الحوار التأويلي بين أزمة العلاقة بين الأشخاص والكتابة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الحوار التأويلي بين أزمة العلاقة بين الأشخاص والكتابة



    الحوار التأويلي بين أزمة العلاقة بين الأشخاص والكتابة



    هانس جورج غادامير
    حوار مع هانس جورج غادامير
    .حاوره: إلفي بولان وجاك بولان
    (هايدالبورغ 15 نوفمبر 1994)
    ​​​​​​ ترجمة: عبد الوهاب البراهمي–



    مفهوم الهارمونيطيقا أو التأويليةسؤال: لقد عُرف عملك الفلسفي كثيرا بتطويره ما تسمونه منذ البدء ” هارمونيطيقا ” (التأويلية)« herméneutique ». . وبالرغم من أن جمهور المثقفين يجد أحيانا صعوبة في فهم ما تعنيه، فقد أصبحت التأويلية في هذه السنوات الأخيرة موضوع اهتمام متزايد ضمن النقاش الفلسفي العالمي. هل بإمكانك أن تدقق لنا من وجهة نظرك، ما الذي ساهم في إثارة هذا الاهتمام، وأن تفسر لنا لماذا خصّصتَ مؤلفك لتناول تطوّر الهارمونيطيقا أو التأويلية؟
    – هانس- جورج غادامير: بالتأكيد. كانت المهمّة التي آليتها على عاتقي في البداية هي تحديد مفهوم التأويلية. لقد اعترضتني العبارة في كتابات الرومنطيقية الألمانية، ثمّ في استخدامات المدرسة الفينومينولوجية مع هوسرل وهيدجر بمنظور مغاير. لابد بالفعل أن نستحضر دائما في الذهن أن الكانطية الجديدة التي هيمنت في ذلك الوقت، تنطلق دوما من أمر واقع: وجود العلوم. إنها الحجة الأولى والأخيرة لديها. أذكر جيدا ما تعلّمته من معلّمي بول نتروب Paul Natorp أستاذ في ماربورغ، وهو الشيء التالي: ” ما المعطى le donné؟ إنّ المعطى هو ما يتعيّن تحديده بالعلوم.” لقد نظر إليه(أي المعطى) النقاش الفلسفي برمّته على هذا النحو ، متقلّصا ومحدود للغاية. بل إنّه ظاهر للعيان أيضا في منعرج الفكر الذي ارتسم بعد الحرب العالمية الأولى تحت تسمية الوجودية. يمثّل هذا المنعرج رد فعل وردّا على الكانطية الجديدة أكثر منه وسيطا لفكر مستحدث جذريا. لقد أصبحتُ أكثر فأكثر وعيا بهذه الوضعية بقدر ما تقدّمت في بحوثي الخاصّة وأثناء المقابلات التي أمكن لي إجراءها. أذكر بالخصوص رحلتي الأولى إلى ماندوزا، في الأرجنتين، بعد الحرب العالمية ومقابلتي لزملاء إيطاليين وفرنسيين وإنجليزيين بعد فترة انعزال طويلة بمناسبة إقامتنا في ألمانيا. وما أجده جديرا بالملاحظة لأهميته الكبيرة ، هو هذه الكتلة من الأشياء كلّها التي لا يمكن تطويرها إلاّ بشرط التكلّم مع أحد وبأن يكون معه تبادل حقيقي. نستمتع على نحو بعيد المنال أكثر بنقل خالص وبسيط لمعرفة أحادية ، لا تحدث إلاّ بمناسبة فرض حقيقتنا. هذه القناعة، تلك هي سرّ تبادل أصيل : لا يمنحني الغير في المقابل إلاّ ما يشغلنا نحن الاثنين. لقد كانت هذه الفكرة غير موجودة تماما في ألمانيا حينئذ، سوى في الحجاج الكاثوليكي واليهودي ( أفكر هنا في مارتان بوبر) حيث لا تأخذ هذه الفكرة قيمة إلاّ في أسلوب شبه مسلسلاتي feuilletonesque. لكن لم يكن في الأوساط الأكاديمية ، حقيقة ، أي شيء من هذا. وعلى هذا الأساس ، لم يبق لنا إلاّ ضرب من المَعْلَمِ اللفظي. يتعلق الأمر بعبارة ” الدرس” أو المحاضرة Vorlesung (1) . إنه من غير المعقول عمليا بالنسبة إلينا اليوم ، لكن يجب معرفة ، ودون أن نحسّ بلزوم أن نستدعيَ حالاّ ماكلوهان McLuhan ، الوعي بما كانت عليه المناجاة التي أدخلها تطوّر العلوم في العالم الغربي. حينما تخلصت الرياضيات من الجاذبية التي كانت تكرّسها بوصفها معقولية جديدة لتصبح ضربا من أداة للتحكّم في الطبيعة، شكّل هذا نوعا من الحدث الخارق للعادة. قاليلي هو هذا. ويكمن العلم الحديث في هذا: يتمسّك بأن تصبح فيه اللغة أداة . طبعا لقد حدث في العلم إذن خلاف ما نفعل حينما نتماسك ونحن نتكلّم.– النقد التأويلي للحداثة– سؤال: هل يمكن أن نذهب إلى حدّ القول بأنّ التشويهات التي لحقت الفلسفة تبدأ مع هذا الالتزام الحازم للحداثة لصالح العلم؟
    – هانس- جورج غادامير: نعم صحيح تماما. علينا أن نستحضر دوما في أذهاننا بأنّنا نتكلّم هكذا ، في الجملة ، عن تصوّرات مجرّدة للغة وأننا اكتسبناها في أفق مفهوم علم العصور الحديثة. لا تأتينا هذه المفاهيم من الكلام ومن الحياة بالذات . وإذا كان اهتمامي قد انصرف إلى الفلسفة الإغريقية ، فلكي أعيد إحياء، من أجلنا جميعا، العناصر الإيجابية التي اختفت لتفسح المجال لهذا التدمير العلموي لتجربة التواصل. وعن السؤال المتعلّق بمعرفة ماهية التأويلية، فسأقول بأن التأويلية تكمن قبل كلّ شيء في فهم أنّنا لن نعثر أبدا عن كلمات تستطيع أن تعبّر عن شيء ما نهائيّ. ذلك أن ماهية الحوار تكمن في هذا. فليس لحوار ما ، مبدئيا، أي غاية، لكن على العكس، يمكن لعناصر جديدة أن تنبجس، و يمكن دوما أن يخطر ببالنا شيء جديد، أو ، كما نقول أيضا بالألمانية es kann einem etwas einfallen ” يمكن لأيّ شخص أن يتبادر إلى ذهنه”. كل فكرة جديدة ، وكلّ حدس مفاجئ هو ، في هذا المعنى ، انفتاح. وهذا الفرق بين التصوّر الأداتي للغة وتصوّرها التأويلي ( الهارمونيطيقي) شاسع جدّا. وإذا ما كنت قد اقتربت كثيرا من الفلسفة الإغريقية ، فليس ذلك بسبب الحوار السقراطي الذي كرسته معها: فذاك الحوار هو بعدُ شكلا أدبيا حيث يمتزج فيه هذين النمطين. ولكن ، لنفكّر مثلا في أرسطو. ألحّ عليه دائما: فلسنا أمام كتب نقرأها بل موادّ للحوار. فحينما نجهد أنفسنا ، كفيلولوجيين جيدون، في استنباط الموقف الضمني والنهائي للميتافيزيقا الأرسطية انطلاقا من هذه الكتب، فإننا نمنح نقطة انطلاق غريبة تماما. ولكن ماذا نعرف عن ذلك؟ فهل يقصد أرسطو، حينما يقدّم نقده، الأوليّ بشكل لا يصدّق ، لأفلاطون، بأنّه كان كذلك فعلا؟ نحن مشبعون أدبا حتى نفهم ما يعنيه ، لوحده، كون لا أحد من القدامى، قبل راهب ميلان ( القديس – امبرواز Saint-Ambroise)، قد توصّل إلى القراءة دون الكلام بصوت مرتفع.– سؤال : لقد كانت الفلسفة التحليلية طويلا غير مبالية بالتأويلية، لا بل حتى معادية. هل يمكن القول بأنّها حاليّا بصدد تغيير سلوكها وإيلاء الحوار اهتماما جديدا؟
    – هانس- جورج غادامير: أنتم تعودون هنا بحقّ إلى المماثلة التي نجدها في تطوّر الفلسفة التحليلية وفي تطوّر التأويلية . يتناسب هذا تماما مع التجربة التي قمت بها في جامعة كوينز في أونتاريو، في كندا . لقد وجد هناك قسم مكوّن فقط في البداية من فلاسفة تحليليين . وقد استدعاني يوما إلى هذا القسم أحد تلامذتي القدامى وكان لنا نقاش جيّد. ثمّ استدعاني إليه من جديد بعد خمس سنوات. ونظرا لسنّي والإرهاق الذي يسببه بالمناسبة هذا السفر، فقد أعلمته بأنهّ قد سبق أن أتيحت لي فرصة التعرّف على زملائه. غير أنّه ردّ علي :” لا، ليس الأمر كذلك، فقد أضحى الجميع في الأثناء، تأويليين “. لماذا؟ لقد أدركوا ببساطة بأنّ نفس العلاقة النقيّة ، ونفس الجهد في التحرّر من كلّ بناء نظريّ ، كان شغّالا في الشعار الفينومينولوجي في التوجّه نحو الأشياء ذاتها وفي التوجّه الذي اتخذته الفلسفة التحليليّة. فقد تقلّصت هذه الأخيرة بشكل لا يصدق إلى حدّ عجزت فيه عن الإشعاع على مجموع الثقافة. وهذا لا يعني بأنّ الفلسفة التحليلية لا تعالج مسائل جديّة. فمسائلها جدّية وقد حافظت على بقاءها إلى اليوم، بما أنّنا نستوردها حاليا إلى ألمانيا وبأنّ هذا النقل يمثّل فيها أكثر ما هو مستجدّ. لست ضدّها. ولكن ما يبدو لي أكثر أهميّة في هذا النقل هو وضعه حدّا للعزلة الثقافية التي أحدثتها ألمانيا،إذ تعني هذه العزلة أيضا بأنّ كل شيء يتأتّى من هيجل ، وأنه وحده المتهم ، وأن كل شيء يعود إلى التقليد المثالي للألمان. لقد أدركت بنفسي بانّ للفلسفة التحليليّة أهدافا شبيهة بتلك التي لهذا التقليد و بأنهّ يجب على التخوم بين التقاليد أن تزول. لكنّنا نحن الألمان ، وكذلك الفرنسيين، لسنا في مستوى إحداث منعطفات دقيقة للغة الأنجليزية ، موضوعا للفلسفة. وحتى نتوصّل إلى ذلك، علينا أن نكون على إلف بالتعبيرات الاصطلاحية لهذه اللغة .– شعريّـــــــــــــــة اللغات– سؤال: ألا يتّجه تركيز التحليل اللغوي على وصف قواعد نفترض أنّنا نتّبعها، إلى نزع ما تسمّونه البعد الشعري للغات؟
    – هانس- جورج غادامير: ما من شكّ في ذلك. أعتقد بالفعل بأنّ أكثر ما يحرّر وما هو أكثر حياة في كلّ اللغات ، هو قدرتها الشعرية ، قدرتها على إثارة حدوس تكلّمنا حقيقة. وما تعلّمته من الفينومينولوجيا ، وبدرجة أولى لدى هوسرل ، هو الأمر التالي: إنّه يصف ويقدّم الأشياء الأكثر سذاجة بدقّة متناهية للغة إلى درجة يحصل لنا فيها انطباع بأنّنا نرى فيها حرفيا وبالفعل هذه الأشياء. وأنّه ليس لنا صدقا ، أيّ حاجة لكلماته. ندرك ذلك حينما نفكّر في الطريقة التي ولجت بها الفينومينولوجيا الأدب. يمكننا مع الأسف أن نلاحظ في هذا المجال بأنّنا عمليا قد اقتصرنا على الحديث عنها. لم يوجد قطّ أيّ أثر حقيقيّ انبثق عن المدرسة الفينومينولوجية لسبب بسيط هو أنه لا أحد عرف كيف يتخطّى هذا الخطأ في التقدير لدور الفلسفة. ومن الأشياء التي اعتزّ بها هو نجاحي في القيام بذلك بواسطة التأويلية.– مسألة الخير والوحدة الفلسفية للعقل– سؤال : تتحدثون عن تشوّهات أساسية حدثت للفلسفة . فيم تتمثّل تحديدا؟ وهل يجب أن نفهم التأويليّة بوصفها طريقة في جلب الانتباه إلى هذه التشوّهات والتوجّه صوب تحريرها؟ هل علينا أن نقرأ على هذا النحو كتابكم “الحقيقة والمنهج” ؟ (2)– هانس- جورج غادامير: تكمن إحدى التشوهات المحدِّدة التي سببتها الحداثة في الفلسفة، في الفصل المبدئي المطروح بين عقل نظري وعقل عملي . ظهر هذا الفصل أوّلا عند أرسطو، وفُهم طبعا ، بطريقة مدرسية جدّا. لقد كانت إشكالية أرسطو محايدة بعدُ ، فيما يتعلّق بهذا الفصل بين عقل نظري وعقل عملي. ولكن إذا ما تساؤلنا عمّ خطر ببال الإغريق وخاصة أرسطو،حينما طرحوا على أنفسهم السؤال عن الخير ، فمن الضروري أن نلاحظ أنّ هذا الفصل لم يوجد لديهم تحديدا. لا يمثّل إلغاء نظام العالم من جهة ، والجهد من جهة أخرى في بناء نظام داخل عالمنا الإنساني في مجموعهما سوى مهمّة واحدة هي نفسها. وهي المهمّة التي علينا أن نعود إليها لتجاوز كلّ هذه التشوّهات الناتجة عن الحداثة. إنّها بالتأكيد إحدى النقاط التي سمحت لي بتعلّم شيء عن أرسطو ، بالرغم من أنّ أرسطو لم يتناول أبدا بشكل مباشر هذه المسألة لذاتها. فهو لم يتحدّث عنها إلاّ أحيانا وبصورة غير مباشرة، مثلا حينما تساؤل عمّا تصنع الآلهة بحقّ. لقد كانت الآلهة بالنسبة إليه” كائنات نظرية خالصة”. ولكن ماذا يعني وجود” كائن محض نظريّ”؟ يعني ذلك أنّها كائنات تهب نفسها بكلّ كيانها للمهمّة التي كرّست نفسها لها والتي تمثل أمام أنظارها.لهذا أهمية قصوى عمليا. جميعنا تقريبا يقوم بنفس التجربة حينما نحسّ أنفسنا باحثين. إنّ عبارة ” باحث chercheur”هي أيضا إلى حدّ ما مضلّلة، باعتبار ما توحي إليه من معاني جغرافية وبيوغرافية ، تعطينا الانطباع بأنّ قارات أخرى مجهولة في انتظارنا دوما. ليس الأمر حقيقة على هذا النحو، لكن يتعلق الأمر مع ذلك دوما بمسألة معرفة إذا ما كنّا فعلا قادرين على نأخذ رأي الآخرين مأخذ الجدّ. لكن، أليس هذا ما يعنيه أولا وقبل كلّ شيء بالنسبة إلى هيجل، حينما يبحث عن الجواب عن السؤال: ما الثقافة؟– الحوار بين الثقافات ضمن صيرورة العالم– سؤال: ألا تخلق اللقاءات والحوارت التي تتضاعف في أيامنا هذه بين مختلف ثقافات كوكبنا، شروطا جديدة لفهم متبادل حيث يمكن أن تتطوّر طرق جديدة للتفكير؟هانس- جورج غادامير: تضع إصبعك على ما أعتبره بمثابة غاية غايات التأويلية. إذ ليس من المخجل ضرورة أن يفكّر الآخر على نحو مغاير لي . بل لعلّه غنم. بل ربّما على هذا النحو نفتح آفاقا لبعضنا بعضا. أعتقد أنّ المساهمة الأدنى لكلّ منّا في ثقافة العالم تكمن في نهاية الأمر في هذا. ومن الواضح أنّنا لا يمكن أ ن نجعل من هذا هدفا نهائيا، ومع ذلك قد أقول، بأنّ أمام أوروبا ما يجب عليها تعلّمه لتصبح يوما ما في مستوى بناء هذا النوع من مجتمع الحوار. غير أن العالم في مجموعه سينتهي إلى القيام بذلك، إذ سيكون مضطرا إلى فعله. فلأوّل مرّة فعلا تجد كل الثقافات الكبرى للعالم بما في ذلك تلك التي تنبع من ديانات غير دياناتنا، إن جاز التعبير، ملتحمة بعضها ببعض بواسطة الاقتصاد العالمي. بالإضافة إلى أنّه علينا آن نتعلّم من الآن فصاعدا التفاهم مع بعضنا بعضا. لم يكن الأمر هكذا أبدا . ننظر بإعجاب اليوم إلى الزميل الياباني الذي يتوصّل إلى الإقامة في عالم مفاهيمنا. غير أن هذا لا يكفي، وإلى حدّ بعيد، ليحملنا خارج لغتنا ومن وراء حواجزنا المفاهيميّة الخاصّة . ويمكن على الأكثر ، ربّما ، أن نُظهر للملأ، بمهارة ، الطريقة التي نعبّر بها حينما نحاول الخروج من ذواتنا دون أن نقدر على التفكير على نحو إبداعيّ. وينسحب هذا بالطبع على الجهتين. ويُمثّل الخروج من هذه الوضعيّة بالتأكيد مهمّة الجميع، وإذا ما توصّلنا لحسن الحظّ، إلى تقديم حلول ملائمة للمشاكل البيئيّة كما للمشاكل التي يطرحها تنظيم العالم. غير أن ما علينا، قبل كل شيء، تعلّمه أكثر فأكثر، هو أنّ الغير موجود هنا، وأنه، هو أيضا يعتبرنا آخر. ربّما يجب علينا أن نقبل أكثر فأكثر تعايشا فعليّا لمختلف اللغات. أكافح باستمرار عندنا في ألمانيا، من أجل فكرة أن نقدر بأنفسنا على أن نتكلّم بلغة ثانية إذا ما أردنا قدرة على الفهم حيث تعجز كل ترجمة، أي في مجال الشعر.هالة الحقيقة خاصّة الفنّ الشعريّ والتواصلسؤال: ألا يستهدف الحوار الذي تتطلّع إليه التأويلية أوّلا وقيل كلّ شيء، تقاسم قوّة الإيقاظ هذه،التي تختصّ بها اللغة والكامنة بدرجة أولى في التجربة الشعريّة ، لكونها تجعلنا دوما نتجاوز التقسيم، الموروث من الحداثة ، بين عقل نظري وعقل استيتقي أو جمالي؟ ألا يظلّ التواصل الشعري، منظورا إليه من هذه الزاوية، نموذجا يسعى كلّ تواصل إلى تملّكه؟
    هانس- جورج غادامير: يقينا. أعتقد من ناحيتي، أنّنا فعلا كذلك منذ أن أحسسنا ، ولو قليلا، بأنّنا نقيم في لغتنا. لقد بحثت دائما بالفعل عن إثارة جزء الحقيقية الكامن في تجربة اللغة الشعريّة وفي الفنّ عموما مثلما هو أيضا في تأويلية التواصل. فالموسيقى مثلا منظورا إليها من هذه الزاوية ، تمثّل أيضا إحدى الوعود الأساسية للمستقبل. لقد انفتح العالم الآسيوي ،و معه، العالم كلّه ، على الموسيقى الغربية وصار يحيا في هذا العالم. نحن هنا إزاء ظاهرة لم أتوصل أنا ، إلى فهمها في كل مداها، وربّما قد لا يوجد أحد بعدُ بإمكانه ذلك. لكن يوجد أكثر أيضا. لا نكتفي بأن نحيا ذلك. من الواضح أنّنا نبحث أيضا عن تجاوزها بخوض ا لمغامرات الموسيقيّة الأكثر جرأة . يكمن سرّ كل فنّ في هذا: ما نسمّيه فيه ” تقدّما” هو أيضا باستمرار شكل من ” العودة”. هكذا تنكشف لأعيننا أشياء جديدة . لنفكّر مثلا ، في فن النحت الإفريقي وقد تعلّمنا كيف نجده رائعا في بداية هذا القرن. ولو تجرّأ أحدهم للتعبير عن إعجابه قرنا من قبل، لاعتبرناه مجنونا وحشرناه في مصحة عقلية. لقد أثارني موضوع الموسيقى بشكل مخصوص، لكن أقرّ بمحض إرادتي أنّ الأمر هو ذاته بالنسبة إلى فنّ الرسم. لقد منحتني باريس فرصة اختبار ذلك. فبعد عدّة سنين، أتيحت لي فرصة ، سنة 1993، بأن أقضّي من جديد بعض الساعات في المتاحف.و، حيث أنّ ذلك غالبا ما يحدث في باريس، و بعدما اطلعت على تشكيلة جدّ غنيّة ، انتهينا إلى الاطلاع على أحدث تطوّر الفنّ التصويري. نبدأ بحالة دهشة . وعلينا أن نستعيد ذواتنا حتى ينغرس ذلك فينا، ثمّ ، حينما نعود إلى الوراء، يضفي علينا الفنّ السابق بدوره أثرا يجعل ملامحنا مصفرّة. يمكننا أن نقطع كلّ هذه السبل في معنى أو في آخر. إنّها سبل الفنّ، الميزة الحقيقية للفنّ. إنّ تزامن التجربة الذي نعرف كيف نبنيه هو الذي يأخذ هنا قيمة جديدة . ليس لها بالمرّة مثيلا سوى تلك التي يدّعيها لنفسه بواسطة الدين، إنّ لها قيمة الإلهام.سؤال: يمكن للحياة الاجتماعية ، العادية لو تُركت لشأنها ، أن تصير عملا فنيّا، لكن يمكن تنهار في انحطاط ثقافي أضحى عُمْلة يومية حينما نستغلّ دون تبصّر الاكتشافات العلمية والتكنولوجية المعاصرة لغايات مناقضة للفهم المتبادل. أليست التأويلية عاجزة عن أن تعطّل هذه الكوارث الحضاريّة؟
    هانس- جورج غادامير: هذا المصير الخاص بثقافتنا التكنولوجية وهذا التنظيم التكنوقراطي الذي يتّسع بصفة قويّة على كل الكرة الأرضية ، يوقظنا ويرفع من درجة وعينا مع ذلك و في نفس الوقت بالحريّة. يوجد في هذا الصدد مثال جيد، أستعمله عن طيب خاطر. لقد عثرت عليه في مؤلف لوالتر بنجامين بعنوان “العمل الفنّي زمن إنتاجيته التقنية”(3). يبين الكاتب أنّه في العالم الحديث ، تحد ث مجانسة homogénéisation اجتماعية جديدة مرتبطة بنظام عقلي جديد للعالم الاجتماعي. ويقول الكاتب بانّ هذا العالم الاجتماعي لا يمكنه عندئذ أن ينتج ذاته إلاّ بإعادة إنتاجها بما أنّ الهالة الخاصّة بالفنّ ستختفي. هذا تنبؤ رائع خلاف ما يحدث ، ذلك أن ما نراه ، هو أنّنا نحسّ من جديد بهذه الهالة. إنّنا نرى الناس يندفعون قدما نحو الأشياء الأصيلة رغم كل الغزو الذي نلاحظه للمعاد إنتاجه. كان لابدّ من أن تُفهم هذه الهالة أحدهما الآخر( الأصيل والمعاد إنتاجه).انظروا إلى هؤلاء الزوّار الذين يتوقّفون ربع ساعة أمام لوحة قارنيكا Guernica. لماذا يظلون هناك ربع ساعة إلاّ إذا كانوا قد أحسّوا بهذه الهالة؟ لماذا سيتوقّفون إذا لم يستشعروها، يمكن لما هو جزئي حتّى في حياتنا، أن يصل إلى أن يعلن عن نفسه بفضل ملكتنا في الفهم التأويلي؟
    لقد خضت التجربة بنفسي ، في كل مكان أكون فيه، عن الأهمية القصوى في الحفاظ على هذا الانفتاح. فنحن لا نحافظ عليه حقّا إلاّ حينما نصبح واعين بالعجز الجذري الذي سنكون فيه دائما أصحاب الكلمة الأخيرة. هذا هو في النهاية فيم تتمثّل التأويلية . إنها تتمثّل في معرفة هذا الأمر البسيط جدّا: الكلمة الأخيرة ، حسنا ، لا ، لا أريد أن أملكها.”​​مجلة: ( (Germanica 22- 1998
    Elfie Poulain et Jacques Poulain
    – المصدر: https://journals.openedition.org/germanica* – يمثل هذا النصّ الصيغة الأصلية للمحادثة مع هانس – جورج غادامير التي قام بها إيلفي وجاك بولان . وظهرت مقتطفات منه في جريدة لوموند ليوم 3 جانفي 1995 وفي Frankfurter Rundschau ليوم 11 فيفري 1995.– الهوامش:
    – 1- ملاحظة المترجم : عبارة Vorlesung تعني ” درس” ، ” محاضرة”، غير أنّ دلالتها الاشتقاقية تحيل إلى فعل قراءة خطاب أمام مستمع.
    2- هانس- جورج غادامير ” الحقيقة والمنهج”، باريس طبعة seuil ترجمة أ. ساكر وبول ريكور، 1973.وترجمة جديدة ل[. فريشون وج. قرودان ، باريس طبعة seuil 1995.
    3- الترجمة الفرنسية للمؤلف تعود إلى م. دي كونديلاك في ” الانسان واللغة والثقافات، باريس دونيال 1971ص 145 وبعدها.


يعمل...
X