عالم الصحافة الذي يُسعدك عندما تفقد الذاكرة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • عالم الصحافة الذي يُسعدك عندما تفقد الذاكرة

    عالم الصحافة الذي يُسعدك عندما تفقد الذاكرة




    نصنع الأخبار ثم نوزعها


    تحتاج إلى ذاكرة قصيرة فقط، وكل شيء يكون تماما، فلا ترهق نفسك بالتفكير.
    هناك قوالب جاهزة تستخدمها الصحافة الغربية في جميع الظروف والأحوال. ولو أتيح لك أن تنسى الاستخدامات السابقة لهذه القوالب، فإنك سوف تكون أسعد حالا. وأكثر من ذلك، فإن صحيفتك المفضلة تظل مفضلة ولن يخطر على بالك أنها تخدعك أو تبيع لك الشيء نفسه المرة تلو المرة، بعد مرور بعض الوقت.
    إذا كانت “صحيفتك المفضلة” تريد أن تشيطن أحدا، فإنها تسحب من الجارور قائمة بالموضوعات التي لا تحتاج فيها سوى أن تغير الأسماء والصور ونصوص التحرير. فيبدو الأمر جديدا وكأنك لم تقرأه من قبل.
    عندما كانت هناك استعدادات لغزو العراق استخرجت الصحافة الغربية من ذلك الجارور قائمة بالموضوعات يقول بعضها إن صدام حسين مريض بالسرطان وسيموت قريبا، ومقالات أخرى تحدثت عن معلومات استخبارية تفيد بوجود مخطط للانقلاب عليه، وبعض آخر تحدث عن علاقات صدام السرية بثلاثة أرباع نساء العراق، أو نحو ذلك، وعن أبناء سريين ينتشرون في أماكن مجهولة مع أمهاتهم في هذا البلد أو ذاك. ولسوف تجد، بطبيعة الحال، موضوعات عن حسابات مصرفية يملكها في البنوك الغربية تضم مليارات الدولارات وقد تم احتجازها.


    ◙ مزاعم الحرية الصحافية نفسها تحتاج إلى تدقيق. الصحافة الغربية توالي السياسات الخارجية لبلدانها بصرف النظر عما إذا انطوت على جرائم أم لا



    كل هذه القوالب يتم استخدامها الآن في الحديث عن فلاديمير بوتين. وتكاد لا تخلو صحيفة غربية من موضوع من هذا النوع، حتى لتكاد تستغرب كيف أمكن لهذه الصحف أن تحصل على معلومات عن زوجات سريات، وسجلات طبية، وأرقام حسابات في الخارج، وشركات وقصور في أقاصي الجبال، وأخرى في قيعان الوديان.
    وزيادة في التشويق، فإن الأمر لا يخلو من صور تصل في بعض الأحيان الى غرف النوم.أما المعلومات السرية التي يتم الحصول عليها من “مصادر المخابرات” فإن جيمس بوند نفسه لا يستطيع الحصول عليها، بكل مغامراته. ولكن ضابطا مجهولا، أو ربما غير موجود أصلا، حصل عليها من دون أن يقال لك كيف.
    جانب من الأمر يقصد “التنفيس” عن رغبات، لاسيما عندما يتعلق الأمربـ”موضوعات” تتعلق بالإصابة بالسرطان، أو بمرض غامض سيؤدي الى وفاة صاحبه عما قريب. جانب آخر، يُدعى “التفكير الرغبي”، أي عندما يضع المرء رغباته في مكان الحقائق، ويصدقها على أنها هي الحقائق. جانب ثالث، يميل إلى البساطة أكثر، بأن يمارس أحقادا صرفة، وهي ما يستطيع القارئ أن يلاحظه في اللغة التي لا توفر شيئا لكي تحقق الغرض منها.
    لا يهم كم أن بوتين متوحش أو مجرم حرب أو غير ذلك. هذه ليست هي القضية. القضية هي أن هناك قوالبَ يجري استدعاؤها بطريقة آلية تماما، فتستخدم الموضوعات نفسها، ولكنها تراهن بالدرجة الأولى على قصر الذاكرة.
    الجنس والمال ونظرية المؤامرة. من هنا تأتي معظم العناوين. وكل ما تحتاجه لتعبئة الفراغات هو “مصادر مطلعة”، أو جيمس بوند يعمل لصالح الصحيفة.
    وهناك وسيلتان فقط لكي لا تقع ضحية تلك الأساليب؛ الأولى هي ألّا تفقد الذاكرة بسرعة، والثانية هي أن تنظر إلى الموضوع الذي تقرأه من جهة القالب لا من جهة النص.
    ذوو العيون الماكرة يقرأون الخبر مثل ميكانيكي السيارات. إنهم ينظرون في الماكينة، فيلاحظون الهيكل والمكونات ليروا كيف تعمل. أما القارئ – الضحية فهو لا أكثر من راكب، ينظر إلى الشكل وبعض المشاعر التي توحي له بـ”المتانة” فيعتقد أنه يركب سيارة جديدة.
    الصحافة الغربية في أكثر من 90 في المئة من أعمالها تبيع سيارات مستعملة على أنها جديدة. وتستخدم في الغالب الأساليب ذاتها في التشويه والتشنيع، وكذلك في التلميع والتزيين.
    وما من رئيس تحرير إلا ولديه جارور ملآن بالمبالغات والأكاذيب، يستخدمها كلما احتاج إلى ذلك، كمن يستخرج من كنز لا ينضب.
    فقط دقق في التقنيات، وسترى ما لم تكن تراه من قبل.


    ◙ عندما كانت هناك استعدادات لغزو العراق استخرجت الصحافة الغربية من ذلك الجارور قائمة بالموضوعات يقول بعضها إن صدام حسين مريض بالسرطان وسيموت قريبا



    مزاعم الحرية الصحافية نفسها تحتاج إلى تدقيق. الصحافة الغربية توالي السياسات الخارجية لبلدانها بصرف النظر عما إذا انطوت على جرائم أم لا. هذا جزء من وظائف “الأمة الإمبريالية” التي يتجند أبناؤها لخوض حروبها دفاعا ليس عن مصالح “طبقة” كما كان الحال في السابق، وإنما دفاعا عن مصالح “الأمة” برمتها. “الطبقة” التي كانت تثرى بالغزوات والاستعمار، لم تعد هي وحدها التي ترى المنافع. أنظمة الرعاية الاجتماعية والرفاهية والخدمات والوظائف أصبحت جزءا من تلك المنافع، الأمر الذي بات يقنع الغالبية العظمى من المواطنين بأن مصالح بلدهم هي مصالحهم، وجرائمه في الخارج مبررة أو يمكن التغاضي عنها. ولا تفعل الصحافة الغربية غير أن تعكس هذه الرؤية. لم تعد القصة قصة طبقة تنهب، وإنما قصة شعوب تشارك في الغنيمة.
    الحرب الإعلامية بين الطرفين على أشدها طبعا. ولكنها لم تبلغ مستوى القطيعة التامة، إلا أنهما يكذبان ويبرران بالطريقة نفسها. ولدى كل رئيس تحرير جارور من القوالب الجاهزة.
    كل ما تحتاجه لتكون سعيدا في هذا العالم، لا أن تكون ذا ذاكرة قصيرة، بل أن تفقد الذاكرة.
    تصحو صباح كل يوم لترى عالما جديدا تتعرف عليه لأول مرة. تقرأ الصحف في موسكو، فتصدقها. وإذا سافرت في اليوم التالي إلى واشنطن أو لندن أو باريس فسوف تقول: يا الله، ما أجمل هذا العالم.
    فقط الذين يعانون من فرط الذاكرة، هم الذين يعتقدون أنه عالم قذر.


    علي الصراف

    العرب



يعمل...
X