«قوّة الكلب».. ما وراء أقنعة الصلابة والهشاشة
«سينماتوغراف» ـ يوسف الشايب
ثمة فيلم وراء الفيلم، فقد تمكنت المخرجة الأسترالية المتميزة، نيوزيلندية المولد، جين كامبيون، من تقديم مشاهد موازية عبر ملامح الممثلين والممثلات المحوريّين والأقل محورية في فيلمها الأحدث “قوة الكلب” (The Power Of The Dog)، بحيث كانت الكثافة النفسية من بين “أبطال” الفيلم، وهو ما أدارته باقتدار وموهبة، لدرجة يمكن وصف المشاهد بأنها مقتطفات من مشاعر، وكثير من الإيماءات الجسدية، وخاصة في تعبيرات الوجوه.
والفيلم المرشح لـ 12 جائزة “أوسكار”، يقدم أطروحات جديدة على مستوى مفاهيم عدّة، منها: القوة، والذكورة، والسطوة، والسحر، والهشاشة، والاستبداد، والذكاء، والحب، وغيرها من المفاهيم، بل على مستوى تقديم مقترحات فنيّة جديدة لجهة أفلام “الويسترن”، حتى يمكن القول أنها قدمّت فيلم “ويسترن” جديد (New Western Movie)، كما أنه مغاير على أكثر من مستوى، شكلاً ومضموناً.
في التوظيف الحاذق والأنيق لرواية توماس سافاج وتحمل عنوان الفيلم ذاته، فإن المخرجة جعلت من الطبيعة مرتكزاً لا يمكن تجاهله، فهو أداة للإبهار للانبهار علاوة على كونها مسرحاً للعنف.
في العام 1925، قام الأخوان الثريّان “بربانك”: “فيل” (بنديكت كومبرباتش)، و”جورج” (جيسي بليمونز) بإدارة مزرعة ماشية في مونتانا.
“جورج” الأرستقراطي الأشقر شكلاً ومضموناً إلى حدّ ما، يتحمل عدوانية شقيقه “فيل” الذي تلقى تعليمه الجامعي، لكنه يجد نفسه بين الماشية ورفقة مجموعة من رعاة البقر ومربّيها.. يتزوج “جورج” من “روز” (كيرستين دانست)، الأرملة مالكة النزل القريب، والتي استقرت وابنها بيتر (كودي سميث – ماكفي) في “قصر بوربانك” الريفيّ، ما أثار حفيظة “فيل” وازدرائه.
ثمة الكثير مما يمكن الحديث عنه في الفيلم، فهو مبهر لجهة المحتوى، والرسائل، كما التصوير، وأداء الممثلين، وخاصة “فيل” الذي تألق بنديكت كومبرباتش بتجسيد دوره باقتدار، وأيضاً “روز” التي تفوّفت كريستين دانست على نفسها عند تقديم دورها بما يحمله من أداء جوّاني بالأساس، وكذلك “بيتر” الهشّ، أو الذي يبدو هشّاً، وقدم الدور ببراعة وهدوء الشاب كودي سميث – ماكفي، الذي يكتشف العوالم السريّة لـ”فيل”، الرجل الأقوى في “مونتانا“.
كما يظهر الفيلم الشخصية الخفيّة في “بيتر” نفسه، وكان مشهد تشريحه للأرنب، الذي خال الجميع أنه سيحنو عليه، نقطة تحوّل خفيّة وعلنيّة في آن، وباعتقادي كانت المحرك لأحداث تالية، خاصة في النهاية التراجيدية للفيلم، والتي هشّمت فيها كامبيون كل القوالب الجاهزة، أو المُتوقع عند ومِن المُشاهد.
وكان لافتاً ذلك المزيج الفريد بصرياً ما بين تصوير المناظر الطبيعية (Landscape) بتسارع تارة وببطء تارات، وبما يعبّر عن دواخل الشخوص، ولاسيما آلامهم المستترة، عبر توظيف النوافذ والمداخل لتصوير تلك المشاهد الطبيعية الرحبة، وهو ما عكست المخرجة من خلالها دواخل الشخصيات، ولا سيما “روز”، كما كشفت بشكل جليّ أكثر عن طبيعة العلاقة المتغيّرة ما بين “فيل” و”بيتر”، وهو تعبير عن جدلية الصلابة والهشاشة.
ويعيد فيلم “قوة الكلب” المخرجة التي صوّرت الفيلم في مسقط رأسها إلى الأضواء، فهو الثامن لها، لكن يأتي بعد غياب تواصل لاثني عشر عاماً، ومع ذلك فإن من يسدل الستار على الفيلم مع مشهده الأخير، يتأكد أن غياب جين كامبيون لم يكن ذا تأثير كبير، فهي عادت، وفي فيلم واحد، وبعد طول غياب، لتؤكد أنها واحدة من أهم المخرجين المعاصرين عالميّاً.
عبر هذا الفيلم تضعنا كامبيون أمام أكثر من مرآة، في الجغرافيات، مهما ضافت أو اتسعت، وعلى اختلاف الأزمنة، لنبقى محاصرين بين ما كان وبين ما يحدث، وبين ما سيكون، وكأنها تؤكد، أنه على الرغم من السياقات المختلفة لحيوات متباينة، تبقى الأسرة، سواء البيولوجية أو المُختارة، هي وسيلة البقاء على قيد الحياة معنوياً وفسيولوجياً، مع أن مصدر الحماية هذا (الأسرة) قد تبدو ضرورة وعبئاً في آن، فعوالم متعددة تسكن ذات الحيّز المكاني، ما يوّلد أكثر من صراع، وتحالفات تتقلّب كما علاقات الدول، بحيث تتصاعد أحياناً حدّ التطرّف، وتتصاعد أحياناً أخرى حدّ الاحتواء، أو حدّ الانحياز إلى الإنسانيّ فينا، بخيره وشرّه.
مع الحضور الطاغي للموسيقى المرافقة، ومع الإدارة الذكية للصورة في التعاطي مع المناظر الطبيعية، ومع الأداء الجسدي للممثلين حين تتحدث حدقات عيونهم، وتحركات عضلات وجوههم، وارتجافات أجسادهم، وانقباض العضلات وحتى القلوب، نجد أن كامبيون، تطرقت، من بين ما تطرقت إليه في فيلمها “قوة الكلب”، إلى فكرة “الصراع على السلطة”، وإن كان في إطار العائلة الواحدة أو التي باتت واحدة، وإن غير موحدّة.
الحرب النفسية غير الضبابيّة ما بين تكوينات أسرة “بربانك” بعناصرها الأساسيّة والمُستجدّة، تكشف عن دراما تضرب طبول إيقاعاتها بمزيد من الصخب والهدوء، ما يدفع المشاهد، رغم الإيقاع البطيء للفيلم في عدّة أحايين، وإن كان موظفاً في إطار السياق الدرامي، إلى انتظار القادم، والتفاعل مع الحدث حدّ التقمّص، بحيث يتم تبادل السطوة العليا التي كانت في جلّ الوقت بيد “فيل” راعي المشاة العنجهي والقاسي في إحدى ضفتي الجغرافيا، وهو غيره في الضفة الأخرى.
وهذا ينطبق على جلّ شخصيات الفيلم، وإن كانت تلك السطوة لا تبقى حكراً على أحد، فقد تكون الهشاشة، كما أظهر الفيلم، هي مصدر القوة، فالجسد النحيل قد يحوي دماغاً تفوق القنابل النووية!
«سينماتوغراف» ـ يوسف الشايب
ثمة فيلم وراء الفيلم، فقد تمكنت المخرجة الأسترالية المتميزة، نيوزيلندية المولد، جين كامبيون، من تقديم مشاهد موازية عبر ملامح الممثلين والممثلات المحوريّين والأقل محورية في فيلمها الأحدث “قوة الكلب” (The Power Of The Dog)، بحيث كانت الكثافة النفسية من بين “أبطال” الفيلم، وهو ما أدارته باقتدار وموهبة، لدرجة يمكن وصف المشاهد بأنها مقتطفات من مشاعر، وكثير من الإيماءات الجسدية، وخاصة في تعبيرات الوجوه.
والفيلم المرشح لـ 12 جائزة “أوسكار”، يقدم أطروحات جديدة على مستوى مفاهيم عدّة، منها: القوة، والذكورة، والسطوة، والسحر، والهشاشة، والاستبداد، والذكاء، والحب، وغيرها من المفاهيم، بل على مستوى تقديم مقترحات فنيّة جديدة لجهة أفلام “الويسترن”، حتى يمكن القول أنها قدمّت فيلم “ويسترن” جديد (New Western Movie)، كما أنه مغاير على أكثر من مستوى، شكلاً ومضموناً.
في التوظيف الحاذق والأنيق لرواية توماس سافاج وتحمل عنوان الفيلم ذاته، فإن المخرجة جعلت من الطبيعة مرتكزاً لا يمكن تجاهله، فهو أداة للإبهار للانبهار علاوة على كونها مسرحاً للعنف.
في العام 1925، قام الأخوان الثريّان “بربانك”: “فيل” (بنديكت كومبرباتش)، و”جورج” (جيسي بليمونز) بإدارة مزرعة ماشية في مونتانا.
“جورج” الأرستقراطي الأشقر شكلاً ومضموناً إلى حدّ ما، يتحمل عدوانية شقيقه “فيل” الذي تلقى تعليمه الجامعي، لكنه يجد نفسه بين الماشية ورفقة مجموعة من رعاة البقر ومربّيها.. يتزوج “جورج” من “روز” (كيرستين دانست)، الأرملة مالكة النزل القريب، والتي استقرت وابنها بيتر (كودي سميث – ماكفي) في “قصر بوربانك” الريفيّ، ما أثار حفيظة “فيل” وازدرائه.
ثمة الكثير مما يمكن الحديث عنه في الفيلم، فهو مبهر لجهة المحتوى، والرسائل، كما التصوير، وأداء الممثلين، وخاصة “فيل” الذي تألق بنديكت كومبرباتش بتجسيد دوره باقتدار، وأيضاً “روز” التي تفوّفت كريستين دانست على نفسها عند تقديم دورها بما يحمله من أداء جوّاني بالأساس، وكذلك “بيتر” الهشّ، أو الذي يبدو هشّاً، وقدم الدور ببراعة وهدوء الشاب كودي سميث – ماكفي، الذي يكتشف العوالم السريّة لـ”فيل”، الرجل الأقوى في “مونتانا“.
كما يظهر الفيلم الشخصية الخفيّة في “بيتر” نفسه، وكان مشهد تشريحه للأرنب، الذي خال الجميع أنه سيحنو عليه، نقطة تحوّل خفيّة وعلنيّة في آن، وباعتقادي كانت المحرك لأحداث تالية، خاصة في النهاية التراجيدية للفيلم، والتي هشّمت فيها كامبيون كل القوالب الجاهزة، أو المُتوقع عند ومِن المُشاهد.
وكان لافتاً ذلك المزيج الفريد بصرياً ما بين تصوير المناظر الطبيعية (Landscape) بتسارع تارة وببطء تارات، وبما يعبّر عن دواخل الشخوص، ولاسيما آلامهم المستترة، عبر توظيف النوافذ والمداخل لتصوير تلك المشاهد الطبيعية الرحبة، وهو ما عكست المخرجة من خلالها دواخل الشخصيات، ولا سيما “روز”، كما كشفت بشكل جليّ أكثر عن طبيعة العلاقة المتغيّرة ما بين “فيل” و”بيتر”، وهو تعبير عن جدلية الصلابة والهشاشة.
ويعيد فيلم “قوة الكلب” المخرجة التي صوّرت الفيلم في مسقط رأسها إلى الأضواء، فهو الثامن لها، لكن يأتي بعد غياب تواصل لاثني عشر عاماً، ومع ذلك فإن من يسدل الستار على الفيلم مع مشهده الأخير، يتأكد أن غياب جين كامبيون لم يكن ذا تأثير كبير، فهي عادت، وفي فيلم واحد، وبعد طول غياب، لتؤكد أنها واحدة من أهم المخرجين المعاصرين عالميّاً.
عبر هذا الفيلم تضعنا كامبيون أمام أكثر من مرآة، في الجغرافيات، مهما ضافت أو اتسعت، وعلى اختلاف الأزمنة، لنبقى محاصرين بين ما كان وبين ما يحدث، وبين ما سيكون، وكأنها تؤكد، أنه على الرغم من السياقات المختلفة لحيوات متباينة، تبقى الأسرة، سواء البيولوجية أو المُختارة، هي وسيلة البقاء على قيد الحياة معنوياً وفسيولوجياً، مع أن مصدر الحماية هذا (الأسرة) قد تبدو ضرورة وعبئاً في آن، فعوالم متعددة تسكن ذات الحيّز المكاني، ما يوّلد أكثر من صراع، وتحالفات تتقلّب كما علاقات الدول، بحيث تتصاعد أحياناً حدّ التطرّف، وتتصاعد أحياناً أخرى حدّ الاحتواء، أو حدّ الانحياز إلى الإنسانيّ فينا، بخيره وشرّه.
مع الحضور الطاغي للموسيقى المرافقة، ومع الإدارة الذكية للصورة في التعاطي مع المناظر الطبيعية، ومع الأداء الجسدي للممثلين حين تتحدث حدقات عيونهم، وتحركات عضلات وجوههم، وارتجافات أجسادهم، وانقباض العضلات وحتى القلوب، نجد أن كامبيون، تطرقت، من بين ما تطرقت إليه في فيلمها “قوة الكلب”، إلى فكرة “الصراع على السلطة”، وإن كان في إطار العائلة الواحدة أو التي باتت واحدة، وإن غير موحدّة.
الحرب النفسية غير الضبابيّة ما بين تكوينات أسرة “بربانك” بعناصرها الأساسيّة والمُستجدّة، تكشف عن دراما تضرب طبول إيقاعاتها بمزيد من الصخب والهدوء، ما يدفع المشاهد، رغم الإيقاع البطيء للفيلم في عدّة أحايين، وإن كان موظفاً في إطار السياق الدرامي، إلى انتظار القادم، والتفاعل مع الحدث حدّ التقمّص، بحيث يتم تبادل السطوة العليا التي كانت في جلّ الوقت بيد “فيل” راعي المشاة العنجهي والقاسي في إحدى ضفتي الجغرافيا، وهو غيره في الضفة الأخرى.
وهذا ينطبق على جلّ شخصيات الفيلم، وإن كانت تلك السطوة لا تبقى حكراً على أحد، فقد تكون الهشاشة، كما أظهر الفيلم، هي مصدر القوة، فالجسد النحيل قد يحوي دماغاً تفوق القنابل النووية!