٢٠٢٢
بخفة عصفور
قصة: كرم الصباغ
ها أنا أجلس وحيدا بجوار باب هذا الإسطبل، يحاصرني القش، و العطن، و رائحة الروث من كل جانب. من وقت إلى آخر تمد الخيول أعناقها؛ فتتخطى رءوسها الحواجز الخشبية القصيرة، و ترمقني بنظرة استهجان. على ما يبدو أنها تعتقد أنني سجان غليظ. ليتها تعلم أنني مثلها تماما، لا أملك من أمري شيئا؛ فأنا مهرج، بل كنت مهرجا فيما مضى، أما الآن، فأنا مجرد حارس، يقبع هنا ككومة قش مهملة، حارس هرم، تعتصره الذكريات، و تضيق نفسه بالضجر.
لقد حاصرني صاحب الإسطبل بقائمة طويلة من المحظورات، و أبدى مخاوفه من اشتعال الحرائق؛ فقال بنبرة صارمة : التدخين ممنوع بتاتا؛ حفاظا على أرواح الخيول؛ فالمكان مكتظ بالقش الجاف. وجدت نفسي مجبرا على قبول هذا الشرط المقيت رغم كوني مدخنا شرها. كان لزاما على أن أرضخ لجميع شروطه؛ فبعد أن طردني صاحب السيرك، ضاقت علي الدنيا بما رحبت، إلى أن أنقذني هذا العمل من التشرد. أحرس الإسطبل طوال الليل، و مع تباشير الصباح، يحضر السائس؛ فأتوجه إلى غرفة ضيقة، تبعد عن حظائر الخيول مسافة ثلاثمائة متر، أجتازها بكل ما تبقى في جسدي من قوة؛ حتى أتمكن من التدخين، و النوم بعد سهر مرير، و حرمان أشد مرارة.
طردني صاحب السيرك؛ فأصبحت مشردا بلا سكن. أتدري معنى أن تصبح بلا سكن؟! لقد كان السيرك المتنقل بيتي، و كان لاعبو السيرك أهلي، أبدا لم يعكر صفونا سوى مالك السيرك، الذي اعتاد أن يلقي إلينا فتات أرغفته.
أنا مسن كما ترون، ظهري محني، تهاجمني آلام المفاصل المبرحة صباح مساء. لا يخدعنكم مظهري الآني؛ فقد كنت رشيقا، عفيا في شبابي، أتنقل بخفة عصفور، أملأ جنبات السيرك بالحركة و المرح، ما إن يراني المتفرجون، حتى يضج المسرح بالضحك. كان الآباء يحضرون برفقة أطفالهم لرؤيتي على وجه الخصوص، و كان المعجبون يلقون إلى الزهور، و كانت الإيرادات تزداد يوما بعد يوم، و كان مالك السيرك يعاملني - وقتئذ- بلطف، و احترام زائدين.
لم تعوزني الألوان يوما؛ فقد كانت لي هيئة مهرج نمطية، الملابس صبغت بسبعة ألوان زاهية، و الوجه دهن بطلاءين: أبيض، و أخضر، و الأنف دهن بطلاء أحمر. ناهيك عن الابتسامات، التي لونت بها ثغري طوال الوقت؛ إمعانا في إخفاء أوجاعي عمن جاءوا يطلبون بهجتهم من مهرج، استوطنت الأحزان قلبه منذ تلك الليلة البعيدة.
لم تغب عن ذاكرتي يوما، فراشة كانت، تسير على الحبل، بارعة في أداء (الاكروبات). لم أغرم بسواها، أحببتها كما يحب الرمل المطر، و كما تحب النوارس البحر، و كما يحب المهرج الحياة. ما إن بحت لها بما أضناني إخفاؤه، حتى التمعت عيناها، و حتى تورد خداها. ابتسمت، ثم هرولت إلى فقرتها، التي أعلن عنها مكبر الصوت. أتراني كنت جانيا ليلتها؟! أنهيت فقرتي، و أصوات التصفيق خلفي. ما إن رأيتها تخطر في الكواليس، حتى نفد صبري؛ فاندفعت نحوها. أغلب الظن أن بوحي المفاجئ قد أربكها؛ إذ كانت فراشة خجلة.
سارت على الحبل المشدود في الأعلى، بينما تابعت الأعين خطواتها الوئيدة بوجل. تعثرت قدماها، فجأة؛ فهوت، في حين انحلت العقدة، التي لم تحكم الفراشة شدها جيدا. تأرجح حبل الأمان الخؤون في الهواء بدونها؛ فشهق الجميع في آن واحد شهقات مزلزلة، كانت كفيلة بأن تسكن الأحزان قلبي للأبد، و أن يموت داخلي عصفور، طالما تبادل مع لاعبي السيرك المزاح، و إلقاء النكات.
خضبت الدماء أجنحة فراشتي؛ فمرت السنوات ثقيلة، كان لزاما علي أن أضحك رواد السيرك كل ليلة، رغم ما بقلبي من مرارة، و ألم؛ فأضحكتهم طويلا، بينما بكيت وحدي في الكواليس المظلمة عقب كل عرض. و كما تهرم الخيول، هرمت. ما عاد الأطفال يلحون على آبائهم، كي يشاهدوا مهرجا عابسا، ثقيل الحركة، و ما عدت قادرا على إخفاء أوجاعي، و ما عاد صاحب السيرك يتحمل وجودي.
حدق جيدا؛ يبدو أنني لم أعد وحيدا؛ أراها تقبل من بعيد، تحمل بين يديها حلتي القديمة الملونة. ها هي تدعوني إلى الانطلاق معها إلى خلاء، يموج بالهواء الطلق؛ كي أقدم عرضي كمهرج، يحلق بخفة عصفور.
بخفة عصفور
قصة: كرم الصباغ
ها أنا أجلس وحيدا بجوار باب هذا الإسطبل، يحاصرني القش، و العطن، و رائحة الروث من كل جانب. من وقت إلى آخر تمد الخيول أعناقها؛ فتتخطى رءوسها الحواجز الخشبية القصيرة، و ترمقني بنظرة استهجان. على ما يبدو أنها تعتقد أنني سجان غليظ. ليتها تعلم أنني مثلها تماما، لا أملك من أمري شيئا؛ فأنا مهرج، بل كنت مهرجا فيما مضى، أما الآن، فأنا مجرد حارس، يقبع هنا ككومة قش مهملة، حارس هرم، تعتصره الذكريات، و تضيق نفسه بالضجر.
لقد حاصرني صاحب الإسطبل بقائمة طويلة من المحظورات، و أبدى مخاوفه من اشتعال الحرائق؛ فقال بنبرة صارمة : التدخين ممنوع بتاتا؛ حفاظا على أرواح الخيول؛ فالمكان مكتظ بالقش الجاف. وجدت نفسي مجبرا على قبول هذا الشرط المقيت رغم كوني مدخنا شرها. كان لزاما على أن أرضخ لجميع شروطه؛ فبعد أن طردني صاحب السيرك، ضاقت علي الدنيا بما رحبت، إلى أن أنقذني هذا العمل من التشرد. أحرس الإسطبل طوال الليل، و مع تباشير الصباح، يحضر السائس؛ فأتوجه إلى غرفة ضيقة، تبعد عن حظائر الخيول مسافة ثلاثمائة متر، أجتازها بكل ما تبقى في جسدي من قوة؛ حتى أتمكن من التدخين، و النوم بعد سهر مرير، و حرمان أشد مرارة.
طردني صاحب السيرك؛ فأصبحت مشردا بلا سكن. أتدري معنى أن تصبح بلا سكن؟! لقد كان السيرك المتنقل بيتي، و كان لاعبو السيرك أهلي، أبدا لم يعكر صفونا سوى مالك السيرك، الذي اعتاد أن يلقي إلينا فتات أرغفته.
أنا مسن كما ترون، ظهري محني، تهاجمني آلام المفاصل المبرحة صباح مساء. لا يخدعنكم مظهري الآني؛ فقد كنت رشيقا، عفيا في شبابي، أتنقل بخفة عصفور، أملأ جنبات السيرك بالحركة و المرح، ما إن يراني المتفرجون، حتى يضج المسرح بالضحك. كان الآباء يحضرون برفقة أطفالهم لرؤيتي على وجه الخصوص، و كان المعجبون يلقون إلى الزهور، و كانت الإيرادات تزداد يوما بعد يوم، و كان مالك السيرك يعاملني - وقتئذ- بلطف، و احترام زائدين.
لم تعوزني الألوان يوما؛ فقد كانت لي هيئة مهرج نمطية، الملابس صبغت بسبعة ألوان زاهية، و الوجه دهن بطلاءين: أبيض، و أخضر، و الأنف دهن بطلاء أحمر. ناهيك عن الابتسامات، التي لونت بها ثغري طوال الوقت؛ إمعانا في إخفاء أوجاعي عمن جاءوا يطلبون بهجتهم من مهرج، استوطنت الأحزان قلبه منذ تلك الليلة البعيدة.
لم تغب عن ذاكرتي يوما، فراشة كانت، تسير على الحبل، بارعة في أداء (الاكروبات). لم أغرم بسواها، أحببتها كما يحب الرمل المطر، و كما تحب النوارس البحر، و كما يحب المهرج الحياة. ما إن بحت لها بما أضناني إخفاؤه، حتى التمعت عيناها، و حتى تورد خداها. ابتسمت، ثم هرولت إلى فقرتها، التي أعلن عنها مكبر الصوت. أتراني كنت جانيا ليلتها؟! أنهيت فقرتي، و أصوات التصفيق خلفي. ما إن رأيتها تخطر في الكواليس، حتى نفد صبري؛ فاندفعت نحوها. أغلب الظن أن بوحي المفاجئ قد أربكها؛ إذ كانت فراشة خجلة.
سارت على الحبل المشدود في الأعلى، بينما تابعت الأعين خطواتها الوئيدة بوجل. تعثرت قدماها، فجأة؛ فهوت، في حين انحلت العقدة، التي لم تحكم الفراشة شدها جيدا. تأرجح حبل الأمان الخؤون في الهواء بدونها؛ فشهق الجميع في آن واحد شهقات مزلزلة، كانت كفيلة بأن تسكن الأحزان قلبي للأبد، و أن يموت داخلي عصفور، طالما تبادل مع لاعبي السيرك المزاح، و إلقاء النكات.
خضبت الدماء أجنحة فراشتي؛ فمرت السنوات ثقيلة، كان لزاما علي أن أضحك رواد السيرك كل ليلة، رغم ما بقلبي من مرارة، و ألم؛ فأضحكتهم طويلا، بينما بكيت وحدي في الكواليس المظلمة عقب كل عرض. و كما تهرم الخيول، هرمت. ما عاد الأطفال يلحون على آبائهم، كي يشاهدوا مهرجا عابسا، ثقيل الحركة، و ما عدت قادرا على إخفاء أوجاعي، و ما عاد صاحب السيرك يتحمل وجودي.
حدق جيدا؛ يبدو أنني لم أعد وحيدا؛ أراها تقبل من بعيد، تحمل بين يديها حلتي القديمة الملونة. ها هي تدعوني إلى الانطلاق معها إلى خلاء، يموج بالهواء الطلق؛ كي أقدم عرضي كمهرج، يحلق بخفة عصفور.