هل فقدت مأكولات الشرق الأوسط جاذبيتها لصالح الوجبات السريعة
الجمعة 2022/08/12
الطبخ فن وتاريخ في الشرق الأوسط
القاهرة - يُعدّ الطعام والطهي من العناصر التي ترسّخت بعمق في ثقافة الشرق الأوسط وتاريخه إلى درجة أن بعض الوصفات اعتُمدت لعدة قرون. وتحوّلت إلى شكل من أشكال الفن. إلا أن هذه المنطقة شهدت في الفترة الأخيرة، مثلما هو الشأن بالنسبة إلى العديد من المناطق في العالم، شحّا في وفرة الغذاء ومسالك توزيعه وأسعاره ومكوناته والقدرة التنافسية في مواجهة التوجّهات الأحدث.
وأصبح سؤال هل خسر الطبخ مكانته في حياتنا بعد أن كان دعامة أساسية في البيوت؟ بالغ الأهمية في جميع أنحاء المنطقة حيث كانت للطهي مكانته العالية في الزمان الغابر، وكان مصدر إلهام للشعراء والمغنين. لكن الوجبات السريعة تُنفّر الناس من تراث الطبخ المنزلي اليوم، وبفضل سعرها المنافس مع توفر خدمة التوصيل إلى المنزل.
وترى الكاتبة ورئيسة تحرير مجلة حول الفنون والثقافة ريم تينا غزال أن علاقة حب العالم العربي للأطباق التقليدية المطبوخة جيدا تتجسد في بعض القصائد، كتلك التي كتبها في القرن التاسع الأمير العباسي إبراهيم بن المهدي، وهو الأخ غير الشقيق للخليفة هارون الرشيد، الذي خُلّد في حكايات “ألف ليلة وليلة”.
وقال المهدي المعروف باسم أمير الأبيقور في قصيدته “فرحانة تغمر قلب الجائع بالفرح، لأنها تخرج في وعاء مثل البدر في أحلك الليالي”. و”فرحانة” تعني “السعيدة” لأنها تجلب الفرح لمن يأكلها. وتشير كلمة فرحانة إلى طبق من اللحم والخضروات من القرون الوسطى يُعرف باسم المغمومة، وهو واحد من 600 طبق ظهرت في كتاب الطبيخ لابن سيار الوَرَّاق. ويعد هذا الكتاب من أقدم كتب الطبخ العربية في العالم وأشملها، حيث جمع الكاتب تفاصيل الأطباق التي قُدّمت في البلاط الملكي في بغداد.
أنواع مختلفة من الأكلات الغربية مثل البرغر والبيتزا فرضت نفسها على طاولات الطعام خلال السنوات الأخيرة
ويتضمن كتاب طبخ الوراق وصفات لـ”السمبوسة” وهي وجبة رمضانية مثلثة الشكل كانت تعتبر ملكة الوجبات الخفيفة في العصور الوسطى. وجاءت الوصفة في بيت شعري يصف ببلاغة تحضير ذلك “المأكل المعجل” اللذيذ (المترجم حرفيا إلى الوجبات السريعة).
وقد نجا ذلك الطبق التقليدي، مع أطباق أخرى، من اختبار الزمن مع وجود منافسة من أطباق من ثقافات متعددة أخرى، ولا يزال موجودا على موائد الطعام العربية والإسلامية في جميع أنحاء العالم.
ويُعتقد أن فن المطبخ بدأ في العراق، أو ما كان يُعرف آنذاك ببلاد ما بين النهرين. وقد سُجّل أقدم مخطوط حول الطبخ في العالم حوالي سنة 1700 قبل الميلاد بالكتابة المسمارية، وهو نظام للكتابة على ألواح طينية استخدمت في الشرق الأوسط القديم، وتوجد الألواح في المجموعة البابلية بجامعة ييل. وفي حين أن بعض المكونات الموجودة في 35 طبقا لا تزال غير معروفة، إلا أنها تضمنت الحساء، مع مزيج من اللحوم أو الخضار أو الحبوب المطبوخة في الماء.
وبرز كتاب طبخ آخر من المنطقة، وهو أفضل المأكولات والأطباق اللذيذة من الأندلس والمغرب. وتُرجم نص الباحث الأندلسي ابن رزين التجيبي قبل نشره في العام الماضي، ويعرض 475 وصفة رائعة من المطبخ الأندلسي الفريد.
وقد يأمل المرء في أن تظل الأطباق العربية التقليدية عنصرا أساسيا في المنازل في جميع أنحاء الشرق الأوسط، بسبب ذلك الإرث الغني، ولكن بعض الأطباق الغربية أصبحت أكثر انتشارا، حيث فرضت أنواع مختلفة من البرغر والبيتزا نفسها على طاولات الطعام في السنوات الأخيرة مع إقصاء المأكولات العربية التقليدية التي أصبحت تُقدّم كطبق جانبي رمزي، وصارت تؤكل في المناسبات الخاصة مثل احتفالات العيد والإفطار خلال شهر رمضان، وفي الزيارة العرضية من الأقارب والأصهار، حيث توجد الحاجة لإظهار فهم أكثر لثقافة الطهي.
أقدم مخطوط حول الطبخ في العالم سُجّل حوالي سنة 1700 قبل الميلاد بالكتابة المسمارية
وتركز العديد من كتب الطبخ المنتشرة على كل من المأكولات العربية وتلك من الدول الأخرى، ولا تهدف إلى المساعدة في الحفاظ على أطباق معينة فقط، بل تلعب دور المقارنة المعيارية للطعام التقليدي في القرن الحادي والعشرين أيضا. ومع ذلك، فقد تطور الهدف من كتاب الطبخ التقليدي. فبالنسبة إلى ربة المنزل، تصبح تلك الكتب تذكيرات بصرية لعصر مضى. وبالنسبة إلى المستهلك، أصبح اختيار الطهي عرضا آخر قائما على الصور ويعتمد على وسائل التواصل الاجتماعي لإظهار ما لذّ وطاب من أصناف الطعام.
ويعني ذلك النهج أن المنازل الجديدة ستتخلى عن غرفة الطعام التقليدية سعيا وراء عناصر الراحة الحديثة، وستحل محلها غرفة الجلوس الكبيرة حيث يمكن فيها تناول الطعام، وبدأت تلك الأوقات التي كانت تقضيها الأسر في تناول الغداء على طاولة الطعام في الانحسار أمام منظر أفراد الأسرة وهم منشغلون بمشاهدة التلفزيون أو التحديق في الهواتف المحمولة.
واستغلت مجموعة متزايدة من تطبيقات توصيل الطعام هذا الوضع، وهي تتحدى الصورة المثالية لوجبة مطبوخة في المنزل.
ووفقا للبيانات التي جمعتها ساتستيا، فمن المتوقع أن يتجاوز النمو في سوق توصيل الطعام عبر الإنترنت 5.3 مليون مستخدم في الإمارات العربية المتحدة و18.8 مليون مستخدم في المملكة العربية السعودية بحلول عام 2027. وفي الوقت نفسه، أصبحت شريحة من المجتمع واعية بأهمية الطعام الصحي كما ارتفع الطلب على خيارات غذائية صحية بشكل كبير.
ويعني الارتفاع الحاد في أسعار المواد الغذائية، لاسيما في أجزاء من الشرق الأوسط حيث يأتي الجزء الأكبر من إمدادات الحبوب من أوكرانيا أو روسيا، أن الوجبات السريعة أصبحت بشكل متزايد بديلا أرخص عن الطهي في المنزل.
ولكن بقدر ما قد تكون صدمات السوق العالمية ضارة بالطهي التقليدي، فإنها يمكن أن تغير أيضا عادات المستهلكين وتحسّن تفضيلاتهم، حيث أدى ظهور جائحة كورونا إلى ارتفاع كبير في عدد الذين يطبخون في المنزل، وكانت لذلك نتائج متنوعة.
ويبقى أن نرى ما إذا كانت تلك التحديات تؤكد من جديد أهمية كتاب الطبخ التقليدي في البيوت الحديثة كبداية للوجبة المطبوخة في المنزل، أو إذا كانت الراحة، وعدم الانضباط وعادات الأكل المشكوك فيها قد أزالت هذه الدعامة الأسرية الأساسية نهائيا.
وربما يتطلب الأمر الإبداع والشعر لإلهام فن الطبخ وإعادة بروز الوجبة المطبوخة في المنزل.
الجمعة 2022/08/12
الطبخ فن وتاريخ في الشرق الأوسط
القاهرة - يُعدّ الطعام والطهي من العناصر التي ترسّخت بعمق في ثقافة الشرق الأوسط وتاريخه إلى درجة أن بعض الوصفات اعتُمدت لعدة قرون. وتحوّلت إلى شكل من أشكال الفن. إلا أن هذه المنطقة شهدت في الفترة الأخيرة، مثلما هو الشأن بالنسبة إلى العديد من المناطق في العالم، شحّا في وفرة الغذاء ومسالك توزيعه وأسعاره ومكوناته والقدرة التنافسية في مواجهة التوجّهات الأحدث.
وأصبح سؤال هل خسر الطبخ مكانته في حياتنا بعد أن كان دعامة أساسية في البيوت؟ بالغ الأهمية في جميع أنحاء المنطقة حيث كانت للطهي مكانته العالية في الزمان الغابر، وكان مصدر إلهام للشعراء والمغنين. لكن الوجبات السريعة تُنفّر الناس من تراث الطبخ المنزلي اليوم، وبفضل سعرها المنافس مع توفر خدمة التوصيل إلى المنزل.
وترى الكاتبة ورئيسة تحرير مجلة حول الفنون والثقافة ريم تينا غزال أن علاقة حب العالم العربي للأطباق التقليدية المطبوخة جيدا تتجسد في بعض القصائد، كتلك التي كتبها في القرن التاسع الأمير العباسي إبراهيم بن المهدي، وهو الأخ غير الشقيق للخليفة هارون الرشيد، الذي خُلّد في حكايات “ألف ليلة وليلة”.
وقال المهدي المعروف باسم أمير الأبيقور في قصيدته “فرحانة تغمر قلب الجائع بالفرح، لأنها تخرج في وعاء مثل البدر في أحلك الليالي”. و”فرحانة” تعني “السعيدة” لأنها تجلب الفرح لمن يأكلها. وتشير كلمة فرحانة إلى طبق من اللحم والخضروات من القرون الوسطى يُعرف باسم المغمومة، وهو واحد من 600 طبق ظهرت في كتاب الطبيخ لابن سيار الوَرَّاق. ويعد هذا الكتاب من أقدم كتب الطبخ العربية في العالم وأشملها، حيث جمع الكاتب تفاصيل الأطباق التي قُدّمت في البلاط الملكي في بغداد.
أنواع مختلفة من الأكلات الغربية مثل البرغر والبيتزا فرضت نفسها على طاولات الطعام خلال السنوات الأخيرة
ويتضمن كتاب طبخ الوراق وصفات لـ”السمبوسة” وهي وجبة رمضانية مثلثة الشكل كانت تعتبر ملكة الوجبات الخفيفة في العصور الوسطى. وجاءت الوصفة في بيت شعري يصف ببلاغة تحضير ذلك “المأكل المعجل” اللذيذ (المترجم حرفيا إلى الوجبات السريعة).
وقد نجا ذلك الطبق التقليدي، مع أطباق أخرى، من اختبار الزمن مع وجود منافسة من أطباق من ثقافات متعددة أخرى، ولا يزال موجودا على موائد الطعام العربية والإسلامية في جميع أنحاء العالم.
ويُعتقد أن فن المطبخ بدأ في العراق، أو ما كان يُعرف آنذاك ببلاد ما بين النهرين. وقد سُجّل أقدم مخطوط حول الطبخ في العالم حوالي سنة 1700 قبل الميلاد بالكتابة المسمارية، وهو نظام للكتابة على ألواح طينية استخدمت في الشرق الأوسط القديم، وتوجد الألواح في المجموعة البابلية بجامعة ييل. وفي حين أن بعض المكونات الموجودة في 35 طبقا لا تزال غير معروفة، إلا أنها تضمنت الحساء، مع مزيج من اللحوم أو الخضار أو الحبوب المطبوخة في الماء.
وبرز كتاب طبخ آخر من المنطقة، وهو أفضل المأكولات والأطباق اللذيذة من الأندلس والمغرب. وتُرجم نص الباحث الأندلسي ابن رزين التجيبي قبل نشره في العام الماضي، ويعرض 475 وصفة رائعة من المطبخ الأندلسي الفريد.
وقد يأمل المرء في أن تظل الأطباق العربية التقليدية عنصرا أساسيا في المنازل في جميع أنحاء الشرق الأوسط، بسبب ذلك الإرث الغني، ولكن بعض الأطباق الغربية أصبحت أكثر انتشارا، حيث فرضت أنواع مختلفة من البرغر والبيتزا نفسها على طاولات الطعام في السنوات الأخيرة مع إقصاء المأكولات العربية التقليدية التي أصبحت تُقدّم كطبق جانبي رمزي، وصارت تؤكل في المناسبات الخاصة مثل احتفالات العيد والإفطار خلال شهر رمضان، وفي الزيارة العرضية من الأقارب والأصهار، حيث توجد الحاجة لإظهار فهم أكثر لثقافة الطهي.
أقدم مخطوط حول الطبخ في العالم سُجّل حوالي سنة 1700 قبل الميلاد بالكتابة المسمارية
وتركز العديد من كتب الطبخ المنتشرة على كل من المأكولات العربية وتلك من الدول الأخرى، ولا تهدف إلى المساعدة في الحفاظ على أطباق معينة فقط، بل تلعب دور المقارنة المعيارية للطعام التقليدي في القرن الحادي والعشرين أيضا. ومع ذلك، فقد تطور الهدف من كتاب الطبخ التقليدي. فبالنسبة إلى ربة المنزل، تصبح تلك الكتب تذكيرات بصرية لعصر مضى. وبالنسبة إلى المستهلك، أصبح اختيار الطهي عرضا آخر قائما على الصور ويعتمد على وسائل التواصل الاجتماعي لإظهار ما لذّ وطاب من أصناف الطعام.
ويعني ذلك النهج أن المنازل الجديدة ستتخلى عن غرفة الطعام التقليدية سعيا وراء عناصر الراحة الحديثة، وستحل محلها غرفة الجلوس الكبيرة حيث يمكن فيها تناول الطعام، وبدأت تلك الأوقات التي كانت تقضيها الأسر في تناول الغداء على طاولة الطعام في الانحسار أمام منظر أفراد الأسرة وهم منشغلون بمشاهدة التلفزيون أو التحديق في الهواتف المحمولة.
واستغلت مجموعة متزايدة من تطبيقات توصيل الطعام هذا الوضع، وهي تتحدى الصورة المثالية لوجبة مطبوخة في المنزل.
ووفقا للبيانات التي جمعتها ساتستيا، فمن المتوقع أن يتجاوز النمو في سوق توصيل الطعام عبر الإنترنت 5.3 مليون مستخدم في الإمارات العربية المتحدة و18.8 مليون مستخدم في المملكة العربية السعودية بحلول عام 2027. وفي الوقت نفسه، أصبحت شريحة من المجتمع واعية بأهمية الطعام الصحي كما ارتفع الطلب على خيارات غذائية صحية بشكل كبير.
ويعني الارتفاع الحاد في أسعار المواد الغذائية، لاسيما في أجزاء من الشرق الأوسط حيث يأتي الجزء الأكبر من إمدادات الحبوب من أوكرانيا أو روسيا، أن الوجبات السريعة أصبحت بشكل متزايد بديلا أرخص عن الطهي في المنزل.
ولكن بقدر ما قد تكون صدمات السوق العالمية ضارة بالطهي التقليدي، فإنها يمكن أن تغير أيضا عادات المستهلكين وتحسّن تفضيلاتهم، حيث أدى ظهور جائحة كورونا إلى ارتفاع كبير في عدد الذين يطبخون في المنزل، وكانت لذلك نتائج متنوعة.
ويبقى أن نرى ما إذا كانت تلك التحديات تؤكد من جديد أهمية كتاب الطبخ التقليدي في البيوت الحديثة كبداية للوجبة المطبوخة في المنزل، أو إذا كانت الراحة، وعدم الانضباط وعادات الأكل المشكوك فيها قد أزالت هذه الدعامة الأسرية الأساسية نهائيا.
وربما يتطلب الأمر الإبداع والشعر لإلهام فن الطبخ وإعادة بروز الوجبة المطبوخة في المنزل.