/طارت العصافير بأرزاقها/
- كتب: وليد.ع.العايش
حزم حقائب السفر وهو يجزم بأنها رحلة مغايرة ، ففي السماء غيوم تكاد أن تمطر، وفي الطريق إلى البحر المتوسط روايات لعلها تشبه قصص ألف ليلة وليلة .
لم يدع شيئا يؤنسه إلا ودسه في حقيبة زرقاء كبيرة ، النرجيلة ، علب السجائر ، طاولة الزهر ، الراديو الأثري ذو الخشب البني اللون ، وأشياء كثيرة أخرى كان يظن بأنه سوف يحتاجها هناك ، فعلى شاطئ هادئ لابد أن تكتب رواية جديدة في زاويا زواريب الذاكرة الملأى بالأحداث الصاخبة .
كان الطريق طويلا يا سيدي ، حتى كاد قلب محرك السيارة أن يتوقف عن الخفقان ، لكنه يبادر للمتابعة خشية أن يخذل صاحبه في مكان ما وهو الذي لم يفعلها من قبل ، بعد حوالي الساعة من المسير سقط الليل من رحم السماء ، ومعه انهمر المطر أيضا لتتحرك مساحات الزجاج غير آبهة به فكانا يتداعبان كعاشقين على مرآه وهو ينفث دخان سيجارته متمتما ببعض كلمات أغنية فيروز ثم يرخي العنان لابتسامة تحضر خلسة فيرمي عقب سيجارته ويتفرغ لها .
كان طويلا حنطي البشرة إن لم يكن أسمرا أكثر ، هادئ الطبع في معظم الأحيان لكنه نزق حد الشراسة إن عصفت به الرياح ، يبكي ويضحك على هواه غير مكترث بمن حوله ، جاء عاصفا من حفلة ريفية ذات ربيع لكنه تمرد قليلا وربما كثيرا على ماكان يحياه الآخرين ، فأصبح يوصف ( بالمتمرد ) .
هي هناك أيضا ، كانت تلاحقه بهاتف بين الفينة والأخرى كي تطمئن على أنه مازال بخير ، صوتها يمده بكثير من التوثب للمتابعة وكأنه أيضا يضخ في قلب المحرك دما جديدا فيرمي بثقله كي يصل إلى مبتغاه .
لم يكن المتمرد على أدنى علاقة بها ، فكل ما كان لقاء في سهرة مرت منذ عام ونيف ، ذاك اللقاء الذي انطبع على ذاكرته كوشم إغريقي غير قابل للزوال .
فتاة ثلاثينية سمراء تعكس القمر على وجهها المدور ، بينما شفتاها تحاكيان بحر القلزم بلاميتهما المتوهجة كضوء الأصيل ، طولها لا تشبهه إلا أعواد الريحان ، أما ابتسامتها فكانت كارثة إن وقعت على عين .
دارت طاحونة الأفكار في رأسه ، كان يحلم بكتابة روايته هناك ، ومن هنا بدأ يسلسل أفكاره عما سيأتي على ورقه الأبيض ، لكن صوتها يأتيه ليقطع سلاسل طريقه فيبتسم ثم يعود إلى سيجارته كرة أخرى .
على منعطف لم يره انزلقت عجلات السيارة ، أمسك بالمقود بقوة ، صرخت العجلات مولولة، تطاير الماء على ردهات الطريق الذي كان خاليا من أي قادم من الخلف ، رن الهاتف فظهرت صورتها على الشاشة ، قال ( لن أموت قبل أن أصل لأجلك أنت فقط فالحياة لم تعد تعني لي شيئا ) في تلك اللحظة أدرك بأن النيران تضطرم في قلبه وأنها هي التي أججتها ، أجبر السيارة على العودة إلى الحياة وعاد هو أيضا معها .
كان اللقاء صاخبا جدا ، الساعة تجاور منتصف الليل ، السلام كان حارا هذه المرة ، ضحكا كثيرا وهما يتداولان الحديث الأولي عن سير الرحلة إلى هنا ، لم ينتبه بأن شعرها بلا غطاء ، يا للغباء ، وهي أيضا نسيت بأن ترتدي غطاء رأسها قبل أن تلاقيه ، يا إلهي كم كان ذلك الشعر عاشقا للموج ، فلعله كطول الموج أو أكثر ، لكنه بكل تأكيد أجمل بل وأجمل ، فجأة انتبهت إلى نظراته صوب شعرها فابتسمت خجلا ثم توارت ، لحظات كانت كافية لالتقاط الأنفاس المتدحرجة كصخور جبل قاسيون إن جاءها المطر عنوة .
إنه الجوع ، العطش ، التعب : اعطني مالديك فبالكاد أقف على قدمي ، قالها ثم ارتمى على كنبة طويلة بعد أن رمى بقميصه الأسود على كرسي صغير .
بعد مضي نحو ساعة أو أقل سألها بخجله وهدوئه المعهودين : هل تعتقدين بأنه يمكن لحب أن يولد في ساعة واحدة ، ومتى !!! في آخر ساعة من الليل ؟؟؟ ...
كان سؤالا مفاجئا بقدر ما كان جريئا ، لعلها ذهلت، خجلت، احمرت ، أشاحت دون أن تجيب .
بهدوء آخر نزع الغطاء عن رأسها ، حاولت بهدوء أيضا أن توقفه ، تلاقت نظراتهما ، وفي ثوان التقى الثغران في قلب البحر فذابا كالجليد إن ولج الماء ، وكانت رواية شهرذاد تدلي بصوتها مهللة في رحم الشتاء .
اليوم وفي صباح صيفي حار جدا ، التقاها على كرسي خشبي ، كانت فناجين القهوة تحضر الحفلة ، لكن من حضر أفسد كل شيء دفعة واحدة ، أشقر على برص بنظارة سميكة ، وربما دمه كدماء الإنجليز ، كبتت الأنفاس للحظات ، اكفهر وجه المتمرد فجأة ، تحامل على ألم جرح عميق ، وهوى خارجا .
كتب المتمرد على ورقة بيضاء برصاء : طارت العصافير بأرزاقها .
وليد.ع.العايش
٧ / ٨ / ٢٠٢٢م
- كتب: وليد.ع.العايش
حزم حقائب السفر وهو يجزم بأنها رحلة مغايرة ، ففي السماء غيوم تكاد أن تمطر، وفي الطريق إلى البحر المتوسط روايات لعلها تشبه قصص ألف ليلة وليلة .
لم يدع شيئا يؤنسه إلا ودسه في حقيبة زرقاء كبيرة ، النرجيلة ، علب السجائر ، طاولة الزهر ، الراديو الأثري ذو الخشب البني اللون ، وأشياء كثيرة أخرى كان يظن بأنه سوف يحتاجها هناك ، فعلى شاطئ هادئ لابد أن تكتب رواية جديدة في زاويا زواريب الذاكرة الملأى بالأحداث الصاخبة .
كان الطريق طويلا يا سيدي ، حتى كاد قلب محرك السيارة أن يتوقف عن الخفقان ، لكنه يبادر للمتابعة خشية أن يخذل صاحبه في مكان ما وهو الذي لم يفعلها من قبل ، بعد حوالي الساعة من المسير سقط الليل من رحم السماء ، ومعه انهمر المطر أيضا لتتحرك مساحات الزجاج غير آبهة به فكانا يتداعبان كعاشقين على مرآه وهو ينفث دخان سيجارته متمتما ببعض كلمات أغنية فيروز ثم يرخي العنان لابتسامة تحضر خلسة فيرمي عقب سيجارته ويتفرغ لها .
كان طويلا حنطي البشرة إن لم يكن أسمرا أكثر ، هادئ الطبع في معظم الأحيان لكنه نزق حد الشراسة إن عصفت به الرياح ، يبكي ويضحك على هواه غير مكترث بمن حوله ، جاء عاصفا من حفلة ريفية ذات ربيع لكنه تمرد قليلا وربما كثيرا على ماكان يحياه الآخرين ، فأصبح يوصف ( بالمتمرد ) .
هي هناك أيضا ، كانت تلاحقه بهاتف بين الفينة والأخرى كي تطمئن على أنه مازال بخير ، صوتها يمده بكثير من التوثب للمتابعة وكأنه أيضا يضخ في قلب المحرك دما جديدا فيرمي بثقله كي يصل إلى مبتغاه .
لم يكن المتمرد على أدنى علاقة بها ، فكل ما كان لقاء في سهرة مرت منذ عام ونيف ، ذاك اللقاء الذي انطبع على ذاكرته كوشم إغريقي غير قابل للزوال .
فتاة ثلاثينية سمراء تعكس القمر على وجهها المدور ، بينما شفتاها تحاكيان بحر القلزم بلاميتهما المتوهجة كضوء الأصيل ، طولها لا تشبهه إلا أعواد الريحان ، أما ابتسامتها فكانت كارثة إن وقعت على عين .
دارت طاحونة الأفكار في رأسه ، كان يحلم بكتابة روايته هناك ، ومن هنا بدأ يسلسل أفكاره عما سيأتي على ورقه الأبيض ، لكن صوتها يأتيه ليقطع سلاسل طريقه فيبتسم ثم يعود إلى سيجارته كرة أخرى .
على منعطف لم يره انزلقت عجلات السيارة ، أمسك بالمقود بقوة ، صرخت العجلات مولولة، تطاير الماء على ردهات الطريق الذي كان خاليا من أي قادم من الخلف ، رن الهاتف فظهرت صورتها على الشاشة ، قال ( لن أموت قبل أن أصل لأجلك أنت فقط فالحياة لم تعد تعني لي شيئا ) في تلك اللحظة أدرك بأن النيران تضطرم في قلبه وأنها هي التي أججتها ، أجبر السيارة على العودة إلى الحياة وعاد هو أيضا معها .
كان اللقاء صاخبا جدا ، الساعة تجاور منتصف الليل ، السلام كان حارا هذه المرة ، ضحكا كثيرا وهما يتداولان الحديث الأولي عن سير الرحلة إلى هنا ، لم ينتبه بأن شعرها بلا غطاء ، يا للغباء ، وهي أيضا نسيت بأن ترتدي غطاء رأسها قبل أن تلاقيه ، يا إلهي كم كان ذلك الشعر عاشقا للموج ، فلعله كطول الموج أو أكثر ، لكنه بكل تأكيد أجمل بل وأجمل ، فجأة انتبهت إلى نظراته صوب شعرها فابتسمت خجلا ثم توارت ، لحظات كانت كافية لالتقاط الأنفاس المتدحرجة كصخور جبل قاسيون إن جاءها المطر عنوة .
إنه الجوع ، العطش ، التعب : اعطني مالديك فبالكاد أقف على قدمي ، قالها ثم ارتمى على كنبة طويلة بعد أن رمى بقميصه الأسود على كرسي صغير .
بعد مضي نحو ساعة أو أقل سألها بخجله وهدوئه المعهودين : هل تعتقدين بأنه يمكن لحب أن يولد في ساعة واحدة ، ومتى !!! في آخر ساعة من الليل ؟؟؟ ...
كان سؤالا مفاجئا بقدر ما كان جريئا ، لعلها ذهلت، خجلت، احمرت ، أشاحت دون أن تجيب .
بهدوء آخر نزع الغطاء عن رأسها ، حاولت بهدوء أيضا أن توقفه ، تلاقت نظراتهما ، وفي ثوان التقى الثغران في قلب البحر فذابا كالجليد إن ولج الماء ، وكانت رواية شهرذاد تدلي بصوتها مهللة في رحم الشتاء .
اليوم وفي صباح صيفي حار جدا ، التقاها على كرسي خشبي ، كانت فناجين القهوة تحضر الحفلة ، لكن من حضر أفسد كل شيء دفعة واحدة ، أشقر على برص بنظارة سميكة ، وربما دمه كدماء الإنجليز ، كبتت الأنفاس للحظات ، اكفهر وجه المتمرد فجأة ، تحامل على ألم جرح عميق ، وهوى خارجا .
كتب المتمرد على ورقة بيضاء برصاء : طارت العصافير بأرزاقها .
وليد.ع.العايش
٧ / ٨ / ٢٠٢٢م