّلنا مقولة «بيت القصيد»، وهي الذروة التي تكثّف النص وتكّون «سلافتَه». وحتى الكلمة المفردة وحدها، نراها مشحونة بطاقات هائلة يمكن أن تحرك كل التيارات، مشيرة إلى أنه ليس من الضروري أن ينضوي كلُّ إبداعٍ جديد تحت معطفٍ مفصّلٍ على مقاسات عصره.
واقع
الشاعر والناقد لؤي سلمان قال: «لا يمكن تجاهل الأدب الوجيز في ظل التسارع الذي نشهده والإقبال العالمي والمحلي على مواقع التواصل، وفي الوقت ذاته إحجام المجتمع عن القراءة والابتعاد عن السرديات الطويلة، إن كانت شعراً، أم قصة، أم غير ذلك، حتى بات واقعاً وله أهميته، وهو أصلاً موجود في الآداب العالمية، والآسيوية، كالزن، والهايكو».
ورأى أن أهمية «الأدب الوجيز» تأتي من تحريض المخيلة على التفكير بعد ابتعاد المواطن العربي عن القراءة عموماً، وانتقاله إلى الصورة الجاهزة دون الحاجة إلى تحريك مخيلته.
وتابع سلمان الذي أطلق مجموعته الشعرية الأولى عام 2012 على شكل قصيدة «الهايكو»: «يمكن الجزم أن العتابا السورية هي نوع من الأدب الوجيز، ولا يمكن تهميشها، وهي قديمة جداً، وفيها من التكثيف ما يقاربها من قصيدة «الهايكو»، وفيها الصورة الشعرية، والمعنى، والقواعد التي تختلف من منطقة إلى أخرى».
تمرد
الصحفي والقاص سامر الشغري، قال: «إن «الأدب الوجيز» يتيح قدراً وافراً من الحرية والخروج عن المألوف، فهو يتمرد على الشكل العام والكلاسيكي الذي توقف عنده الأدب العربي منذ 500 سنة على الأقل. وبالتالي، يبقى محاولة جادة لبناء شكل مغاير لا نسقياً، وينسف إلى حد ما القوالب الأدبية القائمة».
واستدرك: «لكن لكي أكون منصفاً، فإن الأدب الوجيز ميال وبشدة للتجريب، وهذا ما يجعله أيضاً عائماً في وصفه، عسيراً في تحديده، ولكن بوسعنا أن نحدده إن قلنا إنه تقديم المضمون الأغنى بأقل عدد ممكن من العبارات، وأذكر في هذا الصدد، كتاب الحب لنزار قباني، الذي سعى من خلاله لتقديم ما صرنا نعرفه حالياً بالومضة الشعرية».