القديس الخفاف
كرم نعمة
الاثنين 2022/08/15
حاجة عراقية ماسة لإنقاذ الأغنية العراقية من التخلف الذي أصابها بمقتل
لو اكتفت الموسيقى العراقية بكل تاريخها المعاصر بـ”دايمين” التي كتبها الشاعر الراحل كريم خليل وأداها الشهيد الفنان داود القيسي، و”عراق من النور” قصيدة لؤي حقي التي أداها جعفر الخفاف بصوته، لطوّب العراق خفافه بالقداسة الموسيقية. فكيف وهو قد أرّخ في محراب الموسيقى عبر خمسة عقود لأنغام رسمها بنثيث المطر وبحشد من الكمانات الحزينة والوَلِهة معا.
لا يمكن أن يمر التاريخ على الغناء العراقي إلا ويقف مبهورا أمام الموسيقار جعفر الخفاف.
فالخفاف الذي تبدو استعادته اليوم “ومتى غاب؟” حاجة عراقية ماسة وعاجلة لإنقاذ الأغنية العراقية من التخلف الذي أصابها بمقتل، لأنه في مثل هذا العمر والتجربة، قادر على إعادة تقويم الذائقة العراقية المنهارة كنتاج للانهيار السياسي والثقافي والمجتمعي.
الخفاف الذي وصفه في يوم ما الناقد الراحل عادل الهاشمي بالمجدد الذي أضاف الجماليات الراقية والبهجة والوقار إلى الأغنية، هو نفسه الذي انبهر به الموسيقار فاروق هلال عندما استمع إلى أول ألحانه “أحرق بروحي” لصوت رضا الخياط في سبعينات القرن الماضي. نبه هلال آنذاك زميله طالب القرة غولي بأن عرشهما قد اهتز بظهور جعفر الخفاف، من دون أن يخفيا معا سعادتهما بالملحن الجديد الذي سيضيف لمسة تعبيرية إلى قلادة الغناء العراقي.
لا يمكن أن يُذكر مطرب عراقي من دون أن يكون قد ترك الخفاف جمله الموسيقية المتسائلة أو الهائمة في صوته، فجسدَ مع فاضل عواد إحدى أروع أغانيه “عاش من شافك” وقدمَ حسين نعمة بطريقته الخالية من الوجع والدموع والحرمان والغربة في “تحياتي” الأغنية المفعمة بالتحايا عبر المسافات البعيدة. وشكّل مع سعدون جابر حقبة فنية بدأت بالأغنية المشتركة مع سيتا هاكوبيان “نحب لو ما نحب”، وبقي لحنه التاريخي “مجرد كلام” لرياض أحمد تعريفا دائما بهذا الصوت، فيما برع وهو يحلق بروح الكلمات في أغنية “خسرت يا حبيبي” بصوت صلاح عبدالغفور، بينما فشل بليغ حمدي وقتل الأغنية نفسها بلحن فارغ لصوت سعدون جابر المعبر، بالرغم من الأسى الكامن في نص الكلمات التي كتبها كريم العراقي آنذاك.
ذلك ما فعله مع صوت محمود أنور أيضا في ترنيمة ملتاعة اسمها “منين أجيبك يا صبر”.
لكن هل تعرفون كيف تُعرّف بدايات كاظم الساهر؟ لا يوجد تعريف أفضل من العودة إلى لحن جعفر الخفاف “شجاها الناس” التي غناها الساهر في أداء حزين بمقدمة مسلسل “نادية” للمخرج صلاح كرم.
لم يفقد جعفر الخفاف حيويته الموسيقية وهو في منتصف عقده الستيني، وبعد سنوات من الاغتراب، لكن عندما يداعب أوتار عوده لا يمكن إلا أن يكون ذاك الخفاف الوطني الهادر في “دايمين” تلك الأنشودة التي ستبقى أخلص ما يمكن أن يعبّر فيه العراقي عن عراقيته.
ذلك ما دفعه إلى أن يعيد تعريف نفسه كموسيقار مخلص لجوهر التعبير اللحني في آخر ألحانه لقصيدة “في وطني” كتبها الشاعر علي العضب معبرا عن العراق المكسور، وكأنها تتشبث بالأمل المنتظر.
قبل أكثر من ثلاثين عاما، ربّت جعفر الخفاف على كتفي بعد سلسلة حوارات أجريتها مع مطربي جيل السبعينات آنذاك، ونشرت جميعها في جريدة الجمهورية. لكن إفراطه بالمحبة والممازحة أوجع كتفي!
لا زلت أشعر بنفس وجع ذاك المحب بعد كل تلك العقود التي مرت على إطراء الخفاف على ما كتبت آنذاك، كلما بادرتني جملة موسيقية تركها على ذائقتنا السمعية، وكلما دافع عن أغانينا التي اختطفت منا، وكلما بدت الحاجة إلى منقذ للغناء العراقي. فليكن جعفر الخفاف القديس في محراب الموسيقى، أول من يُعيد ويقود جوقة التراتيل الباهرة بالعشق.
كرم نعمة
الاثنين 2022/08/15
حاجة عراقية ماسة لإنقاذ الأغنية العراقية من التخلف الذي أصابها بمقتل
لو اكتفت الموسيقى العراقية بكل تاريخها المعاصر بـ”دايمين” التي كتبها الشاعر الراحل كريم خليل وأداها الشهيد الفنان داود القيسي، و”عراق من النور” قصيدة لؤي حقي التي أداها جعفر الخفاف بصوته، لطوّب العراق خفافه بالقداسة الموسيقية. فكيف وهو قد أرّخ في محراب الموسيقى عبر خمسة عقود لأنغام رسمها بنثيث المطر وبحشد من الكمانات الحزينة والوَلِهة معا.
لا يمكن أن يمر التاريخ على الغناء العراقي إلا ويقف مبهورا أمام الموسيقار جعفر الخفاف.
فالخفاف الذي تبدو استعادته اليوم “ومتى غاب؟” حاجة عراقية ماسة وعاجلة لإنقاذ الأغنية العراقية من التخلف الذي أصابها بمقتل، لأنه في مثل هذا العمر والتجربة، قادر على إعادة تقويم الذائقة العراقية المنهارة كنتاج للانهيار السياسي والثقافي والمجتمعي.
الخفاف الذي وصفه في يوم ما الناقد الراحل عادل الهاشمي بالمجدد الذي أضاف الجماليات الراقية والبهجة والوقار إلى الأغنية، هو نفسه الذي انبهر به الموسيقار فاروق هلال عندما استمع إلى أول ألحانه “أحرق بروحي” لصوت رضا الخياط في سبعينات القرن الماضي. نبه هلال آنذاك زميله طالب القرة غولي بأن عرشهما قد اهتز بظهور جعفر الخفاف، من دون أن يخفيا معا سعادتهما بالملحن الجديد الذي سيضيف لمسة تعبيرية إلى قلادة الغناء العراقي.
لا يمكن أن يُذكر مطرب عراقي من دون أن يكون قد ترك الخفاف جمله الموسيقية المتسائلة أو الهائمة في صوته، فجسدَ مع فاضل عواد إحدى أروع أغانيه “عاش من شافك” وقدمَ حسين نعمة بطريقته الخالية من الوجع والدموع والحرمان والغربة في “تحياتي” الأغنية المفعمة بالتحايا عبر المسافات البعيدة. وشكّل مع سعدون جابر حقبة فنية بدأت بالأغنية المشتركة مع سيتا هاكوبيان “نحب لو ما نحب”، وبقي لحنه التاريخي “مجرد كلام” لرياض أحمد تعريفا دائما بهذا الصوت، فيما برع وهو يحلق بروح الكلمات في أغنية “خسرت يا حبيبي” بصوت صلاح عبدالغفور، بينما فشل بليغ حمدي وقتل الأغنية نفسها بلحن فارغ لصوت سعدون جابر المعبر، بالرغم من الأسى الكامن في نص الكلمات التي كتبها كريم العراقي آنذاك.
ذلك ما فعله مع صوت محمود أنور أيضا في ترنيمة ملتاعة اسمها “منين أجيبك يا صبر”.
لكن هل تعرفون كيف تُعرّف بدايات كاظم الساهر؟ لا يوجد تعريف أفضل من العودة إلى لحن جعفر الخفاف “شجاها الناس” التي غناها الساهر في أداء حزين بمقدمة مسلسل “نادية” للمخرج صلاح كرم.
لم يفقد جعفر الخفاف حيويته الموسيقية وهو في منتصف عقده الستيني، وبعد سنوات من الاغتراب، لكن عندما يداعب أوتار عوده لا يمكن إلا أن يكون ذاك الخفاف الوطني الهادر في “دايمين” تلك الأنشودة التي ستبقى أخلص ما يمكن أن يعبّر فيه العراقي عن عراقيته.
ذلك ما دفعه إلى أن يعيد تعريف نفسه كموسيقار مخلص لجوهر التعبير اللحني في آخر ألحانه لقصيدة “في وطني” كتبها الشاعر علي العضب معبرا عن العراق المكسور، وكأنها تتشبث بالأمل المنتظر.
قبل أكثر من ثلاثين عاما، ربّت جعفر الخفاف على كتفي بعد سلسلة حوارات أجريتها مع مطربي جيل السبعينات آنذاك، ونشرت جميعها في جريدة الجمهورية. لكن إفراطه بالمحبة والممازحة أوجع كتفي!
لا زلت أشعر بنفس وجع ذاك المحب بعد كل تلك العقود التي مرت على إطراء الخفاف على ما كتبت آنذاك، كلما بادرتني جملة موسيقية تركها على ذائقتنا السمعية، وكلما دافع عن أغانينا التي اختطفت منا، وكلما بدت الحاجة إلى منقذ للغناء العراقي. فليكن جعفر الخفاف القديس في محراب الموسيقى، أول من يُعيد ويقود جوقة التراتيل الباهرة بالعشق.