قمر الطف" مسرحية تؤكد على استمرارية الثورات الكبرى
محمد حسين حبيب
مسرحية تملأ التاريخ بالأفكار والفرضيات
ليس من السهل مسرحة التاريخ والخروج به من الحدث الماضي إلى راهن الفعل المسرحي بما يحققه من تفاعل مباشر مع الجمهور وبما له من ميزة الآنية، ولذا تبدو العودة إلى حادثة تاريخية مشتركة مغامرة، وهو ما اختاره الكاتب دخيل العكايشي والمخرج هيثم الرفيعي في عملهما المسرحي الأخير "قمر الطف".
أقف بالضد هنا من المفكر الفرنسي ميشيل فوكو في طرحه، الذي اعتبر فيه أن الثورة الإيرانية عام 1979، هي نهاية الثورات البشرية مؤكدا على أن “العالم المعاصر خرج من أفق الثورة نهائيا”، لاعتقادي بأن العالم اليوم – وحتى بعد عام 1979 – بحاجة إلى ثورات إنسانية كبرى جديدة نتيجة ما يستشري فيه من سياسات الفساد والقهر والاستبداد، تقابلها أقنعة الزيف الوطني والديني في أرجاء المعمورة وفي مناطق كثيرة في العالم.
أسوق هذه المقدمة لكي أتلاقح مع موضوع مسرحية “قمر الطف” لفرقة إحسان التلال للتمثيل والتي تم عرضها ضمن مهرجان الطف المسرحي مؤخرا في العراق، دورة الفنان الراحل علي المطبعي، من تأليف دخيل العكايشي، وإخراج هيثم الرفيعي.
حادثة تاريخية
المسرحية تستثمر واقعة الطف الدينية وموقف الكاتب المسرحي منها ومن تجلياتها الثورية أولا وأبعادها الإنسانية ثانيا
تصدى العرض لمجابهة التاريخ العربي مستثمرا واقعة الطف الدينية وموقف الكاتب المسرحي منها ومن تجلياتها الثورية أولا وأبعادها الإنسانية السامية ثانيا، لأننا نكتشف هنا مكابدة شخصية كاتب مسرحي وصراعه الذاتي مع المدونة التاريخية التي أفاضت في الوقوف على تفصيلات هذا الحدث التاريخي العنيف بمأساته وآلامه ومؤامراته ودسائسه ودمائه، بوصفه أعنف حدث دموي تاريخي، وهو من أكثر الأحداث التاريخية التي تم استغلالها سياسيا ومن أجل مصالح شخصانية تحزبية أصبحت اليوم لا تنطلي على أحد.
رغم أن هذه الواقعة تم الكتابة عنها مسرحيا من قبل الكثير من الكتاب المسرحيين العرب منذ ستينات القرن الماضي، يقف في مقدمتهم عبدالرحمن الشرقاوي وعبدالرزاق عبدالواحد ومحمد عفيفي مطر ومحمد علي الخفاجي ووليد فاضل وغيرهم. فضلا عن عدد غير قليل من الكتاب المسرحيين الشباب، إلا أن العكايشي هنا توقف عند موقف واحد اختاره من مواقف استشهادية عديدة إيمانا منه بأهمية اختياره أولا ولتحديد البؤرة الدرامية ووحدة موضوع حكايته ثانيا، إنه موقف استشهاد علي الأكبر من أبيه وسرد لكل الذي جرى وسيجري أثناء الواقعة وما بعدها، إذا فالكاتب هنا أكد على ماهية علاقته بالحدث التاريخي – أي حدث كان – بينما يمهد لأن يظهر موقفه الخاص.
لابد من الإشارة هنا إلى أن الكاتب العكايشي أثبت استقلاليته الإبداعية، وهو ينتمي إلى ما أكد عليه إدوارد سعيد في تعريفه للكاتب أو المثقف في قوله “إنه الشخص الذي تمسك بقيم عليا مثل العدالة وحقق استقلاليته التامة عن السلطة”، وهذا ما تحقق فعلا في اقتناصة الكاتب الدرامية في هذا العرض في استقلالية كاتبها وبشكل حيادي كبير، لأن همه كان إبداعيا مؤمنا بما يكتب، وكذلك كان مخرج العرض الفنان هيثم الرفيعي الذي كشف لنا عن انتمائه الفني هو الآخر إلى بنية النص وفرضيته الدرامية والإخراجية.
أفكار وفرضيات
لقد أوحى نص خطاب العرض عبر جملة حوارية جاءت على لسان شخصية الكاتب الذي أجاد في أدائه الفنان هيثم الرفيعي، حين قال “زيفنا، زيفكم، زيفنا”، ويعني هنا وبحسب دلالات المكان ومفرداته المنظرية والإكسسوارية أن جميع ما نكتبه شابه التزييف وتحديدا وضح ذلك لنا كمتلقين بفعل حركة خادم البيت الذي أمره سيده الكاتب برمي أوراقه النصية في سلة المهملات.
وهذه يمكن قراءتها عبر مسارين: الأول نقول إن واقعة الطف بزعمنا أنها من الوقائع التاريخية القليلة التي لم تتعرض للتحريف والتزييف لكثرة ما كتب عنها أولا ولاستناد هذه المؤلفات على مصادر تاريخية لمؤرخين استندوا في كتبهم على ما هو شفاهي مروي وعلى ما هو موثق في متون كتب التاريخ الثقات مثل مؤلفات أبي مخنف والمقرم عبدالحسين وأنساب الشرف ومحمد القزويني ومحمد سعيد الطباطبائي وعفيف النابلسي، فضلا عن كتب التحقيق الرائدة والشهيرة في هذا الموضوع وهي كثيرة أيضا، فلا يمكن خرق كل هذه المتون التاريخية ومحاولة خرقها بهدف التزييف أو التحريف.
كل ما تم تدوينه تاريخيا، لا يمكن أن يرتقي بجميع المستويات التأليفية النصية المسرحية إلى أصل الحادثة
أما المسار الثاني فقد اتخذ عندنا اتجاهين أحدهما سلبي والآخر إيجابي: الاتجاه الأول تجلى في حركة الكاتب وإشارته إلى الخادم برمي أوراقه المكتوبة في سلة المهملات رغم تأكيده على أن هذه الأوراق من خلال عدة جمل حوارية بوصفها “من هنا بدأت كربلاء”، بمعنى من هذه الأوراق ومن هذا المونولوج الداخلي الذي جاء بصوت الفنان الرائد مهدي سميسم، فكيف يمكن أن نرمي بكل ذلك إلى حاوية المهملات؟ بعد ما أسلفنا عليه من مصداقية التاريخ وكتبه الثقات؟
الاتجاه الثاني وهو يحسب لفرضية الإخراج، وهو أن كل ما تم تدوينه تاريخيا، لا يمكن أن يرتقي بجميع المستويات التأليفية النصية المسرحية، إلى مستوى الفعل الأصل للحادثة بجميع جزئياتها وكبريات أحداثها.
مقابل هذا وجدنا أفكارا وفرضيات مكانية وسينوغرافية فكر فيها المخرج لكنها لم تصلنا ربما مثلما أرادها وهذا ليس راسخا بالضرورة فقد يتم تأويل وتفسير بعض الاستخدامات البصرية أو السمعية بعكس ما أراده المخرج في حساباته.
أما التمثيل فقد هيمنت عليه الخطابية في الأداء والإلقاء، باستثناء أداء الفنان هيثم الرفيعي لشخصية الكاتب والذي جاء أداء عفويا واعيا وقابضا بناصية أدواته الفنية وأيضا صوت سميسم الجهوري المتمكن هو الآخر من السيطرة على أسماع المتلقين بتجويد عال.
انشر
WhatsApp
Twitter
Facebook
محمد حسين حبيب
كاتب عراقي
محمد حسين حبيب
مسرحية تملأ التاريخ بالأفكار والفرضيات
ليس من السهل مسرحة التاريخ والخروج به من الحدث الماضي إلى راهن الفعل المسرحي بما يحققه من تفاعل مباشر مع الجمهور وبما له من ميزة الآنية، ولذا تبدو العودة إلى حادثة تاريخية مشتركة مغامرة، وهو ما اختاره الكاتب دخيل العكايشي والمخرج هيثم الرفيعي في عملهما المسرحي الأخير "قمر الطف".
أقف بالضد هنا من المفكر الفرنسي ميشيل فوكو في طرحه، الذي اعتبر فيه أن الثورة الإيرانية عام 1979، هي نهاية الثورات البشرية مؤكدا على أن “العالم المعاصر خرج من أفق الثورة نهائيا”، لاعتقادي بأن العالم اليوم – وحتى بعد عام 1979 – بحاجة إلى ثورات إنسانية كبرى جديدة نتيجة ما يستشري فيه من سياسات الفساد والقهر والاستبداد، تقابلها أقنعة الزيف الوطني والديني في أرجاء المعمورة وفي مناطق كثيرة في العالم.
أسوق هذه المقدمة لكي أتلاقح مع موضوع مسرحية “قمر الطف” لفرقة إحسان التلال للتمثيل والتي تم عرضها ضمن مهرجان الطف المسرحي مؤخرا في العراق، دورة الفنان الراحل علي المطبعي، من تأليف دخيل العكايشي، وإخراج هيثم الرفيعي.
حادثة تاريخية
المسرحية تستثمر واقعة الطف الدينية وموقف الكاتب المسرحي منها ومن تجلياتها الثورية أولا وأبعادها الإنسانية ثانيا
تصدى العرض لمجابهة التاريخ العربي مستثمرا واقعة الطف الدينية وموقف الكاتب المسرحي منها ومن تجلياتها الثورية أولا وأبعادها الإنسانية السامية ثانيا، لأننا نكتشف هنا مكابدة شخصية كاتب مسرحي وصراعه الذاتي مع المدونة التاريخية التي أفاضت في الوقوف على تفصيلات هذا الحدث التاريخي العنيف بمأساته وآلامه ومؤامراته ودسائسه ودمائه، بوصفه أعنف حدث دموي تاريخي، وهو من أكثر الأحداث التاريخية التي تم استغلالها سياسيا ومن أجل مصالح شخصانية تحزبية أصبحت اليوم لا تنطلي على أحد.
رغم أن هذه الواقعة تم الكتابة عنها مسرحيا من قبل الكثير من الكتاب المسرحيين العرب منذ ستينات القرن الماضي، يقف في مقدمتهم عبدالرحمن الشرقاوي وعبدالرزاق عبدالواحد ومحمد عفيفي مطر ومحمد علي الخفاجي ووليد فاضل وغيرهم. فضلا عن عدد غير قليل من الكتاب المسرحيين الشباب، إلا أن العكايشي هنا توقف عند موقف واحد اختاره من مواقف استشهادية عديدة إيمانا منه بأهمية اختياره أولا ولتحديد البؤرة الدرامية ووحدة موضوع حكايته ثانيا، إنه موقف استشهاد علي الأكبر من أبيه وسرد لكل الذي جرى وسيجري أثناء الواقعة وما بعدها، إذا فالكاتب هنا أكد على ماهية علاقته بالحدث التاريخي – أي حدث كان – بينما يمهد لأن يظهر موقفه الخاص.
لابد من الإشارة هنا إلى أن الكاتب العكايشي أثبت استقلاليته الإبداعية، وهو ينتمي إلى ما أكد عليه إدوارد سعيد في تعريفه للكاتب أو المثقف في قوله “إنه الشخص الذي تمسك بقيم عليا مثل العدالة وحقق استقلاليته التامة عن السلطة”، وهذا ما تحقق فعلا في اقتناصة الكاتب الدرامية في هذا العرض في استقلالية كاتبها وبشكل حيادي كبير، لأن همه كان إبداعيا مؤمنا بما يكتب، وكذلك كان مخرج العرض الفنان هيثم الرفيعي الذي كشف لنا عن انتمائه الفني هو الآخر إلى بنية النص وفرضيته الدرامية والإخراجية.
أفكار وفرضيات
لقد أوحى نص خطاب العرض عبر جملة حوارية جاءت على لسان شخصية الكاتب الذي أجاد في أدائه الفنان هيثم الرفيعي، حين قال “زيفنا، زيفكم، زيفنا”، ويعني هنا وبحسب دلالات المكان ومفرداته المنظرية والإكسسوارية أن جميع ما نكتبه شابه التزييف وتحديدا وضح ذلك لنا كمتلقين بفعل حركة خادم البيت الذي أمره سيده الكاتب برمي أوراقه النصية في سلة المهملات.
وهذه يمكن قراءتها عبر مسارين: الأول نقول إن واقعة الطف بزعمنا أنها من الوقائع التاريخية القليلة التي لم تتعرض للتحريف والتزييف لكثرة ما كتب عنها أولا ولاستناد هذه المؤلفات على مصادر تاريخية لمؤرخين استندوا في كتبهم على ما هو شفاهي مروي وعلى ما هو موثق في متون كتب التاريخ الثقات مثل مؤلفات أبي مخنف والمقرم عبدالحسين وأنساب الشرف ومحمد القزويني ومحمد سعيد الطباطبائي وعفيف النابلسي، فضلا عن كتب التحقيق الرائدة والشهيرة في هذا الموضوع وهي كثيرة أيضا، فلا يمكن خرق كل هذه المتون التاريخية ومحاولة خرقها بهدف التزييف أو التحريف.
كل ما تم تدوينه تاريخيا، لا يمكن أن يرتقي بجميع المستويات التأليفية النصية المسرحية إلى أصل الحادثة
أما المسار الثاني فقد اتخذ عندنا اتجاهين أحدهما سلبي والآخر إيجابي: الاتجاه الأول تجلى في حركة الكاتب وإشارته إلى الخادم برمي أوراقه المكتوبة في سلة المهملات رغم تأكيده على أن هذه الأوراق من خلال عدة جمل حوارية بوصفها “من هنا بدأت كربلاء”، بمعنى من هذه الأوراق ومن هذا المونولوج الداخلي الذي جاء بصوت الفنان الرائد مهدي سميسم، فكيف يمكن أن نرمي بكل ذلك إلى حاوية المهملات؟ بعد ما أسلفنا عليه من مصداقية التاريخ وكتبه الثقات؟
الاتجاه الثاني وهو يحسب لفرضية الإخراج، وهو أن كل ما تم تدوينه تاريخيا، لا يمكن أن يرتقي بجميع المستويات التأليفية النصية المسرحية، إلى مستوى الفعل الأصل للحادثة بجميع جزئياتها وكبريات أحداثها.
مقابل هذا وجدنا أفكارا وفرضيات مكانية وسينوغرافية فكر فيها المخرج لكنها لم تصلنا ربما مثلما أرادها وهذا ليس راسخا بالضرورة فقد يتم تأويل وتفسير بعض الاستخدامات البصرية أو السمعية بعكس ما أراده المخرج في حساباته.
أما التمثيل فقد هيمنت عليه الخطابية في الأداء والإلقاء، باستثناء أداء الفنان هيثم الرفيعي لشخصية الكاتب والذي جاء أداء عفويا واعيا وقابضا بناصية أدواته الفنية وأيضا صوت سميسم الجهوري المتمكن هو الآخر من السيطرة على أسماع المتلقين بتجويد عال.
انشر
محمد حسين حبيب
كاتب عراقي